المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم آمين.
كنا في اللقاء الأول قد تكلمنا عن النية والإخلاص والقضايا الإيمانية، وكان آخر لقاءٍ في الأسبوع الماضي حول التطبيقات التربوية والنفسية والاجتماعية لهذه النية، واستعرضنا سبع نقاطٍ من هذه التطبيقات: تحول العادات إلى عباداتٍ، والتمايز، وزيادة العمل وبركته، وحماية الفكر والسلوك والأخلاق والقيم، وكذلك تطبيقاتٌ على الأهداف التربوية والوسائل والأساليب التربوية، وعلى المناهج التربوية، ثم الأتباع وكثرتهم، ثم وقفنا عند الثناء والمدح.
ونكمل -إن شاء الله تعالى-، ونرجو أن ننتهي في هذا اللقاء من هذه التطبيقات الخاصة بالمَعْلم التربوي والنفسي الأول المُرتبط بالنية والقصد، والإخلاص، والإيمان.
وهذا الموضوع -أيها الإخوة- كبيرٌ، لكن على أية حالٍ لعل الإشارات تنفع وتُفيد، ونرجو من الله أن تكون فرصةً للأسرة وللمجتمع ولكل واحدٍ منا أن يُراجع نفسه في هذه القضية المُلحة، وهي قضية الإخلاص والقصد والنية.
التطبيق الثامن: نظر الناس
في حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن النبي قال: مَن التمس رضا الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان، وهو حديثٌ صحيحٌ[1]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (276)..
والمحور الذي تحدثنا عنه في موضوع النية في الأسبوع الماضي هو: أين اهتمام الفرد بالنسبة لنظر غيره إليه؟ هل هو ممن يهتم بنظر الناس إليه، أو يهتم بنظر الله إليه؟
هذا الحديث أنا أعتبره من أهم التطبيقات العملية لموضوع النية؛ لأنه يشتمل على وعدٍ ووعيدٍ، ليس مُرتبطًا بي، ولا بأحدٍ من البشر، هو مرتبطٌ بالله .
وقد بيَّن الرسول في حديث عائشة: أن الذي يريد في عمله مع نفسه -أيًّا كان هذا العمل: دنيوي أو أخروي- ومع غيره: الأب في الأسرة، والأبناء مع آبائهم، والمعلمون مع طلابهم، والطلاب مع المعلمين ... إلى آخره، أي قضيةٍ مرتبطةٍ بالجوانب التربوية، أو الجوانب النفسية، أو الجوانب الاجتماعية؛ إذا كان الأمر يلتمس فيه رضا الله ستكون المكافأة أن الله سيرضى عن هذا الإنسان، وسيجعل الناس يرضون عنه.
يعني: يمكن أن يتصور الواحد لأول وهلةٍ، قد يقول مثلًا: الأمر ليس كذلك في بعض الأحيان، لكن لو تمعن ووقف سيجد الأمر ليس مرتبطًا بلحظة العمل، فمآلات الأمور إلى أين؟
وفي مقابل ذلك: الذي يلتمس رضا الناس في عمله على حساب رضا الله ستكون النتيجة أن الله سيسخط عليه، وسيُسخط الناس عليه.
والمتأمل -يا جماعة- في وقائع الأحداث -حتى الأحداث العالمية اليوم- يدرك مثل هذه القضايا، ولو تأمل الإنسان في نفسه وفي غيره لوجد أن هناك أشياء تدل على هذه القضية دلالةً كبيرةً.
ولو افترضنا أن التمعن لم يحصل من الواحد منا، فلا بد من الإيمان بما جاء به النبي ، ولا بد أن نعيش هذه القضية، فهذا التطبيق مهمٌّ جدًّا، فاسأل نفسك: هل تلتمس نظر الناس، أم نظر الله ؟
أهمية تقديم قدواتٍ حيةٍ للأجيال
النقطة التاسعة من التطبيقات المهمة: لا بد أن نسعى إلى تقديم قدواتٍ حيةٍ للأجيال، أقصد في جانب النية، وفي جانب الإخلاص، وفي جانب الإيمان.
وموضوع القدوة سنأتي إليه لاحقًا، وقد يكون نصيبه اللقاء القادم، بإذن الله، إذا يسَّر الله وأعان.
ومما يختصر الطريق: عرض نفسك وعرض مَن تريد أن تُؤثر فيهم على قضية القدوات، ومن أعظم أساليب القدوة -ولا أريد أن أستعجل في موضوع القدوة-: أن يكون القدوة نموذجًا حيًّا موجودًا، يعني: أكبر نموذجٍ حيٍّ للأبناء مَن هم؟ الآباء، وأكبر نموذجٍ حيٍّ للطلاب مَن هم؟ المعلمون، وأكبر نموذجٍ حيٍّ للصديق مَن هو؟ الأصدقاء ... إلى آخره، وقس على ذلك.
فكلما استطعت أن تعرض هذه الذوات وهذه الأنفس على أناسٍ الله حباهم بتطبيق قضية النية والإخلاص والإيمان؛ ستجد أثر هذه القضية على نفسك، وعلى أبنائك، وعلى طلابك، وعلى معلميك، وستجد أثرها أيها الشاب على نفسك ... إلى آخره.
وقد تكون القضية من خلال محاولة المعايشة بزيارةٍ، وبعض الفضلاء يمارس مثل هذا الدور، فيذهب بأبنائه، أو يذهب ببعض الناس، أو يذهب بطلابه، أو يذهب بنفسه إلى أناسٍ وفَّقهم الله لعلاقتهم بالله ، وهي علاقةٌ عظيمةٌ، واضحة الأثر على سلوكهم، وعلى تصرفاتهم، فيجلس معهم.
ابن القيم كان إذا ادلهمت به الأمور وضاقت ذهب إلى شيخ الإسلام في سجنه؛ فينكشف عنه[2]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص48)..
هذا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قطع الطريق على أعدائه فقال: "ما يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحت فهي معي، إن سجني خلوةٌ، ونفيي سياحةٌ، وقتلي شهادةٌ"[3]"المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام" لابن تيمية (1/ 153)..
فما ترك شيئًا لأعدائه؛ لأنه يعيش اللذة، وكان -رحمه الله- يفسر الآية الواحدة بمئة تفسيرٍ من كلام العلماء، وهو في السجن، فهذا رجلٌ مربوطٌ بالله .
وحينما يأتيه ابن القيم وينظر إليه وهو يجلس من بعد الفجر إلى الضحى يذكر الله ، فيسأله تلميذه ابن القيم -وهكذا المربي مع المتربي، والمتربي مع المربي-: لماذا تفعل ذلك؟ فيقول: "هذه غدوتي، إذا أخذتها قويت، وإذا لم آخذها ضعفت"[4]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص42).، يعني: هذه غدوة شيخ الإسلام ابن تيمية.
فنحتاج أن نربط أجيالنا بأصحاب القدوات، وبأصحاب الجرعات، من خلال تقديم هذه النماذج: باستعراضهم، وبمُعايشتهم، وبزيارتهم، وبذكر القصص عنهم، خاصةً الأموات منهم.
معاذ بن جبل -رحمه الله ورضي عنه- يقول: "إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"[5]صحيح البخاري (5/ 161).، كان يتحدث مع أحد الصحابة وهو في اليمن فيقول: "إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي".
تصور إنسانًا وهو يريد أن ينام يضع في باله: أن يكون هذا النوم عبادةً لله .
يعني: لما نتصور مفهوم العبادة: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال: الظاهرة والباطنة.
فعلًا هؤلاء طبَّقوا هذه النماذج؛ فأصبحت قلوبهم مُعلَّقةً بالله ، وخلصت نفوسهم من حظِّ نفوسهم بحقٍّ؛ فلذلك نحن نحتاج أن نربط أنفسنا والأجيال بمثل هؤلاء، وتحتاجون أيها الشباب أن تربطوا أنفسكم بهؤلاء.
عبدالله بن أبي حمزة يقول: "وددتُ أنه لو كان من الفقهاء مَن ليس له شغلٌ إلا أن يُعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم"، ويقصد: التدريس في أعمال النية ليس إلا، قال: "فما أتى مَن أتى إلا من تضييع ذلك"[6]"المدخل" للعبدري (1/ 1)..
كأنه يقول: نتمنى من الفقهاء لو تركوا الكلام في الفقه، وأخذوا يُحدثون الناس عن مقاصد الأعمال، عن النيات، عن الإخلاص، يقول: لو أنهم تنحوا عن الفقه، فما بالك بغيرهم؟!
نسأل الله أن يعفو عنا، ويتوب علينا.
فنحن بأمس الحاجة إلى هذه النماذج، ويقول: ما أتى مَن أتى بما أتى من أمورٍ لا يرضاها الله إلا من خلال تضييع هذه القضية المرتبطة بقضية الإخلاص والنية.
ويقول زيد الشامي: "إني لأحب أن تكون لي نيةٌ في كل شيءٍ، حتى في الطعام والشراب"[7]"جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم" لابن رجب (1/ 70).، يعني: هذه النماذج العظيمة الحية.
وللإمام أحمد قريبًا من ذلك: "وددتُ أن لي بكل مباحٍ نيةً"، أو كما ذكر، رحمه الله.
ويقول سفيان الثوري: "ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي"[8]"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 17).، يعني: كان يُصارع، أو نقول: كان يُجاهد، وهذه المجاهدة علامةٌ كبيرةٌ وعظيمةٌ جدًّا، وهي تطبيقٌ عظيمٌ جدًّا على قضية محاولة إحياء هذه النفس، وإيجاد قضية الإخلاص فيها، وزرع هذه القضية الإيمانية العظيمة في النفوس.
وقراءة مواقف المخلصين -أيها الإخوة- من الكتاب والسنة وسِيَر السلف الصالح، وربط الأنفس والأجيال بهذه القدوات قضيةٌ مهمةٌ، وتطبيقٌ مهمٌّ يُستفاد منه.
الجلسات الشبابية والأسرية والأصدقاء
النقطة العاشرة: الجلسات الشبابية والأسرية والأصدقاء، والتي تكون مخصوصةً بالقضايا الإيمانية.
ذُكِرَ في الأثر: أن الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- كانوا يُعلِّمون صغارهم علامات الساعة الكبرى، يعني: هدفهم في هذه الجلسة وفي هذا اللقاء أنهم يُذكرونهم بعلامات الساعة، علامات يوم القيامة الكبرى، فما الهدف من وجهة نظركم؟ ماذا تتوقعون أن يكون الهدف؟
طيب، وإذا ذكرناهم بالآخرة ماذا حصل للنفوس والقلوب؟
ارتبطت بشيءٍ أعظم من الدنيا، فأصبحت الدنيا ليست في القلوب، إنما الآخرة هي التي في القلوب، وأما الدنيا فهي تبعٌ، قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].
يعني: الدراسة -يا أخي الكريم-، الصداقة، البرامج، العمل الخيري، البيوت، الوظائف تحتاج إلى هذه الجلسات الإيمانية، فتحتاج إلى أن تُذكر بقضية الإخلاص، وتحتاج إلى أن تدرك الإخلاص، وأن تُحب الخير لنفسها، وتحب الخير للآخرين، وأن ترفع الجهل عن نفسها، وترفع الجهل عن الآخرين، وبهذه الصورة يتحقق الإخلاص.
إدراك المفهوم الشرعي للنية والإخلاص في واقع الحياة
وهذا تطبيقٌ آخر: أن يدرك المفهوم الشرعي، والبعض يقول لك: الإخلاص، وما يدري، يظن أن القضية قضيةٌ معنويةٌ غير مُدركةٍ، ليس لها إدراكٌ، وذكر العلماء ذلك: أن الإنسان يطلب العلم: كيف إخلاصه في ذلك؟ أن يريد بذلك رفع الجهل عن نفسه، ورفع الجهل عن الآخرين، بهذه الصورة يتحقق الإخلاص، وذكر هذا الكلام الشيخ ابن عثيمين، رحمة الله عليه[9]"مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين" (14/ 113)..
هذا الحادي عشر: إدراك المفهوم الشرعي للنية والإخلاص في واقع الحياة.
عودًا إلى الجلسات الشبابية والأسرية والأصدقاء، وقد ذكرنا نموذج تعليم الصحابة لأبنائهم، فكم نحن بأمس الحاجة إلى جلساتٍ مع الأسرة، ومع طلابنا، ومع الأصدقاء، وتكون القضية مرتبطةً بقراءة آياتٍ والتعليق عليها، والوقوف مع القضايا الإيمانية، والوقوف مع قضايا يوم القيامة؛ مما يُعين على قضية ربط القلوب بالله ، وإيجاد الإخلاص في هذه النفوس.
لذلك انظروا إلى المعايشة التربوية، فالرسول كان معه ابن عباسٍ رضي الله عنهما رديفه[10]"صحيح البخاري" (2/ 132).، فاستغل الرسول هذا الموقف، وكم عندنا من فرصٍ مع أبنائنا، لكن لا نستثمرها، ومع الآخرين ولا نستثمرها، حتى الصغار، وكان ابن عباسٍ صغيرًا، فماذا قال؟
يا جماعة، هذا حديثٌ عظيمٌ جدًّا، نحن نعرفه ونحفظه، لكنه يحتاج إلى تأملٍ في زرع قضية الإيمان، وزرع العقيدة، وزرع قضية الإخلاص: يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيءٍ لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف[11]أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5302)..
استغلال الفرص والأحداث
الثاني عشر من التطبيقات: استغلال الفرص والأحداث، وهذه قضيةٌ من القضايا المهمة جدًّا، ونحن نعيش أحداث إخواننا في سوريا، وهذه المأساة الكبيرة، والرسائل المشاهدة تترى في كل لحظةٍ عبر جوَّالات الجميع، فهذه فرصٌ ثمينةٌ كي نقف مع أنفسنا، ونقف مع أبنائنا، ونقف مع أجيالنا، ونقف مع الطلاب، ونقف مع المجتمع، ويقف الشباب مع أنفسهم، يقفون ويتدبرون نعمة الله عليهم، ونُعلمهم أن هذه القضية بيد الله ، ونربطهم بقضية: أن القوة لله ، وأن الله قادرٌ على كل شيءٍ، وما يحصل في هذا الكون لا يكون إلا من الله .
قضية الإلحاد: ينبغي أن نستغل هذه الفرصة بتوضيح خطورته على الشباب، فالشباب يتمردون على العقيدة، ويتمردون على الإيمان، ويتمردون على التوحيد، فاللازم في هذا الأمر أن يُوجه الأب ابنه، وأن يُوجه المعلم طالبه، وأن يُوجه الزملاء بعضهم بعضًا، وأن يُوجه الشباب أنفسهم، فالشخص يُوجه نفسه، فيقف وقفة تأملٍ، وهذه من القضايا المهمة جدًّا، فلا يلزم أن يكون هناك مُرَبٍّ ومُتربٍّ، قد يؤثر الإنسان على نفسه بنفسه، وهذه القضية لها نظرياتها، لكنها من حيث الواقع موجودةٌ.
المُحاسبة: الجانب الشرعي جزءٌ من هذه القضية: أن يُحاسب الإنسان نفسه، ويُحدِّث نفسه؛ حتى يستطيع أن يُعدل من سلوكه، وستأتي بعض التطبيقات المتعلقة بهذا الجانب، إن شاء الله تعالى.
النقطة الثالثة عشرة: الضبط الذاتي
من التطبيقات المناسبة للنية والإخلاص: الضبط الذاتي، وقد لخصها ابن القيم -رحمه الله- عند حديثه عن إرادة الإنسان القيام بعملٍ ما، فإنه يسأل نفسه قبل أن يعمل هذا العمل: لماذا؟ هل هو لله، أو ليس لله؟ فإن كان لله يُقدم، وإن لم يكن لله يُحْجِم.
هذا الأسلوب يُسميه أهل الاختصاص في المدارس النفسية: أسلوب الضبط الذاتي: أن تضبط نفسك بمعيارٍ، وتسأل نفسك هذا السؤال، وهذا من الأساليب الناجعة جدًّا يا إخواني، وله أصولٌ في أدبيات شريعتنا: أن الإنسان يُؤثر هو بنفسه، فيُلزم نفسه إلزاماتٍ معينةً، فيُحاور نفسه، ويضع لنفسه شيئًا يقوم به بنفسه، ولا ينتظر غيره أن يقوم به، أو يُؤثر فيه.
فأنت ضع نُصب عينيك هذا السؤال، وعلم الآخرين أن يضعوا هذا السؤال نُصب أعينهم، وهو سؤال: لماذا أفعل هذا الفعل؟ لماذا أعمل هذا العمل؟ لماذا أقوم وأقدم أمام الناس؟ لماذا أصلي إمامًا بالناس؟ لماذا أذهب إلى الوظيفة؟ إلى آخر تلك الأسئلة التي يمكن أن تأتي.
فهذا السؤال يجعلنا نعيش شيئًا مما كان يعيشه سفيان الثوري، وهو: "ما عالجتُ شيئًا أشد عليَّ من نيتي"[12]"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 17).، ليس هناك إشكالٌ أن يحصل جانب التجاذب، وكما قلنا: المجاهدة، المشكلة حين يكون هناك ارتخاءٌ: أن الأمور جيدةٌ، أو اليأس -والعياذ بالله- والقنوط: و"كلا طرفي قصد الأمور ذميم"، أما النية ففيها مجالٌ للأخذ والعطاء والتردد، ومجالٌ للمجاهدة.
والحمد لله أن جاءنا مثل سفيان الثوري، هذا العالم الرباني الفذّ، وقال هذه المقولة؛ حتى نأنس بكلامه، ونجعل شيئًا من الإيناس لأنفسنا.
الأسلوب الرابع عشر: العناية بالعبادات
مهمٌّ جدًّا أن يكون ضمن برامجنا مع أنفسنا، وبرامجنا الأسرية، وبرامجنا مع الزملاء والأصدقاء: كبارًا وشبابًا، ذكورًا وإناثًا، في المدارس ... إلى آخره؛ أن تكون هناك عنايةٌ بالعبادات، واهتمامٌ بالعبادات قدر المُستطاع، يعني: العبادات المحضة، فالصلاة لها قدرها.
أعجبني أحد المسؤولين لما عُيِّن قريبًا في إحدى الوزارات عمم على موظفيه تعميمًا ينمُّ عن تواضع هذا الرجل، ويؤكد أن الأثر الذي سنجده في أعمالنا من إنتاجٍ هو من خلال علاقتنا بالله، ومحافظتنا على الصلاة في المسجد، وهذا النموذج نحن بأمس الحاجة إليه؛ أن يقوله وزيرٌ، وأن يقوله ملكٌ، وأن يقوله عالمٌ، وأن يقوله معلمٌ، وأن يقوله فردٌ، وأن يقوله أبٌ، وأن يقوله صديقٌ.
فنحن نحتاج إلى مثل هذه القضايا: العناية بالعبادات.
وقد سألت واحدًا من الشباب المُتدين وقلت: أنا أسألك سؤالًا واصدقني القول: أنا أعرف أن هناك تقصيرًا حتى عند الشباب المتدين في قضية التبكير إلى الصلاة، وما شابه ذلك، فقال لي: صحيحٌ.
قلت: سأضع لك حالةً معينةً افتراضيةً وأنت من خلالها تصور ماذا أنت؟
ما عندك شيءٌ، ومتوضئٌ، وأذن المُؤذن، ولا يوجد والدان، ولا يوجد أحدٌ بجوارك، ولا (إنترنت)، ولا (بلاك بيري)، ولا (آيفون)، ولا غير ذلك، فأنت مقطوعٌ تمامًا من كل شيءٍ، وأنت متوضئٌ، فماذا يحصل لك في اتجاهك للصلاة؟ هل تشعر بثقلٍ شديدٍ عندما تريد أن تذهب قبيل الإقامة، أو مع الإقامة؟
قال: والله نعم، أشعر بثقلٍ شديدٍ جدًّا. يعني: يمكن أن يجلس يُسامر ويتكلم، ويقف عند المسجد ... إلى آخره، لكن أن يتجه إلى المسجد! مع أني افترضت له أن كل القضايا بعيدةٌ عنه، فكل القضايا ليست موجودةً، ومع ذلك يشعر بالثقل؛ لأن (الدينامو) الداخلي ضعيفٌ: النية والإخلاص والإيمان ضعيفٌ.
لذلك نحن نحتاج إلى العناية بالعبادات، ونحتاج إلى الاهتمام بأصول الدين في مثل قضايا التوحيد، ومثل قضايا الصلاة، وأمثال ذلك، نحتاج أن نهتم لأنفسنا ولغيرنا من الناس.
الخامس عشر: الأسلوب المعرفي والعقلاني الانفعالي
وهذا من الأساليب التطبيقية المهمة جدًّا لإيجاد وتربية النفوس على قضية النية والإخلاص والإيمان.
ابن القيم -رحمه الله- هذا الرجل المُربي، الجدير بأن يقال عنه: عالمٌ نفسانيٌّ، وعالم تربيةٍ، عندما يتكلم عن قضية سلوك الإنسان وعمل الإنسان يقول: إذا عمل المؤمن عملًا فعليه أن يأتي بشهادتين: يشهد على نفسه بالتقصير، ويشهد لله بالمِنَّة.
وكما يقول أهل الاختصاص: هذا حوارٌ معرفيٌّ عقلانيٌّ انفعاليٌّ بين الإنسان ونفسه، فحين تقف مع نفسك كما وقفنا مع أنفسنا في الضبط الذاتي قبل قليلٍ، فتسأل نفسك: لماذا؟ هنا تقف مع نفسك وتقول: أنا عملتُ، وفَّقني الله، أنا أتيتُ للصلاة فعلًا، لكن أنا مُقصرٌ، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فظنت عائشة رضي الله عنها أنهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر، فبين لها النبي أنهم الذين يُصلون ويتصدقون، لكن يخشون أن الله لا يقبل منهم هذا العمل.
هذا الشعور بالتقصير هو الدافع لزيادة العمل، ونحن مشكلتنا حتى في أنفسنا -نسأل الله العافية والسلامة- وحتى في أهل التدين وغير عامة الناس: أن الإنسان يأنس بالعبادة التي عملها ولو كانت قليلةً.
فالمعايير التربوية النفسية النبوية غير موجودةٍ أو قليلةٌ، والرسول أعطانا معيارًا عظيمًا في مثل هذه الأمور، وهو: أن ننظر إلى مَن هو أعلى منا في الأمور التي تُقربنا إلى الله ، أما في أمور الدنيا فحتى لا نزدري نعمة الله علينا فإننا ننظر لمَن هو أسفل منا.
الناس ينظرون للعقارات، وينظرون للأموال، وينظرون للوظائف، وربما لا يهدأ بال أحدهم تجاه هذه الأمور، لكنك تجده في قضايا الدين يقول: "الحمد لله، أنا أحسن من غيري"، فهذه معادلةٌ خلاف منهج النبي .
فلا بد أن نربي أنفسنا لإعادة ترتيب هذه المعادلة، فتشهد على نفسك بالتقصير، وتشهد لله بالمِنَّة، فيجعلك هذا مُتواضعًا، ومستمرًّا في العمل، وهذا علاجٌ معرفيٌّ عقلانيٌّ انفعاليٌّ يؤثر في النفس، ويعرف أهل الاختصاص هذه الألفاظ على أية حالٍ.
التطبيق السادس عشر: تقوية الإرادة
لعل هذه القضية يكون لها في المستقبل حديثٌ، وأرجو أن يكون خاصًّا، لكن يُستدل في هذا بكلام سفيان ذاته، فسفيان -رحمه الله- كان يُصارع نفسه، والله يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
يقول سفيان: "ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي"[13]"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 17)..
فنحن نحتاج هذه القضية: أن نُقوي إرادتنا، وأن نُقوي إرادة بعضنا البعض، وأن نُقوي إرادة مَن تحتنا من الطلاب، ومن الأبناء، والشاب يُقوي إرادته ... إلى آخره، من أجل أن يحصل السبق في قضايا الإيمان، فهذه القضايا لا تأتي بالراحة: ألا إن سلعة الله غاليةٌ، ألا إن سلعة الله الجنة[14]أخرجه الترمذي في "سننه" (2450)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6220)..
ولذلك تستغرب من استنفار الطاقات في أمورٍ دون قضايا الإيمان، ولما تأتي قضايا الإيمان تجد الضعف في هذا الأمر، وكل واحدٍ أدرى بنفسه، فقد يتحدث الواحد بهذا الكلام وهو أحوج ما يكون إليه، لكننا نحتاج أن نُذكر أنفسنا وإخواننا بهذا الأمر.
السابع عشر: الحماية من ذنوب الخلوات والانحرافات الخفية الفكرية
وهذه من أعظم القضايا التي تربي على الإيمان وزيادته، وعلى الإخلاص: أن الإنسان إذا خلا لا أحد ينظر إليه إلا الله ، فليحذر من انتهاك حُرمات الله سلوكيًّا أو فكريًّا.
بعض العلماء السابقين كان عندهم ذكاءٌ، ثم انحرفوا وأتوا ببدعٍ ضخمةٍ، وأصبحت طوائف تُنسب إلى مثل هؤلاء الناس، يعني: انعزل عن الناس وخلا، وأخذ يُحدِّث نفسه بأمورٍ معينةٍ: كيف يحصل هذا؟ وكيف تحصل هذه الأمور؟ والصلاة تجب أو ما تجب؟ ... إلى آخره، وقضايا في الذات الإلهية، حتى خرج بعقيدةٍ كعقيدة الجهمية بعد أن كان رجلًا مُصليًا، وما شابه ذلك.
لا بد أن نُعلم أنفسنا وغيرنا، ونكون كالرجل الذي جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، لأن أَخِرَّ من السماء أو من شاهقٍ خيرٌ من أن أتحدث بما في نفسي. فقال النبي : الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة[15]أخرجه أحمد في "مسنده" (2097)، وقال محققه: إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين.، وفي روايةٍ: الحمد لله، ذاك صريح الإيمان[16]أخرجه مسلم (132)..
هذا الرجل وقع في وسوسةٍ متعلقةٍ بالذات الإلهية، وفهمها النبي ، وهو أتى للنبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي طمأنه؛ لأنه بمجرد أن أتى ووضع يده بين يدي المربي زال كل هذا، أما إذا استرسل في الأفكار، ستُصبح الخاطرة فكرةً، والفكرة إرادةً، والإرادة عملًا، والعمل عادةً، كما يقول ابن القيم[17]"الفوائد" لابن القيم (ص174).، وإنما سدَّ الخاطرة ابتداءً من خلال ذهابه للنبي .
مثل: الشاب الذي كانت عنده رغبةٌ في الزنا، فأتى وجلس بين يدي النبي ، وبكل جرأةٍ وصراحةٍ قال: ائذن لي يا رسول الله في الزنا[18]أخرجه أحمد في "مسنده" (22211)، وصححه الألباني في "مختصر السلسلة الصحيحة" (370)..
فالرجوع إلى أهل الفضل والعلم حمايةٌ، والرجوع إلى المربين حمايةٌ، وقد ذكرنا هذا سابقًا، لكن هنا نحتاج إلى الحماية في الخلوات؛ لأن هذا هو المحك، فعندما يختلي الإنسان لا يراه أحدٌ إلا الله ، ويكون بين يديه هذا الزر عبر (الإنترنت)، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلام الجديد، ... إلى آخره، فماذا يحصل؟ لا أحد من البشر يرى الإنسان، وباستطاعته أن يضغط هذا الرابط الذي ربما لم يُفكر فيه، ولم يضع في باله أن يدخل إليه، لكنه رأى شيئًا أثاره؛ كصورةٍ معينةٍ، فبدأ يُحدث نفسه: أضغط أو ما أضغط؟ فالبعض ينهزم، والبعض يفوز وينتصر.
وهكذا نحتاج أن نُقوي هذه القضايا من خلال حماية أنفسنا في هذه المحكات، وهي ذنوب الخلوات والانحرافات الفكرية الخفية.
توظيف التقنية في خدمة الإيمان
الثامن عشر -قبل الأخير-: توظيف التقنية في خدمة هذا المقصد العظيم قبولًا ورفضًا، وهذا تطبيقٌ مهمٌّ جدًّا في عصر التقنية، ونحن بحاجةٍ إلى هذا التوظيف الذي يساعدنا ويساعد أجيالنا في استخدام التقنية بما يُعيننا في قضايا الإيمان والإخلاص والنية، فلماذا لا تُوظف (الفلاشات) ومشاهد (اليوتيوب) ... إلى آخره في بيان عظمة الله ؟
نرى بعض المشاهد والمقاطع التي يبثها الناس عبر (الواتس آب)، ويبثها الناس عبر (الإيميلات)، ويبثها الناس عبر (الفيس بوك) و(تويتر)، وهذا جميلٌ جدًّا، والناس اليوم -وخاصةً الشباب: ذكورًا وإناثًا- ارتبطوا بهذه التقنية الحديثة، فلماذا لا نُقدم لهم هذا المنتج التقني المتعلق بالإيمان، والمتعلق بالإخلاص، والمتعلق بالنية؟ فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
أعرف قصة أحد الأشخاص: كان لديه انحرافٌ فكريٌّ، هذا الانحراف تاب الرجل منه عندما مرَّ بأحد المناشط الخيرية الدعوية، ورأى من خلال عرض (الفيديو) شيئًا يُذكِّر بالله وبالموت وبيوم القيامة، فهزَّ نفس هذا الإنسان الذي هو بعيدٌ عن الله، ويقول عن نفسه: أنا ما دخلت هذا المكان وأردت الخير لنفسي، بالعكس: أنا دخلته ساخرًا، مُستهزئًا، لكني قلت لنفسي: دعني أنظر ماذا عند هؤلاء القوم؟
فاستخدام الموعظة من خلال التقنية مهمٌّ جدًّا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
فالنفوس مهما غفلت فإنها تحتاج إلى مَن يهزها، فعندما يُعرض له في التقنية مثل هذه الأشياء المُثيرة في (الفلاشات) وأمثالها، فلا شك أن هذا من التوظيف الجميل والرائع، وعلى قدر هذه الفرص الموجودة هناك فرصٌ سلبيةٌ مضادةٌ للإيمان، وهذا -بلا نقاشٍ- كثيرٌ وموجودٌ، والمضاد في التقنية للإيمان وحاجز الإيمان ضخمٌ جدًّا، حتى قال أحد الأطباء النفسيين -وسمعت هذا منه مباشرةً، جزاه الله خيرًا-: اليوم نحن في عصر تفجر الشهوة والثورة الجنسية.
ويحدثني أحد طلابنا في الكلية -وهو من المتميزين والأوائل على الكلية- أنه قبل فترةٍ قريبةٍ وهو في مسجدٍ من مساجد الدمام رأى اثنين من الطلاب في مرحلة الرابع ابتدائي، ومعهم (بلاك بيري)، فكانوا يأخذون ويعطون ويفعلون حركاتٍ استغرب هو منها، فتطفل صاحبنا، وهو ذكيٌّ -ما شاء الله عليه، تبارك الله- ولطيفٌ في التعامل، فأخذ جوَّال أحد الأولاد، يقول: والله إني رأيت فيها أفلامًا جنسيةً إباحيةً منتهيةً!!
يعني: الأبناء خارجون من المسجد، وهم في عمر الزهور، غير مُكلَّفين، فكيف أتت هذه إلى أجهزتهم؟ كيف أتت إليهم؟
وسيكون لنا حديثٌ عن التقنية وجيل التقنية وما يتعلق بها في سلسلةٍ قادمةٍ إذا يسر الله وأعان.
الإعلام
ومن التقنية: الإعلام، وقد سمعت أحد الإعلاميين يقول: الإعلام مزلَّة أقدام.
وسمعت أيضًا من إعلاميٍّ آخر: الشاشة غشَّاشة.
لذلك حتى الجانب الإعلامي قد يكون فرصةً ثمينةً لأن يحيي الإنسان قلوب الناس بالإيمان، ويحيي نفسه، وقد يكون غير ذلك؛ فتزل قدمه في هذه التقنية الكبيرة جدًّا.
وقد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الأتباع وكثرتهم، فالإنسان يحرص على نظر الناس وهو يريد أن يُرسل (تغريدته) في (تويتر)، فيسأل نفسه: كم يزيد العدد؟ ويبحث عن المتابعين له، وكم وصل العدد؟ وما شابه ذلك.
فهناك فرقٌ بين هذا وبين مَن لا يُفكر في هذه القضايا، وإنما يُفكر في إفادة الناس، ونفع نفسه، ونفع الآخرين.
الاهتمامات والأولويات
النقطة التاسعة عشرة والأخيرة: الاهتمامات والأولويات، وهذه من التطبيقات المهمة جدًّا عند الأجيال، فما هي اهتماماتنا؟ وما هي أولوياتنا؟
في دراسةٍ طُبِّقت على المجتمع السعودي مُؤخرًا حول الاهتمامات والأولويات، وقد طُبِّقت على ألفٍ وخمسمئة طالبٍ جامعيٍّ تتراوح أعمارهم بين ثمانية عشر إلى ستةٍ وعشرين في مناطق المملكة، ومنها المنطقة الشرقية، ولعلي أقرأ لكم ما توصلت إليه هذه الدراسة:
87 % أولى الاهتمامات والأولويات عندهم: الاستقرار المادي.
85 % فرص الحصول على العمل.
78 % قضاء وقت الفراغ مع (الإنترنت).
75 % مشاهدة التلفاز.
47 % قراءة الكتب.
24 % العمل التطوعي.
71 % مما يُشاهدونه: المسلسلات.
69 % يشاهدون الأفلام العربية والغربية.
68 % يتابعون الرياضة.
55 % يتابعون الأعمال الدينية.
44 % يتابعون الأعمال العلمية.
81 % من هذه العينة راضون عن أنفسهم!
مع هذه النِّسب هم راضون عن أنفسهم!
هكذا يتوهم الإنسان أنه إذا كان في بيئة رعاية الإخلاص والنية ورعاية الإيمان فمن الطبيعي جدًّا أنه إذا كانت اهتماماته دنيويةً سيكون منتجه دنيويًّا.
إذا كان همُّ الأسرة الأكل والشرب، وإذا مرض راعوه، وهذا حقٌّ، لكن أين الاهتمامات الأخرى؟!
وإذا كان همُّ المعلمين القضية المعرفية البحتة، وإذا كان همُّ الأصدقاء فيما بينهم: كيف يأنسون ببعضهم البعض ليس إلا؟ فإن المشاريع الإيمانية والمشاريع الخيرية التي تُقرب إلى الله ستكون ضعيفةً؛ وستحتاج القضية إلى رعايةٍ واهتمامٍ.
الرسول وقف في القصة المشهورة موقف المُربي: قصة عجوز بني إسرائيل، فالرسول من تواضعه زار أعرابيًّا، وأكرم الأعرابي الرسول ، فقال الرسول : تعاهدنا، أي: تعالَ إلينا، فأتى الأعرابي إلى النبي ، فقال النبي : سَلْ حاجتك؟ يريد أن يردَّ له الجميل، وأنت عندما تكون بين يدي النبي ويقول لك: سَلْ حاجتك؟ فهذه فرصةٌ ثمينةٌ.
انظروا إلى الاهتمامات والأولويات، قال: ناقةً برحلها، وأعنزًا يحلبها أهلي. أريد الناقة والعنز، طلب من النبي الناقة والعنز!
هذه اهتمامات صاحبنا رضي الله عنه وأرضاه!
في هذا الموقف النبي يقول له وللموجودين: أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ العجوز صارت أحسن من هذا الرجل!
ثم قصَّ قصة العجوز في قصة موسى وقومه لما تاهوا في خروجهم من مصر، ثم تكلم العلماء عن السبب: نحن بيننا وبين يوسف عليه الصلاة والسلام عهدٌ بأننا لا نخرج من مصر إلا ومعنا جثته وجسمه، يعني: جاء في الخبر: "عظامه" أي: جسده، فقال موسى : ومَن يعرف قبر يوسف؟ قال العلماء: ما يعرفه إلا عجوزٌ، فنادى هذه العجوز، فقال لها: دلينا على قبر يوسف حتى نطلع من هذه الأزمة، قالت: لا والله، لا أفعل حتى تُعطيني حكمي. قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره موسى أن يُعطيها حكمها؛ لأنه لا يضمن لها الجنة، فأوحى الله إليه: أن أعطها حكمها، فقال لها: أنت معي في الجنة، فذهبت بهم إلى موقع مُستنقع ماءٍ، فقالت لهم: انضبوا -أي: جفِّفوه- ثم احفروا وأخرجوا جسد يوسف، يقول النبي : فلما أقلُّوها إلى الأرض أي: رفعوها إلى الأرض، إذا الطريق مثل ضوء النهار[19]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، وصححه الألباني لغيره في "التعليقات الحسان" (721).، فأدرك موسى ومَن معه الطريق، فانتهى التِّيه والضَّياع الذي كانوا يشعرون به.
انظروا إلى الفارق بين الاهتمامات والأولويات عند الأعرابي وعند العجوز، وهذا الذي جعل النبي يقول: أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟.
فنحن بأمس الحاجة إلى أن نقيس أنفسنا بغيرنا: هل الاهتمامات هي على طريقة الأعرابي، أم على طريقة العجوز؟
يعني: الشباب الذين ذكرناهم قبل قليلٍ: الألف وخمسمئة، جزءٌ منهم مُرتبطٌ بالأعرابي، لكن هناك جزءٌ تحت الخط الأحمر، صحيحٌ أم لا؟ يفعلون ما لا يرضاه الله .
هل سأل الأعرابي حلالًا أم حرامًا؟
حلالًا، ومع ذلك وجَّهه الرسول ، واستدرك عليه، وجزمًا لبَّى النبي طلبه، لكنه وجَّهه إلى الخير؛ لأن النبي أراد أن يربط هذه النفوس بما هو أعظم من قضية الدنيا، والنفوس بأمس الحاجة إلى ذلك.
برامج المحاضن التربوية: البيوت، المدارس، الدوائر الحكومية، كلها بأمس الحاجة إلى العناية بأعمال القلوب، والإيمانيات، والتعلق بالآخرة، ونحن نؤكد على هذه القضية.
ذكرت لكم قصة هذا المسؤول، وتذكرت قصة مسؤولٍ آخر بإحدى المناطق في إحدى الوزارات أو إدارات العموم، يقول هذا -وكنت معه في مجلسٍ-: أتاني شخصٌ بعدما عُيِّنت. وكان مديرًا عامًّا على إحدى المناطق، يقول: أتاني شخصٌ فقال لي: ما شاء الله، تبارك الله، مبروك، الله يعطيك الصحة والعافية، وجهودك جبارةٌ، وحقيقةً كل ما رأيناه ... مع أن الرجل عُيِّن الآن! لكنه المدح والثناء، يقول: فتركته ينتهي، وقلت له: أخي الكريم، الجهود التي تتكلم عنها جهود مَن كان قبلي، وأنا بعد سنتين سأترك هذا المنصب، فإذا جئتَ للذي بعدي فاعلم أن الجهود التي تُثني عليها ليست هي جهود مَن تلتقي معه.
هذا التواضع، وهذه المصارحة والوضوح، والبعض يُصدِّق؛ لأن قلبه مربوطٌ بالثناء والمدح والدنيا، الحمد لله، هذا إذا وُفِّق أن يحمد الله ، ويأنس بهذا الثناء، وبهذا المدح، وحقيقةً هذا ليس شغله، وإنما شغل غيره.
وللعلماء كلامٌ في هذه القضية الخطيرة، وأنا سمعتها من الشيخ ابن قعود -رحمة الله عليه-، وقد عدَّها بعض العلماء من مداخل الشرك الخفي، وحضرتُ له خطبةً في الرياض فسمعته يتكلم عن هذه القضية، وأهل التوحيد والعقيدة يدركون شيئًا من هذا القبيل.
إنه إنسانٌ يُثنى عليه بما ليس أهله! فنحتاج أن نجعل هذه القلوب مُعلقةً بالله ، وأن نحرص على أمور البواطن: ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[20]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599)..
الذي جاء ومدحه وقال: أنت المسؤول، وما شاء الله، جهودك كبيرةٌ، وهو الآن مُعيَّن!
وصاحبنا الآخر الذي وجَّه الناس الموجودين بخطابٍ رائعٍ إلى أداء الصلاة جماعةً في الوزارة، وأن هذا هو أثره المُتعدي إلى العاملين -جزاه الله خيرًا-، وهو أحد الوزراء الذين عُيِّنوا قريبًا، وهذه لفتةٌ عظيمةٌ جدًّا، وخطابه اطلعتُ عليه، وانتشر، ورأيته عبر التقنية، وهو يدل على أن هذا الرجل مُوفَّقٌ، جزاه الله خيرًا، نحسبه، والله حسيبه، والحي لا تُؤمن عليه الفتنة.
الإخلاص يستلزم عدة أمورٍ
أيها الإخوة، أخيرًا موقف الإخلاص يستلزم منا عدة أمورٍ، منها:
أولًا: الاستمرارية، يعني: الإخلاص ليس مرتبطًا بلحظاتٍ وأوقاتٍ ومواسم الحج أو العمرة في رمضان فقط، لا، بل في كل وقتٍ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
ثانيًا: التكامل، ليس الإخلاص فقط في دائرة موضوع الإخلاص، فله علاقةٌ بأمورٍ أخرى، فالإخلاص له ارتباطٌ بقضية العمل، وله ارتباطٌ بقضية العلم؛ لذلك النظرة التكاملية مهمةٌ: ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله[21]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599)..
وهذا الذي سنتطرق إليه -إن شاء الله تعالى- في اللقاء القادم من الأسبوع القادم، سنبدأ بموضوع العمل والقدوة، بإذن الله .
ثالثًا: من القضايا التي يستلزمها الإخلاص: العلم، لا بد أن يتعلم الإنسان ما يرتبط بزيادة الإيمان والإخلاص، ويطلع على هذه القضايا ويتعلمها، فهي قضيةٌ مهمةٌ في موقف الإخلاص.
رابعًا: التدرج، فقضية الإخلاص الواحد منا قد تكون عنده معاناةٌ كمعاناة سفيان الثوري -رحمه الله-، والقضايا تأتي بالتدرج.
والبعض -للأسف- ينهزم عند مراحل معينةٍ، ومن الطبيعي أن يُشمر الإنسان ويُجاهد نفسه، وسوف يُحصلها شيئًا فشيئًا، بإذن الله .
خامسًا: الأمانة، وهي من الأشياء التي يستلزمها الإخلاص: أمانة حفظ حق الله ، وحفظ حق الناس، فإذا وجدت هذه القضية حصل الإخلاص، بإذن الله .
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
ونصلي ونُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
↑1 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (276). |
---|---|
↑2 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص48). |
↑3 | "المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام" لابن تيمية (1/ 153). |
↑4 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص42). |
↑5 | صحيح البخاري (5/ 161). |
↑6 | "المدخل" للعبدري (1/ 1). |
↑7 | "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم" لابن رجب (1/ 70). |
↑8 | "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 17). |
↑9 | "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين" (14/ 113). |
↑10 | "صحيح البخاري" (2/ 132). |
↑11 | أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5302). |
↑12 | "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 17). |
↑13 | "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 17). |
↑14 | أخرجه الترمذي في "سننه" (2450)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6220). |
↑15 | أخرجه أحمد في "مسنده" (2097)، وقال محققه: إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين. |
↑16 | أخرجه مسلم (132). |
↑17 | "الفوائد" لابن القيم (ص174). |
↑18 | أخرجه أحمد في "مسنده" (22211)، وصححه الألباني في "مختصر السلسلة الصحيحة" (370). |
↑19 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، وصححه الألباني لغيره في "التعليقات الحسان" (721). |
↑20 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |
↑21 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |