المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا هو الدرس الثامن من المجموعة التاسعة من سلسلة: التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة، وهي الحلقة العاشرة استكمالًا لما كنا فيه في المجموعة الثامنة عن أساليب نبوية وما يتعلق بقضية القصة، وحول القصص النبوي، ونحن اليوم في الحلقة العاشرة من تلكم القصص النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وما زلنا نؤكد على أهمية الأخذ من معين النبي عليه الصلاة والسلام في شؤون التربية: في تربية النفس، وتربية الأسرة، وتربية الأبناء، وفي بناء الشخصية، كما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
أخطاء بعض الآباء في التعامل مع انحراف الأبناء
يعني: قبل أن ندخل في قصة اليوم وردت إليَّ بعض الاستشارات في الفترة الماضية، أريد فقط أن أُبين شيئًا من إشكالية عدم الأخذ من طريقة النبي عليه الصلاة والسلام.
اتصل بي أحد الآباء قبل أيامٍ وهو يشتكي وضع ابنٍ له، وهذا الابن حصل عنده شيءٌ من الانحراف في الجانب السلوكي والتقصير في بعض الأشياء، فدخل في قضايا التدخين قدرًا ما، ودخل في التقصير في الصلاة بسبب بعض الأوضاع الاجتماعية، وبُعده عن الأهل، وما شابه ذلك.
الأب اتَّخذ قرارًا مصيريًّا، وهذا القرار المصيري ولَّد نتائج، ولو أردنا أن نعرف هذا القرار المصيري على طريقة النبي أو لا سنقول: هل يمكن أن تكون النتائج صحيحةً وإيجابيةً أم سلبيةً؟ وهل الأسلوب الذي مارسه الأب مع ابنه كان أسلوبًا يُعدل السلوك ويُصحح الخطأ، أم أنه عقَّد السلوك وسبَّب مُشكلاتٍ أعظم؟
هل تدرون ماذا فعل هذا الأب؟
طرد ابنه من بيته، وله في طرده سنةٌ كاملةٌ!
قلت: أين ذهب الابن؟ قال: عند الأقارب، وفي دراسته عنده سكنٌ، وما شابه ذلك، أو أخذ له شقةً ... إلى آخره، سنة كاملة!!
قلت له: طيب، هل تعدل السلوك؟ السلوك زاد، وانتقلت المشكلة إلى أخيه الثاني، وانتقلت المشكلة إلى مجموعةٍ أكبر، وكان بالإمكان أن يحتوي القضية دون اللجوء إلى قضية الطرد، فذكَّرتُه بقول الله لمحمدٍ ، وأنا لطالما أقول لنفسي، وأقول لأحبابي، وأقول لمَن يُتابع عبر البثِّ المباشر، ومَن سيُتابع عبر هذا التصوير: لا ننسى موقفًا صعبًا مرَّ على النبي وهو في غزوة أُحُدٍ.
لو وضع كلٌّ منا نفسه مكان النبي في غزوة أُحُدٍ، لا يوجد شيءٌ من الصعوبة بمكانٍ كما لاقى النبي في غزوة أحدٍ، فالغزوة كانت باتِّجاه انتصار المسلمين، وأعطى النبي توجيهات للذين كانوا على جبل الرُّماة، فقام بعض هؤلاء بمُخالفة النبي .
تصور أنت الآن أنك مكان هؤلاء: أبناؤك خالفوك، مثل صاحبنا هذا الذي خالفه ابنه، وعانده ابنه، ولم يستجب له ابنه، وتغيرت مُعادلة النصر في أحدٍ إلى هزيمةٍ، وقُتل مَن قُتل من صحابة النبي ، لا شكَّ كما قال الله : قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وكما قال الله : مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152].
كما قال أحد الصحابة: ما كنا نتوقع أن منا مَن يريد الدنيا إلا لما نزلت هذه الآية.
كان يتصور الصحابة أنهم -وهم كذلك- أهل طاعةٍ وعبادةٍ، لكن مَن كان يتصور أن الدنيا ستخترق قلوب بعضهم كما حدث في قصة جبل الرُّماة؟! فجاءت الآيات في سورة آل عمران وغيرها، جاءت الآيات تتنزل دروسًا عما حصل في غزوة أحدٍ، ومن ذلك قول الله : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، مَن المُخاطَب يا جماعة؟
الرسول يُخاطبه الله بعد غزوة أحدٍ، تتنزل هذه الآية: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، لم تكسبهم يا محمد إلا بالرحمة واللين، ولن نكسب أبناءنا إلا بالرحمة واللين، ولو كنتَ يا محمد -هذا النبي يُحذَّر من الله- فظًّا غليظًا مع هؤلاء لانفضُّوا من حولك، وتركك صحابتك وأقرب الناس إليك.
ونحن لو كنا كذلك مع أبنائنا سينفضُّون من حولنا: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].
قلت له: أول ما تحتاج إليه هو ترميم البُنيان مرةً أخرى، إعادة وضع البُنيان الأُسري مرةً أخرى.
وقلت له أيضًا: اتِّخاذك لقرار الطرد كان مصيبةً كبيرةً، فهو قرارٌ غير مُوفَّقٍ أبدًا، وكان بإمكانك أن تُمارس أساليب أخرى حتى لو استمرَّ فيما هو فيه.
وقلت له: بالله، أليس لو بقي ابنك على تقصيره أفضل من هروبه؟ فأيهما أفضل: يبقى في البيت قريبًا منك، أو يزداد في مصائبه؟ أليس بقاؤه أفضل مما هو عليه الآن بازدياد المشكلة وانتقالها إلى غيره كذلك؟
لا شكَّ أن الذي يُفكر بالعقل، حتى لو لم يعمل بالدين، حتى لو لم يعمل بالشرع، حتى لو لم يُفكر بطريقة النبي وهديه في التأثير والتوجيه؛ سيقول: أيهما أقلّ مشكلةً: يبقى معي في البيت ولو كان على تقصيره، أو أطرده ويظلّ سنةً مطرودًا؟ أيهما سيكون أقلّ مشاكل؟
بلا شكٍّ يبقى معي في البيت.
يا أخي، هذه الوسائط وهذه الصِّلات النفسية مهمةٌ جدًّا بين الآباء والأبناء.
معاناة مغتربة في أوروبا من قسوة والديها
وأذكر أيضًا خلال هذه الأيام اتَّصلت إحدى الأخوات عن طريق (الواتس آب) في الهاتف الاستشاري -وهي في إحدى الدول الأوروبية- تتكلم وتُعاني من وضع أبيها وأمها، وهي في هذه المُعاناة منذ أن كانت صغيرةً، والآن أصبحت في مرحلة الرشد كما يُقال، أو قريبةً من الثلاثين تقريبًا، ومع ذلك فهي تُعاني الويلات من طريقة تعامل والديها بقسوةٍ إلى مستوى الضرب، وعمرها تسعٌ وعشرون سنةً.
بل إن والدها مُستأجِرٌ ويُلزم ابنته بدفع جزءٍ من الإيجار، وهي مُطلقةٌ، وعندها بنتٌ، ويُلزمها أن تعمل حتى تكسب مالًا، فاضطرَّت إلى الاختلاط بالرجال في تلك الأجواء وتلك البيئات الغربية.
قالت: أريد الخروج، وأريد أن أهرب من بيتي، ضقتُ من هذه الحياة! وهذه ليست ردَّة فعلٍ على موقفٍ أو موقفين أو ثلاثة، بل إنها حياة سنواتٍ! هكذا يُعاملني أبي، وأحرص على برِّه، وأحرص على إدخال السرور عليه، وكذلك أمي، ولا يُثنون على الشيء الإيجابي الذي أفعله ولا يشكرونه.
تقول: وإذا قصَّرتُ في شيءٍ بسيطٍ ... مع أنني أقوم بعمل التنظيف يوميًّا، وأنا الشَّغالة في البيت، ولا أسمع كلمة شكرٍ! ولكن لو حصل تقصيرٌ أو ما حصل تقصيرٌ، ولكن جانب من الزيادة في التعامل بقسوةٍ وشدةٍ يُؤنِّبونها ويتكلمون عليها!
تصور أن تعيش هذه الحالة مع أقرب الناس إليك الذين كانوا سببًا في وجودك في هذه الحياة! كيف تكون حياتك يا أخي؟!
نعم، عندنا ضوابط شرعية: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
وأنا أشهد لمثل هذه الأخت التي تواصلت: أنها كانت تفعل بوالديها معروفًا، وتحرص على ألا تعقَّهما بأي حالٍ من الأحوال، لكن من داخلها ستنفجر: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، يعني: الحمد لله أنها صاحبة دينٍ وصاحبة عقلٍ، وإلا لو لم تكن صاحبة دينٍ وصاحبة عقلٍ في البلاد الأوروبية، ومعها الجنسية الأوروبية، ماذا سيكون الوضع؟ ستُغادر إلى البيوت الأخرى، وتصاحب (boyfriend) أيضًا، ولا أحد يستطيع منعها، خاصةً أنها تجاوزت مرحلة ما بعد الثامنة عشرة، كما هو الأمر في نظامهم المُتعلق بقضية ولاية الوالدين على أبنائهم.
إذن القضية هنا تحتاج إلى المعين، وأنا ذكرتُ صورتين سلبيتين، وهناك صورٌ إيجابيةٌ كثيرةُ -الحمد لله-، وهناك صورٌ سلبيةٌ كثيرةٌ، لكن أردتُ فقط أن أذكر هذه القضية في صدد الكلام حول ما يتعلق بحاجتنا إلى أن نأخذ من معيننا، ومن ذلك هدي النبي في التوجيه، وهدي النبي في التأثير، وهدي النبي في التعامل، وهدي النبي في تعديل السلوك.
قصة الملك الذي فرَّ من الحكم
دعونا نأخذ قصة هذه الليلة، وهي من القصص الغريبة جدًّا، وفيها دروسٌ عظيمةٌ، وأسأل الله العون والتوفيق.
وهذه القصة جاءت في "مسند الإمام أحمد" عن ابن مسعودٍ ، عن النبي قال: بينما رجلٌ فيمن كان قبلكم، كان في مملكته يعني: هو ملكٌ في تلك المنطقة، فتفكر تأمَّل فعلم أن ذلك مُنقطعٌ عنه يعني: ملكه لن يدوم، فقد جلس يُفكر: إلى متى سأظل ملكًا؟ لن يدوم ذلك، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه؛ فتَسَرَّب يعني: رأى الذي هو فيه قد شغله عن عبادة الله ، فماذا حصل؟ فَتَسَرَّب، فانْسَابَ ذات ليلةٍ من قصره خرج من قصره وانساب، وكأنه ذهب خُفيةً هذا الملك، فأصبح في مملكة غيره ذهب إلى مملكةٍ أخرى فيها ملكٌ آخر، وأتى ساحل البحر.
هذا الشخص -الملك الأول- ذهب إلى مملكةٍ أخرى، وأتى ساحل البحر، وكان يضرب اللَّبِنَ بالأجر يعني: يقوم بهذه المهنة: الشغل باللَّبِنِ والطين وما شابه ذلك، يعمل هذه الصنعة ويتكسَّب أجرًا، فيأكل ويتصدق بالفضل يأكل من هذا المال.
الآن هذا الملك صار عاملًا في مملكةٍ أخرى، فبدأ يشتغل في هذه الصنعة ويأخذ نصيبه ويأكل منه، والفاضل والزائد يتصدق به.
فلم يزل كذلك حتى رقي أمره إلى ملكهم وعبادته وفضله يعني: وصل الخبر للملك الثاني الذي أصبح هذا الملك الأول في مملكته: أن هناك شخصًا هذا وضعه، وهذه عبادته؛ لأنه كان يعمل ويتعبد الله ، وهذا أمره وعبادته وفضله، ما يدري أنه ملكٌ.
فـرقي أمره إلى ملكهم فوصل الخبر إلى هذا الملك الثاني عن أمر هذا الإنسان، فأرسل ملكهم إليه أن يأتيه، فأبى أن يأتيه رفض، فأعاد الملك الثاني الطلب، يقول النبي : ثم أعاد إليه، فأبى أن يأتيه، وقال: ما له وما لي؟! يقول هذا الملك الأول: ماذا يُريد مني؟! أنا أريد أن أبتعد عن هذه القضية، ماذا يريد مني؟! ما له وما لي؟!.
قال: فركب الملك، فلما رآه الرجل ولَّى هاربًا يعني: جاء الملك الثاني وركب وقصد أن يأتي إلى هذا الرجل، لما رآه ما استجاب المرة الأولى، وما استجاب المرة الثانية قال: دعني أذهب إليه.
وهذا الملك الأول لما رآه مُقبلًا ماذا فعل؟ هرب: ولَّى هاربًا، فلما رأى ذلك الملك فلما رأى ذلك الملك الثاني ركض في إثره فلم يُدركه ما أدركه، قال: فناداه: يا عبدالله، إنه ليس عليك مني بأسٌ لا تخف، قِفْ.
هو الآن لا يعرف قصته، ولا يعرف أن هذا ملكٌ، إنما عَجِبَ مما ذُكِرَ عنه في فضله وفي أمره وعبادته.
انظر إلى هذا الرجل العجيب، الآن رفض أن يلتقي به، بل إنه لما رآه هرب، فأراد أن يُعطيه الأمان فناداه: يا عبدالله، إنه ليس عليك مني بأسٌ لا تخف، فأقام حتى أدركه، ذاك شعر أن الأمر ليس فيه شيءٌ يُخيف، فأدرك الملكُ الثاني الملكَ الأول، فقال له الملك الثاني قال للأول: مَن أنت رحمك الله؟ قال: أنا فلان بن فلان، صاحب ملك كذا وكذا، تفكَّرتُ في أمري فعلمتُ أن ما أنا فيه مُنقطعٌ، فإنه قد شغلني عن عبادة ربي؛ فتركته وجئتُ هاهنا أعبد ربي . فقال يعني: الملك الثاني ما أنت بأحوج إلى ما صنعتَ مني أنت لستَ أحوج مني إلى ما صنعتَه، أنا أحوج منك إلى ذلك، يقول النبي : ثم نزل عن دابَّته فسيَّبها ثم تبعه تبع الملك الأول، فكانا جميعًا يعبدانِ الله ، فدعوا الله أن يُميتهما جميعًا.
أصبح الملك الثاني يعمل بمثل ما يعمل به الملك الأول؛ يعبدانِ الله : قال: فماتا، قال الراوي: لو كنتُ برميلة مصر لأريتُكم قبورهما بالنعت الذي نعت لنا الرسول [1]أخرجه أحمد في "مسنده" (4311)..
يقول: لو كنتُ في المنطقة لأريتُكم أين قبر الاثنين حسب الوصف الذي وصفه لنا النبي .
هذه قصة الملك الذي فرَّ من الحكم كما عنونها العلماء، وذكرها الشيخ الأشقر -رحمة الله عليه- في كتابه الجميل "صحيح القصص النبوي".
دعونا نأخذ مجموعةً من الدروس التربوية، والنفسية، والأُسرية، والاجتماعية من خلال هذه القصة الرائعة الجميلة.
وما أجمل أن نقف ونضع أنفسنا في معاني مثل هذه القصص! وأن نقرأها على أجيالنا؛ حتى يستفيدوا منها ونستفيد نحن منها، وهذه من أهم مقاصد القصص: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ ماذا؟ عِبْرَةٌ [يوسف:111]، فالقصص فيها عبرةٌ.
إذن كيف نحن؟
لم نصل إلى الملك، ولم ننشغل، ... إلى آخره، ومع ذلك نحن نُقصر في العبادة أيّما تقصيرٍ، فمهمٌّ جدًّا أن نستفيد من مثل هذه القصص.
ومن الدروس المُستفادة: أن من عباد الله مَن يُؤْثِر طاعةَ الرحمن وعبادة الله على الدنيا، فهم يُخالفون مألوف الناس، وهم عجبٌ حقًّا، يعني: يُخالفون ما يألفه الناس ويُحبه الناس؛ لأن عندهم أمرًا أشد من ذلك يُقدِّمونه عليه، ما هو؟ عبادة الله .
أمر العبادة والطاعة يا أحبابي لا يأتي في فضول الأوقات، فالله وضع القاعدة الربانية الواضحة المهمة جدًّا في تربية الأجيال وتربية أنفسنا: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، فإذا كانت الآخرة هي القضية الأساسية، فكيف تكون العبادة من الأمور التي نُعطيها من فضول أوقاتنا، ونهتم بالدنيا أكثر مما نهتم بالآخرة وبالعبادة؟!
هؤلاء انشغلوا وأدركوا أن ما هم عليه أشغلهم عن عبادة الله ، فهل نحن جديرون بأن نترك أشياء من دنيانا، وأن نُربي أبناءنا على أن يتركوا أشياء من دنياهم، ونُربي نساءنا وبناتنا وأهلينا على أن يتركوا شيئًا من دنياهم من أجل أن يعبدوا الله ويُطيعونه حقَّ طاعته؟
هذا أكبر درسٍ يا جماعة، هؤلاء حقًّا عجبٌ؛ الذي يُضحِّي من أجل الله بلُعَاعَة الدنيا ولذَّة الدنيا، حتى لو كانت حلالًا، فنحن ما نتكلم عن الحرام، فالحرام أمره واضحٌ، وإنما نتكلم عن الحلال، فالحلال بين يديك، ولكنه أشغلك عن طاعة الله، وأشغلني الحلال والانهماك فيه -مع أنه حلالٌ- عن قراءة كتاب الله، وعن الحرص على الصلاة، وعن الثَّبات على الصلاة في المسجد، وعن القيام بحقِّ الله في أمور العبادات.
فنحن بأمس الحاجة إلى مثل هذه القضايا ومثل هذه المعاني.
نحن نتكلم عن الأمور الواجبة، فما بالكم بالأمور المُستحبَّة؟!
هناك أناسٌ بلغوا منزلةً عظيمةً رائعةً لما تربوا على مثل هذه المعاني العظيمة، كما كان عليه هذان المَلِكان؛ لذلك ينبغي أن نُراجع أنفسنا فيما يرتبط بهذه القضية: هل نترك شيئًا من الدنيا من أجل أن نعبد الله حقَّ عبادته، أم أننا ضمنَّا أن وضعنا مع العبادة سيُنجينا من نار جهنم ويُدخلنا الجنَّة؟!
وسلوكيات بعض المسلمين لا تستطيع أن تصفها إلا بهذه الصورة، فهم راضون بأمورهم التي هم عليها، ولا يريدون أن يتقدَّموا في شأن العبادة، مع أن النبي بيَّن -وهذه من الموازين النبوية العظيمة في التربية- أن الإنسان لا ينظر إلى مَن هو أعلى منه، ولكن ينظر إلى مَن هو أسفل منه؛ حتى لا يَزْدَري نعمة الله عليه، هذا في أمور النِّعَم الدنيوية: لا تشغل بالك بمَن هو أعلى منك، فتقول مثلًا: هذا عنده ملايين! أو هذا عنده سيارات! أو هذه عندها فساتين! أو هذا عنده بيتٌ مِلْكٌ! أو هذا عنده كذا! ستتعب: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:88]، لا تشغل بالك وتمدّ عينك، كن قنوعًا حتى تطمئنَّ، ففي أمور النِّعَم وفي أمور الدنيا انظر إلى مَن هو أسفل منك؛ حتى تحمد الله وتقول: الحمد لله الذي أعطاني.
لكن في أمور الدين انظر إلى مَن هو أعلى منك مثل هذا المَلِك الثاني، فالملك الثاني بمَن اقتدى؟
اقتدى بالملك الأول فأصبح مثله.
فنحن نحتاج إلى مثل هذه المعاني في تربيتنا داخل أُسرنا، وفي تزكية نفوسنا والله يا أحبابنا، وأولكم مُحدِّثكم؛ فلذلك تنبغي المُراجعة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
لا أظن أن أحدًا سيترك الشغل الذي هو فيه في الدنيا من أجل أن يتفرغ للعبادة مثلما فعل هؤلاء، لا، ليس المقصود أن تصل إلى هذا المستوى.
عظة من مُسِنّ كان يختم القرآن كل يومين
أنا أذكر أحد كبار السن من أقاربي -رحمة الله عليه- تُوفي وعمره ستٌّ وتسعون سنةً، كان مُنْهَمِكًا في سنواته الأخيرة مع كتاب الله ، يختمه كل يومين، وأذكر أنني اتَّصلتُ به قبل وفاته وقلتُ له: كيف حالك يا عم؟ قال: أُبشرك على ما أنا عليه. ومات -ولله الحمد والمنة- وأُخذ إلى المستشفى، وكان آخر عهده في آخر الليل وهو يقرأ في سورة يوسف، رحمة الله عليه.
كان يقول لي: يا خالد، والله حينما أتلو كتاب الله والله لا يأتي في بالي شيءٌ من لُعَاعَة الدنيا البتَّة، ولا أُفكر فيها. يقول في الآيات: وأسبح مع كلام رب العالمين بصورةٍ عظيمةٍ جدًّا.
يقول: أنا لستُ مثلكم يا شباب؛ إذا قرأتم كتاب الله ذهب الذهن ذات اليمين وذات الشمال. يقول: وإذا أغلقنا المصحف وتركناه قليلًا وجئنا بعد فترةٍ ما أعرف أين وصلتُ؟ يقول: أُبشرك، أعرف والله أين وصلتُ تمامًا؟ وحينما أبدأ بالآية أذهب إلى العالم الآخر تمامًا، وأسبح فيه، وأشعر بالمتعة واللَّذة.
هذا كله من توفيق الله يا جماعة، فلا بد أن تكون بين الإنسان وبين الله خبيئةٌ، لا بد أن تكون بينه وبين الله تلاوةٌ، وكذلك الصيام بينه وبين ربِّ العالمين، لا بد أن يكون عنده هذا الجانب، ولا بد أن يُعوِّد أبناءه على هذا الكلام، ولا بد أن يرى أبناؤنا حرصنا على مثل هذه القضايا، فما أعظم أن تسمع أن ابنك يصوم صيام النَّفل! يا سلام! أو أن ابنك يهتم بكتاب الله ، يا سلام! أو أن ابنك يقوم بركعةٍ قبل أن ينام ويُصلي الوتر، يا سلام! أو يقوم آخر الليل ويُصلي بدل أن يجلس على الجوَّال طوال الوقت، ناهيك بأنه يُتابع أشياء ليست مضبوطةً، حتى لو كانت أموره طيبةً، قام وتوضأ وصلَّى، يا أخي، الواحد يفرح.
لكن لن تأتي هذه النماذج الجميلة السهلة التي قد لا يُكلف بعضها دقيقةً أو دقيقتين أو ثلاث دقائق من وقتنا حينما يقوم ويُوتر بركعةٍ إلا من خلال التعود على ذلك، وأن يُربَّى على ذلك؛ كي ينطبق عليه: فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]، ويُصبح من الذين كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، ويُصبح من أهل قيام الليل، حتى ولو بركعةٍ، فلا بد أن يتعوَّد على ذلك، وتكون صِلته بالله عظيمةً.
أين نحن من علاقتنا بالله ؟
ينبغي أن نكون قُدواتٍ لأبنائنا وأجيالنا كما كان هذا الملك الأول قدوةً للملك الثاني.
وهنا تأكيدٌ على كثيرٍ مما ذكرنا سابقًا فيما يتعلق بالتربية الإيمانية، والله نحن بأمس الحاجة إلى ما يرتبط بقضية التربية الإيمانية، فالتربية الإيمانية قضيةٌ من أهم القضايا، فنحتاج أن نُراجع أنفسنا: أين نحن من علاقتنا بالله ؟ مهما كانت أعمالنا دينيةً أو دنيويةً، أين نحن من علاقتنا بالله؟
حتى الذي يُمارس الدعوة، حتى الذي يُمارس الخير، حتى الذي يكدّ على أهله ويأتي بالرزق الحلال، أين هو من علاقته بالله ؟
فمن المهم جدًّا أن يُراجع الإنسان نفسه حتى يرى: هل هو قريبٌ أم بعيدٌ؟
وفي النهاية كلنا سيُقال عنا: قد متنا، وغادرنا، فمَن الذي سيكون سعيدًا حينما يلقى الله ؟
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السُّعداء.
وهذه من المعاني التي ينبغي أن تنتقل إلى الأبناء، فالجانب الإيماني العبادي مهمٌّ.
من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية
ما زلنا نقول: هناك حاجةٌ ومزيدٌ من الحاجة إلى تقريب الأجيال لعبادة الله ، فمَن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية، هذه مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "العبودية": "مَن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية"[2]"مدارج السالكين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" لابن القيم (1/ 429).، فيكون في حالةٍ من السعادة حتى في وقت الأزمات: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبُستاني في صدري، أنَّى رُحْتُ فهي معي" كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية لما سُجن[3]"المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام" لابن تيمية (1/ 153).، لن يكون هذا الأمر إلا إذا كان القلب مُعلَّقًا بالله ، وكانت هناك علاقةٌ بين هذا الإنسان وبين الله ، وكانت هناك عبادةٌ وتربيةٌ إيمانيةٌ حقيقيةٌ.
لما تضيق نفوس أبنائنا أين يتَّجهون؟ ولما تضيق نفوس زوجاتنا أين يتَّجِهْنَ؟ ولما تضيق نفوسنا أين نتَّجه؟
الرسول كان إذا حزبه أمرٌ وضاق صدره فزع إلى الصلاة، قام وتوضأ وصلَّى.
يقول بعض المُجربين: والله نُجربها ونجد فعلًا أثرها.
وقد تكون هناك مُعاناةٌ لمَن لم يُجربها، لكن لمَن وُفِّق إلى أن يُمارسها ولو بالضغط على النفس، يعني مثلًا: يأتونك يستشيرونك، طيب، هل لجأتم إلى الله؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، المُضطر، أنا مُضطرٌّ، عندي قضيةٌ نفسيةٌ، عندي مشكلةٌ، عندي ضائقةٌ، عندي اكتئابٌ، عندي حزنٌ، الجأ إلى رب العالمين.
لا أقول: إن الأسباب المادية ليست مُقدَّرةً، وليست مُهمةً، هي مهمةٌ، لكن لما يطغى هذا الجانب على اللجوء إلى الله فهذا يدل على ضعف الارتباط بالله ، وهذه من العلامات والمُؤشرات، وأنا أُخاطب نفسي أولًا، فحينما تضيق نفوسنا أين نتَّجه؟ وأين نذهب؟
بعض الأبناء، وبعض الأجيال، وبعض الناس تجده يتَّجه إلى الحرام، أو يتَّجه إلى فضول المُباحات، أو يتَّجه إلى التُّرهات حتى لو لم تكن مُحرَّمةً!
مَن الذي سيُمارس الجدية في هذه القضية فيكون مثل النبي فيفزع إلى الصلاة، يفزع إلى الله ، ويضع أمره بين يدي الله ، ويلجأ إلى الله ، خاصةً في وقت الشدة.
إذا كان حال الكفار: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، فالكفار والمشركون كانوا حينما تضيق بهم أحوالهم وهم في البحر يلجؤون إلى الله، وهم مُشركون، لكن يُوحدون الله ، فإذا أنقذهم الله رجعوا إلى شركهم، فكيف حينما يكون الإنسان في حالٍ أحسن من حال هؤلاء الناس؟ فنحن بأمس الحاجة إلى مثل هذه التربية الإيمانية.
ثقافة شرف الصنعة الحلال!
من الدروس المُستفادة من هذه القصة -قصة الملك الذي فرَّ من الحكم وصاحبه-: ما يتعلق بقضية الصنعة الحلال الشريفة، فهي عِزٌّ والله، فهؤلاء على رفعة مكانتهم، وعلو قدرهم، ومنزلتهم الكبيرة إلا أنهم كدُّوا في حياتهم حتى لا يحتاج الواحد منهم إلى أن يطلب من أحدٍ، وإنما هو يكدُّ ويتعب، وكان هدفه الأساسي العبادة، وجاءت قضية الكدِّ في الحياة تبعًا لذلك، فوُفِّقوا إلى مثل هذا الأمر.
فكم نحتاج إلى ثقافة الصناعات والمهارات الشريفة، وعدم وصف تلكم الصنائع الشريفة بأوصافٍ دنيئةٍ.
من الخطورة في المجتمعات: أننا نجعل بعض المهن لا تليق بأبنائنا، فلا يليق بأبنائنا أن يكونوا سبَّاكين، ولا يليق بأبنائنا أن يكونوا ميكانيكيين، ولا يليق بأبنائنا أن يكونوا كهربائيين!
مَن قال هذا الكلام يا أخي؟!
وللأسف الشديد قد سألتُ عددًا من الذين يتخرَّجون من المعاهد الفنية والتقنية والكليات التقنية ... إلى آخره، وبعض التَّخصصات المُتعلقة بهذه الجوانب، فوجدتُهم لا يُمارسون هذه المهن إذا تخرجوا، وإنما يفتح الواحد منهم محلًّا، ويأتي بفلبيني ليُمارس العمل! طيب، أنت ماذا درستَ؟!
يقول: المجتمع لا يُساعدني على أن ألبس بدلة كذا وأشتغل. لماذا؟ مَن قال: إنه عيبٌ؟!
المجتمعات التي تشعر بأن هذه المهن عيبٌ لا ترتقي، ولا شكَّ أن التَّرف في المجتمعات المُترفة يكون جزءًا وسببًا في هذه النظرة، لكن لا بد أن نُعلم أبناءنا الصنعة الشريفة، والمهنة الشريفة، ما دام أن هناك إنتاجًا في هذه الحياة.
وهكذا ينبغي النظر حتى للتخصصات: أن تكون نظرةً شموليةً، ليست نظرةً خاصةً لتخصصاتٍ معينةٍ، ينشأ الابن والطفل والبنت، كذا ينشؤون: دكتور المستقبل، طبيب المستقبل، مهندس المستقبل، ما عنده إلا هذه الخيارات، إما طبيب المستقبل، أو مهندس المستقبل، ما في شيء ثانٍ، أما أن يكون عالِمًا في الشريعة فهذا عندهم عيبٌ، المُختصُّ في الشريعة صارت عيبًا عند بعض الأُسَر؛ لأنه ما يسمعها من الآباء والأمهات؛ فأصبحت لا قيمةَ لها ولا قدر.
وحتى مهنة التعليم الآن أصبحت أيضًا لها الإشكال المُتعلق بقضية النظرة تجاه مناهج التعليم، وهذه خطورةٌ كبيرةٌ جدًّا حينما تصل مثل هذه المهن لمثل هذا المستوى، فما بالكم بالسباك، أو النجار، أو الحداد؟!
ما العيب؟!
والله ليس عيبًا، بل شرفٌ كبيرٌ حينما يكد الإنسان ويكسب من عرق جبينه، وينبغي أن يتربى الأبناء على مثل هذه الأشياء.
أهمية مراعاة الميول المهنية
وفقًا للنظريات النفسية مثل: نظرية هولاند في الميول المهنية وأنماط الشخصية: أن هذا الإنسان الذي أمامك -ابنك محمد- قد لا يُناسبه أن يكون طبيبًا، أو يكون مهندسًا، أو يكون قاضيًا شرعيًّا، لكن المُناسِب أن يكون سبَّاكًا، أو كهربائيًّا.
وأنا أعرف هذا الكلام بحكم التخصص، وقد التقيتُ بمئات من الطلاب في هذا البرنامج المُتعلق بنظرية هولاند، وهو برنامج "أنماط الشخصية والميول المهنية"، أناسٌ من الطلاب ...، أذكر إحدى المدارس دخلتُ إليها وطبَّقتُ عليها هذا البرنامج في الثانوية، في الرياض، ثاني ثانوي شرعي، وكانت المدرسة مشغولة بهذا الفصل، وتُعاني من سوء هذا الفصل، فطلاب هذا الفصل مُزعجون، فقالوا: رجاءً اعمل لنا دراسةً لهذا الفصل.
تدرون عندما طبَّقتُ عليهم هذا المقياس المتعلق بأنماط الشخصية والميول المهنية لهولاند ما الذي توصلتُ إليه؟ تدرون ماذا حصل؟
إن معظم الموجودين في هذا الفصل -ثاني ثانوي شرعي- لا يُناسبهم أن يبقوا في هذا التخصص، يُناسبهم أن يُمارسوا المهن اليدوية المتعلقة بالفك والربط، والمتعلقة بالسباكة، والحدادة، والنِّجارة، والكهرباء، والإلكترونيات، ... إلى آخره.
وعندما تتناقش مع بعضهم يقولون لك: ماذا نفعل؟ آباؤنا يُريدوننا هكذا، يُريدون أن نُكمل دراستنا بهذه الطريقة؛ فلذلك ينبغي احترام الصناعات والمهن الشريفة، كما مارسها هذان المَلِكان، فهم مَلِكان ومع ذلك كانا يُمارسان هذه الصَّنعة الشريفة.
والعقل حينما يكون سيد الموقف تأتي النتائج الحميدة، وهذا درسٌ آخر، فالمَلِك الأول فكر كما جاء في نفس الحديث: فتفكر، بدأ يتأمل ما هو فيه، فسأل نفسه: وآخرتي؟! سأموت، طيب، أنا مُقصِّرٌ في العبادة! ففعل الذي فعل، وهكذا صاحبه الثاني.
لذلك كلما استطعنا علينا أن نُعمل عقلنا ونُفكر تفكيرًا صحيحًا، فهو سيد الموقف في اتِّخاذ القرارات السليمة، دائمًا يقولون: الذي يُفكر تفكيرًا صحيحًا يتَّخذ القرار الصحيح.
أما أن نكون إمَّعةً وتبعًا لغيرنا: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن أساؤوا أسأنا، نحن تبعٌ لغيرنا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ ... [الزخرف:22]، فهذا لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يُنتج نتائج إيجابية وقرارات سليمة، فالقرار السليم لا بد له من عقلٍ يكون سيد الموقف.
الدنيا دار عملٍ لا مقام
الدنيا أيها الإخوة دار عملٍ لا مقام، وهذا درسٌ واضحٌ جدًّا من قصة هذين المَلِكين اللذين كانا مَلِكين في ديارهما، ومع ذلك تذكَّرا أن خاتمتهما ونهايتهما هي مُغادرة هذه الحياة، فأرادا أن يُعوِّضا ما نقصهما من عبادة ربهما.
فالدنيا التي نحن فيها لو كانت هي المقام لكنا استمتعنا بما أردنا وانتهت القضية.
وهكذا الناس -سبحان الله!- فالنظريات الغربية التي يفهمها أهل التخصص فيما يتعلق بالتخصص النفسي خاصةً في النظرة المادية للإنسان، وإبعاد القضية الدينية والأُخروية؛ هي التي أوقعتهم في جعل الإنسان هدفه في هذه الحياة هو: المتعة واللَّذة، فهو يستمتع فقط، فإيمان هؤلاء الناس بالآخرة قد لا يكون موجودًا، وذلك إذا كانوا ملاحدةً مثلًا، وهكذا.
فينبغي إدراك حقيقة الدنيا بالنسبة للآخرة، وذلك الدافع الأُخروي لا بد من تحريكه في نفوس الأجيال، فهو مهمٌّ جدًّا، ومن الخطأ أن يمر على الأبناء يومٌ ويومان وأسبوعٌ وأسبوعان ولا يسمعون شيئًا عن الآخرة، فهذا ضعفٌ في بناء الإيمان، ضعفٌ تربويٌّ شديدٌ، فهم يسمعون عن قضايا كثيرةٍ في الدنيا، ولا يسمعون عن قضايا كثيرةٍ في الدافع الأُخروي.
فنحن نحتاج إلى ربطهم بالآخرة، فلا بد أن يعرف الابن أن هناك يومًا اسمه: اليوم الآخر، يوم القيامة؛ لهذا كان من أساليب الصحابة التربوية: تعليم أبنائهم وأطفالهم وصغارهم علامات الساعة، فما الذي جعلهم يفعلون هذا الأمر؟
حينما يرتبط الجيل بأن هناك علامات ليوم القيامة، وأن هناك يومًا آخر، وأن الله هو الذي خلق ذلك؛ يعظم عندهم أمر الله ، ويعظم عندهم أمر الآخرة، وتهون عندهم الحياة الدنيا.
أنا أجزم أننا لو أتينا بأطفالٍ مُتعددي البيئات التربوية، ومُختلفي البيئات التربوية، ناهيك عن اختلافهم في الديانات؛ لوجدنا من أكبر مُبررات الاختلاف في تصوراتهم -والتعبير عن تصوراتهم- تربيتهم على الدافع الأُخروي أو عدم تربيتهم على ذلك، فتجد الذي تربى على الدافع الأُخروي يقول: أريد أن يرضى عني الله . فإذا قلتَ له: لماذا لم تفعل هذا يا ولدي؟ يقول: الله لا يريد هذا الشيء، وأنا أريد أن أدخل الجنة. بينما الآخر ليس عنده هذا الشيء مثلًا، فالتربية على الدافع الأُخروي مهمةٌ.
الدافع الأُخروي مُستمرٌّ لا ينقطع
من سمات الدافع الأُخروي -كما سبق أن ذكرنا قديمًا في حلقاتٍ ضمن هذه السلسلة- أنه مُستمرٌّ دائمًا، فسِمة الدافع الأُخروي أنه لا ينقطع، فالجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشرٍ[4]أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824).، وأنه لا يتصور، وأنه دائمٌ في وقته لما يأتي النعيم، ودائمٌ في وقته لما يأتي العذاب، نسأل الله أن يُعافينا وإياكم من عذاب جهنم.
لذلك فإن الربط بالدافع الأُخروي غير الربط بالدنيا، وانظروا أثر الدنيا مثلًا والربط بها فيما يتعلق بالربح والخسارة، طيب، فما بالك بالربح والخسارة الدائمة؟! فالقضية مختلفةٌ تمامًا بين النظر للدنيا والنظر للآخرة.
لا بد أن تكون مُنتجًا
الدرس قبل الأخير: الإنتاج في الحياة، فلا بد أن نكون مُنتجين حتى لدنيانا، وهكذا تكون التربية إيجابيةً حينما يُنتج أجيالنا لأنفسهم ولغيرهم إنتاجًا صحيحًا، حتى في أمور دنياهم، فما بالكم بأمور دينهم؟ كما أنتج هذا المَلِك وذهب وبدأ يشتغل في اللَّبِن والطين، ويتكسَّب من المال، فيأكل منه، والباقي يتصدق به.
فانظروا إلى أثر التربية العبادية والإيمانية: فهو لم يَنْسَ الصدقة حتى في ظلِّ هذا الظرف؛ لذلك فإن الإنتاج في الحياة مهمٌّ جدًّا.
أما البطالة فكما جاء في الأثر -وأظنه عن عمر -: أن أحد صحابة النبي يقول: "لا يُعجبني الرجل أن يكون سَبَهْلَلًا، لا هو في عمل الدنيا، ولا هو في عمل الآخرة"، وعندما ترجع إلى كلمة "سبهلل" في قاموس اللغة العربية تجد معناها: فارغًا.
فلا يكن أحدكم فارغًا، لا هو في عمل الدنيا، ولا هو في عمل الآخرة.
كم هم الفارغون اليوم؟ وكم هم غير المُنتجين؟ لا في أمور الدنيا، الإنتاج الدنيوي السليم الإيجابي في مجال تخصصه، وفي مجال تجارته، وفي مجال رزقه، ... إلى آخره، ولا في عمل الآخرة.
فعمر يَشْمَئِزُّ ويقول: لا يصلح أن يكون الإنسان بهذا الشكل، لا يُعجبني هذا الإنسان الفارغ السَّبهلل الذي لا يُمارس إنتاجًا للدنيا أو للآخرة.
الفرق بين الوسيلة والغاية
أخيرًا: الفرق بين الوسيلة والغاية، فلا بد أن نتربى ونُربي الأجيال على مثل هذه المعاني، فهناك فرقٌ بين الوسيلة والغاية.
ومن أخطر الأمور أحبابي: حينما تُصبح الوسائل غايات، فهذا المَلِك لو كان المُلْكُ عنده غايةً انتهى الأمر، فهل كان سيفعل مثل هذا الفعل؟ لا، لن يفعل، لكن ما الذي جعله يفعل مثل هذا الفعل؟ المُلْكُ عنده غايةٌ أم وسيلةٌ؟ وسيلة.
أما الغاية فاستحضرها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أدرك أن الغاية هي عبادة الله .
وهكذا ينبغي أن نُدرك: هل نحن نسلك في حياتنا بالغايات أم بالوسائل؟
عندما يكون شغل الإنسان مرتبطًا بقضية تحقيق العبودية وإرضاء الله فهذه هي الغاية الشريفة العظيمة جدًّا، وهي التي تجعله يسلك، وينتقي، ويختار، ويبذل، ويفعل حتى في أمور الدنيا، أم أن الوسائل أصبحت غايات، وحلَّت محل الغايات؟!
مثل: الطالب الذي يَدْرُس وهدفه الشهادة، أو المعلم الذي يُدَرِّس وهدفه المال، فهذا جعل الوسيلة غايةً تحكَّمت فيه، وهذا لا يجعله مثل ذاك الذي جعل الغاية بالنسبة إليه: رفع الجهل عن نفسه، ورفع الجهل عن الآخرين، وإقامة العبودية لله ، والتأثير في الآخرين، ... إلى آخره، فهناك فرقٌ بين الاثنين.
فالذي جعل الوسيلة غايةً تتحكم فيه إلى مستوى أنه ربما يغشُّ ويُخادع حتى يُحقق الذي يُريده، فيغشُّ في الاختبارات لأن غايته الشهادة، ويغشُّ في الاختبارات لأن غايته الدَّرجات، فأصبحت الوسيلة هي الغاية.
فانظروا أيضًا إلى مثل هذه القضية حتى في قصتنا التي ذكرناها.
أسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يُوفقنا وإياكم لمرضاته، فما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.