المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذا -بحمد الله وتوفيقه- هو اللقاء الثاني عشر من المجموعة التاسعة من سلسلة: "تطبيقات تربوية ونفسية من الكتاب والسنة"، وهي الحلقة الرابعة عشرة من "أساليب نبوية في التربية" حول القصص النبوي وما يتعلق به، والاستفادة من تلك القصص، وبعض الدروس والفوائد لأنفسنا وللأُسَر ولتربيتنا وللتعليم، وما شابه ذلك.
ونحن في أمسِّ الحاجة إلى الأخذ من معين محمدٍ تلك القضايا والأمور والتوجيهات المُتعلقة بالتربية والتأثير في الآخرين، ورعاية الأبناء، ورعاية الطلاب والاستفادة، واستثمار كل طاقةٍ بشريةٍ موجودةٍ وأي علاقةٍ تحصل في هذه الحياة بطريقةٍ مناسبةٍ، كما كان النبي يُمارسها ويقوم بها.
وقبل أن نتحدث في القصة التي بين أيدينا في هذه الليلة -بإذن الله - لدي ثلاث وقفاتٍ أو لقطاتٍ أريد أن أقف عندها، وهي أيضًا ضمن الإطار العام المُتعلق بالاستفادة من المواقف والقصص في حياتنا عمومًا.
فأحد الأشخاص رأيتُه من خلال (الواتس آب) خلال هذين اليومين الماضيين، رأيتُه غيَّر (أيقونة الواتس آب) -صورة الحساب- إلى عبارة: وَلْيَسْتَعْفِفِ [النور:33]، فشدتني هذه العبارة، وأنا أعرف هذا الشخص، فهو شابٌّ في مُقتبل عمر الشباب، فأرسلتُ له وقلتُ: شدَّتني عبارتك في حساب (الواتس)، فما السر؟ أريد أن أعرف، فالعبارة معروفةٌ، وجزمًا لها مغزًى مُعينٌ أريد أن أعرفه، فقد كانت (الأيقونة) قبلها عاديةً.
قال: أُبشِّرك؛ خطبتُ قبل شهرٍ، واتَّفقتُ مع الطرف الآخر على أن نضع هذه العبارة كلانا على (الواتس آب) حتى لا نتجاوز حدود الله في العلاقة، ولا يكون هناك تواصلٌ؛ لكون العلاقة ما زالت ليست علاقةً محرميةً، ولم يتم عقد القران، وإنما هي خطبةٌ.
فأعجبني هذا الأسلوب في التعامل مع النفس، خاصةً أن الذي يتعامل مع قضايا الأسرة والمشكلات وقضايا الاستشارات يُدرك خُطورة هذا الشيء حتى في بعض البيئات المُحافظة والمُتدينة.
وبحكم الجانب الاستشاري تأتيني حالاتٌ عديدةٌ في مثل هذه القضايا: قضايا العلاقات، وتبرير هذه العلاقات، مع أنه لم يتم عقد القران بين الطرفين، لكن هناك طرفٌ يحتاج إلى إشباع الجانب العاطفي، وطرفٌ آخر يحتاج إلى إشباع الجانب العاطفي، ويُبرر بعضهم لبعضٍ هذه العلاقة، ثم يدخل الشيطان في أحابيله؛ فيحصل الضعف، خاصةً مع وسائل الاتصال الحديثة، وسهولة التعامل معها، وما يتعلق بها.
فأعجبني الاختيار، وكان الاختيار من أحدهما للآخر، يعني: اتَّفقا أن يضعا هذه العبارة على (الواتس آب)، أحدهما أتى بهذه الفكرة وألزم نفسه، والتزم الطرف الآخر بهذا الأمر: وَلْيَسْتَعْفِفِ، وهذا الجانب المُتعلق بما يُسمَّى عندنا في التخصص: الضبط الذاتي.
الضبط الذاتي
الضبط الذاتي والضبط المجتمعي قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في التعامل مع النفس ومع الآخرين، فلو تركنا أنفسنا لهواها لشرَّقنا وغرَّبنا فيما لا يرضاه الله ، وفيما سيكون له أثرٌ على هذه النفس من الضيق والكآبة، وما يترتب على المعصية: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه:124]، لكن عندما يُربي الإنسان نفسه: وَلْيَسْتَعْفِفِ فهو عندما ينظر إلى هذه العبارة فهي رسالةٌ له: ليس لك إلا أن تستعفف: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا [النور:33].
فهؤلاء الذين لا يستطيعون لسببٍ أو لآخر: ضعف الجانب المالي، إشكاليات واشتراطات -للأسف- من القبائل والعوائل، وظروف معينة، فأراد هذه، أو هي أرادته، ولكن لم يتيسر إلا بعد سنةٍ، أو بعد ستة أشهرٍ من تلك الظروف، بغض النظر عن المقبول منها وغير المقبول، فليس للإنسان إلا أن يملك نفسه، ولن يستطيع أن يملك نفسه إلا بالوازع الرباني، ومن ذلك حينما يقف عند قول الله : وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا، فَلْيُعِفَّ نفسه، ويضبط نفسه، وهذا المنهج مهمٌّ جدًّا في التعامل مع النفس.
ومن أقوى أساليب الارتقاء بالنفس وتربية النفس: أن يُؤثر الإنسان في نفسه بنفسه؛ لأن المشكلة عندما يكون التأثير فقط من غيرنا، وربما لو كنا بعيدين عن هذا الغير ضعفت نفوسنا، لكن عندما تكون لدينا الإرادة الذاتية، كما قال الله : حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، وعوَّدنا أنفسنا على مثل هذه القضايا؛ لا شكَّ أن هذه من الأساليب الجميلة والرائعة جدًّا.
هذه إشارةٌ بسيطةٌ قبل أن ندخل في القصة حول هذا الموقف الأول الذي أعجبني خلال هذين اليومين.
موقفٌ آخر: كنتُ في أحد البلاد خلال الأيام القريبة الماضية، وكنتُ في الفندق، فأتى عامل الغرفة، وهو مسلمٌ، والبلد مسلمٌ، لكن الفندق -للأسف- على النمط الغربي والنموذج الغربي بما فيه من مشكلاتٍ وتبعياتٍ، للأسف الشديد.
فقلتُ له: أنت مُتزوج؟ وهو شابٌّ عشريني، فقال: لا. قلتُ له: الله يُزوجك. قال: آمين. قلتُ له: أنت في أمسِّ الحاجة إلى الزواج وتتعامل مع نساءٍ في هذا الفندق! فقال: والله صحيحٌ. قلتُ: أنا أستغرب كيف يرضى الواحد بذلك؟! قال: والله اسمعني أقول لك. وهو شخصٌ عشريني ويقول هذا الكلام الكبير الذي جعله يكبر في عيني، يقول: والله لأَكْنُسَنَّ في الشارع خيرٌ لي من أن أرضى لأختي أن تعمل في مثل هذه الأعمال وتَحْتَكّ بالرجال.
وهو يتكلم في بيئةٍ مفتوحةٍ، فكيف بمثل بيئاتنا التي تربَّت على عدم الاختلاط، ومع ذلك تجد أناسًا لا إشكالَ عندهم أبدًا في أن تَحْتَكَّ زوجته، أو بنته، أو أخته بالرجال وتتعامل مع الرجال!
بل يُبرر ذلك بأنها أصيلةٌ، وأن الطرف الثاني أصيلٌ، وأن هذه مُستلزمات العمل وقضايا الوظيفة، وتبريرات!
طيب، أين التوجيهات الشرعية والضوابط الشرعية والفتاوى الشرعية؟!
فهذا الشاب غير المُتعلم، وفي بلدٍ مُنفتحٍ يقول مثل هذا الكلام! وهذه هي الفطرة حين تنطق، لكن حينما تُطمس الفطرة، أو لا نعترف بها؛ هروبًا من واقعٍ سيِّئٍ يُمارسه الواحد منا ويرضاه لشهوته، أو هواه، أو واقعه الذي يعيش فيه هو وأسرته، وقد يكون حال بعضنا مثل حال الكفار: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]، فالكفَّار قد يجحدون شيئًا، لكن داخل نفوسهم يستيقنون أن الذي يفعلونه خطأٌ، وعندنا ناسٌ من المسلمين يُدركون هذا الكلام.
فكنتُ أتصل مثلًا في هذا الفندق، وقد ذهبتُ إلى أحد مرافقه لكن ما أعجبني المكان فرجعتُ إلى غُرفتي، فاتَّصلتُ بنفس هذا المكان، فردَّت الفتاة المسلمة التي ينبغي أن تكون حَصَانًا رَزَانًا بالهاتف، وأنا كنتُ قاصدًا أن أتصل على نفس هذا المكان؛ كي أطلب هذه المرأة وأتحدث معها بما يفتح الله عليَّ.
فقلتُ: يا أختي، أنا قَدِمْتُ قبل قليلٍ إلى مكانكم في هذا الفندق، ومن حقِّي أن آتي إلى هذا المكان، لكني لم أستطع أن أكون فيه، ومن ذلك: هل أنتِ مسلمة؟ قالت: نعم. قلت: أنت راضيةٌ عن حجابك ولباسك؟ فسكتت، قلتُ: أنا أسأل سؤالًا: هل الذي تلبسينه والشكل الذي ينظر إليه الكل: المسلم، والكافر، والكبير، والصغير، والذكر، والأنثى، هل هذا يُرضي الله بالله عليكِ، لا تُجامليني؟ قالت: لا والله أبدًا، لا يُرضي الله . قلتُ: طيب، ولماذا تفعلين شيئًا أنت تعرفين بأن الله لا يرضاه؟! وأنت مسلمةٌ لكِ هُويتكِ؟! فشكرت، وكانت عاقلةً في الكلام.
لكن لاحظوا أيضًا مثل هذه المأساة، وهي: أن يفعل الإنسان شيئًا يعرف في قرارة نفسه أنه خطأٌ ومُخالفٌ لأمر الله ، ومُخالفٌ لأمر رسوله .
هذه من أشد الأشياء في التربية، وهي ما يُسمَّى بـ: قضية الفِصام النَّكِد، وعدم التطابق التربوي، فكلامنا جميلٌ، وأفكارنا جميلةٌ؛ كلامنا عن القيم رائعٌ، وإجاباتنا عن القيم في الأوراق جميلةٌ، وواقعنا شيءٌ آخر، وتطبيقاتنا شيءٌ آخر! وقبول الناس لمثل هذه الصور المُتناقضة مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا.
فالابن يتعلم في المناهج الشرعية عندنا شيئًا من قال الله، وقال رسوله ، من الأُسس الجميلة الرائعة التي يتمناها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها هنا عندنا، ثم يذهب إلى البيت وأول ما يجد مُخالفة ما درسه داخل الحصة الدراسية وداخل المدرسة، حيث يقع ذلك من والديه أو أحدهما، أو أجهزة الإعلام التي تُتابَع في هذه الأسرة، ... إلى آخره.
هذه الصورة قَبِلها كثيرٌ من الناس، ومشى كثيرٌ من الناس عليها، ولا مانع عندهم أن يستمروا عليها، وهذه انهزامية؛ لأن النفس البشرية لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تكون سويَّةً في هذه الحياة إذا كان سلوكها يتعارض مع قِيَمها، وإذا كان سلوكها يتعارض مع مبادئها، لا يمكن بحالٍ من الأحوال أبدًا.
الصورة الأخيرة قبل أن نبدأ في القصة التي بين أيدينا من قصص النبي هي: في نفس هذا الفندق أيضًا طلبتُ من أحد العمالة، وهو أيضًا مسلمٌ، وكلهم في ريعان الشباب في قمة الأخلاق حقيقةً.
المقصود: طلبتُ منه طلبًا، وكنتُ مُضطرًّا إليه؛ لأني سأمشي، وأنا مُحتاجٌ أن يُوصل أحدٌ قضيةً مُعينةً لشخصٍ معينٍ في الفندق، فقلتُ له: هذه من أمانتي لأمانتك. قال: والله مُطَّلعٌ على ما أفعله. هو يقول هذا الكلام، والله لما قال لي هذا الكلام وأنا لا أعرفه أصلًا، وسأُحمِّله أمانةً، يعني: يمكن أن يسرقها، ولكني مُضطرٌّ أن أُعطيه إياها؛ لأنني سأمشي، والله بمجرد أن قال لي هذا الكلام انتهى الأمر.
قد يقول البعض: قد يكون كاذبًا. لكن خلاص؛ مثلما قيل: "مَن حُلِفَ له بالله فَلْيَصْمُتْ"، انتهى.
قال: الله مُطَّلعٌ على ما أفعله. قلتُ: بارك الله فيك، يكفيني أن أسمع هذه الكلمة منك، وأنك تشعر بمُراقبة الله لك.
ونحن نحتاج أن نأخذ الناس بظواهرهم في مثل هذه القضايا؛ لأن تعميق الفكرة الإيجابية مثل: مُراقبة الله ، ومثل: عدم الرضا بأن تعمل أختي مع الرجال وتعمل في مثل هذه المهنة التي لا تُناسب النساء؛ هذا مهمٌّ جدًّا، جدًّا، جدًّا.
ولذلك لا بد لنا من هذا الأخذ والعطاء؛ حتى نستطيع أن نُحافظ -في أقل تقديرٍ- على بقاء المبادئ والقيم ناصعةً، حتى لو كانت بعض التطبيقات مُخالفةً للمبادئ والقيم، ولا شكَّ أن هذا غير مرغوبٍ فيه، لكنه أهون من أن يكون الشخص بسهولةٍ لا يستشعر مُراقبة الله له، ويقول بسهولةٍ: من حقِّ أختي أن تعمل ما تريد! وتُخالط الرجال كيفما شاءت! فهي امرأةٌ تستطيع أن تُدير نفسها! ... إلى آخره.
وينقل بعض الآراء والأذواق والأحاسيس والمشاعر الخالية من النظر للأحكام الشرعية، والخالية من النظر للوقائع والأحداث التي تكون في مثل هذه الأشياء، وهي مجرد آراء فقط!
والمشكلة أن يكون الدين وتكون الحياة والتربية خاضعةً لمجرد الآراء، فالذوق فيه أنت ترى، وأنا أرى، وأنت تريد، وأنا لا أريد، وأنت كذا، وأنا كذا، فقط! وكأننا لا توجد عندنا مُنطلقاتٌ.
والكفار بعضهم نجحوا في التربية في بعض جوانبها، ونجحوا في الإنتاج في الحياة في قضايا الحضارة المادية ... إلى آخره بسبب أنهم انطلقوا من قيمٍ معينةٍ أخذوها من مصادرهم، وهي قيمٌ فيها من الجودة، كما جاء في الحديث: إنما بُعِثْتُ لأُتمم مكارم الأخلاق[1]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (8952)، وقال مُحققوه: "صحيحٌ، وهذا إسنادٌ قويٌّ"..
وتوجد أشياء معينة عند الكفار في الجاهلية قبل الإسلام، وجاء الإسلام ليُكملها ويُرَوِّضها ويُهَذِّبها.
فاليابانيون مثلًا ينطلقون من العقيدة، أو من النظرة (الكونفوشيوسية)، و(الكونفوشيوس) هو صاحب القيم عند اليابانيين، ويطرح قضايا الأخلاق، وهناك أشياء معينة مُتوافقةٌ مع ديننا.
فمثلًا: لماذا يحترمون قيمة العمل؟
لأنهم تربوا على هذا الجانب من خلال عقيدتهم ومبادئهم، فتجد أنهم ينضبطون في قيمة العمل.
وعندما نُقارن أنفسنا بهم قد لا نجد الانضباط وحب العمل الذي عندهم عندنا، طيب، ما المشكلة هنا؟
ليست المشكلة في المصدر؛ لأن المصدر كما أن عندهم في (كونفوشيوس) دعوة لقيمة العمل والانضباط، فنحن من باب أولى عندنا في كتاب الله وسنة النبي هذا الشيء كما نعرف.
المشكلة إذن فينا نحن:
نعيب زماننا والعيب فينا | وما لزماننا عيبٌ سِوانا[2]"ديوان الإمام الشافعي" (ص106). |
هذه هي القضية المهمة؛ ولذلك مرَّ المسلمون بمراحل تقدم وتأخُّر، فما السر؟ هل الإسلام تقدم وتأخر؟
الإسلام هو نفس الإسلام، وكتاب الله هو هو، وسنة النبي هي هي، ومصادر التلقي هي نفس مصادر التلقي الموجودة منذ نزول الوحي إلى الآن، وإلى أن تقوم القيامة، إذن ما الذي تغير؟
المسلمون أنفسهم، حينما كانوا أقوياء كانت سلوكياتهم وتطبيقاتهم تتوافق مع مبادئهم وقِيَمهم، فكانوا في المُقدمة، والناس يتبعونهم، وحينما ضعفوا كانوا حذو القُذَّة بالقُذَّة لأعدائهم، وهكذا: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
فنحتاج أن نُدرك مثل هذه المعاني في التربية، واللقطات في الحياة كثيرةٌ لا تنقطع، ولم يكن في بالي أني سأنظر إلى بعض هذه المواقف، فمواقف الحياة اليومية كثيرةٌ، لكن أتمنى من نفسي ومن غيري أن يكون له رصيدٌ يومي من النظر لبعض المواقف التي تبرز فيها الجوانب الرائعة المُربية، وهي مجرد قضية موقفٍ حياتي معينٍ: من ابنك، من جارك، من حدثٍ معينٍ لشخصٍ لا تعرفه قابلتَه في بقالةٍ، أو قابلته في شركةٍ، أو في طريقٍ، أو في سفرٍ، أو في مطارٍ، ... إلى آخره.
وهذه القضية مهمةٌ جدًّا؛ لأنها تُحدث جانبًا من القُرب الزمني للأجيال والقدوة، يعني: نحن نتكلم عن الناس الماضين، فمهمٌّ جدًّا أن نُبرز لهم النماذج الماضية، لكن عندما تقول له: يا ولدي، جارك هذا الذي يُصلي معنا في المسجد، يا أولادي، كنتُ قبل قليلٍ في المستشفى، وصار كذا وكذا، ... إلى آخره.
وأنا التقيتُ بشخصٍ عرَّفني عليه آخر، وهذا من المواقف التي أستحضرها وأذكرها من باب الفائدة، وحياتنا ودنيانا هذه التي نعيش فيها إذا لم نستفد منها لن نستطيع أن نرتقي، فقال الذي عرَّفني عليه: هذا الشخص مهندسٌ، واسمه: فلان الفلاني، حيَّاك الله أخي الكريم. فقال: المشروع الخيري الذي نحن فيه هو مشروعه، وهذا الشخص أخوه مهندس، وأبوه مهندس، ويقومون بهذه المشاريع، وهم الذين قاموا بهذا المشروع، ولم يأخذوا ريالًا واحدًا في هذا المشروع! قال: وليس فقط هذا المشروع، وإنما كل المشاريع التي قاموا بها في العمل الخيري، هذه طريقتهم ووضعهم.
الله أكبر!
قلتُ: يا شيخ. قال: أبدًا والله نحاول معهم. قال: لا يقبلون، وأبوهم لا يقبل، وعمره سبعون سنةً.
فتمنينا أن نراه، وقلتُ: نريد أن نزوره ولو خمس دقائق، فقط نُقبل رأسه ونسمع منه، فهذا النموذج العظيم رَخُصَت عنده دُنياه من أجل آخرته، يعمل هو وأبناؤه.
وقد رأيتُ المشروع، وكان مشروعًا ضخمًا، ويمكن أن يُحصل فيه مئات الآلاف، ومع ذلك يحتسب الأجر فيه عند الله ، وتبين أنه ليس مشروعًا فقط، ثم يسَّر الله ورأينا هذا الرجل ببساطته، فهو سبعيني وبسمته على الهدي النبوي، وبتواضعه، وأدركتُ لماذا لم نَرَ هذا الرجل في المناسبة أو في اللقاء الأول؟ لأنه لا يريد أن يخرج في الأضواء، ولا يريد تكريمًا، ولا يريد أن يُشير إليه أحدٌ بالبنان.
هذا النموذج قلتُ له بصريح العبارة: لا يقوى على هذا إلا النادر من الناس، إلا القليل من الناس، لكن الحمد لله أن في أمة محمدٍ أمثالك يا شيخ، الحمد لله أن في أمة محمدٍ الذي تهون عليه الدنيا لهذا المستوى ويُريدها خالصةً لله ، ولا ينشُد جزاءً ولا شكورًا، وإنما يريدها لله، كما يقول الشيخ خالد السبت: النادر من الناس مَن يستطيع ألا يجعل له حظًّا في الدنيا، حتى لو كان يريد الآخرة، قد تأتيه حظوظ الدنيا، لكن أن يريد الآخرة بصورةٍ محضةٍ تمامًا 100%، لا يستطيع أن يصل لهذا المستوى إلا القليل من الناس؛ مَن لا يريد إلا الله والدار الآخرة.
نبيٌّ أُعْجِبَ بقومه فحلَّ بهم الهلاك
القصة التي بين أيدينا: روى الإمام أحمد في "مسنده" عن صهيبٍ قال: كان رسول الله إذا صلَّى همس بشيءٍ لا أفهمه. يقول صهيب: يعني: تكلم بشيءٍ، همس بشيءٍ لا نفهمه، ولم يُخبرنا به.
قال: أفطنتم لي؟ يعني: هل تنبَّهتم لي؟ قلنا: نعم. يعني: أنك تهمس ولكن لا ندري ما تقول يا رسول الله. قال: إني ذكرتُ نبيًّا من الأنبياء أُعطي جنودًا من قومه، وفي روايةٍ: أُعْجِبَ بأمته[3]ذكرها الألباني -رحمه الله- في "السلسلة الصحيحة" (2459).، هذا النبي أُعْجِبَ بأمته، فقال: مَن يُكافئ هؤلاء؟ أو مَن يقوم لهؤلاء؟ أو غيره من الكلام.
يعني: هذا النبي أُعْجِبَ بقومه، فشعر أنهم يستحقُّون المُكافأة وما شابه ذلك، ففي نفسه إعجابٌ بجنوده وقومه.
فأُوحي إليه أُوحي لهذا النبي الذي أُعْجِبَ بقومه وبجنوده: فأُوحي إليه: أن اخْتَرْ لقومك إحدى ثلاثٍ.
وانظروا الآن إلى هذه الثلاث وقارنوها بكلام نبيِّهم عندما قال: مَن يُكافئ هؤلاء؟ أو مَن يقوم لهؤلاء؟ يعني: من الواضح أنه بمثابة الإعجاب: مَن يُعطي لهؤلاء الناس الذي يستحقون؟ فهم يستحقون المُكافأة.
المُتوقع الآن أن الأمور الثلاثة ستكون مُكافآت، أليس كذلك؟
اسمعوا للأمور الثلاثة التي جاء بها الوحي: إما أن نُسلِّط عليهم عدوًّا من غيرهم، أو الجوع، أو الموت.
هذا الآن وحيٌ، والنبي يستسلم للوحي عليه الصلاة والسلام، نقصد: النبي الذي يتحدث عنه محمدٌ .
فماذا فعل؟
الآن جاء الوحي، ليس لك خيارٌ إلا أحد هذه الأمور الثلاثة، فهل فيها مُكافآتٌ؟ ليس فيها أي مُكافأةٍ، وسنفهم لماذا لم تكن هناك أي مُكافأةٍ؟ فماذا فعل هذا النبي؟
فاستشار قومه في ذلك لأن القضية وحيٌ الآن، ولا مناصَ له إلا بإحدى ثلاثٍ، طيب، أيش يختار؟ يختار التَّسليط عليهم، أو تجويعهم، أو إماتتهم، وكل واحدةٍ أصعب من الثانية.
فاستشار قومه في ذلك، فقالوا: أنت نبيُّ الله، فنَكِلُ ذلك إليك يعني: أنت نبيُّ الله، الأمر لك، انظر فيما تراه، والأمر لك.
خِرْ لنا، فقام إلى الصلاة النبي احتار، ولا بد أن يُصدر قراره، فما استطاع إلا أن يذهب إلى ماذا؟ ففَزِعَ إلى الصلاة: فقام إلى الصلاة، وكانوا إذا فَزِعُوا فَزِعُوا إلى الصلاة، فصلَّى ما شاء الله، قال: ثم قال يعني: بعدما صلَّى اطمأنَّت نفسه إلى أحد الخيارات الثلاثة وهو: الموت.
قال: ثم قال: أي رب، أما عدوٌّ من غيرهم فلا، أو الجوع فلا، ولكن الموت يعني: جوعًا من غير موتٍ، وإنما هم أحياء، والأعداء سيُؤذونهم لكن يبقون أحياء، فأسهل شيءٍ الموت: فسلط عليهم الموت.
الآن نتكلم عن قومٍ لنبيٍّ، أُعْجِبَ النبيُّ بقومه، وكان يريد أن يُكافئهم، فأصبح النبي هو الذي اتَّخذ قرار الموت، فجاء من فوق سبع سماواتٍ التنفيذ: فسلط عليهم الموت؛ فمات منهم سبعون ألفًا، فهمسي الذي ترون أني أقول: اللهم بك أُقاتل، وبك أُصاول، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله[4]أخرجه أحمد في "المسند" (23927)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط مسلم"، والنسائي في "السنن الكبرى" (10375)، وصححه … Continue reading، والحديث صحيحٌ.
ولنا في هذا الدرس وقفاتٌ:
الوقفة الأولى: الإعجاب بالأنفس مُؤَدٍّ إلى الضعف والهلاك
لا بد من تفقيه الناس بهذه القضية، فالإعجاب بالأنفس مَهْلَكَةٌ، وهذا كلام العلماء في شرحهم لهذا الحديث وهذه القصة.
فهذا نبيٌّ ومع ذلك حصل ما حصل، فالزَّهْو والإعجاب نقيض الشخصية السَّوية، وإغراق الإعجاب بالآخرين وإبراز هذا الجانب قد يكون مَهْلَكَةً لهم، قد تكون قاصمة الظَّهْر لهم؛ ولذلك قال رسول الله : إذا رأيتم المَدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التراب[5]أخرجه مسلمٌ (3002).، وذلك من شدة أثر المدح الذي ليس في مكانه، أو الزائد على النفس.
فهذا المهندس المقاول الذي بلغ عمره سبعين سنةً لا يريد أن يخرج إلى الأضواء، ولا يريد أن يُكرمه أحدٌ، ولا يريد أن يراه أحدٌ، لماذا؟
يريد أن يقطع على نفسه ما قد يكون سبب هلاكه، فقد يُهلكه الموقف، فإذا كان هذا النبي حصل منه ما حصل مع قومه، وكانت هذه هي النتيجة، إذن أنا وأنت ألا يمكن أن يكون ما نُفكر فيه أو نُحدِّث به أنفسنا فيه مَهْلَكَةٌ؟
يقول أحد الآباء: كنتُ ألحظ على أحد أبنائي أو بعض أبنائي أنهم لا يُحبون المدح، يعني: أنا أريد أن أُعزِّز لديهم الجوانب الإيجابية فأُحاول أن أذكرها أمام بعض الناس الحاضرين، يقول: فكنتُ أرى منهم عدم الرغبة، بل والضيق.
يقول: فشعرتُ فيما بعد أنني كنتُ مُخطئًا، كنتُ أريد أن أُعززهم، لكني أُعززهم بطريقةٍ أوجدت لهم الضيق، والتعزيز من المُفترض أن يأتي بالأُنس والراحة والطمأنينة، لكن أوجد لهم الضيق؛ لأنهم لا يريدون أن يُعرفوا، يقولون: نريد أن نمشي في هذا الاتِّجاه دون أن يعرف أحدٌ، لماذا تقول: ما شاء الله! يحفظ كتاب الله؟! ولماذا تقول: فعل كذا، وفعل كذا؟! أنا فعلتُه لله.
فعندما ينطق الابن لأبيه بهذا الكلام، ما أجمله! وما أحسنه حينما ينطق بهذه القضية!
لذلك من المهم ربط القلوب بـلَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان:9]، وأن الإنسان يعمل لله ، وينتظر ما عند الله، ولو لم يلقَ شيئًا من أهل الدنيا.
صحيحٌ أن النفس تتأثر بلا شكٍّ، لكن عنده شيءٌ أعظم من قضية أهل الدنيا، وهو رضا الله : مَن التَمَسَ رضا الله بسخط الناس رَضِيَ الله تعالى عنه وأرضَى الناسَ عنه، ومَن التَمَسَ رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس[6]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وقال الأرناؤوط: "إسناده حسنٌ"، والقضاعي في "مسند الشهاب" (499)، وقال الألباني: … Continue reading، فما يريد الإنسان بعد هذا؟! أعطانا الله الوعد، والنبي أعطانا الوعد بأن الله سيَرْضَى عنه، وسيَرْضَى الناس عنه، هذا هو الدرس الأول.
وعاقبة العُجْب وخيمةٌ جدًّا، ويضعف التوكل على الله بلا شكٍّ، والذي يشعر بالزَّهْو، وبأنه يُنادى، وأنه كذا ...
بعض الناس لا يمكن أن يكون إيجابيًّا إلا إذا ذُكر اسمه في المناسبة، لا يمكن أن يدفع الأموال ويتبرع إلا أن يقول: ستُكرِّموني؟! لا يمكن أن يكون مُنتجًا ومُشاركًا إيجابيًّا في بعض البرامج إلا أن يقول: طيب، فما لنا؟! هل هناك شهادة تقديرٍ، أو كذا؟!
فالتعود على مثل هذا الجانب وربط النفس به ليس طيبًا أبدًا؛ لأنه يُضعف التوكل، ويُعزز الاعتماد على الأسباب المادية، فشُغله مُرتبطٌ بماذا قال؟ وماذا سيقولون؟ وماذا كذا؟ وملفي ما فيه ...؟ إلى آخره.
خاصة الأمور عندما ترتبط بالقضايا التي فيها قُربةٌ لله ، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ عندما تتناوشها مثل هذه الأشياء.
تربية النفس على الخوف والخشية
الوقفة الثانية: يجب علينا أن تتربى هذه النفوس على الخوف والخشية؛ لئلا تقع فيما وقع فيه هذا النبي وقومه، فقد هلك سبعون ألفًا بقرارٍ اتَّخذه هذا النبي بناءً على أمر الوحي، ثم يُنفذ بأمر الله ، فليس هذا سهلًا.
وقد يحصل ذلك عندي أنا أيضًا، فلا بد أن أخشى على نفسي، فهذه الصورة لها أدلةٌ في شريعتنا عندما يقول الله : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، "وَجِلَة" معناها: خائفة، فيها الخشية.
عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها لأول وهلةٍ ظنَّت أنهم الزُّناة، وأنهم الذين يشربون الخمر، وأنهم الذين يُضيعون الصلوات؛ لأن هؤلاء يخافون أن يُعاقبهم الله ويُعذبهم، هذا أمرٌ واضحٌ، لكن بيَّن لها النبي أنهم ليسوا كذلك، فقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا تُقبل منهم: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61][7]أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسَّنه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (162)..
هذا الخوف وهذه الخشية جعلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يأرق؛ يكون عنده الأرق والقلق والتوتر، ويسأل حُذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: هل سمَّاني لك النبي ؟ يعني: من المنافقين. وحذيفة كان كاتم سرِّ النبي ، ما كان يقول لأحدٍ، لكن لإلحاح عمر يريد أن تهدأ نفسه، فاضطر حذيفة أن يقول: لم يُسَمِّكَ النبي . فارتاحت نفس عمر[8]انظر: "أسد الغابة" ط. العلمية (1/ 706)..
فهذا عمر يخشى أن يكون من الذين سمَّاهم النبي لحذيفة من المنافقين، فما نقول نحن؟!
وبعضنا كأنه ضامنٌ لحُسن الخاتمة، وضامنٌ الجنة، كأن لديه صَكًّا من صكوك الغُفران، وكل أموره على خيرٍ، وأنه أحسن من غيره، ... إلى آخره.
يعني: في أمور الدين والقُرَب والعبادات: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، تنافس، وليس رضًى بالأمر الموجود، ولا ننظر إلى مَن هو أسفل منا، ولكن ننظر إلى مَن هو أعلى منا؛ لنزداد.
أما أن نرضى بالأمر الواقع مع وجود البلاوي التي عندنا من الجوانب التي لا يرضاها الله !
وكل واحدٍ منا أدرى بنفسه فيما هو مُقَصِّرٌ فيه في حقِّ الله ، ثم لما تأتِ المَنِيَّة ولاتَ حين مَنْدَمِ.
ولذلك يقول الله : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وعندما نأخذ العبادة بمفهومها العام والشامل: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، نُدرك هذه القضية بصورةٍ أكبر، وتكون حياة الإنسان مُرتبطةً بهذه العبودية الشاملة إلى أن: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، والمراد باليقين: الموت.
الفزع إلى الصلاة
الدرس الآخر: الفزع إلى الصلاة، وهذا سبق أن تحدثنا عنه، لكن نؤكد عليه.
فهذا النبي عندما انغلقت أمامه الأبواب، ولم يستطع أن يأخذ قرارًا، وشاور قومه فلم يُعطوه مَشُورةً، ماذا حصل؟ لم يجد إلا أن يذهب إلى الركن الشديد الذي يمكن أن يحصل منه على العون والمَدد من رب العالمين، فكان الفزع إلى الصلاة.
ونسأل أنفسنا: هل نحن مثل هؤلاء: كالنبي محمدٍ ، ومثل هذا النبي وغيره ممن إذا حَزَبَه أمرٌ وضاقت به الأمور فزع إلى الصلاة فتوضأ، وعندئذٍ وضع أمره وشِدَّته ومأساته بين يدي الله؟
بعضنا يضعها بين يدي فلان وفلان من الناس، وقد لا يعرف مَن هو؟ ويتَّصل عليه ويستشيره، ويُراسله عن طريق (الإنترنت)، وهو لا يدري مَن هو؟ بينما الله قريبٌ منه.
هذا الأمر مهمٌّ، ولا بد من تربية الأبناء عليه منذ نعومة الأظفار؛ حتى يتعوَّدوا عليه، فعندما يرون أباهم إذا ضاقت نفسه، وشعر بقلقٍ، وجاءته مشكلةٌ ماليةٌ أو غيرها يقول: ما في يا أبنائي إلا أن يقوم الواحد ويُصلي ويسأل الله التوفيق والإعانة. ويرونه يقوم فيتوضأ ويُصلي؛ فيتربون على مثل هذا المَعْلَم، ومثل هذا الاتجاه التربوي الرائع، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا جدًّا جدًّا.
سبب البلاء قد يكون خفيًّا
ومن الدروس -وهو الدرس قبل الأخير-: قد يكون سبب البلاء خفيًّا، وقد يحصل هذا البلاء بقومٍ صالحين ومُجاهدين، وفيهم مَن فيهم، كم مات؟ سبعون ألفًا من أتباع هذا النبي بلاءً.
فالبلاء ليس محصورًا بسين وصاد وعين، أنت قد تكون ممن يُبتلى، فهيِّئ نفسك لمثل هذا البلاء، فإن متَّ فأنت تموت على خيرٍ، فأدرك نفسك قبل أن يأتيك البلاء فجأةً، خاصةً أن البلاء في بعض الأحيان لا تكون له مُقدمات، إنما يكون فجأةً، خفيًّا.
فما سبب موت هؤلاء السبعين ألفًا؟ لا يوجد سببٌ إلا الأمر المحض من الله، أراد الله هذا الأمر بأمرٍ من عنده على حسب ما حصل من موقف النبي ، فأراد الله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
ولله في خلقه شؤونٌ وحِكَمٌ ، فينبغي للإنسان أن يُدرك أن هناك ابتلاءاتٍ، والابتلاءات لا تحتاج إلى استئذانٍ أو ترتيباتٍ وتخطيطاتٍ، فإذا جاءت جاءت؛ ولذلك قد يكون ظاهرها خفيًّا لا يُدرك، فنحن الآن نقرأ هذه القصة كاملةً، لكن هناك ناسٌ خفيت عليهم مثل هذه القضية في وقتها وفي حينها، ولا يُدركون لماذا ماتوا؟ لكن أراد الله ، وكانت هي مَنِيتهم، وهي ابتلاءهم.
التروي وعدم العجلة في اتِّخاذ القرار
أخيرًا: التَّروي وعدم العجلة في اتِّخاذ القرار، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في التربية، وفي الأسرة، وفي مواقف الحياة، وفي تعويد الأبناء على مثل هذه القضايا وما يتعلق بها.
فالنبي لم يستعجل، وليس من الخطأ ولا من الخلل أن المُربي -أيًّا كان: أبًا، أو معلمًا، أو مسؤولًا، أو مُديرًا، أو ذكرًا، أو أنثى- لا يعرف كيف يُجيب؟ ولا يعرف كيف يتَّخذ قراره في تلك اللحظة؟
النبي كان يمكن أن يقول واحدةً من الثلاثة، لكن ما استطاع أن يقول، وأراد أن يسترشد فاستشار قومه، وقومه لم يملكوا أي إجابةٍ؛ لأن الأمور بالنسبة لهم صعبة، وقضية تُعتبر حاسمةً، كل خياراتها صعبة، وهذا يكون عندما يكون الخلاف خلافًا قويًّا، حين يكون الأمر بين خياراتٍ ثلاثٍ قويةٍ، أو خيارين قويين جدًّا، فهذه تحتاج إلى معوناتٍ من البشر، وقبل هذا وبعده من ربِّ البشر.
فهم قالوا: أنت نبيٌّ، ونَكِلُ الأمر لك. انظر أي الخيارات الثلاثة أنسب.
أيضًا لما لم يستطع أن يستفيد من البشر ذهب إلى الله ؛ حتى يحسم أمره وتطمئن نفسه، فكأن النفس اطمأنت بعد هذا الإجراء -من استشارةٍ لم يحصل منها شيءٌ، ومن لجوءٍ إلى الله - إلى اختيار الموت.
ولذلك الاستشارة مهمة، وليس عيبًا أن يستشير الأبُ زوجته، والزوج زوجته، وليس من العيب أن يستشير الآباء أبناءهم، وليس من العيب أن يستشير المعلم طلابه، وليس من العيب أن يستشير المدير مَن تحته، وليس من العيب أن يستشير المُربي المُتربين أبدًا.
ولا بد من المُوازنة بين الخيارات؛ لأنه كما قلنا هنا الخيارات صعبةٌ؛ لذلك من المهم جدًّا في اتِّخاذ القرار البحث عن الخيارات أولًا، كما يقولون: تحديد القضية ثم خياراتها؛ حتى لا نشتغل على خيارٍ واحدٍ فقط، فإذا اشتغلنا على خيارٍ واحدٍ فإننا سنضطر لقبول نتيجته وانتهى الأمر، وما استفدنا شيئًا في القضية، لكن ما الخيارات المطروحة؟
مثلًا: عندنا احتمالية أن تُسافر الأسرة إلى المكان الفلاني أو الفلاني أو الفلاني في الإجازة، أو في رمضان، ونريد أن نتَّخذ قرارًا.
الأب قال: دعونا من كل هذا الكلام، سنذهب إلى مكان كذا، هل هذا يصلح؟ هذا شيءٌ بسيطٌ: "شاورُوهنَّ وخالفوهنَّ"[9]ذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة" (585)، وقال: "لم أَرَه مرفوعًا"، وقال السيوطي: "باطلٌ لا أصلَ له" كما في "الدرر … Continue reading، وهذه مشكلةٌ، لكن دعونا نُفضفض ... إلى آخره، وبعد ذلك نُصَوِّب، ما المشكلة؟ ماذا سيكون؟
الرسول كانت له آراء في بعض المواقف، وأخذ برأي أصحابه، وكان رأي أغلب أصحابه غير رأيه، فنزل إلى رأيهم، فما المشكلة؟
وكان بعضها في قضايا الجهاد وما يتعلق بهذا الجانب، فكيف في قضايا رحلة، أو في اختيار لون سيارة، أو اختيار الفرش، أو اختيار كذا؟ وكأننا نقول: لا، لا تفتح لهم المجال، ... إلى آخره.
وهذا ليس صحيحًا أبدًا، يا أخي، حتى الطالب افتح له، دعه يتعوَّد ويُعبر عن رأيه، وهذا فيه تربيةٌ له، دعه يقول رأيه ولو كان خطأً، فعندما يُخطئ يُصوَّب خطأه؛ فيتعود على التعبير، فتتلاقح أفكاره مع غيره، ويعرف لماذا كان رأيه خطأً؟
وأيضًا إذا كان رأيه صوابًا يُؤخذ برأيه فيشعر بقيمته، ... إلى آخره.
وأيضًا فيها فوائد كثيرة، مثل: قضية الاستشارة، والمُوازنة بين الخيارات، ودعاء الله التوفيق؛ ولذلك هذا النبي صلَّى، وكان آخر حسمٍ للاختيار هو الخيار الأخير بعد اللجوء إلى الله .
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (8952)، وقال مُحققوه: "صحيحٌ، وهذا إسنادٌ قويٌّ". |
---|---|
↑2 | "ديوان الإمام الشافعي" (ص106). |
↑3 | ذكرها الألباني -رحمه الله- في "السلسلة الصحيحة" (2459). |
↑4 | أخرجه أحمد في "المسند" (23927)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط مسلم"، والنسائي في "السنن الكبرى" (10375)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2459). |
↑5 | أخرجه مسلمٌ (3002). |
↑6 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وقال الأرناؤوط: "إسناده حسنٌ"، والقضاعي في "مسند الشهاب" (499)، وقال الألباني: "صحيحٌ لغيره" كما في "صحيح الترغيب والترهيب" (2250). |
↑7 | أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسَّنه الألباني كما في "السلسلة الصحيحة" (162). |
↑8 | انظر: "أسد الغابة" ط. العلمية (1/ 706). |
↑9 | ذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة" (585)، وقال: "لم أَرَه مرفوعًا"، وقال السيوطي: "باطلٌ لا أصلَ له" كما في "الدرر المُنتثرة في الأحاديث المُشتهرة" (267)، والشيخ الألباني يقول بقول السخاوي كما في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة" (430). |