المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذا -بحمد الله وتوفيقه- هو الدرس الحادي عشر من المجموعة التاسعة من سلسلة: "التطبيقات النفسية والتربوية من الكتاب والسنة"، وهي الحلقة الثالثة عشرة حول الأساليب التربوية وما يتعلق بأسلوب القصة، وحول القصص النبوي، وهي الحلقة الثالثة عشرة فيما يتعلق بالقصص النبوي، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
معنا في هذا اللقاء -بإذن الله - قصتان، نسأل الله العون والتوفيق.
فِطْنَة سليمان تُنقذ الطفل
القصة الأول: عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن أحدهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى.
اختلفت الكبيرة مع الصغيرة، فالذئب أخذ أحد الأبناء، وكلٌّ تقول: أخذ ابن الأخرى. فقضى داود عليه الصلاة والسلام للكبرى.
فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه ذهبتا إلى سليمان بن داود، فقال يعني: سليمان النبي ابن داود استدرك على أبيه، فقال: ائتوني بالسكين أشُقُّه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل، يرحمك الله، هو ابنها. فقضى به للصغرى[1]أخرجه البخاري (6769)، ومسلم (1720).، فقضى به سليمان بن داود للصغرى، بينما قضى أبوه داود عليهم الصلاة والسلام للكبرى.
في هذه القصة مجموعةٌ من الوقفات أو عِدة أمورٍ:
الأمر الأول: الفِطْنَة والفقه لا تتعلقان بالسن، فالصواب هنا مع سليمان، وليس مع داود أبيه، فكانت الفطنة والفقه عند الصغير، وليس عند الكبير، وهذا يظهر في قصة عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، يقول: قال رسول الله : إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبدالله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييتُ، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: هي النخلة، قال: فذكرتُ ذلك لعمر، قال: "لأن تكون قلتَ: هي النخلة، أحبّ إليَّ من كذا وكذا"[2]أخرجه البخاري (26)، ومسلم (2811)، واللفظ لمسلم..
فلما أبلغ بذلك أباه تمنى لو أن ابنه نطق بما أدركه وعلمه، وكان ما أدركه هو الصحيح، مع أنه أصغر القوم، وكبار القوم لم يُدركوه، وهذا أمر الله وزَّعه في البشر، وأوجد التفاوت في البشر، وليس في ذلك مَنْقَصةٌ أن الإنسان لا يُدرك في قضيةٍ معينةٍ الصواب، فقد يكون من أذكى الأذكياء، ولكنه في قضيةٍ معينةٍ لم يُصب الحقَّ؛ لأنه بشرٌ.
ولذلك ينبغي ألا تُربط القضية بمنصبٍ، أو جاهٍ، أو علمٍ، أو سِنٍّ، أقصد: قضية المكانة والوزنية العلمية، فقد يكون مَن هو دونه في قضيةٍ ما يُصيب الحقَّ أكثر من هذا الشخص الآخر.
فهذه قضيةٌ تُستفاد من هذه القصة التي ذكرناها.
توسيع مدارك الأبناء
الأمر الثاني: من المهم جدًّا في التربية أن نُوسع مدارك أبنائنا وأجيالنا ومَن نتعامل معهم، يعني: لا أريد أن أدخل في جانب التخصص، ولكن أذكر طرفًا بسيطًا يذكرونه في التخصص، وهو ما يُسمَّى: بالعمليات العقلية الأولية، والعمليات العقلية العليا: العمليات العقلية الدنيا والعُليا.
وكثيرٌ من مجتمعاتنا تُربي أبناءها على العمليات العقلية الدنيا، الأقل، التي هي مُرتبطةٌ بالحفظ والتَّذكر وما يُقابله إذا نسي، هذه المستويات الموجودة.
وتجد أن العمليات في الدراسة في المدرسة -مثلًا- في الغالب مُرتبطةٌ بهذا الجانب، فالطالب يحفظ المعلومة، ويحاول أن يتذكرها عندما يُطلب منه ذلك، وإذا لم يتذكرها صار النسيان، هذه هي العمليات الثلاث الموجودة في العمليات العقلية الدنيا، أو التي تُسمَّى: الأولية، وكل البشر يقعون فيها، لكن القضية ليست في هذه، القضية فيما هو أعلى من هذا المستوى، وهو ما ينبغي أن نُربي أبناءنا وأجيالنا عليه، وهو المُرتبط بالفهم، فيبدأ في الاستيعاب؛ فيفهم كلام الله بطريقةٍ صحيحةٍ، ويفهم كلام مَن يُوجهه بطريقةٍ صحيحةٍ، فيصير لديه مستوى من الفهم أفضل وأحسن.
وعندما يكون عنده مستوى أفضل يبدأ في تحليل الأشياء، ومعرفة من أين أتت؟ وما أسبابها؟ فهذا كله مجالٌ أكثر في التفكير، فيستطيع أن يعرف ضرب المثال، وكيف يستنبط من هذا الشيء فوائد معينة؟ ويستطيع أن يعرف كيفية حل أي مشكلة تُواجهه.
في بعض الأحيان عندما يُلقى لغزٌ على الأبناء أو على مجموعةٍ من الناس سرعان ما يقولون: أعطنا الجواب. أو يُجاوبون جوابين ثم يقفون؛ لأن الذهن توقف عند هذا الحد، هذه القدرات العقلية يقولون عنها في الدراسات الحديثة: إنه لا يعمل منها إلا 10%، والـ90% المتبقية موجودة لكنها كامنةٌ، وتعمل عندما أُدرب الابن على ذلك في مستوى من التفكير، فأقول له: ما رأيك؟ انقد. وأحاوره، وأسمع رأيه، وينقدني، فهذا كله من الأشياء المهمة جدًّا، ويُقيِّم: ما رأيكم في الرحلة التي قمنا بها؟ فقد يكون رأيه صوابًا، وقد يكون خطأً.
وقد حدثت قصةٌ لأحد الأشخاص في الدمام: أراد أن يشتري مِعْطَفًا لابنه الصغير، فذهب لشراء المعطف، لكن الابن في البيت، فذهب واختار ما رآه حسنًا واشتراه، فالذي فكَّر هو الأب، والذي لبس هو الابن.
وأثناء وجوده في المحل لشراء المعطف وجد رجلًا أوروبيًّا قد أتى لنفس الغرض، لكن ابنه معه، فيقول: جلستُ أتأمل الموقف وأنا في مكاني، وإذا بالرجل يقول لابنه: ما رأيك؟ ما المناسب؟ فيقول: هذا والله مناسبٌ. قال: لكن هذا فيه كذا، طيب، واللون ليس مناسبًا، وهناك لونٌ أحسن منه، طيب، يمكن أن يكون هذا اللون أحسن منه.
وجعل يُحاور ابنه ويُناقشه، ويُصوِّب، ويُخطِّئ، وبدأ ابنه يُفكر ويتأمل، ويُعطي رأيه، فقد يكون رأيه أصوب من رأي أبيه.
يقول صاحبنا هذا: فأدركتُ كم فقد ابني الذي سأُكرمه بهذا المعطف وأُحسن إليه -وهو يستحق الإحسان- من مثل هذه الفوائد التي لو أتيتُ به لاستفادها وتربَّى على كيفية حل المشكلة، وكيف يستطيع أن يُفكر بطريقةٍ صحيحةٍ؟ وكيف يستطيع أن يخرج من أزمةٍ بطريقةٍ سليمةٍ؟ وكيف يستطيع أن يختار بين أمرين؟
وقد جربتُ هذا مع طلابي، فكنتُ أُعطيهم اللغز فيقول أحدهم جوابًا خاطئًا، ثم يقول الثاني جوابًا خاطئًا، فيبدأ الكثير منهم يقولون: أعطنا الجواب. طيب، إذا كان جواب الأول والثاني خطأً فعليكم أن تُفكروا، حاولوا، وأشدّ عليهم عندما أقول لهم: في الأسبوع القادم أنتظر منكم الجواب. فيقول أحدهم: لماذا الأسبوع القادم؟! أعطنا الجواب الآن مرةً واحدةً.
ليس هناك جلدٌ على التفكير، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
فهنا الابن سبق أباه: سليمان سبق أباه داود في قضية النظر: مَن الذي يحقُّ له هذا الابن من المرأتين؟ كمثالٍ، فنحتاج إلى عنايةٍ بقضايا التفكير.
وأنا أقول لكم: اليوم نحتاج إلى هذا الموضوع بشكلٍ كبيرٍ، خاصةً مع وجود الشبهات، والشبهات خطَّافة، ومع وجود الأجهزة الحديثة أيضًا أصبح الأبناء والأجيال -ذكورًا وإناثًا- يدخلون ويقرؤون الصحيح والخطأ، ولم يتربوا على النقد، ولم يتربوا على كيفية التمييز بين الصواب والخطأ، وهذا يُسمَّى بضعف الاستقلال الفكري.
ويرى بعض المُختصين أن من أسباب الأفكار المُنحرفة ذات اليمين أو ذات الشمال -المُتطرفة- الإفراط أو التفريط، والقضية المتعلقة بالغلو أو التطرف، أو المتعلقة بالطرف الآخر مثل: الإلحاد والتغريب: عدم وجود استقلال فكري للجيل.
ويذكر هذا الكلام وكيل جامعة نايف الأمنية، وفي كلامه قوةٌ من الصواب؛ لأنه يقول: إن أجيالنا في بيوتنا وفي مدارسنا لا تُربَّى على ذلك، فيُصبح ذهن الابن وتفكيره تبعًا، وليس مُستقلًّا، فعندما تأتيه الشبهة القوية يقرأها، أيًّا كان اتِّجاهه: داعشي، أو تكفيري، أو كان إلحاديًّا، أو تغريبيًّا، أو ليبراليًّا، أو غير ذلك تجد أنه جاهزٌ؛ لأن عنده التبعية، فلم يُعوَّد على قضية السَّبر والتمحيص والفلترة، وهي أمورٌ لا بد منها.
وحين تُقارن بعض البيئات العربية ببيئاتٍ عربيةٍ أخرى تجد الفرق بين حوار الآباء مع الأبناء في كلا الدولتين مثلًا؛ ففي بعض البلاد العربية تجد الأب يفتح مجالًا للحوار مع الابن، ويتكلم الابن وهو صغير ويُعبر عن ذاته وعن رأيه ... إلى آخره، وهذا يُقويه، وفي بلادٍ أخرى أو في بعض المناطق لا يُسمح له بذلك.
فتنبغي العناية بمجال العقل، فالعقل جزءٌ أساسيٌّ من الشخصية: أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، فلا بد من العناية به بالمستويات التي ذكرناها، ليس فقط أن يحفظ المعلومة، لا بد أن يفهمها، فما الفائدة أن يحفظها وهو لم يفهمها؟!
فكتاب الله وهو كتاب الله، ونحن نتعبد الله بحفظه وتلاوته، ومع ذلك ماذا قال الله ؟ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وهذا لا يمكن أن يتأتى بالحفظ فقط، بل لا بد من القراءة: تفسير المعاني، ومعرفة الآيات وتدبرها، وأخذ المعاني المُتعلقة بكتاب الله ، ... إلى آخره.
لذلك تجد اثنين يحفظان، وهما في نفس المستوى من الحفظ، لكن هذا يتدبر، وذاك لا يتدبر، وهكذا تجد اثنين يُصليان بجوار بعضهما البعض، وهذا يخشع أكثر من الآخر؛ لأن لديه مُستوًى من قضية التأمل والتفكر، مع الجانب المتعلق بالقلب وحياة القلب، وما يرتبط بهذا الجانب.
الاستدلال بالقرائن والأمارات
من الدروس المُستفادة: أنه في وقت التنازع في قضيةٍ ما يحتاج الإنسان إلى ما يُسمَّى بـ: الاستدلال بالقرائن والأمارات، وهذه الجودة في مثل هذا الموضوع حقيقةً.
فلا بد أن يبحث الإنسان عن القرائن والأمارات ولا يستعجل، وهي قضيةٌ اجتهاديةٌ، يُصيب فيها الإنسان ويُخطئ، مثلما حصل من داود عليه الصلاة والسلام، لكن هناك قرائن معينة يمكن أن تكون مُؤديةً ومُؤثرةً، فقد وُفِّقَ سليمان عليه الصلاة والسلام في أن يقول: ائتوني بسكينٍ، فقد فكَّر في شيءٍ يجعل أم الابن ترفض هذه القضية، وتُضحِّي بأن يكون ابنها للثانية، ففكَّر بقضية السكين، وهكذا المُوفَّقون حينما يُفكرون بطريقةٍ صحيحةٍ.
قد يملك الأبناء ما ليس عند الآباء
من الدروس المستفادة أيضًا: أن الابن قد يملك ما ليس عند أبيه، وهذا تنبغي العناية به والانتباه له، فليس من العيب ولا من النَّقص في حقِّ الوالدين أن يكون لدى بعض أبنائهم ما ليس لديهم، وليس منطقيًّا أصلًا أن يُفكر الأب أو الأم بمثل هذه القضية.
وللأسف هناك جزءٌ من الصراعات والتَّصادمات بين الأبناء والآباء، والعلاقات غير الإيجابية بين الآباء والأبناء مُرتبطٌ بمثل هذه القضية وما يتعلق بها.
فالأب يقول لأبنائه: ما أُريكم إلا ما أرى، والأم هي التي عندها كل شيءٍ -مثلًا- بالنسبة للإناث، وما شابه ذلك، وعندئذٍ لا مجالَ لفتح الحوار حتى يكون عندنا الاستقلال الفكري الذي ذكرناه قبل قليلٍ.
فالأب لا يفتح حوارًا؛ لأنه يرى أنه هو المُصيب، حتى إن بعض الأبناء يقول: إذا قال لك أبوك: توجه إلى اليسار، وامشِ عكس اتجاه الطريق، فليس لك إلا أن تفعل ذلك طاعةً للأب! والصواب أنه: لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق[3]أخرجه أحمد في "المسند" (1095)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7520).، وطاعة الأب واجبةٌ، لكن عندما أتَّجه إلى اليسار وأعرف أن هذا خطأٌ، أليس لي أن أقول لوالدي: يا أبتي، هذا الطريق ليس مُناسبًا؟!
المشكل أن الأبناء لا يمكن أن ينطقوا بمثل هذه القضية إذا لم يكونوا عُوِّدوا هذا الأمر والتفكير فيه، وكذلك عُوِّدوا مجال الحوار.
أذكر أحد الأشخاص في المرحلة الثانوية حدَّثني أستاذٌ في مدرسته يقول -هذا سمعتُه-: كان سيئًا في السلوكيات الأخلاقية، فقلتُ -يعني: هذا الأستاذ يُحدثني- لنفسي: إلى متى نترك هذا الطالب؟! فناديتُه وقلتُ له: يا ولدي، الكلام فيك كثيرٌ، وواضحٌ أنك بحاجةٍ إلى أن تتزوج. قال: يا أستاذ، أنا في ثاني ثانوي، أتزوج؟! قال: هذا رأيي، فَكِّر، فما أسمعه عنك ليس له حلٌّ إلا بالزواج.
يقول هذا الأستاذ: بعد أسبوعين جاءني هذا الطالب نفسه وقال: والله يا أستاذ كلمتك هذه التي قلتها لي ظلَّت تتردد في رأسي طيلة الأسبوعين الماضيين.
وهذه الكلمة نطق بها الأستاذ ولم ينطق بها الأب، فالأب قد يكون بعيدًا عن مثل هذا الابن.
قال: طيب، ممتاز، كمل مشوارك. قال: لا، صعب، والدي يستحيل أن يُوافق. قلتُ له: جرِّب وتوكل على الله. يقول: ما أدري.
وتركته أيضًا، ثم رجع لي مرةً أخرى وقال: اسمع ماذا حصل؟ يقول: ركبتُ مع الوالد في السيارة، وبدأت نفسي تُحدثني أن أبدأ بالكلام، لكن هذا شبه مُستحيل، غير ممكن؛ لأنني ما تعوَّدتُ أن آخذ وأُعطي مع الوالد بالصورة، خاصةً في موضوعٍ كبيرٍ.
يقول: فبدأت ضربات قلبي تزداد بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، وأنا أريد أن أقول لوالدي، فكلمتك أثَّرت فيَّ، وأرى أن رأيك هو الصحيح، وأنني لا بد أن أتزوج.
يقول: أقول، ما أقول، أقول، ما أقول، بالتأكيد سيأتيني (بوكس) في الوجه!
وكل هذه التَّوهمات لها أساسٌ في التربية، ولها أساسٌ في العلاقة، ولها أساسٌ في أشياء عديدةٍ جدًّا.
يقول: قلتُ: توكل على الله، الذي يأتيني يأتيني، توكل على الله.
قلتُ له: أريد أن أُكلمك يا أبي في شيءٍ. قال: سَمِّ يا ولدي. قلت: هناك شيءٌ يمكن أن يُغضبك. قال: قل ما عندك. قلت: أريد أن أتزوج. قال: نعم، والله رجلٌ يا ولدي. يقول: وخطب لي في نفس الليلة من قريبةٍ لنا. وجاء الطالب إلى الأستاذ يُبَشِّره.
الآن الهاجس الكبير الذي سبَّب عقبات بين الآباء والأبناء أثَّر في هذا الجانب بلا شكٍّ، فنحتاج أن نُشعر أنفسنا أن لدى الأبناء أشياء ما هي عندنا، ويستطيعون أن يُعدِّلوا سُلوكنا، وهذا لا عيبَ فيه.
قارن مصيبتك بمصائب الآخرين لتهون عليك
هناك قصةٌ مشهورةٌ لشابٍّ سُجِنَ، وضاقت بسجنه أمه -وحُقَّ لها أن تضيق- فقد طال سجنه، وهذه قصةٌ تُذكر في التاريخ.
ففكر الشابُّ في طريقةٍ يستطيع من خلالها أن يُخفض مستوى التوتر والقلق والحزن والاكتئاب لدى أمه، فكتب لها رسالةً وأوصلها إلى أمه، فقرأت الرسالة، فقامت بكل ما تستطيع لتنفيذ طلب ابنها، والطلب كان غريبًا، لكنه ذكيٌّ، عنده تفكيرٌ، فقد عرف الابن كيف يحل هذه المشكلة؟ وأثَّر في أمه.
وكان الطلب هو: يا أمَّاه، إن كنتِ تُحبينني فأقيمي وليمةً، وادعِي إليها كل الأقارب والجيران، لكن بشرط: لا يحضر أحدٌ من هذه البيوت قد أُصيب بمصيبةٍ، أريد السالم من المصائب منهم فقط. فذهبت تدعوهم، فإذا بمُصيبات الجيران والأقارب أشد من مُصيبتها، ورأت أن الكلَّ عندهم مصائب، فأدركت رسالة ولدها.
أراد ابنها أن يُخفف هذه المشاكل التي لديها بأن تُقارن نفسها بغيرها، وفعلًا قارنت نفسها بغيرها، وقالت: الحمد لله، مصيبة ولدي أهون من الذي سمعناه ورأيناه من مصائب القوم هنا وهناك.
هذا التفكير وهذا النظر يهدي الإنسان إلى الصواب؛ لذلك فإن الآباء قد يجدون عند أبنائهم ما ليس عندهم، وعندئذٍ فإن الحوار نافعٌ ومفيدٌ.
لو كانت عندنا قاعدةٌ: لا يمكن أن يكون ابنٌ أفضل من أبيه، كان يمكن أن نقول: لا حاجةَ للحوار، ولا حاجةَ للتأثير من الابن في الأب مثلما أثَّر هذا الشابُّ في أمه، لا، القضية ليست كذلك أبدًا، بالعكس، فمن الأشياء الحسنة الطيبة أن يكون الأمر كما جاء في كتاب الله : يَا أَبَتِ [مريم:42]، هذا النِّداء الرَّخيم الجميل حينما يُنادي به إبراهيم أباه، فنحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه النِّداءات، وإلى مثل هذه الروح، فقد يكون الابن عنده ما ليس عند أبيه.
طبيعة الأمومة والأُبُوَّة
الأمومة والأُبوة علاقةٌ عاطفيةٌ وجدانيةٌ ثقيلةٌ، وهذا ظاهرٌ في النزاع الذي حصل بين المرأتين؛ فكل واحدةٍ تقول: هذا ابني أنا، وأن الذي أخذه الذئبُ هو ابنك. وأظهر من ذلك كله عندما طلب السكين، وهنا شعرتْ أمه الحقيقية أن ابنها سيُقتل؛ فلذلك ينبغي أن تُقدر هذه العاطفة ويُحافظ عليها، ويُخالفها: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، التعامل الشرس، والتعامل القاسي، والتعامل الحاد الذي يجعل الأمر كما حذَّر الله نبيه : لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ يعني: صحابة النبي ينفضُّون عن النبي ، احذر يا محمد من هذا الأمر. فنحن أولى بذلك.
قد يَنْفَضُّ أبناؤنا منا، ويتمَرَّدون علينا، ويتركونا ويهربون، فصار عندنا هروبٌ الآن: هروبٌ من البيوت، وهروب فتيات، نعم هي حالاتٌ لا تُذكر -بحمد الله- لكن ظهر شيءٌ من هذا القبيل، أما هروب الأولاد فموجودٌ من قبل بنسبةٍ ما، ولا أستطيع أن أتكلم عن النسبة؛ لأنه ليس عندي دراسةٌ، لكن عندي قصصٌ وأحداثٌ، والفتيات كذلك تخرج ولا ترجع إلا بعد أيام، وتهرب من هذا الوعاء، وكم من استشاراتٍ تأتي في هذا الأمر!
من هذه الاستشارات ما جاءني قبل أيامٍ عبر (الواتس آب): أن بنتًا أرادت أن تخرج من البيت بأي طريقةٍ، وتمنَّت اللحظة التي تسمع فيها خبر وفاة والدها، وحين أسمع ما يفعله والدها بها من الضرب والنِّكاية والإهانة ... إلى آخره، لا أقول: أعذرها، لكن هذا يُفسر هذا الواقع والكلام الذي تقوله هذه البنت.
فهناك بيوتٌ نارٌ تَلَظَّى بين الزوجين، أو بين الآباء والأبناء، فينبغي الانتباه لمثل ذلك، فالأمومة والأُبوة عاطفةٌ موجودةٌ جيَّاشةٌ ينبغي أن تُستغلَّ، وينبغي أن تبقى حتى في وقت الحزم، بل ما أجمل أن تبقى الأمومة والأبوة في وقت الحزم! وهذا الصحيح.
الصحيح أن الحزم لا يُخالف العلاقة الحميمية، ولا يُخالف الرحمة واللِّين: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]؛ لأن الحزم عبارةٌ عن إطارٍ لضبط المسار من خلال النظام، وهذا يمكن أن يتأتى بالعلاقة الحميمية، ولا خلافَ أبدًا بين هذا وذاك، فالذي يُوجد الصراع بين الودِّ والحزم هو الذي يقع في الإشكالية، وهذا كثيرٌ في مشكلاتنا: إما أن تتجه الأمور إلى ودٍّ فيقول: لا أستطيع أن أكون حازمًا مع الودِّ. فعندئذٍ تكون الأمور متروكةً، أو يتَّجه إلى الحزم ولا يستطيع أن يكون ودودًا، فيكون قاسيًا، شديدًا، غليظًا.
حاجتنا لمنهجية حلِّ المشكلات
الدرس الأخير في هذه القصة: حاجتنا لمنهجية حلِّ المشكلات: وهذه قضية القضايا، وما يرتبط بأهمية التعود والتدريب على: كيف نحل المشكلات؟
ولا أريد أن أُكبر القضية على غيري وعلى نفسي، فمَن يستطيع أن يتدرب على ذلك من خلال دوراتٍ، أو من خلال اطِّلاعاتٍ وقراءاتٍ، أو من خلال تخصصٍ؛ فهذا ممتازٌ، لكن لا يمكن أن تطلب من الناس كلهم هذا الجانب، فالقضية أن نُبَسِّط هذا الموضوع بما يمكن أن نُبَسِّطه به، لكن كل واحدٍ منا في أَمَسِّ الحاجة إلى تلك المهارات والأساليب المتعلقة بحلِّ المشاكل؛ لأن عندنا أمرين خطيرين:
الأمر الأول: أن تبقى المشكلة كما هي، وهذا خطيرٌ؛ لأن المشكلة باقيةٌ، والعَناء باقٍ كما هو، وليس هناك جدارةٌ إذن في حلِّ هذه المشكلة.
الأمر الثاني -والأكثر خطورةً-: أن المشكلة تزداد بسبب طريقة تعاملنا معها.
فلا بد من التَّدرب، ولا بد من التعرف على أساليب حلِّ المشكلات، وهذا بندٌ معروفٌ في الدورات التدريبية، ومعروفٌ في تعديل السلوك، ومهارات تعديل السلوك، ومعروفٌ في تخصصاتٍ عديدةٍ جدًّا، بعضها مُبَسَّطٌ، وبعضها ليس كذلك.
كتاب "الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس"
أُشير -وسبق أن أشرتُ- إلى مثل هذا الكتاب الذي أتمنى من كل أسرةٍ أن تقرأه، خاصةً بين الزوجين قراءةً فرديةً، أو قراءةً جماعيةً حسبما ترضون، ويكون هناك نقاشٌ جماعيٌّ، فهو كتابٌ نافعٌ ونفيسٌ جدًّا، وقد جرَّبته في بعض البيئات بالتدريس، وكلَّفناهم بهذا الكتاب فكان من أروع ما يكون، وأرى أن هذا الكتاب لا مثيلَ له فيما أعلم -أعني: بهذه الطريقة-، فهو يصلح أن يكون كتابًا للجميع في موضوع حلِّ المشكلات، بل أجد أنه تقدم على كتب التخصص فيما يتعلق ببساطة أسلوبه، وأيضًا أنه نبع من مشكاة النبوة، فهو أخذ المواقف النبوية واستنبط منها الأساليب، والكتاب لفضيلة الشيخ: محمد المُنجد -وفَّقه الله-، وعنوانه: "الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس"، ذكر فيه عشرات الأساليب -تجاوزت الستين أسلوبًا-، وهي أساليب رائعةٌ جدًّا، وكلها من مواقف النبي ، والكتاب موجودٌ على (الإنترنت) بنسخة (pdf(، فيا ليت الآباء والأمهات يطَّلعوا على هذا الكتاب.
ومن فوائد هذا الكتاب: أنك تعرف أن الذي تملكه من مهاراتٍ قليلٌ، وهذا من أفضل ما يكون؛ لأن كل واحدٍ منا لو ذكر كيف يحل مشكلات أبنائه والمشكلات التي في البيت؟ قد يذكر نقطةً ونقطتين وثلاثًا وأربعًا، فقد يذكر التشجيع، والضرب، وقد يذكر الحرمان، قد يذكر ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا، ولا يتجاوز ذلك، لكن حينما يرى بين يديه ستين أو سبعين فإنه يقول: إذا ما نفع معي هذا قد ينفع هذا. كما يقول بعض الناس: جرَّبتُ أساليب كثيرةً ما نفعت. فتسأله: ماذا جرَّبْتَ؟ فتجد أنه جرَّب أسلوبًا أو أسلوبين أو ثلاثة فقط!
طيب، هناك أساليب أخرى، جرِّب أساليب أخرى، فلما تتعرف على أساليب أخرى مارسها النبي قد تكفيك المؤونة في مثل هذه القضية.
وخُذْ مثالًا بسيطًا جدًّا، وله علاقةٌ بالتعليم، وله علاقةٌ بالتدريب، وله علاقةٌ بالتربية، وله علاقةٌ بحل المشكلة.
غلامٌ يسلخ شاةً
الرسول مرَّ على غلامٍ يسلخ شاةً، وهذا الغلام ليس له خبرةٌ، وهذا واضحٌ من قولنا: غلام، لكن قد يكون هناك غلامٌ أخذ الخبرة، لكن هذا لم يكن صاحب خبرةٍ، فبدأ يُحاول ويَدْحَس، ولا يستطيع، فالنبي لم يتركه، ولم يقل بأنه طفلٌ؛ لأنه قد يُؤذي نفسه، وقد لا يتعلم أصلًا، فكيف يتطور في هذا الجانب؟!
فالنبي دَحَسَ بيده بين الجلد واللحم، وأبعد الجلد عن اللحم، وقال: هكذا يا غلام فاسلُخ[4]أخرجه أبو داود (185)، وابن ماجه (3179)، وابن حبان في "صحيحه" (1163)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (179)..
فأصبح الغلام ينظر إلى تطبيقٍ عمليٍّ أمامه، وهذا الذي نقوله يا أساتذة تعليم الفقه وتعليم الدين، ويا أساتذة تعليم التخصصات الأخرى.
مثالٌ آخر: الوضوء وما يتعلق به، وشروط الوضوء، ... إلى آخره، وتُعطيهم إياه، ثم تجد مع كل ما تعلَّموه شخصًا يُجيد الوضوء من الأبناء، وشخصًا آخر لا يُجيد الوضوء! ما السبب؟
من أسباب ذلك: أن طريقة التعليم لم تكن طريقةً عمليةً، ستجد القضية أصبحت قضيةً عمليةً إذا هم رأوا النموذج أمامهم يتوضأ، وأيضًا بعدما رأوا النموذج قاموا بالوضوء، وتُوبعوا في مثل هذه القضية.
هذه الجوانب تحتاج إلى تعليمٍ عمليٍّ، وبعض الآباء لا يتحمل، يريد أن يكون الأمر سريعًا، يقول: خلاص، قلتُ له: هذا خطأٌ، خلاص انتهى! أنا وجَّهتُه وما نفع!
فالقضية ليست مجرد أوامر وتوجيهات، القضية ليست بهذه المثابة أبدًا، وإنما تحتاج إلى عنايةٍ في أساليب ومهارات حل المشكلات.
غلامٌ يأكل مع النبي
مثالٌ آخر: يأتي غلامٌ ضعيف الخبرة، ويجلس على الصَّحْفَة -مأدُبَة الطعام- وتطيش يده ذات اليمين وذات الشمال، يأكل من هنا وهناك، ولو فعل بعض أبنائنا هذا الأمر في موائدنا ماذا يفعل بعض الآباء؟ يمكن أن يضربه، ويَصيح عليه، ... إلى آخره.
طيب، فإن ضربه وصاح عليه، ثم قال: أنا أدَّبته وعرَّفته أن هذا خطأٌ. هل هناك فرقٌ بين هذا الأمر الذي قاله هذا الشخص -وهذا يحصل- وبين موقف النبي ؟
في روايةٍ صحيحةٍ قال: ادْنُ يا بني[5]أخرجه الترمذي (1857)، وأحمد في "المسند" (16338)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" … Continue reading، ادْنُ يعني: اقترب، هذا يُسمونه في الدراسات النفسية: القُرب الحسي، وأثر هذا الجانب على التأثير، ودلَّت الدراسات على ذلك، قال: سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك[6]أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022)..
فحصل التعليم وفهم الخطأ، فهو يحتاج إلى التعليم المباشر؛ لأنه غلامٌ ويُدرك، فهذا أسلوبٌ من الأساليب.
شابٌّ يريد رُخصةً في الزنا!
يأتي شابٌّ في عنفوان شبابه ويقول: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا! والصحابة ينهرونه، والرسول يقول: اتركوه، ثم يقول: ادْنُ مني[7]أخرجه أحمد في "المسند" (22211)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح"، وصححه الألباني في "السلسلة … Continue reading، ثم يبدأ في مُحاورته، كما يقول أهل التخصص: الحوار العقلاني الانفعالي، وهذا أسلوبٌ من الأساليب.
أنا أرى هذا الأسلوب في نظريةٍ عالميةٍ في تعديل السلوك، لكنه من الأساليب التي لها أصولٌ في الشريعة، وأرى أن هذه النظرية -مُقارنةً بنظرياتٍ أخرى- قريبةٌ في بعض الأمور من التصور الإسلامي، بغضّ النظر عن النِّقاش في النظرية الآن، كما قال الله في قضية الغِيبة: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فالله يقول لنا في هذه الآية أن الغِيبة حرامٌ، وابتعدوا عنها.
طيب، كان يمكن أن يقال لنا هذا الكلام، لكن هذا أسلوبٌ من الأساليب في التنفير والابتعاد عن الغِيبة، وهو الأسلوب العقلاني الانفعالي: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ، فالآن العقلاني تصور أنه يأكل لحم أخيه وهو ميتٌ، هذا العقلاني الانفعالي: فَكَرِهْتُمُوهُ، لا يمكن أن نقبل هذه الصورة.
نفس الكلام حصل مع الشاب؛ فنفر من الرغبة في الزنا عندما قال له النبي : أترضاه لأمك؟ وهذا مما ينبغي أن نُخاطب فيه أبناءنا في بعض القضايا المتعلقة بالقضايا السلوكية أو غيرها من تلك الأشياء بمثل هذه الأساليب.
أترضاه لأمك؟ الشاب مباشرةً طرأتْ في ذهنه الصورة، حتى نحن عندما يُقال لنا: أترضاه لأمك؟ صورة أُمٍّ يُزْنَى بها -والعياذ بالله-، قال: لا، فِداك أبي وأمي. قال: وهكذا الناس لا يرضونه لأُمهاتهم، ثم أختك، ثم عمتك، ثم خالتك، وكأن الأمر يستدعي هذا التعداد حتى يُؤثر في هذا الشاب، ثم لم يتركه النبي ، وإنما وضع يده على صدره عليه الصلاة والسلام ودعا له.
نحن نحتاج إلى مثل هذه الأساليب، في الموقف الواحد كم أسلوب؟
نحن نقول: مَن منا مارس أسلوبًا من هذه الأساليب في قصة الشاب فقط؟ فما بالك بمَن مارس قضية: ادْنُ مني، ومارس قضية ضبط النفس، ومارس قضية: دعه يتكلم ويأخذ راحته، ومارس قضية إقناعه والتكرار في الإقناع، ومارس قضية الدعاء له والقُرب النفسي والحسي، وما شابه ذلك؟ مَن منا يفعل هذه القضية في الموقف الواحد؟
فلما نتعود على مثل هذه الأساليب والمهارات نستطيع أن نؤثر في سلوك الآخرين، ونستطيع أن نحل المشكلات بطريقةٍ سليمةٍ، أيًّا كان اتِّجاه هذه المشكلات: ذات اليمين وذات الشمال، يعني: نحن نحتاج والله يا جماعة إلى هذه الأساليب عمومًا في قضية دفع الشبهات، وفي قضية دفع الشهوات، ومدخل الشيطان -كما قال ابن القيم وغيره- على الإنسان من الشبهات المُرتبطة بالعقل والتفكير، ومن الشهوات المُرتبطة بالقلب والنفس.
فكلما استطاع الإنسان أن يُؤثر على العقل، يعني: هذا الشاب عنده شُبهة، الشاب يعرف أن الزنا حرامٌ، وشُبهته أن الرسول يمكن أن يأذن له في الزنا، ويأخذ صَكًّا من الرسول بالإذن في الزنا، كذا يتصور، قال: ائذن لي بالزنا.
الرسول بدأ يكسر هذه القضية من خلال هذا النقاش والحوار، وهذه يُسمونها: الفكرة اللاعقلانية، والتي ذكرها ابن القيم -رحمه الله- بقوله: "دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرةً، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوةً، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمةً وهمَّةً، فإن لم تُدافعها صارت فعلًا، فإن لم تتداركه بضدِّه صار عادةً، فيصعب عليك الانتقال عنها"[8]انظر: "الفوائد" لابن القيم (ص31).، وإذا كانت باتِّجاهٍ إيجابيٍّ فالحمد لله، وإذا كانت سلبيةً فهذه مشكلةٌ.
فالرسول قطع عنه هذه الفكرة بهذا الحوار والنقاش.
أهمية رد الشبهات في مختلف القضايا
نحن نحتاج إلى ردِّ الشبهات حتى في قضايا الإلحاد، وقضايا الليبرالية، والتغريب، وقضايا التكفير والتفجير، ونحتاج إلى هذا النقاش.
وابن عباسٍ رضي الله عنهما عندما ذهب يُحاور ويُناقش الخوارج كما في "البداية والنهاية"[9]انظر: "البداية والنهاية" ط. هجر (9/ 197).، وابن عباسٍ رضي الله عنهما حَبْر هذه الأمة، وأعلم الصحابة، أتى يُخاطِب هؤلاء الناس ويُحاورهم، فثُلثا القوم رجع وتاب إلى الله ، لكن بقي أناسٌ أيضًا لا يصلح معهم مثل هذا النقاش وغيره، وهذا واردٌ، هكذا البشر.
فنحن نحتاج أن نُقيم الحُجَّة وندفع الشُّبهات من خلال الأساليب، حتى يقول الإنسان: الحاصل ...، وأنا أذكر نقاشًا حصل لي مع أحد الشباب فيما يتعلق بأحداث العراق، وكانت لديه شبهةٌ وهي: أن الجهاد فرض عينٍ في العراق، قلتُ له: تعرف معنى: فرض عينٍ؟
أنا لا أعرف الشخص، أنا أتيتُ وقدَّمتُ لهم برنامجًا، ثم أخذني وأخذ يُناقشني في هذه القضية، وأنا لستُ شرعيًّا مُتخصصًا، ولكن -يعني- بحكم جانب التخصص، فأراد أن يأخذ ويُعطي معي في هذا الجانب.
فقلتُ له: تعرف ماذا يعني فرض عينٍ؟ قال: يعني: يجب عليَّ أن أذهب. قلتُ له: مَن الذي يجب عليه أن يذهب؟ قال: كلنا. قلتُ: يعني: أنا وأنت ووالدانا وأهلانا، والذين في الدمام، والذين في المملكة كلها، والذين في الدول العربية، وكل المسلمين لا بد أن يذهبوا إلى العراق! قلتُ له: هل هذا يُعقل؟ هل قال أحدٌ بهذا الكلام يا شيخ؟ قال: حتى أهل العراق لا يمكن أن يقبلوا بهذا الكلام.
وكان قادةٌ من العراق في هذا الوقت يقولون: لا نريد أن يأتينا أحدٌ.
فقلتُ له: لو قلتَ لي: إنه فرض كفايةٍ، وهناك استثناءات يكون فيها فرض عينٍ؛ لاستقام كلامك مع كلام العلماء، وارجع لكلام العلماء في كتب الجهاد ستجد نقاشهم في مثل هذه القضية.
فهو فرض كفايةٍ، يجب على أناسٍ دون أناسٍ، ويكون فرض عينٍ في حالاتٍ معينةٍ، فعنده إشكاليةٌ.
قلتُ له: سأسألك سؤالًا: ممن أخذتَ هذه المعلومة؟ وكم تجلس على (الإنترنت)؟ قال لي: سبع ساعات، أو ثماني ساعات. نسيتُ الآن، فقد كان هذا الكلام قبل عشر سنوات تقريبًا، قلتُ له: هذا الكلام من (الإنترنت)؟ قال: نعم. قلتُ له: أنا سأسألك سؤالًا آخر.
وهذا الخطاب والحوار مهما كان يكسر، حتى لو ما صار، لكن يُخفف.
قلتُ له: هل تعلم ممن أخذتَ هذه الفتوى؟ قال: من قال الله وقال الرسول . قلتُ له: من أين؟ قال: من (الإنترنت). قلتُ: مَن الذي قال هذا الكلام؟ قال: ما أعرف. قلتُ له: مجهول؟ قال: نعم، مجهول. لكن عنده كلامٌ جميلٌ. قلتُ له: ممتاز، ما الكلام الجميل؟ قال: قال الله وقال الرسول . قلتُ له: ممتاز، مَن تعرف من مشايخ المنطقة في الدمام؟ فذكر لي ثلاثة مشايخ أو أربعة، وكان من الذين ذكرهم الشيخ سلطان العويد -رحمة الله عليه- إمام هذا الجامع، قلتُ له: ممتاز، هل تعرف أماكنهم؟ قال: أعرف أماكنهم. قلتُ له: ممتاز، هل ذهبتَ إليهم؟ قال: لا. قلتُ: طيب، هم يخطبون، وهم طلبة علمٍ، ويقولون: قال الله وقال رسوله ، وأنت أخذتَ من مجاهيل في (الإنترنت)، ولم تأخذ من ناسٍ تعرفهم! هل تشكُّ فيهم؟ قال: لا، لا أشكُّ فيهم، نعم هم طلبة علمٍ. قلتُ له: أنا أقول لك السبب وقل لي: نعم أو لا. أنت لم تذهب إليهم لأنك تعرف أنهم سيقولون لك: لا تذهب للعراق؟ قال: صحيحٌ. قلتُ: هل هذا تجردٌ؟! هل هذا طلب الحق أو هوًى؟! إذن أنت لم تذهب للمُفتي لأنك تعرف أنه سيقول لك عكس الذي تريده، فأنت أفتيتَ نفسك، صحيحٌ أم لا؟ فأنت لِمَ طاوعتَ نفسك وهواها؟!
فهذا الجانب نحن بحاجةٍ ماسَّةٍ إليه.
وأذكر في الجانب الأخلاقي والسلوكي -وبه نختم- أنني كنتُ مرةً في الرياض في المساء، وإذا بشبابٍ يتعرَّضون لفتياتٍ، وأنا في السيارة، فوقفتُ بجوارهم وأنزلتُ النافذة وناديتُهم قائلًا: السلام عليكم. قالوا: وعليكم السلام. قلتُ: لكم أخوات يا شباب؟ وتخيلوا لو أن هؤلاء أخواتكم. وانطلقتُ ولم أنتظر ما يقولون؛ لأني أردتُ أن أُوصل رسالتي بطريقة النبي : أترضاه لأمك؟، أترضاه لأختك؟ فقلتُ: أترضونه لأخواتكم؟ ومشيتُ، وكان عندي شيءٌ من الخوف؛ لأن أشكالهم كانت مُرعبةً، فمشيتُ.
وبعد لحظاتٍ أو بضع دقائق إذا بسيارةٍ في الخلف تُؤَشِّر بالأنوار، فلم أنتبه في البداية، ثم بدأتُ ألحظ أنني أنا المقصود، ثم دقَّقتُ في المرايا فإذا بها السيارة نفسها التي كانت قبل قليلٍ، فأصابني الذعر والخوف؛ لأني ظننتُ أن الجماعة قصدهم سيئٌ.
وفي بعض الأحيان نُسيء الظنَّ، ويكون الأمر على غير ذلك، وفعلًا كان الأمر على غير ذلك، فوقفوا بمثل الموقف الذي وقفتُ فيه، وأنزلوا النافذة، وقالوا: والله لم نسمع في حياتنا أحدًا قال لنا مثل هذه العبارة!
أنا ما قلتُ لهم: حرام، ولم أقل لهم: لا يجوز، ولا قال الله، ولا قال رسوله ، قلتُ لهم ما ذكره النبي للشاب.
ثم قالوا: نُعاهد الله في هذه اللحظة أننا لا نتعرض لفتيات المسلمين، جزاك الله خيرًا، وبيَّض الله وجهك، وفتح الله عليك.
فنحتاج إلى هذا الجانب، والرسول فعله، وبين أيدينا مثل هذه الأساليب، فلماذا لا نستفيد منها؟
ارجعوا إلى كتاب الشيخ: محمد المنجد -وفَّقه الله- وستجدون أشياء كثيرةً من مثل هذه المواقف لاستنباط الأساليب.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (6769)، ومسلم (1720). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (26)، ومسلم (2811)، واللفظ لمسلم. |
↑3 | أخرجه أحمد في "المسند" (1095)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7520). |
↑4 | أخرجه أبو داود (185)، وابن ماجه (3179)، وابن حبان في "صحيحه" (1163)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (179). |
↑5 | أخرجه الترمذي (1857)، وأحمد في "المسند" (16338)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1184). |
↑6 | أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022). |
↑7 | أخرجه أحمد في "المسند" (22211)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (370). |
↑8 | انظر: "الفوائد" لابن القيم (ص31). |
↑9 | انظر: "البداية والنهاية" ط. هجر (9/ 197). |