المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بحمدٍ من الله وتوفيقه- هو اللقاء السابع من المجموعة التاسعة من سلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
ونحن في الحلقة التاسعة من أسلوب القصة التربوية، ومع نماذج من القصص النبوي، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
كفى بالله شهيدًا وكفيلًا
روى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة ، عن رسول الله : أنه ذكر رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسلفه ألف دينارٍ، يعني: أراد أن يقترض ألف دينارٍ، فقال: ائتني بالشهداء أُشهدهم، طلب منه شهداء حتى يُشهدهم على هذا القرض، قال: كفى بالله شهيدًا. قال: فائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلًا. قال: صدقتَ، فدفعها إليه يعني: أعطاه الألف دينارٍ من غير شهداء ولا كفيل.
فدفعها إليه إلى أجلٍ مُسمًّى يعني: على أن يُرجعها في وقتٍ مُحددٍ، فخرج في البحر الذي استلف خرج في البحر، فقضى حاجته انتهى من عمله الذي ذهب من أجله، ثم التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجر الذي له يعني: جلس يبحث عن مركبٍ يأتي به إلى صاحبه حتى يأتيه ويردّ له الألف دينارٍ، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبةً فنقرها حفر هذه الخشبة ونقرها، فأدخل فيها ألف دينارٍ.
والعملة في ذاك الوقت كانت معدنًا، وليست ورقًا؛ فلذلك كانت ثقيلةً، كان هذا الحِمْلُ ثقيلًا.
فنخر الخشب وأدخل فيه الألف دينارٍ وصحيفةً منه إلى صاحبه كتابة كتبها إلى الرجل، ثم زجج موضعها أغلق موضع الفتحة، ثم أتى بها إلى البحر وضع الخشبة في البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلَّفْتُ فلانًا ألف دينارٍ، فسألني كفيلًا، فقلتُ: كفى بالله كفيلًا، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلتُ: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني جهدتُ أن أجد مركبًا يعني: تعبتُ، جهدتُ أن أجد مركبًا أبعث به له، فلم أقدر جاء الوقتُ المحدد لسداد المبلغ ولم يجد مركبًا، ولا بد أن يذهب المال، والمال موجودٌ، فلم أقدر، وإني أستودعكها، فوضعها في رعاية الله ، فرمى بها رمى بهذه الخشبة، فرمى بها في البحر حتى وَلَجَتْ فيه.
وهذه الخشبة لا قائدَ لها، ولا وجهة، ولا بوصلة، ولا ركبان، وهي مُحمَّلةٌ بهذا الحِمْل الثقيل، بسبب هذا المبلغ الذي وُضِعَ فيها، فكيف يكون حالها في الأخطار؟! ربما تغرق هذه الخشبة، أو تذهب ذات اليمين وذات الشمال مع الأمواج، لكن هذا الرجل استودع هذه الخشبة وما فيها الله .
فرمى بها في البحر حتى وَلَجَتْ فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبًا، فهو رمى الخشبة وفيها ألف دينارٍ، واستودعها الله ، ومع ذلك استمر يبحث عن مركبٍ يخرج إلى بلده.
فخرج الرجل الذي كان أسلفه المُقْرِض، المُسْلِف الذي كان أسلفه، ينظر جاء الوقت، لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا هو أخذها على أنها خشبةٌ، حطبٌ، فلما نَشَرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه.
الآن جاءه المال، وجاءته الصحيفة، ووجد الكتابة وكل شيءٍ، وانتهى الموضوع، ومع ذلك القصة لم تنتهِ، وهي في البخاري.
ثم قدم الذي كان أسلفه أتى ذلك الذي اقترض ذاك المبلغ مرةً أخرى بنفسه، وبألف دينارٍ أخرى.
ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينارٍ، فقال: والله يقول هذا المُقترض للمُقْرِض لما التقيا بعدما رجع: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركبٍ لآتيك بمالك، فما وجدتُ مركبًا قبل الذي أتيتُ فيه الآن، فهو الآن يعتذر منه، يقول: اسمح لي، ترى ما استطعت أن آتي إلا الآن. ولم يذكر له قصة الخشبة، ولا شيئًا من ذلك، فاعذرني، أتيتك مُتأخرًا لأني بحثت عن مركبٍ فلم أجد.
فقال: هل كنت بعثتَ إليَّ بشيءٍ؟ قال: أُخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئتُ فيه. قال: فإن الله قد أدَّى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرف بالألف دينارٍ راشدًا[1]أخرجه البخاري (2291)..
فهذا الشخص لم يذكر أنه هو الذي أرسل الخشبة، اطمأنَّ إلى أن الخشبة وصلت، وذاك لم يُدرك أن الخشبة هو الذي أرسلها، إنما شيءٌ أتى به الله بنفس المبلغ، فقال: الألف دينار التي معك تبقى لك.
فبأيهما نعجب: أَمِنَ المُقرض، أم من المُقترض؟ من الاثنين بلا شكٍّ.
الدروس المستفادة من قصة صاحب القرض
دعونا نأخذ جولةً مع بعض الدروس التربوية والنفسية، يعني: نُطبقها على واقعنا الأسري، والاجتماعي، والتعليمي، ... إلى آخره.
الصالحون موجودون في كل زمانٍ
حينما تأتي مثل هذه النماذج التي هي هدفٌ من أهداف ذكر هذه القصص تُعطينا دلالةً على أن أمثال هؤلاء الصالحين موجودون بحمد الله في قديم الزمان وحاضره ومُستقبله.
وسمة هؤلاء الناس أنهم أصحاب خشيةٍ وخوفٍ من الله ، هذه السمة البارزة في هؤلاء الناس، فهل نحن ممن يعتني بإيجاد مثل هؤلاء القدوات في مجتمعنا، وداخل أُسرنا، وفي أنفسنا؟ أن يكون لدينا الحس والخوف من الله، وخشية الله هي التي تحكمنا في أقوالنا وأفعالنا، وهي التي تقودنا، وهي التي تُوجه البوصلة في حياتنا.
ما الذي يُوجه شبابنا اليوم؟ ما الذي يُوجه أبناءنا وأجيالنا اليوم؟ ما البوصلة التي تُوجه هؤلاء؟ ما البوصلة بالضبط؟ هل هي الرغبات الذاتية؟ هل هم الأصدقاء؟ أم محبة الله ومخافة الله ، ورجاء ما عند الله؟
هذا سؤالٌ كبيرٌ، فلا بد أن نُحاسب أنفسنا، ونُراجع أنفسنا؛ لنعرف أين نحن من مثل هذه النماذج؟
قد لا نتحدث عن المستوى العالي، لكن نتحدث في أقل تقديرٍ عن مستوى الواجب، اترك المستوى المُستحب، المستوى الذي فيه منازل، يعني: فيه مستويات عُليا.
المستوى الواجب هو حفظ الحقوق، حفظ حقِّ الآخرين، والصدق، وليس هناك أحدٌ قال: يمكن أن تلف وتدور وتتلاعب وتتحايل على الآخرين، حتى لو كنت مُحتاجًا، ... إلى آخره.
فهذا النموذج العظيم وصل مستوى أكثر من الواجب، وهو مستوى التقرب إلى الله بالمُستحب، حتى إنه أتى بالألف مرتين، في المرة الأولى، والمرة الثانية، ومع ذلك لم يذكر في المرة الثانية أنه هو الذي أرسل الخشبة.
فلذلك نحن في أمس الحاجة إلى تكثير هذا الأمر في أجيالنا، وفي أنفسنا، وهو الخوف من الله، وخشية الله .
هؤلاء الذين يرتقون في منازل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وإيانا وإياكم أن نضع أنفسنا في هذه الفئة، ونقول: الحمد لله، نحن كذلك، الحمد لله، عيالنا كذلك، الحمد لله، المسلمون كذلك، هذا غير صحيحٍ!
يعني: من القضايا المهمة جدًّا أن نُدرك ذلك، وسبق أن ذكرنا هذا الكلام من كلام ابن القيم[2]"مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 161). رحمه الله، أن نُدرك شهادتين: شهادة المِنَّة لله؛ أن الله هو الذي تفضل علينا، وشهادة التقصير في حقِّ الله، كلاهما مع بعضٍ.
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، عائشة رضي الله عنها ظنت أنهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر، لا، بيَّن النبي أنهم الذين يصومون ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل الله منهم[3]أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (162).، هؤلاء أصحاب الخشية: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
بعض المسلمين يتعاملون في مثل هذه القضايا كما يتعامل النصراني بصَكِّ الغُفران، فصَكُّ الغُفران موجودٌ في جيبه، أعطاه إياه القسيس على أنه من أهل الجنة، ويقول: الحمد لله، أنا أخشى الله، وأخاف الله!
حتى في حواراتنا في التناصح في بعض الأحيان قد تجد الواحد مرةً من المرات تأخذه العِزَّة بالإثم، وهو لا يقصد أن يقول: أنا ضامنٌ الجنة، لكنه يريد أن يُدافع، ويريد أن يُثبت شيئًا هو موجودٌ فيه، وجزءٌ منه، لكنه يُعطي لنفسه أنه: الحمد لله، أنا أخاف الله وأخشاه.
هذا الرجل ما تكلم، ولم يقل ذلك، والثاني أيضًا ما تكلم وقال ذلك، لكن أفعالهم دلَّت على ذلك.
فنريد الأفعال، لا نريد الأقوال، الأفعال التي تدل على الخشية والخوف من الله، ومحبة الله، ورجاء ما عند الله .
الآن اترك الكلام، الكلام ما ينفع، الدعاوى كما يقول الشاعر:
والدَّعاوى إذا لم يُقيموا عليها | بيّناتٍ أصحابُها أدعياءُ |
ولذلك تجدون لفظ "العمل" في القرآن والسنة بكثرةٍ، فديننا دين عملٍ، والعمل ينطلق من اعتقادٍ وتوجهٍ، لكنه ليس ادِّعاءً بالكلام، بل إن تعريف شهادة أن لا إله إلا الله تجده: الإيمان، وهو اعتقادٌ بالجنان -بالقلب- وقولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان.
هذه ثلاثة أشياء: عملٌ بالجوارح، هذه المقصودة: بالأركان، الجوارح؛ فلذلك كما قال أحد السلف: "لقد أدركتُ أقوامًا أفعالهم أكثر من أقوالهم، ولقد أصبحت أقوالنا أكثر من أفعالنا".
هذا في ذاك الزمن يستنكر وضعهم بأنهم كثيرو الكلام، قليلو العمل، وهو قريبٌ من جيل الصحابة ، قريبٌ من ذاك العهد، ماذا نقول نحن؟!
لذلك ينبغي أن نقف، فهذه المشاهد وهذه الصور ما جاءت بالكلام، وما جاءت بالادعاءات، وما جاءت بالألفاظ، ما جاءت بأني أنا كذا وكذا، وأنا أفعل، وأنا أُصلي والحمد لله، وأنا أصوم، وأنا أصل الرحم، وفينا خيرٌ، وفينا ...، وفينا ...، ما جاءت بهذه الطريقة.
هي جاءت بالأفعال الدالة على مثل هذه الادعاءات، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا لا بد أن نُدركها؛ ولذلك أجيالنا تتربى في بعض الأحيان على نفس النمط؛ إن كان مستوى العمل أكثر من مستوى القول صاروا كذلك يحرصون على الأعمال أكثر من الأقوال، وإذا كان مستوى القول أكثر من العمل صاروا يدَّعون ويتكلمون، ونحن بخيرٍ، وانتهينا.
وأرجو ألا يُفهم كلامي على أننا لا نقول: إننا بخيرٍ، ... إلى آخره، الخير موجودٌ، والرسول شهد للشيطان فقال: صدقك، وهو كذوبٌ[4]أخرجه البخاري (2311، 3275، 5010).، شهد له بالإيجابية، مع أن الأصل فيه الكذب.
لا يُفهم من كلامنا أنه عبارةٌ عن اتهامٍ بما لا ينبغي أن نتهم به، وإن كان وضع النفس بموطن التقصير أمرًا شرعيًّا كما ذكرنا، لكن يتحسس البعض من القضية أننا نُنكر الخير في الناس، ونُثبت الشرَّ، ... إلى آخره، وما شابه ذلك، نفهم القضية بالتوسط كما أشرنا.
فيظهر بهذا أهمية وجود القدوات الصالحة التي يكون قائدها الخوف من الله ، والخشية منه ، فسيكون من أفعالهم مثل أفعال هذين الرجلين: المُقْرض، والمُقترض: حفظ الحقوق، بل زيادةٌ في حقوق الآخرين، بل إحسانٌ ووفاءٌ وصدقٌ.
كيفية وقاية الأجيال من الفتن
إذا أردنا أن نأتي إلى القضية التي يشتكي منها الجميع -وليس الكثير أو الأغلب- وهي قضية تعامل الأجيال مع التقنية الحديثة والإعلانات الجديدة اليوم، لا توجد كبسولاتٌ وأدويةٌ تُباع في الصيدلية، يأكلها ابني وابنك وبنتي وبنتك ليكونوا إيجابيين في التعامل مع التقنية، أو أستخدمها أنا وأنت فتجعلنا نتعامل مع التقنية بشكلٍ سليمٍ، لا يوجد، وإنما هناك إرادةٌ.
وإذا أردنا أن نتكلم عن الانحراف الفكري والعقدي، والانحراف السلوكي والأخلاقي، ما الذي سيجعله مثل يوسف عندما يُستثار في موقفٍ بمُثيراتٍ، يعني: من دواعي الانحراف، فيقول: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]؟ أو يقول: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ [الحشر:16] كما جاء في حديث السبعة الذين: يُظلهم الله يوم لا ظلَّ إلا ظله[5]أخرجه البخاري (660، 1423، 6806)، ومسلم (1031)..
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، تدعوه امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله، ويوسف تأتيه امرأةٌ من أجمل النساء، وقد أُوتي نصف الجمال، وتُغلق الأبواب، وفي قصرها، وهي امرأة العزيز، وتقول: هَيْتَ لَكَ [يوسف:23]، ... إلى آخره. ومع ذلك يقول: مَعَاذَ اللَّهِ.
فالخوف من الله والخشية هما اللذان يجعلان أجيالنا محميين من الانحراف، فإذا خلوا بمحارم الله لا ينتهكوها، كما أن هذا إذا خلا بحقوق العباد، وأخذ المال من غيره، لا يضيع هذا المال، محفوظٌ؛ لأنه بيدٍ أمينةٍ، يخاف الله ويخشاه.
لذلك لا بد أن نُربي أنفسنا وأجيالنا على هذا المَعْلم الإيماني: الخوف والخشية.
ودائمًا أذكر هذا الموقف البسيط لأبنائنا وأجيالنا وطلابنا، ... إلى آخره: لو كان شخصٌ ما في غرفته، فاخترق ما لا يرضاه الله عبر الجوال، وانفتح الباب من طفلةٍ صغيرةٍ أو طفلٍ صغيرٍ في البيت عمره سنتان، أو ثلاث سنوات، أو أقل، أو أكثر، ماذا سيحصل عند صاحب جهاز (الآيباد)، أو الجوال، أو ...، أو... إلى آخره؟
الذي فتح الجهاز على أمرٍ لا يرضاه الله ، ماذا يحصل؟
تجد أنه يُغير الصفحة وينام، مع أنه طفلٌ صغيرٌ، لكن هذا الطفل الصغير له هيبةٌ وخوفٌ؛ لأنه يُمارس شيئًا لا يرضاه الله ، فما بالك لو جاء الأخ الأكبر، أو جاءت الأخت، أو جاء الأب، أو جاءت الأم؟!
وكيف إذا جاءت الجهة الضابطة: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ماذا سيكون حاله؟!
يخاف من رجل الهيئة، ويخاف من الشرطة، ويخاف من رجل مكافحة المخدرات، ويخاف من والده، ولكن الله أهون عليه من كل هؤلاء!
هذه القضية نحتاج أن نُراجع أنفسنا فيها مع أنفسنا، ومع أبنائنا: هل تربت النفوس والقلوب على الخوف من الله والخشية منه حقًّا؟ عندئذٍ سيكون هناك سياجٌ من الحماية من الانحراف، أيًّا كان نوع هذا الانحراف فيما لا يرضاه الله .
التكافل الاجتماعي
الأمر الآخر: قضية التكافل الاجتماعي من خلال الاقتراض كمثالٍ، وهذا وجهٌ عظيمٌ، حتى جاء في الأثر: أنه يكون له أجران.
فهذه الصورة التكافلية مجتمعاتنا المسلمة في أمسِّ الحاجة إليها: شخصٌ يحتاج، وطرفٌ آخر يُعين، حينما يكون التعاون على البرِّ والتقوى: أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس[6]أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6026)، و"الكبير" (861)، والقضاعي في "مسنده" (129)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3289)..
فهذه الصور نحن في حاجةٍ إليها، وعندما يقول المُقْرِض: هاتِ شهودك، وهاتِ كفيلك. فهذا الأمر حتى في الشرائع السابقة وغيرها أيضًا، ناهيك عما جاء في الإسلام، يعني: أن هذا أمر حقٍّ، يحفظ حقَّه بمثل هذه الأشياء؛ ولذلك قال الله : فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، الأمر بالكتابة.
وبعض الناس يسترخصون الكتابة، وكأنهم يشعرون أن فيها اتهامًا وشيئًا من هذا القبيل، ... إلى آخره، مع أن القضية شرعيةٌ، بل لازمةٌ لتحفظ الحقوق.
وقد يقف بعض الناس مثل هذا الموقف، عندما يقول: الله كفيلي، والله شهيدٌ عليَّ، فيستجيب الإنسان؛ لأن هناك مصدر ثقةٍ موجودًا، وفي بعض الأحيان الثقة تجعل هناك منجاةً أيضًا في مثل هذا الأمر، ... إلى آخره.
فالتكافل الاجتماعي مهمٌّ جدًّا، وبقاء مثل هذه الصور في التكافل الاجتماعي مهمٌّ جدًّا.
وأعرف بعض القصص التي تعجب من حال أصحابها، فهم ممن تجوز لهم الزكاة؛ لفقرهم، ومع هذا يُقرض الواحد منهم غيره من زملائه!
أذكر شخصًا فقيرًا سألته: مَن الذي أقرضك؟ قال: فلانٌ الحارس في مكان كذا، وفلان، وفلان، ... إلى آخره. والذين ذكرهم لي كلهم من هذه الفئة؛ فئة الفقراء الذين يجوز لهم أن يأخذوا الزكاة، وحقٌّ لهم أن يُعانوا، وتجد الواحد منهم يدفع لصاحبه، لماذا؟
قال: جاءني يطلب خمسين ريالًا، أو مئة ريالٍ، كيف لا أُعطيه؟! هو أخٌ لي، وأنا أثق به.
فهذا فهم القرض الحسن بلا شكٍّ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [الحديد:11]، هذا اليقين؛ ولذلك قال بعض أهل العلم في قضية "أن له أجرين": الفرق بينه وبين الصدقة أن الصدقة قد قدَّمها وانتهت، نفسه لا تتشوف لهذا المال أن يعود إليه، بينما في القرض نفسه تتوق إلى أن يعود إليه، وبعد فترةٍ سيعود إليه المال، فهو لا يزال مُتعلقًا بالمال؛ لأنه ماله، لا يزال متعلقًا به، فالقضية هنا لا زالت تحت سيطرته، وهو كما وصف الله : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، يعني: كما قال المفسرون: الخير هنا: المال[7]انظر: "تفسير الطبري" (جامع البيان) ط. هجر (3/ 135)، و(24/ 588)، و"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (8/ 467)، و"تفسير السعدي" (ص933)..
فحب المال شديدٌ، مُتعلَّقٌ به، لكن طلع، أو أوقف، أو تصدق، أو زكَّى وأخرج مال زكاته، انتهى المال وذهب!
لكن ما زال القرض بالنسبة له، فهو ما زال يُجاهد، ولكنه راضٍ ويتقرب إلى الله بذلك، وبقيت فترةٌ ما زال يحتسب الأجر فيها، ... إلى آخره.
ففيها جوانب عظيمةٌ جدًّا حتى في كسب الأجور، وفي التكافل الاجتماعي، وهكذا يمكن أن يُساعد بعضنا بعضًا.
ولذلك ينبغي أن يتسع صدر الإنسان لمثل هذه الأشياء، ويكون له دورٌ في البحث عن المُتعففين الذين يحتاجون إلى مَن يُعينهم ويُساعدهم، وأن يخدم هؤلاء الناس.
نعم، السيء خرَّب على الطيب، هذا الكلام واضحٌ وبيِّنٌ، لكن نحن نذكر قصةً قد أشرنا إليها في مجلسٍ سابقٍ في حديث النبي : قال رجلٌ: لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارقٍ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على سارقٍ! فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانيةٍ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على زانيةٍ! فقال: اللهم لك الحمد، على زانيةٍ! لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يدي غنيٍّ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على غنيٍّ! فقال: اللهم لك الحمد، على سارقٍ! وعلى زانيةٍ! وعلى غنيٍّ! فأُتِيَ فقيل له: أمَّا صدقتك على سارقٍ فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فيُنفق مما أعطاه الله[8]أخرجه البخاري (1421)، ومسلم (1022)..
فهذا يُعطي تطمينًا للنفس، وأن الإنسان لو اجتهد وقدر الله أنها وقعت في غير أصحابها، فإن الله أعلم بما في قلبه، وما في نيته، لكن لا يمنع الخير عن نفسه، ولا يمنع الخير كله عن الناس بحجة أن هناك ناسًا سيئين، فأنت بالتأكيد تعرف أناسًا من أقاربك ومن أصدقائك وغيرهم هم بحاجةٍ إلى ذلك.
ولاحظوا في التكافل الاجتماعي الجهاد الذي يحصل: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ قال الله: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] يعني: ما زال المال له، والمُقترض من المحتمل ألا يستطيع السداد، طيب، أعطه مهلةً، وذكرنا بعض المشاهد والقصص المتعلقة بهذا الأمر، بل يصل الإنسان بعد ذلك إلى أنه يُسقط حقَّه.
أثر التوكل واليقين وحفظ الله وحمايته
لا شكَّ أننا إذا أردنا حماية مُمتلكاتنا وأموالنا وأمورنا الدنيوية فعلينا أن نتوكل على الله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
ما أجمل أن ينطق الشاب، وينطق الجيل، وينطق الابن، وينطق الفتى والفتاة بأمرٍ يدل على يقينه ويقينها بالله ! هذه التربية التي لها علاقةٌ بقضية التربية الإيمانية وأهمية ذلك؛ لذلك ينبغي تقريب هذه المعاني للأجيال من خلال مثل هذه القصص.
وأنا أدعو دعوةً أُكررها دائمًا: أن تكون للأسرة جلسةٌ أسبوعيةٌ لمدة ربع ساعةٍ، ومَن استطاع أن يزيد فليزد، لكن ربع ساعة على أقل تقديرٍ، يقرؤون فيها مثل هذه القصص، من قصص القرآن وقصص النبي .
وهناك بعض الكتب الجيدة، مثل الكتاب الذي أستفيد منه في هذه الدروس الآن فيما يتعلق بالقصص النبوي، وهو كتاب الدكتور: عمر سليمان الأشقر رحمه الله: "صحيح القصص النبوي"، وهو موجودٌ في المكتبات، ورائعٌ جدًّا، وفيه فوائد، وشرحٌ، وذكرٌ للمعاني، وكلها من الأشياء التي تحتاجها أجيالنا.
والتكافل الذي ذكرناه في قضية القرض يُساعد الإنسان في أن يُنمي ماله ويُتاجر، مثل هذا الإنسان أراد هذا الأمر حتى ينمي شيئًا من هذا القبيل؛ ولذلك من الأشياء التي تخدم الآخرين، ونساعدهم فيها: حينما نساعدهم في مشروعٍ يستطيع الواحد منهم أن يُنمي نفسه ماليًّا، فتكون أنت سببًا فيما فتح الله به عليه.
القلق الإيجابي عند المُقترض
ومن الدروس: إبراء الذمة، والقلق والتوتر والحس الرائع، هذا القلق والتوتر الإيجابي، وليس المرضي، هذا القلق والتوتر الإيجابي عند المُقترض، فقد كان قلقًا لما انتهى الوقت أو قرب الانتهاء، ما قال: (مشِّها)، بالتأكيد -إن شاء الله- أنه ينتظرني، ويتنازل، وأنا ما عندي مركبٌ أذهب به. وإنما أشغل ذهنه وباله وتفكيره حتى هُدِيَ إلى قضية الخشب، وكان عنده يقينٌ أن الله سيحميه؛ لأنه كان عنده يقينٌ من قبل عندما طلب منه الإشهاد، قال: الله شهيدٌ. ولما طلب منه الكفيل قال: الله كفيلٌ. فكيف لا يحصل منه هذا الأمر؟!
لذلك القلق والتوتر الإيجابي هو الذي فيه حفظ حقوق الله، وحفظ حقوق الآخرين، أما الذي (يسلقها) في حقوق الله : إن ضُبطت ضُبطت، وإن ما ضُبطت ما ضُبطت، إن قام بالطاعة فالحمد لله، وإن ما قام بالطاعة فمع السلامة، إن قصَّر فيها كأنه شخصٌ عاديٌّ جدًّا.
والصحابة كانوا يُعَزُّون بعضهم بعضًا، إذا فقدوا إنسانًا في الصلاة ذهبوا يُعزونه لأنه لم يُصلِّ: إما مريضٌ، وإما شيءٌ آخر، يخشون عليه حتى من النفاق.
ونحن الآن إذا وجدتَ واحدًا صلَّى فالحمد لله، صلَّى في الوقت، وكل واحدٍ منا أدرى بنفسه.
يقلق ربما على دقيقةٍ في الدوام؛ لأن هناك خطًّا أحمر، وهناك خصمًا من الراتب، وهناك متابعة، وهناك لفت نظرٍ قد يأتيه، فيقلق ويتوتر، لكنه قد لا يقلق ويتوتر حينما يتأخر في الصلاة، وقد يتأخر في أمرٍ يجب عليه ألا يتأخر فيه، بمعنى: أنه قد يتأخر في أمرٍ واجبٍ فلا يقلق.
هذا كان عنده قلقٌ؛ لأنه واجبٌ عليه أن يفي بالقرض، والقلق هذا والتوتر بقي معه؛ لأن الإجراء الأول إجراءٌ ليُبرئ ذمَّته عند الله فيما يتعلق بالوقت، فقد أزف الوقت، وجعل القضية في وديعة الله .
والأمر الثاني: عندما استطاع أن يأتي بالمركب، أصبح الأمر يقينًا الآن، فأتى بالمبلغ؛ لأنه وضع احتمال أن الخشبة لا تصل.
فانظر كيف كان همُّه إرجاع الحق لأهله؟!
خطورة التهرب من أداء الحقوق
نداءٌ لمَن يُضيعون الحقوق، ولا نفهم قضية الحقوق في المال، وإن كانت قضية ضياع الحقوق في المال فيها عُسْرٌ جدًّا؛ لأننا نرجع إلى طبيعة النفس البشرية: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8].
وكذلك عندما تأتي المواقف التي فيها عسرٌ، والأمور التي فيها (لخبطةٌ) من حيث التدبير في المال، فتضيع حقوق الآخرين، ويبدأ الحرج، ولا يُحب أن يرد على جوَّاله، ويُغلقه، ولا يرد على الرسائل، ولا يريد أن يرى ذلك.
الآن صار المتهم المُقْرِض، صاحب الحق! لا يرد على جوَّاله، ولا يراه أحدٌ، ولا يسلم، ويظن هذا الشخص المُقترض -حتى لو كان في داخله مرارةٌ- أنه يُحسن صنعًا؛ لأنه يستحي أن يرى مَن اقترض منه، ماذا يقول له؟!
واجبٌ عليك أن تُقابله وتعتذر له، وتطلب منه الإمهال، فلعله من أهل: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، أو قد يُسقط عنك، ولكن يتصرف هذه التصرفات ويجلس يأكل ويشرب ويتغدى ويفعل ما يريد، وحقّ الناس ضائعٌ! هنا المشكلة.
وخذ كذلك في حقوق الآخرين: حق الزوجة على الزوج، وحق الأبناء على الأب، وحق الطلاب على المعلم، وحق الراعي على الرعية، وحق الرعية على الراعي، وحق الرئيس على المرؤوس، والعكس.
فحين تضيع الحقوق يحصل الإشكال في التوازن الاجتماعي، وفي المجتمع، أو في الأسرة، أو في أي كيانٍ يكون.
ولذلك يقولون: إذا أردت أن تكون ناجحًا في هذه الحياة مع الله أولًا ثم مع الناس؛ فليكن شغلك الشاغل: ما الواجب الذي عليَّ تجاه الآخرين؟ أكثر من التفكير في الحق الذي لك.
ونحن -ما شاء الله- في الحقوق التي لنا لا نُضيعها، بل يمكن أن نطلب أكثر منها، ويمكن أن يكون من المندوب ومن الخير أن نتنازل عن بعضها: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
هذا في الجوانب القيمية الجميلة، لكن تجده مُتشبثًا بحقوقه، ومُضيعًا حقوق الآخرين: مُضيعًا حقوق زوجته، وحقوق أبنائه، وتجد العلاقات سيئةً في الأسرة، وبين الطالب والمعلم، وبين المدير والذي تحته، يتمنون الفِكاك منه، يسألون الله أن يُريحهم منه، وهكذا؛ لأن الحقوق مُضيعةُ.
ولذلك تنبغي العناية في أقل تقديرٍ بالتوازن بين الحقوق وحفظها -والتي هي لك- والواجب الذي عليك، يعني: حقوق الآخرين التي عليك، التوازن بينهما، وإلا فالأفضل من ذلك أن يكون الهمُّ الأكبر في الواجب الذي عليك، تفكر فيه أكثر من الحق الذي لك؛ لأن الواجب الذي عليك -وهو حق الآخرين- لا يسقط، ولا يتنازل عنه، إلا إذا تنازل عنه صاحب الحق مثلًا، أما أنت فتُفتي نفسك وتقول: لا يجوز. لكن أنت لك أن تتنازل عن الحق الذي لك، وعندئذٍ تحفظ الحقوق.
وقاعدة الحقوق والواجبات -ومن المهم التَّنبه لها-:
وإذا كانت النفوس كبارًا | تعبت في مُرادها الأجسام[9]انظر: "أبو الطيب المتنبي وما له وما عليه" (ص124)، و"الإعجاز والإيجاز" (ص186)، و"التذكرة الحمدونية" (2/ 58). |
كم نحتاج إلى أن تكون هذه النفوس كبارًا، حينما تكون بمثل هذه المثابة، وكم نحتاج إلى نماذج -كما قلنا ونُكرر- حتى ولو كانت قليلةً أو نادرةً، والقليل والنادر هو محل الاقتداء، والذي يقتدي به يبرز وتكون له قيمةٌ وحضورٌ ما دام إيجابيًّا؛ لأنه إذا بقي على هذا الحجم دون أن يبرز، ولم يتأثر به الجيل؛ لن يكون بديله إلا عكسه، وكذلك لا يظهر للجيل ويتأثر به تأثرًا إيجابيًّا.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
هذا، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (2291). |
---|---|
↑2 | "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 161). |
↑3 | أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (162). |
↑4 | أخرجه البخاري (2311، 3275، 5010). |
↑5 | أخرجه البخاري (660، 1423، 6806)، ومسلم (1031). |
↑6 | أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6026)، و"الكبير" (861)، والقضاعي في "مسنده" (129)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3289). |
↑7 | انظر: "تفسير الطبري" (جامع البيان) ط. هجر (3/ 135)، و(24/ 588)، و"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (8/ 467)، و"تفسير السعدي" (ص933). |
↑8 | أخرجه البخاري (1421)، ومسلم (1022). |
↑9 | انظر: "أبو الطيب المتنبي وما له وما عليه" (ص124)، و"الإعجاز والإيجاز" (ص186)، و"التذكرة الحمدونية" (2/ 58). |