المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بحمد الله وفضله وتوفيقه- هو اللقاء الخامس من المجموعة التاسعة من سلسلة: "التطبيقات النفسية والتربوية من الكتاب والسنة".
وكنا على موعدٍ معكم لاستكمال صحيح القصص النبوي، والاستفادة من دروس القصص التي قصَّها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه هي الحلقة السابعة من تلك القصص.
وبدأنا بالأساليب التربوية التي يجب أن يهتم بها المُربي في بيته: كالأب والأم، وكذلك المعلم والمعلمة في المدرسة، وأي شخصٍ يريد أن يُؤثر في الآخر عليه أن يحرص على هذا الأسلوب التربوي العظيم -أعني: القصة- وذكرنا مجموعةً من قصص النبي .
وما زلنا في هذا الأسلوب (القصة)، ولعل الله أن يُيسر لاحقًا الوقوف مع قصص القرآن التي كان الأولى أن نبدأ بها، لكن لتوفر المادة المتعلقة بالقصص النبوي بدأنا بها، ثم نعود لاحقًا، إن شاء الله تعالى.
وإن كانت الأساليب كثيرةً، ونحن ما زلنا في الأسلوب الأول فيما يتعلق بالقصة، وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على أننا باستخدام القصة نستطيع -بإذن الله - أن نُؤثر في أنفسنا وفي غيرنا، وأن نُؤثر في الأجيال.
فبين أيدينا مَعِينٌ عظيمٌ لا يَنْضَب: كتاب الله وسنة النبي فيما يتعلق بالقصص.
والقصص واضحة الأثر على النفس البشرية، لكن نحتاج إلى الوقوف معها للأجيال، وقراءتها عليهم، والاستفادة منها، واستخراج الفوائد لهم من هذه القصص العظيمة التي جاءت في كتاب الله وسنة النبي .
وسنذكر هنا بعض هذه القصص:
الصدقة على السارق والزانية والغني
فمنها: ما رواه البخاري عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: قال رجلٌ: لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارقٍ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على سارقٍ! فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانيةٍ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على زانيةٍ! فقال: اللهم لك الحمد، على زانيةٍ! لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يدي غنيٍّ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على غنيٍّ! فقال: اللهم لك الحمد، على سارقٍ! وعلى زانيةٍ! وعلى غنيٍّ! فأُتِيَ فقيل له: أما صدقتك على سارقٍ فلعله أن يستعفَّ عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعفَّ عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فيُنفق مما أعطاه الله[1]أخرجه البخاري (1421)، ومسلم (1022)..
وسنقف مع هذا الحديث النبوي العظيم لاستخراج بعض الفوائد.
فمنها:
سعة رحمة الله سبحانه وتعالى
الفائدة الأولى: سعة رحمة الله ، فمَن يعمل لله سيجد الخير العظيم؛ ولذلك تجب تربية الأجيال دائمًا على الارتباط بالله ، فهذا تصدق فإذا به يتصدق على سارقٍ، ثم تصدق فإذا به يتصدق على زانيةٍ، ثم تصدق فإذا به يتصدق على غنيٍّ.
هو لم يتعمد هذا، لكن كذا وقعت صدقته، ومع ذلك قُبلت صدقته ولو وضعها في غير موضعها، فرحمة الله واسعةٌ.
قطع الشك والوساوس
وهذا أيضًا يقطع دابر الشك والوسواس الذي يقع عند بعض الناس، يعني: في الجانب المتعلق بقضايا الوسواس والشك الذي قد يصل عند البعض إلى ما يُسمَّى في المجال النفسي: "بالوسواس القهري"، وهو: أن يقول قولًا يعرف خطأه، ولا يستطيع أن يرده، وأن يفعل فعلًا يعرف خطأه، ولا يستطيع أن يرده، فيصل إلى مستوى القهر في قوله، والقهر في فعله.
تجد مقدمات هذه في الشك والوسواس، نتكلم هنا عن الشك في العبادة: هو صلَّى، فلماذا يشك بعد صلاته؟ أطاع الله في عبادةٍ، قدَّم عبادةً ما: صدقة، فلماذا يشك في الصدقة؟
وتجد غالب هؤلاء الناس يكثر عندهم الشك؛ لذلك أهل العلم ذكروا في مثل هذا المضمار ما يقطع دابر هذا الموضوع.
والشيخ ابن عثيمين -رحمة الله عليه- تحدث في هذا الأمر، وبيَّن أهمية عدم الالتفات لمثل هذه الشكوك والوساوس، وكان يُنشد:
وَالشَّكُّ بَعْدَ الْفِعْلِ لَا يُؤَثِّرُ | وَهَكَذَا إِذَا الشُّكُوكُ تَكْثُرُ[2]منظومة في أصول الفقه والقواعد الفقهية (ص10). |
يعني: إذا فعل الإنسان طاعةً وجاء الشك بعد الفعل لا يلتفت إليه؛ لأنه لو التفت إليه بدأ يُوسوس، وربما أعاد الطاعة، وشكَّ فيما يقوم به، ثم دخل في دوَّامة الشكوك والوساوس.
يقول: "وهكذا إذا الشكوك تكثر"؛ لأن الإنسان إذا كان كثير الشك، فما من حَلٍّ مثل اطراح مثل هذه الشكوك وطردها، كما جاء في الأثر: فليستعذ بالله ولينتهِ[3]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134)..
لذلك من إدراك سعة رحمة الله أن الإنسان قد يُقصر، وكما قال بعض العلماء في توجيه أذكار ما بعد الصلوات في قول النبي بعدما ينتهي من الصلوات: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام[4]أخرجه مسلم (591).، لماذا وردت هذه الأشياء؟
قالوا: قد يحصل تقصيرٌ في الصلاة، فكان أول ما يتوجه به إلى الله بعد انقضاء الصلاة أن يستغفر الله تعالى، وهذا ورد في الصلاة وغيرها من مواطن العبادات.
فالنقص واردٌ، لكن النقص لا يُجبر بالوسواس والشك، ونسيان رحمة الله ، ولطف الله ، وحُسن الظن بالله ، وإنما بالاستغفار واللجوء إلى الله حتى يقطع دابر الوسواس ودابر الشكوك.
وكثيرٌ من الناس يقعون في الفخ في هذا الجانب، كلٌّ على حسبه.
وابن الجوزي في كتابه: "تلبيس إبليس" ناقش هذا الموضوع فيما يتعلق بمداخل الشيطان، فالشيطان من شدة فتنته أنه يأتي للإنسان في الأمر الذي يُحبه، فإذا كان من أصحاب العبادة لا يُوسوس له في الدنيا، ولا في المُحرمات، يُوسوس له في العبادة.
وإذا كان من أصحاب الدنيا والمال وسوس له في المال، وتجده إذا أراد أن يعدّ المال دائمًا يقول: لا، خطأٌ، وهو دائمًا في قلقٍ.
وبعض الناس الوسوسة عنده في الأوراق وترتيبها، وفي شراء البضائع، ... إلى آخره.
فلا بد أن نعلم أن الله أرحم بنا من أنفسنا، وأنه يلطف بنا، هذا في قضايا الحياة، فكيف بقضايا العبادات؟
فهذا الرجل أراد أن يتصدق بنيةٍ طيبةٍ، لكن وقعت في يد سارقٍ، وما كان يعلم، ثم سمع، فقال: الحمد لله، على سارقٍ!، "الحمد لله" يعني: فما يفعل؟ هل يبحث عن السارق ويأخذ منه المال؟
انتهى الموضوع، لا قيمةَ له؛ ولذلك قال: لأتصدقنَّ، وهذا الحس الرائع الجميل في استمرارية الإنسان في عمله الصالح، وعدم الالتفات لمثل هذه الأشياء التي تُعيق العمل الصالح.
فالشك والوسواس يُعيق؛ إذًا الإنسان لا يعمل، لكن الذي يشعر برحمة الله ولطفه، وأن فضل الله واسعٌ، وأن التقصير واردٌ على كل أحدٍ، ويستغفر الإنسان منه؛ يجعل الإنسان يستزيد ويعمل.
وهذا الرجل أظنه ألحَّ: لأتصدقنَّ، كما قال: لأتصدقنَّ بصدقةٍ والله تعالى أعلم، وهذا اجتهادٌ من عندي، ولم أقرأه لأحدٍ، فهو -والله تعالى أعلم- عندما سمع كلام الناس وعلم أن صدقته وقعت في يد سارقٍ قال: لأتصدقنَّ بصدقةٍ، ثم: لأتصدقنَّ بصدقةٍ، وهذا إرغامٌ للنفس على الاستمرار في الطاعة والعبادة، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وبعض الناس يتخلون عن الطاعة بسبب مداخل شيطانيةٍ.
وقد تحدث بعض أهل العلم عن الإنسان الذي يُطيل صلاته، فيأتيه الشيطان فيقول: أنت بالتأكيد ما تُطيل صلاتك إلا من أجل فلان. يقول: إن صلاتك طويلةٌ!
فالحل أن يُكمل ويُطيلها حتى يقطع دابر الشيطان، يعني: لا يستسلم لهذه الوساوس ولهذه الشكوك.
فالشيطان حريصٌ على أن يُبعد الإنسان عن طريق الخير؛ ولذلك فإن إدراك هذا هو من إدراك معاني رحمة الله ، ولطف الله ، وكيف أن الله تقبل هذه الصدقات من هذا الإنسان مع أنها وقعت في يد سارقٍ، وفي يد زانيةٍ، وفي يد غنيٍّ؟!
يُؤجر الإنسان على العمل الصالح وإن لم يقصده
ومن الفوائد أيضًا: قد ينتج عن فعل الإنسان آثارٌ طيبةٌ غير مقصودةٍ ويُؤجر عليها، فهذا من معاني رحمة الله وعِظَم هذا الدين، يعني: لا يلزم أن الذي ستُؤجر عليه يكون دائمًا ما تُؤجر عليه قاصدًا فيه العمل الصالح.
من لُطف الله ورحمته وواسع فضله علينا وعليكم أن الله يتقبل هذا العمل من الإنسان، فهذا من الأمور التي يحتاج أن يتنبه لها؛ ولذلك كلما عوَّد الإنسان نفسه على الخيرات، وأصبحت سجيةً عنده، وعادةً عنده؛ قد تذهب النية، واستحضارها دائمًا صعبٌ، يقول سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجتُ شيئًا أشد عليَّ من نفسي"[5]"حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (7/ 62)، و"سير أعلام النبلاء" ط. الرسالة (7/ 258).، فسفيان الثوري رحمه الله يُصارع النية، لكنه مستمرٌّ في العمل.
فالإنسان يتنبه، فقد يُؤجر على شيءٍ وما قصده، وهذا من فضل الله على الإنسان.
الفائدة الثانية: التسليم لقضاء الله وقدره
أنا أقدم دروسًا تربويةً، وأهل الشريعة هم أولى مَن يتحدث في هذه القضايا، لكن نحن نستنبط بعض الجوانب التي يمكن أن نُربي أنفسنا عليها، وكذلك يُربى الجيل عليها، ويُربط بالله، وبرحمة الله، ويُربط أيضًا بالعمل الصالح والاستمرار عليه، والتسليم لقضاء الله وقدره، وقع الشيء وانتهى.
فلو قال شخصٌ: أوَّه! راحت أموالٌ لسارقٍ! إنا لله وإنا إليه راجعون! ويظل يتحسر -هذا غير الشك والوسواس الآن- ويلوم نفسه.
طيب، الموضوع انتهى، صفحةٌ وانتهت، بل ربما يكتب الله لك الأجر كما جاء في هذا الحديث.
فلا بد أن نُدرك أن التسليم لما قدَّره الله وقضاه خيرٌ لنفوسنا؛ ولذلك كان الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان الستة، وهذا الذي يفرق بين الذين يؤمنون بالقضاء والقدر، والذين لا يؤمنون، وهو ما يتعلق بالراحة النفسية.
فالذين يؤمنون بالقضاء والقدر هم من المؤمنين بالموت والحياة، وفقدان الميت، ... إلى آخره.
تجد الذي عنده سلاح الإيمان بالقضاء والقدر يُسلم: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون[6]أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).، كما قال النبي عن ابنه كمثالٍ.
فهو يؤمن بقضاء الله وقدره، ويحزن الحزن الطبيعي، ويترحم على الميت، ويسلك مسلكًا في حياته، وينتهي، وتنتهي القضية.
لكن الآخر لا، فتكثر قضايا الانتحار عند غير المسلمين، وهو بهذه المثابة ليس لديه إيمانٌ بالقضاء والقدر، تنغلق عنده الأبواب؛ لكثرة المشكلات، لوجود عوارض، لوجود مشاكل أسريةٍ وماليةٍ، نكساتٌ في هذه الحياة وإحباطاتٌ.
فلو كان عنده إيمانٌ بالقضاء والقدر سيقول: قدر الله وما شاء فعل، انتهى الموضوع، الحمد لله، لعل فيها خيرًا، مثلما قال هذا الإنسان: "الحمد لله"، تصدق على سارقٍ، وعلى زانيةٍ، وعلى غنيٍّ، فالسارق قد يمتنع عن سرقته، والزانية تترك مهنتها الخبيثة، والغني ينتبه لعله يتصدق بماله الذي يحبسه كما تصدق هذا الإنسان ووقع ماله عنده، كمثالٍ.
فالتسليم للقضاء والقدر يُريح النفس البشرية؛ لذلك ينتبه لهذه القضايا في التعامل مع الأبناء.
وأعرف عددًا من الأشخاص في ظل أحداث الأمة اليوم هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها: كفلسطين، وسوريا، والعراق، ... إلى آخره، يعني: لا يستطيعون أن ينظروا إلى الأخبار ويُتابعوا، ولا يتحملون النظر إلى الدماء، وما شابه ذلك؛ لكثرة هذه الصور، ولا يتحمل الواحد منهم أن يسمع، بل أذكر شخصًا كان في منتدى من المنتديات انسحب من هذا المنتدى لمثل هذه القضية وما يتعلق بها؛ لأنه لا يتحمل السماع.
لو كان هناك إيمانٌ بالقضاء والقدر، وإدراكٌ لهذا الأمر، لكان هناك توطينٌ للنفس على قبول ما يبتلي الله به عباده.
طيب، فلو أن هذا الإنسان مرض مرضًا مزمنًا ماذا سيفعل؟
لو كان على فراش الموت ماذا سيفعل؟
لو كان أعز الناس لديه من القريبين عنده بهذه الحال ماذا سيفعل؟
لا بد أن نُوطن أنفسنا، فالموت قادمٌ، وفي كل لحظةٍ يمكن أن يفقد الإنسان شيئًا عزيزًا عليه، فإن لم توطن هذه النفوس من خلال الإيمان بالقضاء والقدر ستحصل الكارثة في التعامل مع مثل هذه الأمور.
ولا شك أن الرؤيا الصالحة من المُبشرات، وهذه واضحةٌ جدًّا في مثل هذا الحديث.
قصةٌ أخرى
وهي عند البخاري ومسلمٍ في "صحيحيهما" عن أبي هريرة : أنه سمع رسول الله يقول: إن ثلاثةً في بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص -المَلَك أتى الأبرص- فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسنٌ، قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب عنه، أي: مسح البرص فذهب عنه، فأُعطي لونًا حسنًا، وجلدًا حسنًا، فقال: أيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: الإبل، أو قال: البقر، هو شكّ في ذلك بين الأبرص والأقرع، قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر. هو شكّ، المقصود أن الشك من الراوي.
فأُعطي ناقةً عُشراء، فقال: يُبارك لك فيها.
وأتى الأقرع فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: شعرٌ حسنٌ، ويذهب عني هذا -يعني: الصَّلَع- قال: قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب، وأُعطي شعرًا حسنًا، قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرةً حاملًا، وقال: يُبارك لك فيها.
وأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: يردُّ الله إليَّ بصري فأُبصر به الناس. قال: فمسحه، فردَّ الله إليه بصره، قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنم. فأعطاه شاةً والِدًا، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من إبلٍ، ولهذا وادٍ من بقرٍ، ولهذا وادٍ من غنمٍ.
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ، تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغَ اليوم إلا بالله ثم بك، جاء الاختبار الآن.
أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، أسألك بعيرًا أَتَبَلَّغُ عليه في سفري. فقال له: إن الحقوق كثيرةٌ. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا، فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثتُ لكابرٍ من كابرٍ، يعني: تكبر، وأنكر الجميل وفضل الله عليه.
فقال: إن كنت كاذبًا فصَيَّرَك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثلما قال لهذا، فردَّ عليه مثلما ردَّ عليه هذا، نفس ما حصل مع الأبرص حصل مع الأقرع، فقال: إن كنت كاذبًا فصَيَّرَك الله إلى ما كنت عليه يعني: أرجعك الله إلى ما كنت عليه قبل ذلك.
وأتى الأعمى في صورته فقال: رجلٌ مسكينٌ وابن سبيلٍ، وتقطعت به الحبال في سفره، فلا بلاغَ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك شاةً أَتَبَلَّغُ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فردَّ الله بصري، وفقيرًا فقد أغناني، فخُذْ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيءٍ أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك[7]أخرجه البخاري (3464)، ومسلم (2964)..
هذه القصة فيها مجموعةٌ من الفوائد والدروس التربوية التي نحتاجها لأنفسنا ولأجيالنا.
وسأربط شيئًا في القصة السابقة بشيءٍ في هذه القصة، وهو ما يتعلق بالنفقة في سبيل الله والصدقة، وما يرتبط بهذا الجانب، وهذا أمرٌ في جانب التربية مهمٌّ جدًّا؛ لأنه ابتداءً يربي الإنسان على ألا يكون هذا المال في قلبه، وإنما يكون في يده، ولا يقلب المعادلة القرآنية التي نحتاج أن نُربي أنفسنا عليها وأجيالنا، وهي: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، فالذين يعملون لأجل الدنيا يشق عليهم أن يُخرجوا حتى الزكاة، فكيف يُخرجون الصدقة؟!
فالأول تصدق، ووقعت الصدقة في غير موضعها، لكن تقبلها الله، ثم قال: لأتصدقنَّ بصدقةٍ، هذا الشخص المال عنده في يده، فهو لا يُفاوض في أمرٍ يحبه الله ، بل يتقرب إلى الله ، ويُكرر حتى يُحبه الله .
إن وقعت هذه في يد سارقٍ، وفي يد زانيةٍ، وفي يد غنيٍّ، فكيف لو وقعت هذه الصدقات للمُحتاجين إليها من المسلمين الأقربين والأبعدين؟
أين التربية على مثل هذه المعاني في بيوتنا، ولأنفسنا؟ فيكون المال رخيصًا عند الإنسان لمرضاة الله .
ممارسة العمل الصالح صعبةٌ على النفس
الكلام سهلٌ أن أقوله، لكن التطبيق صعبٌ، حين يبدأ ويفتح المحفظة ويريد أن يُخرج مالًا.
سهلٌ أن أتكلم في مثل هذه القصص، وفي منافسة أبي بكرٍ وعمر، كيف أراد عمر أن يُنافس أبا بكرٍ في الصدقة، فأتى بنصف ماله، ثم يتفاجأ أن أبا بكر أتى بماله كله؟! مَن منا يقوى على هذا الشيء؟! مَن منا يُشابه هذا أو يُشابه ذاك؟!
فالصور تحتاج أن نقف عندها، وكما قلت لكم: ما أسهل أن نتكلم، لكن الأمر صعبٌ؛ لأنه كما قال الله في طبيعة النفس البشرية: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وحُبُّ الخير هنا المقصود به المال كما ذكر أهل التفسير؛ ولذلك هو يميل إلى هذا ميلًا فطريًّا، كما يميل إلى الدنيا والبقاء فيها ميلًا فطريًّا، لكن هل يُضحي ربما بنفسه في سبيل الله فتزهق نفسه مثلًا مُجاهدًا في سبيل الله ويترك الدنيا؟ هذه منقبةٌ عند البعض.
وكذلك حينما يكسر هذا الميل لحب المال بإرغام النفس على الصدقة، والتعود عليها.
لذلك ما أجمل أن نُوجد مثل هذه النماذج!
صليتُ قبل أمس الجمعة، وعند خروجي من المسجد وجدتُ أطفالًا صغارًا ينتظرهم أبوهم في الخارج، وإذا به يُعطي كلَّ واحدٍ منهم مبلغًا بسيطًا من المال ليُعطي كلُّ واحدٍ منهم الفقير.
صورةٌ لا تحتاج أن نتكلف لها، ولا تحتاج إلى عناءٍ، وتحتاج فقط إلى إلزام النفس بالتدريب عليها، يتدرب من خلال قيام أبيه بإخراج المال، وهو يستطيع أن يُخرج مثل والده، وهناك أناسٌ محتاجون، هذه كلها تُرسخ وتغرس قِيَمًا وصورًا عند الأطفال، ثم يكبرون فيهون عندهم المال، وقد تربوا على ذلك، خاصةً حين يرى أن المال يخرج باستمرارٍ، يخرج بصورٍ عديدةٍ، فيشعر أن الأب يُضحي فعلًا، يُضحي النموذج والقدوة بالمال، وما شابه ذلك.
عمر أتى بنصف ماله، وليس هذا سهلًا، ثم وجد أن أبا بكر أتى بأكثر منه بكثيرٍ، فنحن نحتاج لمثل هذه الصور أن تكون في مجتمعنا.
ولاحظ الفرق بين مواقف الأبرص والأقرع والأعمى؛ ففي الصورتين الأولتين أغرتهما الدنيا، ونسيا فضل الله عليهما، وأنكرا فضل الله عليهما؛ ولذلك سخط الله عليهما كما جاء في الحديث: وسخط على صاحبيك.
فكم من أناسٍ قد يسخط الله عليهم، وهم يحبسون المال، ويحبسون الخيرات؟!
والثالث رضي الله عنه، ليس لأنه أعطاه ما يريد فقط، بل قال: خذ، لستُ مُحاسبك أبدًا. وهناك أناسٌ أعانهم الله على إرخاء اليد في مرضاة الله ، وإرخاء اليد في الإحسان للآخرين، فهنيئًا لهم، فـ: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس[8]أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6026)، و"الكبير" (861)، والقضاعي في "مسنده" (129)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3289)..
لكن من المهم جدًّا أن نعلم أن هذا الإرخاء لا يُتصور أن يأتي جِبِلَّةً وفطرةً، يحتاج إلى تدريبٍ، ويحتاج إلى جانبٍ من الإثارات والدوافع والتحفيز والقدوات لتكون أجيالنا مثلنا حينما نكون كذلك.
أسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذلك.
من فوائد البلاء: إظهار الشاكر من الكافر
ومن الفوائد التي تتعلق بهذه القصة: أن ابتلاء الله لعباده يكون لإظهار الشاكر من الكافر، والصالح من الطالح، وخطورة الفتنة بالحياة الدنيا.
وهذا ابتلاءٌ للأبرص والأقرع والأعمى واضحٌ جدًّا، نجح مَن نجح، وفشل مَن فشل؛ لذلك أنا وأنت وأجيالنا وأبناؤنا لا بد أن ندرك أن الإنسان عُرضةً لابتلاء رب العالمين، والابتلاء قد يكون بالشر والخير: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35].
فالإنسان يُبتلى ويُختبر بالشر، ويُبتلى كذلك ويُختبر بالخير؛ لذلك يحتاج الإنسان إلى أن يُفسر ما هو عليه من البلاء، وإذا كان في سعةٍ من أمره -أيًّا كانت هذه السَّعة: نفسيةً، أو ماليةً، أو علمًا، أو وجاهةً- فليعلم أنه في ابتلاءٍ، وإذا كان في أمرٍ آخر عكس ذلك فليعلم أنه في ابتلاءٍ أيضًا.
فالإنسان في ابتلاءٍ، والله يعرف مَن الذي يصبر فيشكر، ومَن الذي يحمد الله فيشكر حينما يُعطى الخير.
وأعظم فتنةٍ وابتلاءٍ حينما يُبتلى الإنسان بالحياة الدنيا وملذاتها وشهواتها؛ لذلك كانت فتنة بني إسرائيل في المال، وفتنة أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في المال والنساء: وما تركت فتنةً أضرّ على الرجال من النساء[9]أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740).، ... إلى آخره، وفتنٌ عديدةٌ وكثيرةٌ جدًّا.
فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يختبر نفسه: هل هو مثل الأعمى الذي وفَّقه الله ونجح في الابتلاء، أو من الذين فشلوا في الاختبار والامتحان من رب العالمين؟
والإنسان إذا أراد أن يشكر رب العالمين يجود، وإذا لم يَجُدْ فقد منحه الله الخير، فهو يبخل؛ لذلك لا بد من التعويد على هذا الجانب: أن الجيل والأبناء يتربون على شكر الله باللسان وبالأعمال: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
فالإنسان يتعود على شكر الله بالطاعات: يسجد سجود شكرٍ، يتصدق شكرًا لله ، يُنفق في سبيل الله شكرًا لله ، وهكذا، وفي مقابل ذلك يخشى أن يكون ممن يبخل، وعندئذٍ: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38].
كثرة المال ليست دليلًا على محبة الله
وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فليست كثرة الخيرات وكثرة السمعة والمدح والثناء دليلًا على أن الله يُحبك، وأن الله يُحبني، ليست هذه بدليلٍ، فكل هؤلاء الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى آتاهم الله نفس الأمر: فقد أعاد لهم صحتهم، وأنعم عليهم بالنعم العظيمة جدًّا، لكن هناك مَن شكر فجاد، وهناك مَن كفر فبخل، فهذا نجح في الاختبار، وذاك لم ينجح.
فالقضية ليست مرتبطةً بالشكليات والظواهر، فلا بد أن نعتني بالمخابر، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "وما وقر في القلوب وصدَّقته الأعمال"[10]"الزهد والرقائق" لابن المبارك، و"الزهد" لنعيم بن حماد (1/ 545)، (1565)، و"الشريعة" للآجري (2/ 636)..
فنحتاج إلى مثل هذه الأشياء، وإلا سنجعل التقييم للناس، وربما قد يتألى البعض على الله -نسأل الله العافية والسلامة- في الحكم على بعض الأشياء من خلال هذه القضايا الظاهرية، ولكن الأمر ليس مرتبطًا بهذه الجوانب الظاهرية؛ ولذلك ينبغي ألا نقف عند الظواهر فقط.
بمعنى آخر: لا بد أن نتصور أن الأمر قد تكون فيه أشياء أخرى، فالقضية ليست عبارةً عن مُجازاةٍ لأمرٍ فعله، قد يكون ابتلاء، يُبتلى لينظر: هل ينجح، أو لا ينجح؟ ولذلك ينبغي أن يتنبه لمثل هذا الأمر.
ولذلك: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [آل عمران:196-197]، فبعض الناس مفتونون بالحضارة الغربية، هذه مشكلتهم، فمصدر التلقي والاستقبال لديهم لا يتحمل القوة المادية التي وصل إليها الغربيون.
فعندما يأتي (باترسون) وصاحبه في كتابهم: "يوم اعترفت أمريكا بالحقيقة one America of the truth "، وهو كتابٌ مهمٌّ جدًّا ترجمه الدكتور: محمد سعود البشر، وهو عبارةٌ عن دراسةٍ ميدانيةٍ طُبِّقت على ألفين من المجتمع الأمريكي، وهذه الدراسة تتحدث عن حقيقة المجتمع الأمريكي، والكتاب موجودٌ في المكتبات.
وكانت نهاية هذا الكتاب وخلاصته: أن المجتمع الأمريكي في القِيَم الاجتماعية آيلٌ للسقوط، هذا كلام كتابٍ له ثلاثون سنةً أو قريب من ذلك.
المقصود أنه مع كون هذه قضية حضارةٍ ماديةٍ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، حتى في أمورهم في الدنيا، حين تتعمق فيما يرتبط بشعورهم بالسعادة، وما يرتبط بقضايا الجوانب النفسية، والمشكلات النفسية تجد أن هناك حاجةً كبيرةً جدًّا، كما قال أحد الأوروبيين: "إن أوروبا لما تركت إلهها القديم واتجهت إلى إلهها الجديد بدأ الأوروبيون يعيشون في قلقٍ دائمٍ".
الإله القديم يُقصد به الذين يؤمنون بالله، بغض النظر عن قضية مصداقية ما يقولونه أو صحته.
"تركت إلهها القديم، واتجهت إلى إلهها الجديد"، يُقصد به: العلمانية، واللادينية، فاتجهوا إلى المادية البحتة، فبدأ الأوروبيون -والقائل أوروبي- يعيشون في قلقٍ دائمٍ.
وهذه قضيةٌ واضحة المعالم جدًّا، فكلما ازددنا عمقًا في الحياة المادية والدنيوية؛ ازددنا قلقًا وتوترًا، بل حتى الدراسات في استخدامات التقنية -ومنها دراسةٌ أمريكيةٌ ليست قديمةً، يعني: قريبة العهد- تقول أن نسبة التعاطي مع التقنية -بغض النظر عن المضامين هل هي صحيحةٌ أو خطأٌ؟- تزيد من نسبة القلق والتوتر لدى المُتعاطي، ونحن نشاهد هذه القضية في نفوسنا في التقنية، وفي غير التقنية.
إذا انهمكنا تجد أن القضية تختلف، يختبر الإنسان نفسه في مقابل ذلك حينما يلجأ إلى الله بذكرٍ وصلاةٍ وصيامٍ وعبادةٍ وطاعةٍ، يختلف الحال بين هذا وذاك.
المنهج الصحيح في العلاقة مع الله
المنهج المهم جدًّا في تربية النفس في العلاقة بالله ، كما قال ابن القيم: "هو شهود المِنَّة لله ، وشهود التقصير في حقِّ الله "[11]انظر: "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص166).، هاتان الشهادتان مهمتان جدًّا.
فالأول والثاني لم يشهدا المِنَّة لله، ولم يشهدا التقصير، فوقعا في الفخ.
أما الأعمى فحصل منه شهود المِنَّة لله، وحصل كذلك شهود التقصير في حقِّ الله.
لذلك فإن الذي يشهد المِنَّة لله سيشعر أنه مُقَصِّرٌ، والذي يشعر أنه مُقَصِّرٌ في حقِّ الله وهو يعمل سيستمر في العمل، وفي العطاء، وسيزداد: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فهو يشعر أنه في خوفٍ من تقصيره في حقِّ الله ، فيعمل ويستمر لعله يصل، وهكذا تكون النفوس الكِبار:
وإذا كانت النفوس كبارًا | تعبت في مُرادها الأجسام[12]"نهاية الأرب في فنون الأدب" (3/ 106)، و"الدر الفريد وبيت القصيد" (9/ 503)، و"الأمثال السائرة من شعر المتنبي" (ص37). |
كم نحتاج إلى أن تتعب أجيالنا من أجل تحقيق هويتهم في هذه الحياة.
فهذه القضية من القضايا الخطيرة جدًّا في مجتمعاتنا اليوم، وهي وجود هويةٍ واضحةٍ، ومنبع ومصدر قوي، لكن ضعف الانتماء، وإن كانت الأمة بدأت تعود، والحمد لله، لكننا بلا شكٍّ نتكلم عن مجمل الأمة.
استخدام البعض لمصطلح "العصور الوسطى"
وقد سُميت هذه الفترة بالعصور الوسطى في كتب التربية -للأسف الشديد- وهو مصطلحٌ مُترجمٌ عن الكتب الغربية، وسُميت بالعصور المُظلمة! والعصور الحديثة هي العصور المُتأخرة، وهذا -للأسف- تقسيمٌ غربيٌّ، ومشى عليه كثيرٌ من المسلمين والعرب في مؤلفاتهم: العصور القديمة، والعصور المتوسطة، والعصور المتأخرة الحديثة.
قالوا: القديمة: العصور الحَجَرية، وهم ناقضوا في ذلك قول الله : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213]، كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "كان الناس على التوحيد عشرة قرون"[13]"تفسير الطبري" (جامع البيان) ت: شاكر (4/ 275)..
فأزكى المراحل كانت مرحلة العشرة قرون الأولى في هذه الحياة، يُسمونها: عصور التخلف، والعصور الحَجَرية، وما شابه ذلك.
والعصور الوسطى سمّوها: مُظلمةً، وهي فعلًا مُظلمةٌ بالنسبة للأوروبيين والغرب.
وعندما نقرأ التاريخ -خاصةً في الحضارة الأندلسية- نعرف أنها كانت مظلمةً فعلًا بالنسبة للأوروبيين، لكن كانت بالنسبة للمسلمين نورًا وإشراقًا، حتى البعثات كانت تأتي من أوروبا إلى الجامعات الأندلسية ويدرسون، ويعود الواحد منهم ويتكلم: ((ladies and gentlemen’s ثم ينطق بالعربية، ويفتخر، حتى أسمتهم الكنيسة بـ"الشباب الرُّقعاء"، وهددتهم بالقتل إذا بدأوا يُلطخون لغتهم بلغة الآخرين.
ثم جاءت الثورة الصناعية الفرنسية، وعلى إثرها نشأت العلمانية الجديدة، فأُرِّخ العصر الحديث بمثل هذه الثورة العلمانية -للأسف- وصارت بالنسبة لهم مقارنة بالسابق: عصر التنوير، وكان عصر الظلام بالنسبة لهم لما كانت الكنيسة تُحارب العلم، وتقتل العلماء، وفعلت أفاعيلها في العصور المتوسطة، ثم جاءت هذه العصور.
فأقول: نحتاج أن نُدرك أننا في أمس الحاجة إلى تربية الأمة وتربية الأجيال على الهوية والانتماء لها؛ حتى يعملوا بجديةٍ وإنتاجٍ في أمورهم الدينية وأمورهم الدنيوية، وهذا لا يتأتى إذا لم يكونوا على هدًى وصراطٍ مستقيمٍ في حفظ حقِّ الله ، وإشهاد المِنَّة لله ، والتقصير في حقِّه .
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وإلا سنُشابه الأعداء، فالأعداء أنتجوا في الدنيا، ومَن زرع حصد، لكنهم في القيم والأخلاق حدِّث ولا حرج؛ ولذلك عاشوا الصراعات، اقرأ ما كتبه (ألكسيس كاريل) في كتابه: "الإنسان ذلك المجهول"، واقرأ لعالمهم (جاليليو) الذي قتلته الكنيسة، واقرأ للعلماء المنصفين منهم، وبعضهم أسلم، وبعضهم لم يُسلم، وكيف كان الصراع موجودًا؟
واسأل الذين أسلموا منهم -حديثو الإسلام- عن سبب إسلامهم، ستجد القضية بسيطةً جدًّا، فهي عبارةٌ عن صراعاتٍ موجودةٍ بسبب استفهاماتٍ عديدةٍ جدًّا، وقد أجاب الإسلام عن هذه الاستفهامات وهذه التساؤلات.
أما الذي يعيش الإسلام ويُطبقه في الحقيقة فهو يسعد، ويشعر بأمةٍ عظيمةٍ ينتمي إليها، ويُخلص لها، ويُنتج في أموره الدينية والدنيوية كما كانت في العصور المُزدهرة في أيام النبي والصحابة ومَن جاء بعدهم ممن حملوا لواء الدين، وأصبحوا يُقدمون حضارةً للأمم الأخرى، ويُتَّبعون من تلكم الأمم.
رضا الله تعالى هو الغاية
أخيرًا: المُبتغى هو رضا الله والبُعد عن سخطه، هذا هو الهدف الأسمى في هذه الحياة، وهذه القصة بتفاصيلها الجميلة، وفي دروسٍ أخرى، لكن يكفينا السطر الأخير: فقد رضي الله عنك، فاللهم ارضَ عنا يا رب، وسخط على صاحبيك، أسأل الله أن يعصمنا من سخطه وعقوبته وغضبه.
فنحن في أمس الحاجة لعرض أنفسنا على هذا الهدف وهذه الغاية: هل الله راضٍ عنا، أم ساخِطٌ علينا؟
تتعجب من بعض الناس عندما تتكلم معهم -وقد نكون واقعيين في هذا- ويقول لك أحدهم: لا، الحمد لله، أنا مُرْضٍ رب العالمين. يعني: النفس البشرية مرات تنتصر لذاتها في مواطن النقاش والحوار والنصح، ... إلى آخره، قد تضعف وتقول لك: يا أخي، لم تكن هكذا طريقة النبي ، كان يقول: يا مُقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك[14]أخرجه الترمذي وحسَّنه (2140 و3522)، وأحمد في "المسند" (12107)، وقال مُحققوه: "إسناده قويٌّ على شرط مسلم، أبو سفيان … Continue reading، ويُكررها عليه الصلاة والسلام.
ويعدّ له في المجلس الواحد مئة استغفارٍ[15]أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ"، وابن ماجه (3814)، وصححه الألباني في … Continue reading، والصحابة يصفهم الله فيقول: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، يخشون أن الله لا يتقبل منهم.
والواحد منا يقول: أنا -إن شاء الله- أحسن من غيري، وأنا -إن شاء الله- مُرْضٍ ربي، ... إلى آخره.
فما أجمل أن يقول الإنسان: أخشى أن يسخط الله عليَّ!
وعمر بن الخطاب كان يتشبث بالصحابي حذيفة بن اليمان ، فقط يقول له: "أسمَّاني لك النبي ؟"[16]انظر: "البداية والنهاية" ط. هجر (7/ 184).، يقول: هل اسمي موجودٌ ضمن المنافقين الذين كانت أسماؤهم لدى حذيفة وأُمِّنَ عليها؟
هذا القلق الذي عند عمر بن الخطاب ، أين هذا القلق عندنا؟
أما حين تكون أمور الدين طيبةً، وينشأ الأبناء وتكون أمورهم طيبةً، وشكلنا طيبًا، بينما الأسرة تُدمر بالقنوات الفضائية، وتُدمر بالعلاقات والأصدقاء، وتُدمر بالأخلاق والقيم، وأمورنا طيبةٌ، و(الجيب) تمام، كيف تنشأ الأجيال؟!
مثل: عملية المدارس والتعليم، فهناك كليات تربوية تضخ معلمين ربما يكونون غير أكفاء، يُدرسون لأجيالٍ، ويُنتجون أجيالًا غير أكفاء، ثم يعودون بدوامةٍ في نفس الصورة، ونفس الكلام في قضية الأسر وما يتعلق بها، ... إلى آخره.
ولذلك ليس هناك أجمل من أن نشهد على أنفسنا بالتقصير لله ، ونشعر أننا نحتاج إلى العمل، ونشعر أننا في أمس الحاجة إلى أن نُرضي الله ، ونخشى أن يسخط الله .
أما أن نُعطي لأنفسنا الأمان، فمَن أمن في الدنيا خاف في الآخرة، كما قال الله : وعزَّتي لا أجمع على عبدي خوفين وأَمْنَين، إذا خافني في الدنيا أَمَّنْتُه يوم القيامة، وإذا أَمِنَني في الدنيا أخفتُه يوم القيامة[17]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (2/ 406)، (640)، والبزار في "مسنده" (8028)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (759)، وقال الألباني: "حسنٌ … Continue reading.
المقصود هنا الخوف الإيجابي، أما الأمن الأول فهو أمنٌ سلبيٌّ، عندما يقول الإنسان: أنا أحسن من غيري، ... إلى آخره.
في الدنيا لو استخدمنا هذا الأسلوب السلبي الذي يستخدمه البعض في أمور الآخرة، لو استخدمه في الدنيا ما اشتغل بطريقةٍ صحيحةٍ، قال: الحمد لله، أنا أموري طيبةٌ في الدنيا، اتركني على ما أنا عليه. ويستمر على ما هو عليه.
واثنان لا يشبعان: طالب مالٍ، وطالب علمٍ، يريد أن يُحصّل، وماذا عن إرضاء الله والخوف من سخطه؟
هذه قضيةٌ من المهم جدًّا أن تصل لأجيالنا، وأن نتحاور معهم فيها، لعل الله يُخرج من أصلاب المسلمين مَن يعبد الله حقَّ عبادته، ويحملون لواء هذه الأمة بقوةٍ، ويُصبحون قدوات وبُناة للحضارة الإسلامية.
هذا، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (1421)، ومسلم (1022). |
---|---|
↑2 | منظومة في أصول الفقه والقواعد الفقهية (ص10). |
↑3 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |
↑4 | أخرجه مسلم (591). |
↑5 | "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (7/ 62)، و"سير أعلام النبلاء" ط. الرسالة (7/ 258). |
↑6 | أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315). |
↑7 | أخرجه البخاري (3464)، ومسلم (2964). |
↑8 | أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6026)، و"الكبير" (861)، والقضاعي في "مسنده" (129)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3289). |
↑9 | أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740). |
↑10 | "الزهد والرقائق" لابن المبارك، و"الزهد" لنعيم بن حماد (1/ 545)، (1565)، و"الشريعة" للآجري (2/ 636). |
↑11 | انظر: "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص166). |
↑12 | "نهاية الأرب في فنون الأدب" (3/ 106)، و"الدر الفريد وبيت القصيد" (9/ 503)، و"الأمثال السائرة من شعر المتنبي" (ص37). |
↑13 | "تفسير الطبري" (جامع البيان) ت: شاكر (4/ 275). |
↑14 | أخرجه الترمذي وحسَّنه (2140 و3522)، وأحمد في "المسند" (12107)، وقال مُحققوه: "إسناده قويٌّ على شرط مسلم، أبو سفيان -واسمه: طلحة بن نافع- من رجاله، وروى له البخاري مقرونًا، وفيه كلامٌ يُنزله عن رتبة الصحيح، وباقي رجاله ثقاتٌ رجال الشيخين. أبو معاوية هو: محمد بن خازم الضرير"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7987). |
↑15 | أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ"، وابن ماجه (3814)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (556). |
↑16 | انظر: "البداية والنهاية" ط. هجر (7/ 184). |
↑17 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (2/ 406)، (640)، والبزار في "مسنده" (8028)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (759)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ"، كما في "صحيح الترغيب والترهيب" (3/ 318)، (3376). |