المحتوى
تقديم
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة، يسر مركز الدعوة والإرشاد بالدمام دعوتكم لحضور هذا اللقاء التربوي الأسبوعي الذي ستكون مدته خمسًا وأربعين دقيقةً بعنوان: "سلسلة وقفات تربوية ولمحات نفسية من الكتاب والسنة"، مع فضيلة الشيخ الدكتور خالد السعدي، أستاذ التربية وعلم النفس بجامعة الدمام.
وسوف يكون هذا الدرس كل سبتٍ ابتداءً من هذا اليوم، نسأل الله أن يُوفقنا وإياه لكل خيرٍ.
علمًا بأن هذا الدرس سوف يُبث على (الإنترنت) على موقع "البث الإسلامي المباشر".
ونرحب بفضيلة الشيخ، فليتفضل مشكورًا مأجورًا.
مقدمة الشيخ
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن ينصر دينه، ويُعلي كلمته، وأن يُخفف على إخواننا في سوريا، وأن ينصرهم عاجلًا غير آجلٍ، اللهم آمين.
نحن في اليوم العاشر من الشهر الرابع لعام 1433ه نبدأ بهذه السلسلة، حسب ترتيب الإخوة مشكورين في هذا الجامع المبارك، ونسأل الله أن يطرح البركة، وأن ينفع بمثل هذه اللقاءات.
وسنلتزم في هذه اللقاءات -بإذن الله - بالدقائق الخمس والأربعين، بغض النظر عن كوننا انتهينا أم لم ننتهِ، وما دام أن اللقاء أسبوعيٌّ فإن ما سنقف عنده سنكمله -إن شاء الله تعالى- بعد ذلك، حسب العناصر المُعلن عنها في الإعلانات حول موضوعات مفردات هذه اللقاءات التربوية والنفسية، بإذن الله .
أما ما يتعلق بالأسئلة، فما يرد من أسئلةٍ سيُرحل إلى اللقاءات التي بعدها، ونحاول أن نجعل لقاءً للإجابة عن الأسئلة إن تيسَّر، أو في بعض الأوقات في بعض تلك اللقاءات، أو إذا انتهينا في أحد اللقاءات في وقتٍ مبكرٍ نُكمل الخمس والأربعين دقيقةً في الإجابة عن الأسئلة، بإذن الله .
ونسأل الله العون والتوفيق والسداد.
لماذا هذه السلسلة التربوية والنفسية؟
يعني: ما يتعلق بقضية الجوانب التربوية والنفسية يحتاجها كل فردٍ وكل أسرةٍ وكل مجتمعٍ، هذا باختصارٍ، ولا أريد أن أُطيل؛ لأن هذه القضايا من القضايا المُلحة اليوم، وأهل الاختصاص المهتمون يُدركون هذه القضايا، لكن أُشير إشاراتٍ سريعةً جدًّا في هذا الموضوع.
القضية الثانية: أن القضايا التربوية والنفسية طغى عليها الجانب المادي، وعلى المنهج الغربي؛ لذلك بعض الأخيار ربما دخلوا في هذا المجال دون أن يقصدوا، فإذا بهم على هذا الاتجاه، أو على أقل تقديرٍ تأثروا بهذه القضية من غير قصدٍ.
وعمومًا المدونات التربوية والنفسية لا شك أنها تأثرت بالمنهج الغربي؛ لأنه كتدوينٍ وكعلمٍ تنظيريٍّ مُدوَّنٍ بدأ عند الغرب، لكن كأساسياتٍ وأصولٍ وتراثٍ نحن لدينا الشيء الكثير، فأرجو من هذه السلسلة أن تساعد في هذه القضية: أن نأخذ من معيننا العظيم؛ من منهج الكتاب والسنة، أن نأخذ القضايا المتعلقة بالجوانب التربوية والنفسية التي يحتاجها كل فردٍ، وتحتاجها كل أسرةٍ، ويحتاجها كل مجتمعٍ.
ولذلك المنهج الغربي -كما يقول المتتبعون لمثل هذه القضايا- قائمٌ على قضيتين أساسيتين:
القضية الأولى: الجانب العلماني الإلحادي، وهو استبعاد القضايا الدينية، كل ما يرتبط بأي قضيةٍ دينيةٍ.
وكذلك يقوم على الجانب المادي البحت، والذي ينظر للإنسان نظرةً قاصرةً.
ولا أريد أن أدخل في قضايا تخصصيةٍ، وإنما نكتفي فقط بهذه الإشارة؛ لأن المنهج الإسلامي عكس ذلك تمامًا، فالمنهج الإسلامي ينطلق من الكتاب والسنة، وكذلك ينظر نظرةً شموليةً للإنسان.
الأمر الثالث من حاجتنا لهذه السلسلة: يلاحظ وجود مشكلاتٍ متأزمةٍ عند الأفراد، وعند الأسر، وعند المجتمع، وإن كان أهل الطب قد تكلموا في قضية الأمراض المزمنة، فأهل النفس يتكلمون في قضية مرض العصر، وهو القلق كمثالٍ.
والذي يتتبع من خلال الأسئلة التي تأتي أهل الاختصاص مثلًا، أو الاستشارات، أو اللقاءات، ... إلى آخره؛ يجد أن هذا الموضوع فعلًا يزيد عن المستوى الذي كان عليه من قبل.
ومن آخر ما اطلعتُ عليه: أنه في إحدى السنوات القريبة -أظنه العام الماضي أو الذي قبله- كان عدد مُرتادي العيادات النفسية في المملكة نصف مليون.
وبحكم الممارسة البسيطة في الجانب الاختصاصي في الاستشارات، أو في اللقاءات، أو في العيادات المختصة بالإرشاد؛ أجد أن كثيرًا من الذين يأتون تكون القضية النفسية المتعلقة بالقلق والاكتئاب في ازديادٍ عما كانت عليه من قبل؛ لذلك نحن نحتاج إلى العناية بهذا الموضوع.
بل إن دراسةً متأخرةً نشرها مركز "رؤية" للدراسات الاجتماعية عن الشباب: الأولويات والاهتمامات، تقريبًا قبل ثلاث سنوات؛ أثبتت هذه الدراسة -للأسف الشديد- أن نسبةً كبيرةً جدًّا من شبابنا ...، وسنأتي إليها، لن أذكر تفصيل هذه الدراسة؛ لأننا سنحتاج إليها في لقاءاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله تعالى-، لكن رقم واحدٍ في الأولويات والاهتمامات هي القضايا المتعلقة بالوظيفة، والقضايا المتعلقة بالجانب المادي، فيعيش أفرادنا اليوم -ذكورًا وإناثًا- والهم الذي يشغلهم والأولويات التي تشغلهم هي قضية الوظيفة وقضية المادة.
نحن لا ننازع أهمية هذا الأمر، لكن ننازع أن يكون هذا رقم واحدٍ على حساب قضايا المبادئ، وقضايا القيم، وما ينبغي أن يكون هو الأولى؛ ولذلك تزعزعت الأولويات في الأسرة، وتزعزعت الأولويات في النفس البشرية عند الإنسان؛ فأصبحت هناك مشكلاتٌ كثيرةٌ تربويةٌ ونفسيةٌ على الفرد، وعلى الأسرة، وعلى المجتمع.
النقطة الرابعة والأخيرة: نحن بأمس الحاجة إلى إدراك منهج التربية الصحيحة، وكذلك إدراك طريق السعادة النفسية الذي يرضاه الله .
يعني: لما نقف عند قول الله : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهذا حصرٌ وقصرٌ على أن الله ما خلقنا إلا لعبادته.
طيب، لما ندرك قضية العبادة نعرف أن الله ما خلقنا إلا لهذه العبادة، لكن حينما نحصر القضية في الصلاة، ونترك القضايا الأسرية، والاجتماعية، والفردية، والعلاقاتية، والأصدقاء، ونعتقد أن هذه القضايا ليس لها علاقةٌ بالعبادة؛ فنكون بهذه الصورة قد حجَّرنا واسعًا، فالعبادة -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية-: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة[1]"العبودية" لابن تيمية (ص44)..
وعندما يقول الله : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، هذه السعادة ضد القلق والاكتئاب الذي يُعاني منه الكثير اليوم.
ونحن لسنا بعيدين عن هذه القضية يا إخوان، يعني: نريد أن نفهم أننا كلنا مُخاطبون بمثل هذا الأمر، ومنه مُحدثكم.
فطريق الإيمان وطريق العمل الصالح هو طريق السعادة في الدنيا والآخرة: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً قال المُفسرون: أي: في الدنيا، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: في الآخرة، فجمع بين سعادتي الدنيا والآخرة.
ويقول الله في مقابل ذلك: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124- 126].
فمصدر القلق، ومصدر المرض، ومصدر التعاسة والشقاء هو بسبب الإعراض عن ذكر الله؛ لذلك قال الله: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وهذا وصفٌ رائعٌ جدًّا للحالات المرضية النفسية المتعلقة بالقلق، والمتعلقة بالحزن، والمتعلقة بالاكتئاب، وما شابه ذلك.
ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له عبارةٌ عظيمةٌ جدًّا في كتابه العظيم "العبودية" -وجديرٌ بمَن ينشد السعادة النفسية لذاته ولأسرته ولمجتمعه أن يقرأ هذا الكتاب- لما كان يقول كلمته العظيمة: مَن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
هؤلاء الرجال الأفذاذ التربويون الذين أدركوا مفهوم العبادة هم الذين عاشوا في حياتهم مع اللَّأواء، ومع الشدة، إلا أنهم كانوا سعداء، وأدركوا هدفهم في هذه الحياة.
نبدأ -بعون الله -، وخير ما نبدأ به في مثل هذه اللقاءات وهذه السلسلة -بإذن الله - ما بدأ به علماؤنا الكرام الأفذاذ في تعليمهم وتربيتهم.
أول مَن تُسعر بهم النار يوم القيامة
أنا أعجب أحبتي حين أقف عند حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، هذا الحديث الصحيح الذي رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وهو موجودٌ في "صحيح الترغيب والترهيب"، وهو حديثٌ عجيبٌ، أتمنى لو أقرأه كاملًا، لكنه طويلٌ، لكن لعلي آخذ منه الشاهد.
الحديث الذي حدَّث به وذكره عقبة بن مسلم: أن شُفَيَّ الأصبحي حدَّثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو برجلٍ قد اجتمع عليه الناس، فقال: مَن هذا؟ قالوا: أبو هريرة. قال: فدنوتُ منه حتى قعدتُ بين يديه وهو يُحدِّث الناس، فلما سكتَ وخلا قلتُ له: أسألك بحقٍّ لما حدثتني حديثًا سمعتَه من رسول الله وعقلتَه وعلمتَه.
يعني: يطلب منه شيئًا سمعه من الرسول وعقله وعلمه، وأنتم تعرفون أن أبا هريرة كان قريبًا من النبي .
فقال أبو هريرة: أفعل، لأُحدثنك حديثًا حدَّثنيه رسول الله ، عقلته، وعلمته. ثم نَشَغَ أبو هريرة نَشْغَةً، فمكثنا قليلًا، ثم أفاق، أي: أنه شهق حتى كاد أن يُغمى عليه، ثم أفاق.
فقال أبو هريرة مرةً أخرى: لأُحدثنك حديثًا حدَّثنيه رسول الله ، أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره. ثم نَشَغَ أبو هريرة نَشْغَةً أخرى، ثم أفاق، ومسح عن وجهه، فقال: أفعل، لأحدثنك حديثًا حدَّثنيه رسول الله ، أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره. ثم نَشَغَ أبو هريرة نَشْغَةً شديدةً، ثم مال خارًّا على وجهه، فأسندته طويلًا، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله .
اسمعوا يا إخوان، يعني: لماذا وقف أبو هريرة هذه الوقفة العجيبة؟!
يقول الرسول : إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمةٍ جاثيةٌ، فأول ما يُدْعَى به: رجلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قُتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فما عملتَ فيما علمتَ؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبتَ. وتقول له الملائكة: كذبتَ. ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردتَ أن يقال: فلانٌ قارئٌ؛ وقد قيل ذلك، ثم ذكر النبي صاحب المال، وذكر الذي قُتل في سبيل الله بنفس الأمر: أنهم كانوا يُظهرون أنهم يفعلون ذلك لله ، والأمر على غير ذلك.
يقول أبو هريرة: ثم ضرب رسول الله على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلقٍ تُسعر بهم النار يوم القيامة.
قال الوليد بن عثمان المدني: وأخبرني عقبة: أن شُفَيًّا الذي روى عن أبي هريرة هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا[2]أخرجه الترمذي في "سننه" (2382)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2482)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (409)..
قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم: أنه كان سيَّافًا لمعاوية، أي: شُفَيًّا، قال: فدخل عليه رجلٌ، فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا! يقول معاوية: فكيف بمَن بقي من الناس؟! يقول: إذا فعل بهؤلاء، فكيف بمَن بقي من الناس؟! يعني: كيف بي أنا وأنتم؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هالكٌ، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بشرٍّ. ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
والله -يا إخوان- الواحد منا عندما يقف موقف أبي هريرة وموقف معاوية رضي الله عنهما يُدرك أننا بحاجةٍ إلى هذا المفتاح العظيم الذي نقف عنده كما وقف عنده العلماء.
العمل بغير إخلاصٍ ولا اقتداءٍ لا فائدةَ منه
فالكلام -يا إخواني- يتعلق بالنية، ويتعلق بالإيمان، ويتعلق بالقصد، وكما تحدثنا في القضايا التربوية والنفسية والاجتماعية والأسرية عن مثل هذا الموضوع، عن ماذا نتكلم؟ وسندرك في التطبيقات التربوية والنفسية -إن شاء الله تعالى- في جزءٍ من هذا اللقاء واللقاء القادم إذا يسَّر الله وأعان؛ أهمية مثل هذه القضايا في التطبيقات التربوية والنفسية على الشخص نفسه، وعلى الأسرة، وعلى المجتمع، بإذن الله .
لذلك خاف الصحابة خوفًا شديدًا جدًّا، وكما جاء في "صحيح الترغيب والترهيب"، ورواه أحمد والطبراني: عن أبي عليٍّ قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام إليه عبدالله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا: والله لتخرجنَّ مما قلتَ، أو لنأتينَّ عمر، مأذونًا لنا أو غير مأذونٍ. يعني: أثبت حُجَّتك. فقال: بل أخرج مما قلت: خطبنا رسول الله ذات يومٍ فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نُشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم[3]أخرجه أحمد في "مسنده" (19605)، وقال مُحققوه: إسناده ضعيفٌ؛ لجهالة أبي عليٍّ الكاهلي؛ فقد تفرد بالرواية عنه … Continue reading.
وتعلمون حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، وهو حديثٌ مشهورٌ، يقول النبي : فقال الأول: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، انظروا كيف تكون التربية الأسرية؟ وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طلب شيءٍ يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبتُ لهما غَبوقهما، فوجدتُهما نائمين، فكرهتُ أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر.
يعني: الرجل كان مشغولًا، لكنه ما ترك والديه، هو يخشى أن يقوما ويحتاجان إلى أن يشربا، فبقي: فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج يعني: انفرج جزءٌ منها، لكنهم لا يستطيعون الخروج.
ثم جاء الآخر فقال: اللهم إنه كانت لي بنت عمٍّ، هنا قضية الشهوة، وقضية الفتنة، وسنمر في اللقاءات القادمة على هذه القضايا، ولا نحتاج إلى أن نُطيل هنا.
ثم الرجل لما تمكن من ابنة عمِّه ذكَّرته ألا يفضَّ الخاتم إلا بحقه؛ فترك بنت عمه، وهي من أحب الناس إليه، وقد أعطاها المال ولم يطلبه، فقال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
ثم ذكر الثالث الذي كان له أُجراء، فدعا بصالح عمله، والذي كان أميز ما فيه: أن عمله كان لله ، فقد نمَّى مال هذا الأجير، وحفظ له هذا المال، ثم أرجعه إليه لما رجع[4]أخرجه البخاري (2215)، ومسلم (2743)..
فنحن يا إخواني بأمس الحاجة إلى مثل هذه القضايا، إذا كان العلماء سطروا كتبهم وبدأوا بحديث عمر بن الخطاب: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى[5]أخرجه البخاري (1).، فنحن بأمس الحاجة إلى التربية، وبأمس الحاجة إلى التعامل مع النفس، وبأمس الحاجة إلى التعامل مع الأسرة، ومع الآخرين، وكل ذلك يكون من مُنطلق الإخلاص والنية والإيمان، وأن نعرف أثرها التربوي وأثرها النفسي كما سيأتي معنا، بإذن الله .
هذا هو الإخلاص، وهذا هو الإيمان الذي أقضَّ مضاجع الرجال وأصحاب القلوب الحية؛ ولذلك ينبغي أن يُراجع الوالدان، ويراجع الأفراد، ويراجع الشباب، ويراجع الكبار والصغار، والذكر والأنثى، يُراجعون هذه القضايا: المجتمع، التعليم، المعلمون، المدارس، الجامعات، ... إلى آخره، يُراجعون هذه القضية وأثرها من الناحية التربوية والتعليمية.
يقول يوسف بن الحسين -رحمه الله، وهو من السلف الصالح-: "أعز شيءٍ في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت على لونٍ آخر"[6]"مدارج السالكين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]" لابن القيم (2/ 92).، يعني: يطلع لي، أحاول قدر ما أستطيع أن أغلق باب الرياء، وأن أغلق باب الضعف في جانب الإخلاص والإيمان، وإذا به يطلع لي من مكانٍ آخر، يقول هذا الكلام وهو أحد رجالات السلف، فكيف بنا نحن يا إخوان؟!
ويقول الفضيل بن عياض -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، قال: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا وصوابًا، فالخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة. ثم قرأ قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110][7]"إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 124)..
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "العمل بغير إخلاصٍ ولا اقتداءٍ كالمسافر يملأ جرابه رملًا ينقله ولا ينفعه"[8]"الفوائد" لابن القيم (ص49)..
ترك العمل لأجل الناس رياءٌ، والعمل لأجلهم شركٌ
لذلك يا إخواني عندما نقف عند قول الله : إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:69- 74].
ويقول الله : وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:123- 128].
هاتان الآيتان جاءتا في سياق الضياع والتِّيه الذي يمكن أن يحصل في أسرنا، ويحصل عند الفرد نفسه: كالقلق والاضطراب الذي قد يحصل عند الشخص نفسه.
وقد ختم الله الآيات باستثناءٍ، يعني: أن الذين لا يحصل لهم ذلك الضياع والتِّيه هم أهل الإخلاص الذين تجردوا لله ، والذين خلَّصوا نفوسهم من حظِّ نفوسهم.
ونحن في التربية من خلال التعامل مع النفس، ومع الأسرة، ومع الآخرين نحتاج إلى هذه القضية أيها الإخوة أيما احتياجٍ، فما الإخلاص؟
تعريف الإخلاص
لا نريد أن ندخل في قضايا كثيرةٍ الأولى أن يتكلم فيها أهل الاختصاص، لكن يا إخواني لا بد من هذه المقدمات.
فالإخلاص باختصارٍ كما يقول بعضهم: هو القصد بالعبادة إلى أن يُعبد المعبود بها وحده. وقيل: الخلاص عن رؤية الأشخاص[9]"نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم" (2/ 124)..
لا يكون همي وهمك: ماذا يقول الناس؟ لا يكون همي وهمك في التعليم: ماذا يريد المعلمون؟ لا يكون همي وهمك في الأسرة: ماذا يريد الأب؟ لا يكون همي وهمك في الجامع: ماذا يريد الإمام؟ وهكذا في سائر المجتمع لا بد أن يكون الهم هو الخلوص لأمر الله : ماذا يريد الله مني؟ ألا تطلب لعملك شاهدًا غير الله تعالى كما قال العلماء، رحمهم الله.
وقال الفضيل بن عياض: "ترك العمل لأجل الناس رياءٌ، والعمل لأجلهم شركٌ، والإخلاص: الخلاص من هذين"[10]موسوعة "كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم" للتهانوي (1/ 123)..
وفي روايةٍ عنه: "والإخلاص أن يُعافيك الله منهما"[11]"مدارج السالكين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]" لابن القيم (2/ 92).، لماذا؟
لأن الذي يحكمه ويكون مرجعيته ومعياريته هو أمر الله ، ونظر الله ، فهو لا يفكر في الترك، ولا يفكر في العمل بأمر الناس، لكن الذي يترك من أجل الناس كما قال الفضيل: هذا رياءٌ، والذي يعمل من أجل الناس: هذا شركٌ.
كذلك الأمر في قضايا التربية، وكذلك قضايا العلاقات مع الآخرين، وكذلك قضايا التعامل مع النفس، فهذه القضايا إذا ما كانت مُنطلقةً من نظر الله سندخل في هذه القضايا المشكلة، وسنكون في دوَّامةٍ، كما قال أحد الأوروبيين: إن أوروبا لما تركت إلهها القديم واتَّجهت نحو إلهها الجديد بدأ الأوروبيون يعيشون في قلقٍ دائمٍ.
وهذا القلق هو مرض العصر اليوم، الاضطراب مرض العصر الذي يجعل الناس في تيهٍ وحيرةٍ كأفرادٍ، وكذلك ستنتقل هذه القضايا إلى الأسر، وإلى المجتمعات.
النية والقصد في القضايا التربوية
نبدأ ببعض التطبيقات التربوية والنفسية المتعلقة بتنزيل قضية: النية والقصد والإيمان على القضايا التربوية.
ابتداءً: ماذا نقصد بتنزيلها على الجوانب الإيمانية؟
يعني: القلب له اتِّجاهٌ كما نعلم، وهذه أصلًا قضية النية، فحركة القلب وتوجهه عند القيام بالعملية التربوية إلى أين يكون؟
إن كان يقصد بالأمر الاتجاه إلى إرضاء الله ، فهو في نيةٍ طيبةٍ، وإن كان غير ذلك: إما خالية -ليست موجودةً- أو عكسية أو ضعيفة فهو على غير ذلك.
إذن ماذا أقصد كمعلمٍ في تعاملي مع الطلاب؟ هل هو لله، أم أنه لغير ذلك؟ فإما أن يضعف هذا الإخلاص، أو أنه غير موجودٍ، أو أن ضده وعكسه هو الموجود.
كذلك علاقة الأب مع الأبناء، وعلاقة الأصدقاء بعضهم مع بعضٍ، وهكذا أفراد المجتمع.
تحويل العادات إلى عبادات
أول هذه التطبيقات ما يتعلق بقضية: تحويل العادات إلى عبادات، وهذه القضية تتميز بالنية، مجرد أن نُطبق قول الرسول في حديث عمر المشهور: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فيقول : فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه[12]أخرجه البخاري (1)..
المُعايشة بين الآباء والأبناء، بين الأصدقاء، بين المعلمين والطلاب، ... إلى آخره، والمُؤانسة، واللعب، والتوجيهات، فكل هذه القضايا إذا استحضرت النية فيها لله انقلبت هذه القضايا المعتادة اليومية في مجالات التربية ومجالات التأثير في النفس البشرية إلى عبادةٍ.
يا أخي الكريم، أي عاقلٍ يقول: والله بدل أن أتعب ولا يحصل لي شيءٌ من رب العالمين، دعني على أقل تقديرٍ أجد الأجر من الله .
فالحد الفاصل في هذا الموضوع -رقم واحدٍ- هو جانب النية والقصد والإيمان، إذا وُجد هذا الأمر أثناء التربية، وأثناء التعامل مع النفس، وفي التعامل مع الأنفس عمومًا استحضرت هذه النية استطعنا يا إخوان أن نُحقق شيئًا لأنفسنا من خلال الربط بالجانب الأخروي، وستستمر هذه القضية باستمرار التربية.
المشكلة عندما تُصبح القضية مُرتبطةً بالقضية المادية فقط، ونُتعب أنفسنا، وقد لا نجد الأثر كما سيأتي معنا في بعض التطبيقات الأخرى.
التمايز
التطبيق الآخر: التمايز، فلا شك أن الذي يستحضر النية يتميز عن الذي لا يستحضر النية، أليس كذلك؟ والذي يكون مُحققًا للتوحيد غير الذي يكون مُشركًا، والذي يكون مُستحضرًا للنية -حتى في أمرٍ مباحٍ- غير الذي لا يستحضر النية، حتى ولو لم يُشرك.
إذن هناك فرقٌ، وكما جاء في قول بكر المُزني: "ما سبقهم أبو بكرٍ بكثرة صلاةٍ ولا صيامٍ، ولكن بشيءٍ وقر في صدره"[13]"لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" لابن رجب (ص254)..
هذا الشيء الذي وقر في قلب أبي بكرٍ هو الذي ميَّز أبا بكرٍ عن غيره، وهكذا يتمايز الآباء بعضهم عن بعضٍ، ويتمايز الزوجان بعضهم عن بعضٍ، ويتمايز الأبناء بعضهم عن بعضٍ، ويتمايز الطلاب بعضهم عن بعضٍ، ويتمايز المعلمون بعضهم عن بعضٍ، ويتمايز الأفراد بعضهم عن بعضٍ، والمجتمعات بعضهم عن بعضٍ، والأُسر بعضهم عن بعضٍ من خلال قضية التمايز.
النقطة الثالثة من التطبيقات التربوية والنفسية في التمايز: انظروا إلى الفرق بين ما ربط الله به أهل الإيمان، وما ربط به مَن كانوا على غير ذلك، وكلهم أصحاب اجتهادٍ وعملٍ، ماذا قال الله في حق أهل الإيمان؟
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195].
وفي مقابل ذلك قال الله: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
تصور يا أخي واحدًا يتعب، ثم يكون الأمر هَبَاءً مَنْثُورًا، فهذه قضيةٌ خطيرةٌ نحتاج أن نقف معها.
النقطة الثالثة في التطبيقات فيما يتعلق بالنية والقصد والإيمان: أن هذا الموضوع يزيد في العمل ويُباركه، يعني: بعض الأحيان الواحد منا يجد نفسه، أو يسمع في الاستشارات، أو في عرض المشكلات، ... إلى آخره، يقول لك: يا أخي، تعبت، حاولت مع ابني، حاولت مع الطالب، حاولت مع الشخص، حاولت مع جاري، ما في فائدة، تعبت! وربما يبذل جهدًا ثم لا يجد النتيجة، مع أنه لا يلزم أن تكون هناك نتيجةٌ، لكن النية تعمل عملها، فبجهدٍ قليلٍ قد يُبارك الله في النتيجة، وهذا المقصود: بجهدٍ قليلٍ قد يُبارك الله بالنتيجة.
لذلك من تفسيرات المشقة التي يُعاني منها المُربون: أن النية غير مُستحضرةٍ، فراجع نيتك أخي؛ لأنك قد تكون ما استحضرت هذه النية، فأنت جالسٌ تضرب أخماسًا في أسداسًا، وتعاني، وأنت حريصٌ، ثم لا تجد أنك مُوفَّقٌ، في مقابل أن الإنسان ربما يكون -سبحان الله!- أمر قلبه بينه وبين الله عظيمًا جدًّا، ويعمل الشيء البسيط ويُبارك الله فيه.
نسمع بعض الآباء يقول: والله ما عملتُ الشيء الكثير لأبنائي، والله يا أخي، الله وفَّقهم للهداية والصلاح، والله يا أخي بتوفيق رب العالمين.
فتجد هذه القضية مرات لتدلك على صدق الإنسان في توجهه، بينما الثاني ربما يحاول يمينًا ويسارًا، ولا يجد شيئًا، وتكون الطرق مغلقةً.
لذلك كما جاء في حديث النبي : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم[14]أخرجه مسلم (2564).، هذا هو المحط الذي يُبارك الله فيه، ويجعل لهذه النية أثرًا على العمل؛ فيبارك في العمل.
فقضية أين القلب؟ أين العمل المرتبط بالنية الطيبة؟ فقد تنغلق أبواب البشر، لكن باب الله لا ينغلق.
أذكر أحد المربين، وكنت أتحدث معه في بعض القضايا المتعلقة بالتربية، فكان يقول: سبحان الله! تنغلق أمامي الأبواب وتنسدُّ، ويقرأ الواحد ويستشير، ثم لا يجد بُغيته إلا حين يخضع بين يدي الله ، ويلجأ إلى الله ، لا يعلم عنه إلا رب العالمين، ويضع بُغيته بين يدي الله؛ فتنفرج من رب العالمين.
فنحن بأمس الحاجة إلى مثل هذه التطبيقات العملية.
حماية الفكر والسلوك والقيم والأخلاق بالإيمان والإخلاص
النقطة الرابعة في التطبيقات التربوية والنفسية للنية والقصد والإيمان: حماية الفكر والسلوك والقيم والأخلاق بالإيمان والإخلاص.
سبحان الله العظيم! يا إخواني، لما نأخذ القيم والأخلاق والسلوك فمن الواضح أن الإنسان الذي يستحضر أمر الله ، وقد تربى على ذلك، وربما حاول في خلوةٍ من خلواته أن يفتح الجهاز، ويريد أن يضغط الزر، ثم يأتيه الشيطان يريد أن يُضله، فيتذكر أمر الله ، ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
فالإيمان أثره واضحٌ في قضية ردِّ الشهوات، والبعض قد يستغرب: كيف؟! وهو أيضًا حمايةٌ للفكر من الانحراف الفكري.
سبحان الله! لما تقرأ للإمام الشهرستاني والفخر الرازي وأبي المعالي الجويني -كما ذكر ذلك ابن تيمية -رحمه الله- في "الفتوى الحموية"- تجد أن هؤلاء أفذاذٌ، وكانوا أذكياء، لكنهم تلطخوا بالفلسفة والمنطق، وضلوا الطريق في هذا المجال الفكري والاعتقادي، فرجعوا عن ذلك، وتابوا إلى الله ، وأعلنوا توبتهم، وأصلحوا من حالهم، مع أنهم أفذاذٌ في العقل، لكنهم كانوا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أوتوا ذكاءً، وما أوتوا زكاءً، وأُعطوا فهومًا، وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدةً"[15]"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (5/ 119).، فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا، لكن الذي عنده التزكية حتى لو ضلَّ الطريق يعود من خلال علاقته بالله ، حتى المنحرف فكريًّا.
وأنا أعرف بعض الأشخاص من المعاصرين ممن كان انحرافه فكريًّا، ثم كانت عودته إلى الجادة بسبب أن له علاقةً وخبيئةً بينه وبين الله تعالى، وذلك بعد توفيق الله ، وكان أحدهم يقول: كنت ألحظ على هؤلاء المنحرفين أنهم ضعيفو الصلة بالله ، لكن لما أدركت هذه القضية ونفسي تأبّت من تصرفاتهم وسلوكياتهم، يقول: أدركت أنني على خطرٍ.
فجانب النية والقصد يا إخوان هو أفضل حمايةٍ لأبنائنا، وأفضل حمايةٍ لأنفسنا، وأفضل حمايةٍ لطلابنا، ولمجتمعنا من قضية الانحراف الفكري والسلوكي، لنُربيهم تربيةً إيمانيةً باختصارٍ، فسنجد أننا نختصر الطريق في قضية الانحرافات الشهوانية والخلقية، وكذلك -لا سمح الله- لو حصل انحرافٌ فكريٌّ فهو أمرٌ يؤوب إلى الله ، فإذا أدرك أن الله لا يريد منه ذلك وعلم الحق سيعود.
أما الذي ليس له رغبةٌ قويةٌ بينه وبين الله ، فماذا تتوقع منه في قضية الشهوات أو الشبهات؟
حاجتنا إلى قضايا النية والقصد
التطبيق الذي بعده: حاجتنا إلى قضايا النية والقصد في الأهداف التربوية، والوسائل التربوية، والأساليب والتقويم التربوي والمناهج.
هذه مصطلحاتٌ يعرفها أهل الاختصاص، لكنني لا أقصد الوقوف عند هذه المصطلحات أكثر من أن نفهمها؛ لأننا نُطبقها مع أسرنا دون أن نشعر، لكن قد نُطبقها تطبيقًا صحيحًا، وقد نُطبقها تطبيقًا خاطئًا.
العملية التربوية -يا إخواني- لا يمكن أن تكون إلا من خلال الأهداف: أين هدف التربية الإيمانية، وهدف التجرد لله، وهدف تربية النفس على التجرد لله ، والنية والقصد من منظومة التربية الأسرية، أو التربية في المدارس، أو غيرها؟ أين تربية النفس؟
إذن لا بد أن أضع الهدف، هذا أساسيٌّ وموجودٌ عندنا، وإذا لم يكن موجودًا! مثل: القضية التي ذكرناها لكم عن الدراسة التي عملت حول الشباب والاهتمامات والأولويات: أن رقم واحدٍ هو قضية الوظيفة وقضية الجانب المادي.
طبيعيٌّ جدًّا -يا أخي- أنه إذا كان هدفي التربوي ليس قائمًا على التربية الإيمانية والربط بالله سيكون المنتج في المدارس أو في الأسرة أن الناس سيكون همهم القضايا الدنيوية، أليس كذلك؟! إذن لا بد أن أضع هذا الهدف ضمن أهدافي العملية التربوية للنفس، وللمجتمع، وللأسرة.
كذلك الوسائل المستخدمة لا تكن غاياتٍ، فهذه الوسائل ما هي إلا طريق يُقرِّب إلى الله ، فأي وسيلةٍ تساعد على ذلك أستخدمها.
واليوم التقنية الحديثة فيها مجالاتٌ كبيرةٌ لمثل هذا الموضوع كما سيأتي معنا في التطبيق الأخير، بإذن الله .
كذلك استخدام الحوارات والنقاشات ... إلى آخره، فلا بد أن أضع هذه القضية، وهي: الربط الإيماني من خلال الحوار والنقاش والتعليقات كما قلنا في الوسائل، وبدأنا في الأهداف، هذه القضية موجودةٌ بشكلٍ كبيرٍ.
التقويم: يعني: لا يمكن أن أقوم على شيءٍ هلاميٍّ يا جماعة، وأيضًا من مشاكلنا: أن تقويمنا فيه شيءٌ من البركة، وأن أمورنا ممتازةٌ والحمد لله وتسير، أو عكس ذلك: أن أمورنا ما هي بمضبوطةٍ، ويعتريها الإحباط، وما شابه ذلك.
طيب، أنا أحتاج أن أُقوِّم، والذي يهمني: كيف نجاحي مع نفسي، ومع غيري، ومع أسرتي، ومع أبنائي، ومع المجتمع، ومع الطلاب في قضية الربط بالله ، وقضية تحقيق النية والقصد في أعمال القلوب؟
فكيف هي أعمال القلوب في قضية التربية؟ هذا تقويمٌ مهمٌّ، يعني: نتكلم عن المُخرجات، عندنا سبعون خريجًا في التخصص الفلاني، لكن مَن الذي علاقته بالله قويةٌ؟
هذه قضيةٌ لا تجدها في أبجديات وأدبيات التربية الحديثة اليوم -للأسف الشديد- التي تقوم على المنهج الغربي!
لا بد عندما نُقدم برامج في الأسرة أن نُقدم مناهج، حتى لو كانت مناهج علميةً بحتةً.
أنا أقصد أنها نظريةٌ، أو حتى المعملية في المُختبرات، أنا أستطيع أن أربط هذه الأجيال، بل وأربط نفسي، وأقول: سبحان الذي خلق! أربط نفسي بالله ، أين أنا من هذه القضية؟
لا يمكن أن أكون أنا صاحب الرسالة والمُنتمي لهذه الأمة، أن يكون مثلي مثل الشخص الملحد الغربي الذي لا يؤمن بالله ولا بالرسل، أو الذي يستبعد قضايا الدين، حتى لو كان عنده إيمانٌ بالله بشكلٍ عامٍّ، مع انحرافٍ في مُعتقدهم وفي ديانتهم.
إذن نحتاج للأهداف التربوية، ونحتاج إلى الوسائل التربوية، والأساليب التربوية، والتقويم التربوي، والمناهج التربوية في المدارس، وفي البيوت، وفي المحاضن، فلا بد أن تهتم بهذا الموضوع المتعلق بقضية النية والقصد، والإخلاص، والإيمان.
تطبيقٌ آخر: ما يتعلق بقضية الأتباع وكثرتهم وقلتهم
أردت أن أدخل هذه القضية، مع أن العلماء السابقين وقفوا في هذه المحكات، لكننا اليوم في حاجةٍ كبيرةٍ جدًّا لها، وهي من المحكات المهمة في قضية الإخلاص والقصد.
ما هدفك حينما تُقدم درسًا؟ ما هدفك حينما تُشارك في (تغريدات) عبر (تويتر)؟ ما هدفك حينما تكون لك صفحةٌ في (الفيس بوك)؟ ما هدفك حينما تُقدم هذا المنشط الدعوي الاجتماعي الإغاثي؟ ... إلى آخر تلك الأسئلة المهمة جدًّا.
في بعض الأحيان تطغى الكثرة على النفس البشرية، حتى إن البعض ربما من سلوكياته في (تويتر) كمثالٍ ينظر: كم بلغ عدد المتابعين (flowers)؟ هل العدَّاد يزيد أم لا؟ وربما لا يُفكر بتلك الدقة فيما يكتبه، وما يقصده من هذه الكتابة، ولماذا يقوم بإعادة (التغريدة) فيها؟ حتى إنه ما يقف مع نفسه ويُحادثها كما يُحادث نفسه بالنسبة لكثرة العدد.
وكذلك عندما يأتي منشطًا معينًا، أو برنامجًا معينًا: نشاطٌ في جامعةٍ، أو نشاطٌ في مدرسةٍ ... إلى آخره: كم عدد الحاضرين؟ كم الموجودون؟
فقضية عدد الحاضرين وكثرتهم أو قِلَّتهم كلها فتنةٌ.
يعني: يمكن أن تأخذها على أنها ابتلاءٌ، فيمكن أن يأخذها مَن تعلق بالله وسار على منهج السلف على أنها ابتلاءٌ: فقد يطغى الإنسان بسبب الكثرة ويُعجب بنفسه، وقد لا يتحمل القِلَّة فيترك الأمر.
يذكر الشيخ عبدالكريم الخضير -حفظه الله ووفقه- أنه أدرك الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، فكان يحضر معه في الدرس سبعة أشخاصٍ، ثم انقطعوا، واستمر الشيخ عبدالعزيز -رحمه الله- في درسه، على علمه وجلالة قدره.
فالقضية ليست مُرتبطةً بـ: ماذا أنا عند الناس؟
وهنا نرجع إلى قضية نظر الناس ونظر مَن؟ نظر الله ، فنظر الله تعالى هو القضية الأساسية، وهذا الأمر هو الذي نحتاجه في النية والقصد، وفي الإيمان، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
تطبيق: الثناء والمدح، ومقابل ذلك الذم
طبيعة النفس البشرية تحتاج إلى أن تُعزز، لكن انظروا إلى منهج النبي -بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام، لما رأى عبدالله بن عمر رؤيا خاف منها، وهدأه الملكان وهو في الرؤيا لما رأى النار، ثم أتى إلى أخته حفصة وقصَّ عليها الرؤيا، فقصَّتها على النبي ، فقال النبي : نِعم الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل[16]أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479)..
فهذه صيغة مدحٍ، لكن ما هو السياق؟
هناك نقصٌ عند عبدالله بن عمر: لو كان يقوم من الليل، هذا أسلوبٌ تربويٌّ احترافيٌّ، يعني: لا يُكسب الإنسان الغرور، ويعرف نفسه، وفي نفس الوقت أيضًا فيه تشجيعٌ.
وكذلك الرجل الذي أُتِيَ به وقد شرب الخمر -وسنأتي إلى هذه القضايا في جوانب إن شاء الله تعالى- وكان كثيرًا ما يُؤتى به وهو يشرب الخمر، فقال أحد الصحابة: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي : لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يُحب الله ورسوله[17]أخرجه البخاري (6780).، يعني: هو الآن يُقام عليه الحد، وهو يشرب الخمر، والرسول يشهد له أنه يُحب الله ورسوله.
هذا السياق الذي فيه المدح والثناء ممتازٌ جدًا إذا صار بهذا الأسلوب، أما الإطراء الزائد والمجاملات فينبغي أن ننتبه له، فهذا سيُؤثر في قضية النية والقصد والإيمان، وتصبح القضية تكريمًا، وقضايا مادية، وقضايا أساسية، وينتظر الناس ماذا يُقال لهم عبر (الميكروفون)؟ وماذا يُقال لهم خلال المناسبة؟ وماذا سيُقدم لهم من دروعٍ؟ ... إلى آخره، هل سأخرج أنا أو لا أخرج؟
إذا ربطنا الناس بهذه القضايا فهذه مشكلةٌ، لكن حتى لو قدم هذه القضايا المادية، فأنا -يا أخي- بإمكاني أن أعرج ببعض العبارات التي تُذكر بهذا الأمر.
ثم لا يلزم من الناحية التربوية -وحتى عند علماء النفس الذين تكلموا في هذه القضية في جداول التعزيز عند المدرسة السلوكية- أن تكون قضايا التعزيز كل مرةٍ، فكلما فعل السلوك أُعطيه تعزيزًا، هذا خطأٌ؛ لأن الفعل في هذه الحالة سيرتبط بماذا؟
سنأتي لهذا عندما نتكلم عن قضية التعزيز، بإذن الله .
لذلك كان للدكتور عبدالكريم بكار -أسأل الله أن يحفظه ويُبارك فيه، فله كتبٌ جميلةٌ، وأنا أنصح بقراءة: "الشخصية التربوية"- كلمةٌ جميلةٌ لعلنا نختم بها، ونكمل باقي التطبيقات في اللقاء القادم، بإذن الله .
كان يقول: لو أنك واجهت شخصًا متفوقًا فحفَّزته، لا شك أنك ستقول له صيغة مدحٍ وثناءٍ: ما شاء الله عليك، أنت متفوقٌ. لكن يقول: تمِّمها بعبارة: نحن نطلب منك المزيد. المطلوب منك أن تتقدم أكثر.
وحين تتدبر وتتأمل هذه العبارة كما يقول: سياجٌ من الشعور بالغرور والكبر؛ لأنك عندما تُثني فأنت قد تُعطي زهوًا لهذا الشخص، وأنه وصل إلى الكمال، حتى لو لم يصل، لكن هكذا يكون جانب الإيحاء النفسي.
وعندما تقول له: هناك مشوارٌ آخر ينتظرك، ومطلوبٌ منك أمورٌ أخرى. فأنت أثنيت عليه مثلما أثنى الرسول على عبدالله بن عمر: نِعم الرجل عبدالله، لكن قال: لو كان يقوم من الليل، وكما قال الراوي في قصة عبدالله بن عمر: فما كان ينام عبدالله بعد ذلك من الليل إلا قليلًا[18]أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479)..
فكان من أثر هذا التوجيه النبوي من الثناء وبيان النقص الموجود: أن عبدالله بن عمر تأثر، فما كان ينام من الليل إلا قليلًا، أي: أنه أصبح يقوم من الليل.
هذه بعض التطبيقات، وبقيت تطبيقاتٌ أخرى نُكملها -إن شاء الله تعالى- في الأسبوع القادم.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "العبودية" لابن تيمية (ص44). |
---|---|
↑2 | أخرجه الترمذي في "سننه" (2382)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2482)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (409). |
↑3 | أخرجه أحمد في "مسنده" (19605)، وقال مُحققوه: إسناده ضعيفٌ؛ لجهالة أبي عليٍّ الكاهلي؛ فقد تفرد بالرواية عنه عبدالملك بن أبي سليمان العرزمي، ولم يُؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وباقي رجال الإسناد ثقاتٌ، رجال الشيخين، غير عبدالملك بن أبي سليمان؛ فمن رجال مسلم. |
↑4 | أخرجه البخاري (2215)، ومسلم (2743). |
↑5 | أخرجه البخاري (1). |
↑6 | "مدارج السالكين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]" لابن القيم (2/ 92). |
↑7 | "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 124). |
↑8 | "الفوائد" لابن القيم (ص49). |
↑9 | "نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم" (2/ 124). |
↑10 | موسوعة "كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم" للتهانوي (1/ 123). |
↑11 | "مدارج السالكين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]" لابن القيم (2/ 92). |
↑12 | أخرجه البخاري (1). |
↑13 | "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" لابن رجب (ص254). |
↑14 | أخرجه مسلم (2564). |
↑15 | "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (5/ 119). |
↑16 | أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479). |
↑17 | أخرجه البخاري (6780). |
↑18 | أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479). |