السؤال
تسأل أم عبد الرحمن من المغرب فيما يرتبط بقضية التربية على العبادة: كيف نربي أنفسنا على قضية العبادة؟
الجواب
أشكر الأخت على هذا السؤال الكريم، وأقول بدايةً: إن شعور الإنسان بأنه مقصر في حق الله : هذا بحد ذاته هو بداية الطريق إلى ما يتعلق بتحسين وضع هذا الإنسان!
يعني هذا الأمر: اتهام النفس والشعور بالنقص، قضية مهمة.
بعضهم يقول: "لا نجلد ذواتنا" هذه اللفظة كثُرت في الدورات التدريبية، ولكن هذا فيما يؤدي إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، نعم هذا الكلام غير معتبر ولا يمكن أن يقره المنهج الإسلامي ولا نقصده هنا، لكن الصواب هو محاسبة النفس والوقوف عند هذه النفس، بل حتى إنها لو عملت العمل الصالح تخشى عدم القبول، كما يقول الله في هؤلاء الصحابة أو القوم الذين يعملون الأعمال الصالحة: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60].
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ظنت أن هؤلاء الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون، فبيّن النبي ﷺ أنهم ليسوا كذلك، وإنما هم الذين يقومون بالعبادات ويخشون أن الله لا يتقبل هذه العبادات منهم!
المحتوى
الشهود على النفس بالتقصير
كم نحن بأمس الحاجة إلى هذا الشعور المرهف فيما يتعلق بحق الله ، لا شك أننا لو وُزنت جارحة من جوارحنا، وُزن البصر فقط -مثلًا- وما نقوم به في حق الله ؛ نجد أننا لم نشكر الله في هذه النعمة، نعمة البصر، فقط، فكيف فيما يتعلق بحق الله في النعم العظيمة التي تتوالى علينا؟!
لذلك ينبغي ابتداء أن نشعر بالتقصير في حق الله ؛ لذلك ذكر ابن القيم هنا في مثل هذه المواقف: الشهود على النفس بالتقصير؛ فيشهد الإنسان على نفسه بالتقصير كما كان من الأخت الكريمة السائلة، كانت لغتها وهي تتكلم أنها تشعر بأنها مقصّرة في حق الله .
شهود المنّة لله سبحانه وتعالى
هذه نقطة، ثم شهود المنّة لله أن الله يوفّق الإنسان إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فالعبادة موقف مهم جدًّا وتوفيق من رب العالمين؛ ولذلك قال الله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني نحن نعبدك لا نعبد غيرك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأن العبادة تحتاج إلى عون من الله . فهذا شهود المنّة لله، وليس للنفس.
وحينما نجمع بين الأمرين (الشهود بتقصير النفس، والشهود بالمنّة لله تعالى) يتكون الإطار التربوي للمنهج الإسلامي في قضية العبادات: عمل واجتهاد وبذل وشهود المنة لله ، والشعور بالتقصير في حق الله ، خطان متوازيان؛ لأنه إذا لم يكن الأول حصل ماذا؟ الإحباط والقنوط، وإذا لم يكن الثاني حصل الشعور بالعُجب والتكبر، فكم نحن بأمس الحاجة إلى هذين الخطين.
التوازن بين الفرائض والنوافل
وضمن قضية التربية على العبادة لابد لك أختي الكريمة من الممارسة العملية للعبادة:
أولًا: ما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه لا بد من أولوية الفرائض كما قال الله في الحديث القدسي، ثم النوافل وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه عندئذ المرحلة الثانية هي مرحلة المستحبات.
فانظري في حالك في الواجبات، هذه أهم قضية الآن؛ لأن بعض الإخوة أو الأخوات يحرصون على قضية الطاعات المستحبة والعبادات المستحبة خاصة لما ينظرون إلى غيرهم ممن وفقوا إلى ذلك فيبدأ يتحسر ويلوم نفسه في هذا الجانب، وربما يكون عنده تقصير في الفرائض.
فأول قضية: لابد من مراجعة الفرائض التي سنُحاسب عليها، ثم بعد ذلك تأتي معها المستحبات، قدر ما نستطيع أن نكثر من المستحبات، لذلك جاء في الحديث أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته؛ فإن حصل نقص في هذه الصلاة نُظر إلى صلاة التطوع التي تكون سببًا في سد الثغرات المتعلقة بالتقصير في صلاة الفريضة.
فإذا كان الخطان متوازيين -كما قلنا- فيما يتعلق بشهود المنة لله في أي عمل نعمله من الطاعات، وشهود التقصير بأن حق الله أكثر؛ هذا الأول يجعلنا نستمر في العمل، والثاني يدفعنا أيضًا إلى العمل أكثر.
والأمر الآخر المتعلق بقضية الفرائض كمرتبة أولى، والمستحبات كمرتبة ثانية.
التخلية والتحلية
الأمر الأخير الذي نشير إليه في هذا السؤال: وهو ما يتعلق التخلية والتحلية.
فالعبادة عبارة عن شيء يحلِّي الإنسان به حياته، يتقرب به إلى الله ، أشياء يحبها الله ؛ فنحن نحلِّي حياتنا بهذه العبودية وبهذه العبادة، لكن هذه التحلية لا تكون لها قيمة إذا لم تكن هنا تخلية وهو إبعاد ما يعكّرها من أمور لا يرضاها الله ، فالإنسان ربما ينظر إلى الحرام، ربما يتحدث بالحرام، ربما يخطو إلى الحرام، ربما يسمع الحرام، نسأل الله أن يعفو عنا وعنكم جميعًا، فتكون هذه الإشكالية، حتى لو كان هناك عبادات لا يكون مذاقها مثل أن يكون الإنسان بعيدًا عن تلكم المعاصي والذنوب، وذلك كما أمر الله مثلًا فيما يتعلق بقضية التوحيد أن الإنسان يكون مجتنبًا للطواغيت عابدًا لله وموحدًا.
فهذه قضية مهمة جدًّا؛ لأنه قد يعبد الله لكنه كذلك لديه من الشرك من الأمور التي تبعده عن الله وتعكّر صفو العبادة، كذلك قد يطيع الله سبحانه وتعالى لكن عنده من المعاصي التي تعكّر صفو العبادة.
لذلك الناس مراتب في العبادات ومراتب في الصلاة، كما قال ابن القيم في مراتب الصلاة: فرق بين: الذي يسرح ويذهب يمنة ويسرة، وبين الذي لا يستحضر أركانها وشروطها، وبين الذي يصارع ويجاهد نفسه ومشغول بالمجاهدة، وبين الذي يشعر بلذة ومتعة، وبين الذي جعلت قرة عينه في الصلاة.
فالمراتب مختلفة بسبب: مستوى القرب من الله ، ومستوى شهود المنّة لله، وشهود التقصير، ومستوى العمل، والحرص على الفرائض والحرص على النوافل، ومستوى التخلية كذلك والابتعاد عن القضايا التي تعكّر صفو العبادة.
أهمية عبادة السِّرّ والرُّفقة الصالحة
هذه بعض الأمور التي يمكن أن تساعد في التربية على العبادة مع أهمية أن تحرص الأخت الكريمة على قضيتين أيضًا في هذا الموضوع: وهما عبادات السر، وأن تكون قريبة من الأخوات اللاتي يعبدن الله حق عبادته.
فعبادات السر تنمي الإيمان بشكل قوي جدًّا، لا يعلم عنها إلا الله ، ليست بحاجة أن تقول: اليوم هي صائمة، قمت أمس الليل، هذه القضايا قد تدخل الإنسان في متاهات، فهي تُبقي بينها وبين الله أشياءً خفية، أمورًا معينة يكون لها أثر في حياتها، تشعر باللذة لا يعلم عنها إلا الله ، وهذه من أمور العبادات الرائعة حينما يسلك الإنسان مسلك السر في مثل هذه العبادات.
وكذلك أن يكون أخواتها، قريباتها، صديقاتها، من تتلقى منهم وتعاشرهم وتصاحبهم، من الحريصات على قضية العبادة والطاعة.
وذلك كما قال الله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ هذا أمر للنبي ﷺ: مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، يعني أن الله يأمر نبيه ﷺ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يعني هؤلاء الذين منهجهم العبادة بالغداة والعشي، بالنهار والليل، ولا تلتفت إلى غيرهم، وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ كن معهم وركّز عليهم، هذه قضية مهمة؛ ولذلك النبي ﷺ ماذا قال فيما يتعلق بالأصدقاء والصديقات؟ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
لذلك ينبغي أن نتنبّه إذا اضطررنا إلى علاقات لابد منها، فمن تُضطر إلى علاقات مع نساء أخريات بأمر ملح بسبب قرابة أو ما شابه ذلك؛ فليكن الأمر بقدر الحاجة ثم تنتهي هذه العلاقات؛ لأن الإنسان يتطبع ويتأثر بتلكم الصداقات كما قال ﷺ: على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.[1]المصدر: 3- مقدمات حول مفهوم التربية الإسلامية (2)
↑1 | المصدر: 3- مقدمات حول مفهوم التربية الإسلامية (2) |
---|