المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذه اللقاءات لقاءاتٍ مباركةً، وأن ينفعنا وإياكم بها، وأن يجعلها خالصةً لوجهه على هدي نبينا محمدٍ .
كنا قد فرغنا في اللقاءين الماضيين من قضية النية، والتطبيقات التربوية والنفسية فيما يتعلق بالنية والإخلاص والإيمان.
وإن كان لي -كما يُقال- من إنهاءٍ لهذه النقطة، وإن كانت هذه النقطة لا تنتهي، لكن مع دعاء الشيخ وقنوته -جزاه الله خيرًا- وقنوت أئمة المساجد لإخواننا المسلمين في سوريا، نسأل الله أن ينصرهم، وأن يُعينهم.
هذا نموذجٌ حيٌّ من نماذج العودة إلى الله ، وقضية إخلاص الأمر لله ، وأن هذه المحن فرصةٌ لتعبيد هذه النفس لله ؛ ولذلك ينبغي أن تتهيأ النفوس لمثل ذلك، وكل بلدٍ أدرى بنفسه في مستوى التدين من قوته وضعفه.
لا نريد أن نتكلم عن هذه القضية، لكن حينما تأتي مثل هذه المحن، ويلجأ الناس إلى الله ، فهذه فرصةٌ عظيمةٌ جدًّا، ولا شك أنها تدل على إدراك الناس، حينما نسمع الهتافات في اللجوء إلى الله ، وفي أن الأمر لله من قبل ومن بعد، لا شك أن هذا تطبيقٌ عمليٌّ كبيرٌ لما تكلمنا عنه في اللقاءين الماضيين حول النية والإخلاص والإيمان.
إذا علم الله من قلب العبد إرادة النفع نفع به
وقعتُ على مقولةٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية تصلح لإنهاء الموضوع السابق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا علم الله من قلب العبد إرادة النفع نفع به"[1]"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (8/ 396)..
وهذا ميزانٌ أشرنا إليه سابقًا في موضوع النية، وعلمنا أن لإدراك النية معايير، والبعض قد تُشكل عليه قضية: إرادة الخير للنفس وللآخرين، ورفع الجهل عن النفس وعن الآخرين.
كل هذه -كما قال العلماء- تدخل في قضية النية الصادقة والإخلاص والإيمان.
شيخ الإسلام يقول: "إذا علم الله من قلب العبد إرادة النفع" يعني: هو يريد، والأمر هنا عملٌ قلبيٌّ، وهو الإخلاص، يريد النفع.
يقول شيخ الإسلام: "نفع به"، يعني: سينفع الله بهذا الإنسان، سينفع به بسبب إرادته للنفع وإخلاصه لله في هذا العمل.
طالب الآخرة دائم اليقظة
لابن الجوزي كلامٌ جميلٌ في كتابه العظيم "صيد الخاطر"، عقد فيه فصلًا عن أن طالب الآخرة دائم اليقظة، وذكر أن همَّة المؤمن مُتعلِّقةٌ بالآخرة، فكل ما في الدنيا يُحرِّكه إلى ذكر الآخرة، وكل مَن شغله شيءٌ فهمَّته شغله.
ثم ذكر أنه عندما يدخل الصُّنَّاع إلى دارٍ تجد أن البزاز ينظر إلى الفرش، والنجار ينظر إلى السقف والخشب، وذاك ينظر للحائط، فكل صانعٍ ينظر إلى ما يشغله[2]"صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص411)..
إذن هكذا يتربى الإنسان على الإخلاص والإيمان بالله ، وستكون قضاياه الدنيوية مرتبطةً بما يُقربه من الله ، وهذه نعمةٌ عظيمةٌ يُنعم الله بها على العبد.
ولذلك فإن طالب الآخرة دائم اليقظة، والناس مُتفاوتون في ذلك الأمر: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، جعلنا الله وإياكم منهم.
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في "صحيح ابن ماجه": مَن كانت الدنيا هَمَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتِبَ له[3]أخرجه ابن ماجه في "سننه" (4105)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (950)..
الآن هذا الذي همّه الدنيا يُفرِّق الله عليه أمره؛ فلا يشعر بجماع الأمر واجتماعه، وإنما بشَتاتِه وفقره، حتى لو كان غنيًّا يُنظر إليه بين عينيه، وكذلك لا يأتيه من الدنيا إلا ما قُدِّر فقط.
قارنوا ذلك مع باقي الحديث، فيقول عليه الصلاة والسلام في باقي الحديث: ومَن كانت الآخرة نيَّته جمع الله له أمره، هناك: فرَّق وشتت، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمةٌ[4]أخرجه ابن ماجه في "سننه" (4105)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (679).، والفرق في ذلك هو موضوع الإخلاص والنية والقصد والإيمان والهمة التي تكون للدنيا أو للآخرة.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن كانت الآخرة همَّه، اللهم آمين.
الإجابة عن الأسئلة
طيب، قبل أن ندخل في المعلم الثاني وهو: القدوة -وهو مَعْلَمٌ كبيرٌ، وهو رديفٌ ولازمٌ لموضوع النية، وربما يأخذ معنا ثلاثة لقاءاتٍ إذا يسَّر الله وأعان، وسيكون لنا لقاءٌ في الأسبوع القادم مستمرٌّ بإذن الله ، بغض النظر عن إجازة الطلاب- نُجيب عن الأسئلة، وقد ورد أربعة عشر سؤالًا، سأُجيب عن عشرةٍ؛ لأن منها أربعة أسئلةٍ فقهيةً، سنُحيلها للشيخ طارق -جزاه الله خيرًا- إذا أحبَّ أن يُجيب عنها الليلة، أو في وقتٍ آخر كما يُحب، أما الأسئلة التي وردت ولها علاقةٌ بالجوانب التربوية والنفسية فسنُجيب عنها بتوفيقٍ من الله وعونٍ.
الترغيب مُقدَّمٌ على الترهيب
يقول السائل: هل من الأفضل في تربية الطفل من سن خمس سنواتٍ إلى سبعٍ أسلوب الترغيب أم الترهيب؟
هذا سؤالٌ لطيفٌ جدًّا ومهمٌّ، فكثيرٌ من ممارساتنا التربوية مع الأبناء -الأطفال وغير الأطفال- تنحو إلى الجانب الترهيبي والجانب التهديدي والوعيدي، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ في التربية.
والذي يستقرئ أدبيات الشريعة يرى غير ذلك، وأيضًا الذي يستقرئ نتاج الواقع -سلبًا أو إيجابًا- يُدرك أن الترغيب مُقدَّمٌ على الترهيب، فالترغيب هو الأصل، ومستوى الإدراك ينمو عند الأطفال، لكن إدراكهم ليس كإدراك الكبير، وعندئذٍ نفوسهم أكثر ميلًا لجانب التعزيز والتحفيز والتشجيع والترغيب، خاصةً في القضايا المادية التي يُلامسونها ويجدونها كما يقول أهل الاختصاص؛ وذلك لأجل قضية مستوى الإدراك عندهم، ولعل أدبيات الشريعة تدل على ذلك.
فالنبي وهو يريد أن يُوجِّه عبدالله بن عمر لقيام الليل -كما ذكرنا سابقًا- قال: نِعم الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل[5]أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479).، فبدأ بالتحفيز، مع أن الرسول يريد من عبدالله بن عمر أن ينتبه لقضية قيام الليل؛ ولذلك قال الراوي: "فما نام من الليل إلا قليلًا"[6]أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479).، يعني: بعد ذلك أصبح يقوم الليل نتيجةً لهذا التوجيه النبوي العظيم.
أيضًا الرجل الذي كان كثيرًا ما يُؤتَى به وهو يشرب الخمر ويُجلد، فقال أحد الصحابة: ما أكثر ما يُؤتى به! فقال : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم[7]أخرجه البخاري (6781).، فوالله ما علمتُ إنه يُحبُّ الله ورسوله[8]أخرجه البخاري (6780).، فذكر هذا الجانب الإيجابي، مع أن هذا الرجل كان يُمارس أم الخبائث، ويُطبَّق عليه الحدُّ.
وكذلك توجيه النبي للأطفال توجيهًا إيجابيًّا، فقال لابن عباسٍ رضي الله عنهما: يا غلام، إني أُعلِّمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك[9]أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7954).، ويقول للآخر: يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك[10]أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022)..
وربما تأتي معنا هذه القضايا في جوانب تفصيليةٍ أخرى، لكن أردتُ الاستدلال بها على أن النبي كان ديدنه التوجيه الإيجابي، وكما هو معلومٌ أن الترغيب أحبُّ للنفوس من الترهيب، فإذا احتاجت النفوس إلى الترهيب ستكون كذلك، لكن مع الأطفال يكون أقلَّ من الكبار.
هذه وجهة نظري، والله تعالى أعلم.
ويُعلَّم الطفل الصواب، كما علَّم النبي هؤلاء الغلمان، ويُعلَّم كذلك الخطأ، كما علَّم النبي الأطفال وغيرهم الأخطاء التي وقعوا فيها.
أما الترهيب فإننا نحتاج أن نقف عنده، ويتمثل الترهيب في العقوبة، ويتمثل في الشدة والغلظة عند البعض، فإذا كان الأمر بهذه الصورة فلا ترهيبَ، وهناك مستوى أدنى.
وسنأتي إلى هذه القضية عندما نتكلم عن موضوع التعزيز -إن شاء الله تعالى-، والعقوبة هناك شيءٌ غير الذي نعرفه في الترهيب.
هناك شيءٌ اسمه: الحرمان، احرم الطفل من شيءٍ على قدر المشكلة التي عنده، احرمه من شيءٍ يُحبُّه لوقتٍ معينٍ؛ ستجد أثر هذه القضية على هذا الطفل، لكن لا يكن شيئًا مُبالغًا فيه، بل مستوًى معقولٌ من حرمان الطفل لهذا الشيء، ولا بد أن يكون يُحبه، وتُخبره أن هذا بسبب تماديه في القضية الفلانية، وبكل ودٍّ ورحمةٍ، لا بقسوةٍ وشدَّةٍ.
كنتُ مرةً في إحدى المدارس الابتدائية، فدخلت المدرسة، وكان ابني فيها، فقال لي أحد المدرسين: أنتم في كلية التربية -جزاكم الله خيرًا- تُعلِّمون المُتدربين قضايا التعليم والتربية؟
قلت: نعم، عساه خيرٌ. ويظهر من هذه المقدمة أن وراءها شيئًا.
قال: عندنا أحد المُتدربين من كُليتكم. وذكر لي اسمه، وأنا أعرفه، وقد درستُ له في مقررٍ خاصٍّ عنوانه "التوجيه والإرشاد" في قضايا تتعلق بتعديل السلوك والجوانب النفسية والتعامل.
فقلت له: هذا أحد طلابي. قال لي: يا أخي الكريم، من أول محاضرةٍ استعمل العين الحمراء، فلما أخطأ أحد الطلاب أخذ الكرسي وضربه به.
قلت له: يا أخي الكريم، ماذا نفعل؟! ليس عندنا علاجٌ سحريٌّ، العلاج الحقيقي هو كما قال الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إذن نحن علَّمنا هؤلاء، وبيَّنَّا لهم، وناقشنا، وحاورنا، ... إلى آخره.
فهذه القضايا خطأٌ، لكن حينما يأتيك أناسٌ ليسوا عقلاء، أو لا يضبطون انفعالاتهم لا شك أن هذه القضية خطيرةٌ جدًّا.
تعزيز الاستخدام الإيجابي (للإنترنت)
يقول السائل: ما الحل الأمثل للتعامل مع الأبناء فيما يتعلق بـ(الإنترنت) والأجهزة المنتشرة في أيدي أبنائنا؟ هل قطع (الإنترنت) وأخذ هذه الأجهزة من أيديهم هو الحل، أم أن هناك حلولًا ناجعةً تجاه هذه المشكلة؟
هذه من القضايا المشكلة عند كثيرٍ من الناس، إن لم يكن الجميع، ونحن مع مثل هؤلاء الإخوان الذين يُعانون من هذه القضية.
أنا سأذكر توجيهاتٍ عامةً تسمحون لي بها، وأرجو أن يكون هناك لقاءٌ في ذلك إذا يسَّر الله، وأن يكون في هذه اللقاءات كلامٌ باستمرارٍ حول التقنية.
من التوجيهات المهمة في الإجابة عن هذا السؤال:
أولًا: إذا جاءت التقنية في إطار محضنٍ تربويٍّ ناجحٍ فإن المشكلات والمفاسد تقلّ، وعندما تأتي هذه التقنية والعلاقة بين الآباء والأبناء ليست مضبوطةً، والتماسك الأسري ضعيفٌ، فتهجم التقنية كما تهجم الآن لحظةً بلحظةٍ؛ فتُصبح الخطورة هنا أشد وأشد.
لذلك لا بد أن نُدرك القضية، ما موقفنا الآن من هذه التقنية؟ وما موقفنا من التربية عمومًا؟
فرقٌ بين أسرةٍ تُربي التربية الصحيحة، وعندما جاءت هذه التقنية استطاعت أن تُقلل من مفاسدها، وأن تستثمر إيجابياتها، وبين أسرةٍ ليس لديها هذه التربية الصحيحة.
هذه النقطة رقم واحدٍ.
ثانيًا: المنع مطلقًا، ما في عاقلٍ يقول: نمنعها مطلقًا، أتحدى أيّ عاقلٍ أن يقول: نمنعها مطلقًا، لكن أيضًا ما في عاقلٍ يقول: نتركها مطلقًا.
المشكلة أن الأولى نسمعها كثيرًا في أطروحات الناس، أما الثانية فلا نسمعها إلا قليلًا للأسف الشديد، مع أن كلا الطرفين ذميمٌ: لا المنع، ولا الترك، لا بد أن نعترف أن عندنا إشكاليةً.
أنا أظن أن الذين يمنعون هذه التقنية قليلون، لو عملنا الآن دراسةً مسحيَّةً على مستوى المنطقة والأُسَر سنجد أن النسبة قليلةٌ، بينما الذين تركوا الحبل على الغارب ستكون نسبتهم كثيرةً جدًّا؛ لذلك ينبغي أن نُدرك هذه القضية.
الأمر الآخر: لا بد من التعويد على مهارات الاستفادة من التقنية، والتعرف عليها، وتعزيز الاستخدام الإيجابي لها، واستثمارها فيما يعود بالنفع على النفس والآخرين في الدنيا والآخرة.
وهذا يستدعي أن يكون لدى الآباء والأمهات اطلاعٌ على قضايا التقنية، وليس شرطًا أن يتعاطوها، لكن جيل التقنية اليوم -الأطفال الصغار والمراهقين- سبقوا الآباء، فلا بد أن يستدرك الآباء هذه القضية ولو بالجانب المعرفي، وأن يطَّلعوا على قضايا التقنية؛ حتى يعرفوا ما هي بالضبط؟ وما إيجابياتها؟ فيحاولوا أن يستثمروا هذه الإيجابيات مع أبنائهم، ويضعوا سلبياتها نصب أعينهم، هذه القضية مهمةٌ جدًّا.
التذكير بالله ومراقبته
وهذه هي التربية الإيمانية التي تكلمنا عنها في اللقاءين الماضيين، وهذه القضية التي تجعل الإنسان والابن والبنت والكبير والصغير إذا خلا بمحارم الله لن ينتهكها، لكن إذا خلا بمحارم الله وانتهكها فهذه علامةٌ من علامات ضعف الإيمان ومراقبة الله .
العقد السلوكي
أيضًا من الأساليب: إيجاد عقدٍ سلوكيٍّ بضوابط، وهذا ذكره أهل الاختصاص، وأنا أعرف بعض الأُسَر التي تمارس العقد السلوكي، ونحن عندنا اتفاقياتٌ بين شركاتٍ وموظفين، واتفاقياتٌ بين جهاتٍ وجهاتٍ، يحصل اتفاقٌ مكتوبٌ وموقَّعٌ عليه بين الآباء والأمهات، وبين الآباء والأبناء، وهذا من الجوانب الرائعة جدًّا.
ولا شك أن هذا العقد إذا جاء في منظومةٍ تربويةٍ ناجحةٍ جاء بنتيجةٍ؛ لأنه صار معيارًا ومرجعًا واتفاقيةً.
أنا أعرف بعض الأُسَر لها ثمان سنوات أو تسعٌ في هذه الاتفاقية، هذه موجودةٌ ومحفوظةٌ عندهم، ويرجعون إليها.
ضوابط العقد السلوكي
هذه الاتفاقية لها ضوابط، ومن الضوابط ما يتعلق بقضية ضبط المكان، وضبط الوقت، وضبط المضمون، وضبط النوع كمثالٍ.
ضبط المكان: فلا نجعل الذي يترك أبناءه سيئًا، ليس شرطًا أن يكونوا سيئي القصد، فالتقنية غلبت الجميع؛ لذلك هم يحتاجون مَن يُساعدهم، فإذا كانت التربية ناجحةً استطاعوا أن يسمعوا منك، واستطاعوا أن يسمعوا من الأم، ما دام التلاحم موجودًا، وإذا وجدت المفاتيح النفسية في التأثير تقبَّل الأبناء.
كنا في لقاءٍ قريبٍ مع طلاب الجامعة، وكان هناك أحد الأعضاء في هيئة التحقيق والادعاء، فكان يتكلم عن أن أغلب القضايا التي ترد إليهم في المشكلات السلوكية والأخلاقية هي بسبب (البلاك بيري)، يقول: معظم القضايا التي تأتينا الآن بسبب (البلاك بيري).
وفتح أحد الموجودين نقاشًا صريحًا مع طلاب الجامعة حول قضية: كيف تتعامل الأُسَر مع التقنية؟
وقد أعجبني أحد الطلاب، وأنا أُدَرِّس له، وهو ليس طالبًا مُتدينًا، لكنه عاقلٌ، فقال: أنا في أسرتي والدي له حق أن يأخذ الجوال وينظر ما فيه. فقال له مَن يُدير الحوار: أترضى بذلك؟ ألا تشعر أنه خصوصيةٌ؟ قال: لا، والدي ربَّاني وتعب من أجلي، وأُحبه كثيرًا، وهذه القضية هي اتفاقٌ بيني وبينه، فله حقٌّ في ذلك.
أنا أقول: هذا المستوى يُعطيك شيئًا من الدلالة حول ما ذكرته في قضية العقد السلوكي في إطار تربيةٍ ناجعةٍ، لكن إذا لم يكن هناك ضبطٌ ولا عقدٌ، وأشد من ذلك: لا توجد تربيةٌ ناجحةٌ؛ ستكون هناك لخبطةٌ كبيرةٌ في التعامل مع قضية التقنية.
وقد دلَّت الدراسات والإحصاءات -كما ذكر الدكتور عبدالكريم بكار في كتابه الجميل "التواصل الأُسري"- على أن أكثر أسباب انهماك الأجيال والأُسَر وأبناء الأسر في التقنية هو ضعف إشباع الجانب العاطفي، وهذا يدل على ضعف التواصل بين الآباء والأبناء.
أهمية عمارة الحياة
يقول السائل: أتمنى تذكير الجميع بأهمية عمارة الحياة وآثارها على النفس وطُمأنينتها.
لا شك أن هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا كما قال الأخ الكريم، والله يقول: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].
الشدة في التعامل سبب الفجوة بين الأب وابنه
يقول السائل: لدي ابنٌ عمره عشرون سنةً، وهو -الحمد لله- يُحافظ على الصلاة، ولكن بيني وبينه فجوةٌ، فهو لا يُحب أن يجلس معي، وقبل أربعة أشهر تقريبًا أرسل لي رسالةً فيها نوعٌ من الخشونة، فقاطعته ولم أُكلمه حتى الآن، وأنا الآن في حيرةٍ من أمري: هل أقوم بالمصالحة، أم أنتظر منه الاعتذار؟ ما رأيكم؟
الآن كلمة "فجوة"، أنا أسأل سؤالًا للأخ الكريم أو الأخت الكريمة: لماذا هذه الفجوة؟ وإذا عرفنا إجابة هذا السؤال استطعنا حل المشكلة.
وأنا أُذكر الإخوان جميعًا بقول الله للنبي : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، هذا الانفضاض تحذيرٌ من الله لنبيه : وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا يا رسول الله سينفض الناس، وكذلك سينفض الأبناء عن آبائهم إذا كانوا غليظين معهم.
وأنا أستخدم هذا السؤال في الاستشارات، وغالبية الإجابات تؤكد فعلًا أن الشدة في التعامل والقسوة وعدم القُرب والتواصل تُسبب إشكاليةً كبيرةً؛ لذلك ينبغي أن نعرف: لماذا هذه الفجوة؟ هذا رقم واحدٍ.
وبالنسبة لقضية المصالحة أنا أرى أن تُبادر إليها، ولا تخسر الابن، أربعة أشهرٍ مقاطعة! هذا فلذة كبدك، تحتاج إلى أن تُبادر، وتستخدم أسلوب الحوار والنقاش، وكذلك عليك أن تتحلى بالرحمة واللين وإشباع الجانب العاطفي.
ولعل السؤال الآخر يُجيب عن بعض القضايا المتعلقة بإكمال السؤال الذي ذكرناه قبل قليلٍ.
من الأساليب التربوية: أسلوب الإهمال والإغفال
يقول السائل: لدي ولدٌ عمره خمس سنوات ونصف، سريع (الزعل) والانفعال عند الحوار في البيت أو خارج البيت عند حاجته لشيءٍ ما، فما طريقة التعامل معه حتى يتخلص من هذه الحالة؟
من أفضل الأساليب في هذه الحالة: أسلوب الإهمال والإغفال، أن يُهمل الأب وتُهمل الأم الطفل في هذه الحالة؛ لأن الطفل في الغالب يحصل عنده ارتباطٌ شرطيٌّ سريعٌ جدًّا، كلما أراد شيئًا (زعل) فيتحقق له هذا الشيء، فيُصبح كلما أراد شيئًا (زعل)، وربما بكى، ثم يتحقق له المقصود؛ فلذلك التهميش من الأساليب الناجحة في هذه القضية.
أيضًا التعزيز ضد هذا السلوك، فإذا عمل عملًا آخر ضد هذا السلوك تتم مُكافأته، بمعنى آخر: إذا ترك (الزعل) يُكافأ ويُقال له: هذا بسبب أنك ما (زعلت).
ومن الأساليب: حرمانه من شيءٍ يُحبه إذا استمر في (الزعل).
لا نجعل بيوتنا كالفنادق
يقول السائل: لو تُوضح جانب التربية، وعلاقة الآباء بالأبناء، خاصةً في زرع الثقة بالنفس من الآباء تجاه الأبناء، والابتعاد عن الأساليب المُحبطة والتهميش، خاصةً أننا في الآونة الأخيرة نرى ابتعاد الآباء عن الأبناء، وعدم توجيه الأبناء بالطريقة الصحيحة والمستقيمة.
هنا أُؤكد وأقول: يا ليت الإخوان يقرؤون الرسالة الثالثة من السلسلة الجميلة للدكتور عبدالكريم بكار بعنوان: "التربية الرشيدة"، وخاصةً الرسالة الثالثة بعنوان: "التواصل الأسري" التي ذكر فيها طرفًا من هذه القضية.
فمن المهم جدًّا أن نُعطي لأبنائنا ولأُسَرنا ولأزواجنا وقتًا في التواصل، والله نحن نُعطي غيرهم أوقاتًا كثيرةً، لكن للأسف ما زال هناك مصطلح "الفندقية"، فقد صارت بيوتنا مثل الفنادق: نومٌ وأكلٌ، وهذه هي القضية السائدة عند كثيرٍ من الناس.
فينبغي أن نُدرك هذه القضية ونهتم بها، وأن يبتعد الآباء عن التعامل الفجِّ الفظِّ الذي حذَّر الله منه النبي ، فقال سبحانه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، إنما هي رحمةٌ من الله ولينٌ.
من الأساليب التربوية: القُرب المادي والمعنوي
يقول السائل: ما أفضل طريقةٍ للمُعايشة التربوية لشباب هذا الزمن الذي يحتاج إلى تعاملٍ يتناسب مع واقعهم وزمانهم؟
أولى هذه النقاط: القُرب المادي، والقُرب المعنوي، ولها علاقةٌ بالكلام عن التواصل الذي كان قبل قليلٍ، وسأُتعبكم وسأُتعب نفسي بذكر التواصل والأمثلة التي تتكرر معنا في اللقاءات؛ لأن الأسئلة تتكرر من جوانب عديدةٍ، وليس كل سؤالٍ له جوابٌ مُستقلٌّ، هذه القضايا التربوية والنفسية قضايا مشتركةٌ، تقرب وتبعد.
فالقرب المادي -الجسدي- كما فعل الرسول مع عائشة رضي الله عنها حين كان يُسابقها، فتسبقه ويسبقها[11]أخرجه أبو داود في "سننه" (2578)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (3251).، وكان إذا دخلت فاطمة رضي الله عنها قام لها وقبَّل رأسها[12]أخرجه النسائي في "سننه" (5217) وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ.، وكان يُجْلِس الحسن معه على المنبر وهو يخطب[13]"روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" للألوسي (14/ 322).، وكان الحسن والحسين يصعدان على ظهره وهو يُصلي، فيحملهما الرسول بيده من خلفه[14]أخرجه أحمد في "مسنده" (10659) وقال مُحققه: إسناده حسنٌ..
كل هذا من القُرب المادي والحسي، فمن المهم أن يجد الأبناء منا هذه القضية.
كذلك القُرب المعنوي، وهو المتعلق بالجانب العاطفي وإشباع الجانب الوجداني.
وذكر الدكتور عبدالكريم بكار أن الانفلات عند الأبناء في الأُسَر المحافظة والذهاب إلى الخطوط الحمراء في التعامل مع التقنية والعلاقات والصداقات من أكبر أسبابه هذا الجانب، ذكر هذا في مقدمته في "التواصل الأُسَري".
فلا بد من المشاركة الوجدانية والحسية والعقلية: كمشاركتهم في البرامج، وفي الترفيه، ومشاركتهم فيما يهمهم ويُحبونه، وخاصةً التقنية، وهم جيل التقنية.
يعني: ما أجمل أن يتواصل الأب والأم مع الأبناء عبر المجموعات التي يُسمونها "جروبات" في "الواتس آب" وغيرها! ما المشكلة في ذلك؟
ما المشكلة أن نأخذ ونُعطي مع أبنائنا عبر التواصل؟
أنا لا أدعو -كما يقول أحد الآباء- إلى أن يكون التواصل في المجلس عن طريق الأجهزة، فكل واحدٍ معه جهازه، وكل واحدٍ يقول للآخر عبر الجهاز: كيف حالك؟ وهذا يقول: كيف حالك؟ هذه مشكلةٌ في التواصل، لكن إذا كان من باب المُداعبة بعض الأحيان لا إشكال، أما أن يكون ذلك منهجًا تسير عليه الأسرة فهذه مشكلةٌ.
ولعلكم تذكرون صورة إحدى الأمهات التي وضعت ورقةً على سلةٍ وقالت لأولادها: رجاءً يا أولادي، لا تدخلوا حتى تضعوا جوَّالاتكم في هذه السلة. وبالفعل استطاعت أن تنجح بهذا الإجراء، فيدخل الأولاد ويتفرغون لأمهم.
فمن المهم أن يكون هذا من الضبط ومن العقد السلوكي الذي ذكرناه قبل قليلٍ: أن تكون هناك اتفاقيةٌ أن يترك الأولاد الـ"بلاك بيري" أو الـ"آيفون" في جلسةٍ لمدة ربع ساعةٍ أو نصف ساعةٍ.
فلا بد أن نُعوِّدهم على مثل هذه السلوكيات، ويُدركون إيجابيات الإجراء السليم، وسلبيات الإجراء غير السليم.
السعي لهداية الأب
يقول السائل: أتمنى إفادتنا في حالة وجود نظرةٍ سلبيةٍ من الأبناء نحو الأب؛ لأنه ليس بقدوةٍ، ويُمارس أقبح الأعمال المُشينة: كشرب الخمر، وتصفح المواقع السيئة، وشرب الدخان، ولا يعدل بين زوجتيه، ويُسافر لممارسة الفاحشة، نسأل الله له الهداية.
السؤالان عن هذا الأب: كيف يتعامل الابن الأكبر مع أبيه -هداه الله- في ضوء احتياج البيت إلى قدوةٍ حيةٍ تعيش بينهم؟
لا شك أن هذه الأسرة تحتاج إلى تضافر الجهود بين الأم والابن الكبير إذا كان الوضع بهذه الصورة، فالابن الكبير يقوم مقام الأب مع إخوته، وهذا دورٌ رائعٌ جدًّا، وقد تكلم عنه أهل الاختصاص، وهو تربية الابن الأكبر على أن يكون مكان الأب في المُلِمَّات، فتظهر حاجةٌ ماسَّةٌ جدًّا لذلك حين يكون الأب بهذه الصورة، نسأل الله الهداية لنا وله.
وكذلك أقول لهذه الأسرة: لا بد من السعي لهداية هذا الأب، ولا بد أن يُحفظ حقُّ هذا الأب بالنسبة لعلاقة الأبناء به، وكذلك أن يعرفوا خطأه، لعل الله إذا اجتمعت هذه الأمور أن يُصلح حاله.
ثم يأتي السؤال الثاني في نفس هذه النقطة -تبع هذه الأسرة-: ما نصيحتكم للآباء فيما يتعلق بعدم امتهان أمانة الأبوة والأمومة؟ وكيف نُعزز في نفوس الأبناء أن يكونوا قُدواتٍ؟
ابن القيم له كلامٌ جميلٌ جدًّا في "تحفة المودود"، يقول فيه أن ما يحصل من انحرافاتٍ لدى الأبناء هو بسبب الآباء.
نحن نقول بكل سهولةٍ: إن التقنية هي التي أثَّرت، أو أن المجتمع هو الذي أثَّر، أو أن المدرسة هي التي أثَّرت، لكن أين الاعتراف بالحقيقة؟ أين دورنا نحن الآباء في تقييم ذواتنا؟ هل كنا السبب في انحراف الأبناء؟ هذه قضيةٌ كبيرةٌ جدًّا.
أيضًا الآباء هم سببٌ في توجه الأبناء التوجه الإيجابي، فلا نُنكر ذلك أبدًا، وهذا هو أصل الموضوع، نعم الأشياء الأخرى مُؤثرةٌ، ولكنها تبعٌ، وليست هي الأساس.
تعزيز قدوات
أما كيف نُعزز في نفوس الأبناء أن يكونوا قدواتٍ؟ فيُمكن أن أذكر ثلاث نقاطٍ في هذه القضية:
أولًا: الجانب المعرفي: مهمٌّ جدًّا إقناعهم معرفيًّا وعلميًّا بأهمية القدوة من خلال الآثار من الكتاب والسنة ... إلى آخره؛ حتى يقتنعوا بأن القدوة مهمةٌ.
ثانيًا: يتعاطى معهم وجدانيًّا، ويتعاطى معهم من الناحية النفسية بأن قضية القدوة هي بمثابة طمأنينةٍ لهذه النفوس، وأن هذا اتجاه محبةٍ لا بد أن يحرص الإنسان عليه؛ لأنه عبارةٌ عن خيرٍ له وخيرٍ للآخرين أن يكون الإنسان قدوةً لغيره.
ثالثًا: أن يكتسب الإنسان المهارة عبر دوراتٍ، وعبر أساليب عمليةٍ معينةٍ حتى يكون قدوةً.
ونقول في قضية القدوة مثلما قلنا في النية أنها جانبٌ استمراريٌّ، يعني: تأخذ القضية بالتدرج شيئًا فشيئًا.
كيف نُعالج خطأ الأب أمام الأبناء؟
السؤال قبل الأخير يقول: كما تعلمون كل ابن آدم خطَّاء، فأحيانًا يُخطئ الأب بحضرة أبنائه، سواء بالانفعال، أو التصرف الخاطئ، أو غير ذلك، فكيف يُعالج الموقف مع أبنائه بعد مُشاهدتهم له وهو يُخطئ؟
الآن الأخ الكريم يسأل: إذا أخطأ الأب أمام الأبناء، فكيف نُعالج هذا الخطأ؟
المعالجة ليس فيها أدنى إشكاليةٍ أبدًا، لا بد أن تعترف أنك قد أخطأت، بل إن الإنسان مطالبٌ بالصدق من الناحية الشرعية.
الجانب الثاني: يُربى في الأبناء الوضوح والصدق، وهذا من أنفع الأساليب، فنحن لو كنا نتلون أمام أبنائنا لأعطيناهم صورتين مُتناقضتين، وهم يكتشفون ذلك، فليس هناك أحدٌ يكتشف حال الأب وحال الأم إلا الأبناء، فهم يُسافرون معهم، ويُخالطونهم في البيوت، وربما تكون هناك صورةٌ أخرى للآباء خارج البيت، لكن الصورة الحقيقية في البيت.
فينبغي أن يقول الآباء للأبناء: الشيء الذي أنا مُقصِّرٌ فيه ومُخطئٌ فيه -مثل كذا- لا تجعلوني قدوةً فيه، صحيحٌ أنا أخطأتُ في هذا الجانب.
ووالله لو تربى الأبناء على هذا الأمر لأنشأنا شيئًا عظيمًا، إيجابيًّا، تربويًّا ونفسيًّا بالنسبة للأبناء.
أنا أعرف بعض المُربين الفُضلاء الذين يُمارسون الاعتذار للأبناء إذا أخطأوا في حقِّهم، فإذا أخطأ الأب مع ابنه أتى الأب وقبَّل رأس الابن، واعتذر له، وهذه صورةٌ من صور التواضع، فأنت عندما تمارس مثل هذا الوضوح والصراحة تختصر طرقًا كثيرةً، تختصر مفاوز كثيرةً بينك وبين الأبناء.
أثر القدوة في الشباب في هذا الزمن
السؤال الأخير: ما أثر القدوة في هذا الزمن للشباب، مع تعدد وسائل الإعلام والتقنيات الحديثة، وظهور كثير من الآراء والاختلافات من أهل العلم وغير المُربين؟
لا شك أن القدوة مهمةٌ جدًّا جدًّا، ولا بد من العناية بحُسن الاختيار والانتقاء للقدوات في زمنٍ اضطربت فيه جوانب فكريةٌ وسلوكيةٌ عديدةٌ، يعني: لا نربط الناس بأشخاصٍ، وإنما نربطهم بالنبي ، كما قال الإمام مالك: "كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُردّ إلا صاحب هذا القبر"، وهو النبي [15]"الموطأ" للإمام مالك (1/ 251).، ويُربطون بالمعايير، فالحق لا يُعرف بالرجال -كما قال العلماء-، وإنما يُعرف الرجال بالحقِّ[16]"تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص74).، هذا معيارٌ مهمٌّ جدًّا ينبغي أن نُربي أنفسنا وأبناءنا عليه حتى يعرفوا القدوة من غيره، وكما قيل: إن القرين بالمُقارن يقتدي[17]"المصون في الأدب" للعسكري (ص108)..
فالقضية في هذا الجانب تستدعي أكثر، وفي الحديث الصحيح: الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل[18]أخرجه أبو داود في "سننه" (4833)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3541)..
وسنأتي إلى بعض القضايا المتعلقة بموضوع القدوة وبعض الدراسات المتعلقة بهذا الجانب، سنتركها إلى وقتها، بإذن الله .
هذه الإجابة عن الأسئلة، ولعلنا في الربع ساعة المتبقية ندخل في المعلم الثاني من معالم هذه اللقاءات التربوية، ألا وهو: القدوة والأسوة.
وسيكون الكلام في هذا الموضوع عن محطاتٍ ثلاثٍ قدر المُستطاع، وستكون إشارات، سأبدأ بها الآن، ولن أُكملها جزمًا.
وستكون هناك مقدماتٌ مهمةٌ جدًّا، أو أسسٌ في أدبياتٍ لا بد من أخذها، ثم بعد ذلك التطبيقات التربوية والنفسية حول الجانب المتعلق بقضية القدوة.
القدوة يمكن ألا يكون إنسانًا
لقاءاتنا لقاءاتٌ تربويةٌ، ولمحاتٌ نفسيةٌ من الكتاب والسنة، وهذه القضية وهذه المعالم نستنبطها من خلال الوحي العظيم، يقول الله : فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].
فقابيل قتل أخاه هابيل، فجاءت هذه الصورة، وأعطى الغراب لقابيل درسًا، يعني: أصبح الحيوان هنا قدوةً للإنسان، وسبحان الله! الإنسان فيه ضعفٌ، فيحتاج أن يستفيد من كل أحدٍ، ومن كل مخلوقٍ.
ومجال القدوة هو مجال (الرادار) الذي يمكن للإنسان أن يلفَّه في كل وقتٍ وفي كل حينٍ حتى يستطيع أن يأخذ أي فائدةٍ وأي شيءٍ يستطيع أن يستفيد منه لنفسه أو لغيره، فهو أدرك الرسالة من خلال الغُراب الذي بعثه الله .
وقصة عجوز بني إسرائيل التي ذكرناها سابقًا، وكذلك القصة التي ذكرناها في اللقاء الماضي حول الأولويات والاهتمامات.
فعندنا نموذجان من القدوة، فأين النموذج الصحيح في قصة عجوز بني إسرائيل؟
المرأة العجوز عندما طلبت من موسى عليه الصلاة والسلام أن تكون معه في الجنة[19]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، وصححه الألباني لغيره في "التعليقات الحسان" (721).، هذا نموذجٌ في الأولويات والاهتمامات.
وفي مقابل ذلك الأعرابي الذي ضيَّع على نفسه الفرصة بين يدي النبي عندما قال له: سَلْ حاجتَك، خاصةً أنه قد أكرم النبي ، فأراد النبي أن يُكرمه، فقال: ناقةً برحلها، وأَعْنُزًا يحلبها أهلي[20]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، وصححه الألباني لغيره في "التعليقات الحسان" (721)..
هذان النموذجان عندما ينظر إليهما أجيالنا اليوم يجدون فرقًا بين أن تكون العجوز قدوةً لنا، وأن يكون الأعرابي قدوةً لنا، فنحتاج إلى أن نمتثل هذه القدوات الصالحة؛ حتى تتحفز النفوس وتسير على ما سارت عليه تلك القدوات الصالحة، ونحذر من غير تلك القدوات، أو على أقل تقديرٍ التي فيها مستوًى من عدم الأولويات، أو الشيء الذي لا ينبغي أن يكون عليه الإنسان كما كان الأعرابي.
ولذلك فإن النبي قال في قصة الأعرابي أمام الصحابة: أعجزتم من العجز أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟[21]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، وصححه الألباني لغيره في "التعليقات الحسان" (721).، هذا النموذج الحي الذي أراد النبي أن يلفت النظر إليه، فهو محل القدوة.
وقد تكلم ابن الجوزي كلامًا نفيسًا في كتابه "صيد الخاطر" في عدة فصولٍ حول قضية ربط العلم بالعمل، وربط العمل بالعلم والقدوة.
هذه هي قضية القدوة، وأنت لديك مُدخلاتٌ معرفيةٌ: علمٌ وتطبيق هذا العلم.
اسمعوا إلى ما وصف به ابن الجوزي الذين عاش معهم، وانظروا الإشارة في مجال القدوة والاقتداء والأسوة الذي نحن بأمس الحاجة إليه.
يقول ابن الجوزي في فصل "العلماء العاملون" من كتاب "صيد الخاطر": "لقيتُ مشايخ أحوالهم مختلفةٌ، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صُحبته"، وصف العلماء بأنهم يتفاوتون في العلم، وبدأ الآن يتكلم عمَّن انتفع منهم، يقول: "وكان أنفعهم لي في صُحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه".
يقول: "ولقيتُ جماعةً من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبةٍ يُخرجونها مخرج جرحٍ وتعديلٍ، ويأخذون على قراءة الحديث أجرةً، ويُسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه، وإن وقع خطأٌ"، يعني: إذا سألهم أحدٌ يُجاوبون بسرعةٍ، هؤلاء ما تأثر بهم ابن الجوزي.
يقول: "ولقيتُ عبدالوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف؛ لم يُسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى واتَّصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي"، يعني: يُؤثر فيه تأثيرًا شديدًا وهو صغيرٌ! "ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سَمْت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل"، أي: في الوحي.
هذا نموذجٌ تأثر به ابن الجوزي وأبرزه.
هناك نموذجٌ آخر قال عنه: "ولقيتُ الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، مُتقنًا، مُحققًا، وربما سُئل المسألة الظاهرة التي يُبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن"، ما كان يستعجل في الفتوى، وكان كثير الصوم والصمت.
يقول ابن الجوزي: "فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما".
هؤلاء الذين حفروا في ذاكرة ابن الجوزي وهو صغيرٌ، يقول: "فانتفعتُ برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، وفهمتُ من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول" الذي هو القدوة.
كثيرٌ من الناس يظن أن التواصل والتوجيه مع الطلاب ومع الأصدقاء فيما بينهم يكون بالكلام، فكلما كثر كلامك كلما حققت إنجازًا، لا، فقضية القدوة عكس ذلك تمامًا، لا بد من تقليل مستوى الكلام، وتكثير مستوى الفعال.
"ففهمتُ من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول، ورأيتُ مشايخ كانت لهم خلواتٌ في انبساطٍ ومزاحٍ"، فإذا كان عاشر مشايخ، فكيف بمَن هم دون المشايخ؟! إذا كانوا مشايخ ولاحظ عليهم هذه الملاحظات، فكيف بمَن لم يكن كذلك؟! ماذا سيكون حاله؟!
سؤالٌ كبيرٌ لي ولكم وللجميع، والحق فوق الجميع.
"ورأيتُ مشايخ كانت لهم خلواتٌ في انبساطٍ ومزاحٍ"، يعني: شغلهم الشاغل: فلة الحجاز -كما يقولون- "فراحوا عن القلوب" أي: روَّحوا عن القلوب، "وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم، فقلَّ الانتفاع بهم في حياتهم، ونُسوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحدٌ يلتفت إلى مُصنفاتهم، فالله الله في العمل بالعلم؛ فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين مَن ضاع عمره في علمٍ لم يعمل به"، هذه القدوة، "ففاتته لذَّات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مُفلسًا مع قوة الحُجَّة عليه".
كنتُ مرةً في الحي، فذهبتُ لصلاة العشاء، ورأيتُ مجموعةً من الشباب يقفون على الرصيف، وأنا أعرف هؤلاء الشباب، ليسوا من الذين يحضرون للصلاة، فقلتُ لهم: الصلاة يا شباب، ورجعتُ وإذا بهم ما زالوا واقفين، لم يُصلوا، فدخلتُ معهم في حوارٍ ونقاشٍ، فقلتُ لهم: يا شباب، هذه الصلاة لا تُكلِّفكم إلا خمس دقائق، أو سبع دقائق، وهي ركنٌ من أركان الإسلام ... إلى آخره، فقال واحدٌ من الموجودين: يا شيخ، إذا كان آباؤنا لا يُصلون، ولا يحرصون على الصلاة، فهل تريد منا أن نُصلي ونحرص على الصلاة؟!
الآن فسَّر الظاهرة أم لا؟ القدوة لها أثرٌ أم لا؟
هذه القدوة لا شكَّ أن لها أثرًا، فإذا لم يكن الأب قدوةً لأبنائه فكيف سيكون المنتج؟ كما قال ابن القيم رحمه الله: "أكثر انحرافات الأبناء بسبب تقصير الآباء"[22]"تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229).، لكن هذا ليس مُبررًا للشباب على أية حالٍ؛ لأنهم مُكلَّفون، فعلينا أن نستفيد من هذه القضية.
هل تذكرون الكلام الذي ذكرناه حول الدراسة والشباب والأولويات والاهتمامات التي نشرها مركز "رؤية"؟ وقد ذكرنا ذلك الأسبوع الماضي، فتكلمنا عن الاهتمامات والإحصاءات المتعلقة بأنشطة وقت الفراغ، وقنوات (الإنترنت) ... إلى آخره، هذا أيضًا جزءٌ من منتج القدوة: وجودها من عدمها، أو ضعفها.
أخي الكريم، إذا كان همُّ الأب أو الأم الجانب الدنيوي فإن المنتج من الأبناء يكون همُّه الجانب الدنيوي، ونحن نتكلم عن التواصل الإيجابي، والتربية عمومًا متواصلةٌ في تماسكٍ، ونحن نتكلم عن مضامين هذه النقطة، و(الدشوش) موجودةٌ برمتها أو كثيرٌ منها، وليس هناك ضوابط على التقنية، ... إلى آخره، فكيف لا يكون مثل هذا المنتج موجودًا عندي؟! فالذي ذكرناه بالأرقام في الأسبوع الماضي طبيعيٌّ جدًّا.
وفي دراسةٍ عملتها مجلة "الأسرة" عام 1421ه عن ثقافة المجتمع السعودي، طبّقت هذه الدراسة على المرحلة الجامعية: ذكورًا وإناثًا، في الدمام والرياض وجدة، طبّقت على ألف طالبٍ وطالبةٍ في المرحلة الجامعية، فخرجت بنتيجةٍ سأقف عندها، وأترككم تنظرون إليها، ونُعطيكم في الأسبوع القادم -بإذن الله- محاضرةً عن ثقافة شبابنا بعنوان: "شبابنا جماجم فارغة"، وكان هذا عنوان (البنط) العريض الذي خرجت به مجلة "الأسرة": "شبابنا جماجم فارغة"، سنُدرك المقصود بهذا، وعلاقة ذلك بالقدوة الأسبوع القادم، بإذن الله تعالى.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ.
ونُصلي ونُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (8/ 396). |
---|---|
↑2 | "صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص411). |
↑3 | أخرجه ابن ماجه في "سننه" (4105)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (950). |
↑4 | أخرجه ابن ماجه في "سننه" (4105)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (679). |
↑5 | أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479). |
↑6 | أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479). |
↑7 | أخرجه البخاري (6781). |
↑8 | أخرجه البخاري (6780). |
↑9 | أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7954). |
↑10 | أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022). |
↑11 | أخرجه أبو داود في "سننه" (2578)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (3251). |
↑12 | أخرجه النسائي في "سننه" (5217) وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ. |
↑13 | "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" للألوسي (14/ 322). |
↑14 | أخرجه أحمد في "مسنده" (10659) وقال مُحققه: إسناده حسنٌ. |
↑15 | "الموطأ" للإمام مالك (1/ 251). |
↑16 | "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص74). |
↑17 | "المصون في الأدب" للعسكري (ص108). |
↑18 | أخرجه أبو داود في "سننه" (4833)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3541). |
↑19 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، وصححه الألباني لغيره في "التعليقات الحسان" (721). |
↑20 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، وصححه الألباني لغيره في "التعليقات الحسان" (721). |
↑21 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (723)، وصححه الألباني لغيره في "التعليقات الحسان" (721). |
↑22 | "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229). |