المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: نحن في اللقاء الرابع من هذه السلسلة التربوية من الوقفات التربوية واللمحات النفسية من الكتاب والسنة، وقد بدأنا في اللقاء الثاني بتوفيق الله في المعلم الثاني، ألا وهو: القدوة، ونُكمل المشوار في هذا اليوم حول القدوة، وسنستكملها -إن شاء الله تعالى- في الأسبوع القادم بشكلٍ نهائيٍّ بعد توفيق الله من خلال التطبيقات التربوية والنفسية للقدوة.
شبابنا جماجم فارغة
كنا قد وقفنا معكم عند الدراسة التي عُملت على المجتمع السعودي فيما يتعلق بقضية ثقافة الشباب: ذكورًا وإناثًا، وكانت الدراسة قد عُملت من خلال مجلة "الأسرة"، والتي طبقتها في منطقة الدمام والرياض وجدة على ألف طالبٍ وطالبةٍ في المرحلة الجامعية، ونشرتها في أحد أعدادها، وكانت الدراسة في 1420ه أو 1421ه.
وكانت الدراسة تهدف إلى التعرف على مستوى ثقافة الشباب، وذكرنا لكم أنها صدَّرت واجهة هذا العدد بعنوان: "شبابنا جماجم فارغة"، فكانت النتيجة على النحو الآتي:
88 % لصالح الثقافة والأسئلة المتعلقة بالجوانب الفنية المُرتبطة بقضايا المسلسلات والأفلام، واحتلَّ الفن المركز الأول من ثقافة الشباب في المجتمع السعودي في المرحلة الجامعية.
وأنا أؤكد على أهمية إدراك المرحلة، والسبب في ذلك: أن هذه المرحلة الجامعية قد أتت بعد الابتدائية والمتوسطة والثانوية، والأسئلة التي أتت بها العينة من مُعطيات الدراسة في المراحل السابقة، وأُضيف إليها بعض القضايا التي ليست موجودةً في المراحل الدراسية، فكانت النتيجة أن الفن احتلَّ المركز الأول بـ88%.
بينما احتلت الرياضة المركز الثاني بفارق 1%: 87%.
وللأسف الشديد جاء في آخر عمودين: الثقافة الإسلامية بـ58%، والتاريخ الإسلامي بـ57%.
وهذه الدراسة كانت حول قضية الجانب الثقافي المعلوماتي المعرفي، ولم تدخل في القضية السلوكية.
ما الرابط بين هذه الدراسة -في الإشارة التي ذكرناها الأسبوع الماضي- وما يتعلق بقضية القدوة أيها الإخوة؟
ماذا تقول بروتوكولات حكماء صهيون؟
كنت مرةً أقرأ في إحدى الجرائد المحلية، وكان أحد الكُتَّاب مهتمًّا بقضية الرياضة، وكان في كتابته ومن خلال عباراته مُبتهجًا، وذكر عبارةً واقعيةً تدل على مثل هذه النتائج وغيرها من النتائج التي ذكرناها لكم في دراسة مركز "رؤية" عن الشباب والاهتمامات والأولويات؛ تتوازى مع هذه الدراسة المتعلقة بقضايا المسلسلات والأفلام والأغاني والرياضة التي ذكرناها قبل أسبوعين بالإحصاءات.
في المراكز الأولى اهتمامات الشباب ... والدراسة الأولى كانت في عام 1420ه، بينما دراسة مركز "رؤية" كانت في عام 1430ه، قبل ثلاث سنوات، أو سنتين تقريبًا، خلال السنوات القريبة الماضية.
فكان هذا الصحفي يقول: أصبحت قدوات شبابنا اليوم ونماذجهم هم أهل الفن والرياضة.
تذكرتُ وقتها وقبلها وبعدها ما نُشر في "بروتوكولات حكماء صهيون"، وهي برتوكولات كُتبت سريةً، ثم شاء الله أن تُنشر، ونُشرت باللغة العربية في عدة طبعات، ومن أفضلها تحقيق: محمد خليفة التونسي، وهذا الكتاب موجودٌ على (الإنترنت)، وموجودٌ في المكتبات: "بروتوكولات حكماء صهيون".
وسأقرأ ثلاثة بروتوكولات سطَّرها الصهاينة في هذه الوثيقة:
قالوا: سنُلهي الجماهير بأنواعٍ شتى من الملاهي والألعاب تملأ الفراغ، وسندعو الناس للدخول في مباريات شتى في كل أنواع المشروعات: كالفن، والرياضة، وما إليها. هذا نصٌّ موجودٌ في البروتوكولات منذ عشرات السنين.
ويقولون في البروتوكول الرابع: لهذا يجب علينا زعزعة العقائد الدينية في قلوب غير اليهود، ونزع فكرة الإيمان بالله وبوجود الروح في أذهانهم، وإحلال العقلية الرياضية -التي هي الرياضة، وليس الرياضيات، وإنما الرياضة-، وإحلال العقلية الرياضية والرغبات المادية عِوَضًا عنها.
ويقولون في البروتوكول الثالث عشر: ولكيلا ندع لغير اليهود فرصةً للتأمل والاستقلال الفكري سوف نُوجه انتباههم إلى ألوان الترفيه والألعاب الرياضية ووسائل التسلية، وما إليها مما يُثير اهتمامهم، وبهذا نُبعد أذهانهم عن التفكير في أمورٍ إن أُثيرت فلا بد من مُكافحتهم بشأنها، وبذلك تضعف فيهم نزعة الاستقلال الفكري. يعني: يكونون تبعًا لغيرهم.
يقولون: وبذلك تضعف فيهم نزعة الاستقلال الفكري، وما يلبثون أن يُفكِّروا بما يتفق وتفكيرنا، ويتماشى مع روحنا؛ لأننا المصدر الوحيد الذي يمده بكل لونٍ جديدٍ من التفكير.
وكل هذا المنتج اليهودي الصهيوني والهدف التربوي الكبير الذي يُريدون أن يُنشئوا الأجيال عليه، كله من خلال وسيلة الفن والرياضة كما ذكرنا قبل قليلٍ.
أين هذه القضية من موضوع القدوة؟ وكما قال الشاعر:
وحسبكموا هذا التفاوت بيننا | فكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح[1]"حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 192). |
ابن القيم ذكر في "تحفة المودود" هذه العبارات، يقول: "ولهذا تجد أكثر الناس مُنحرفةً أخلاقهم، وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها"[2]"تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229)..
أثر القدوات في انحراف أبنائنا
أنت الآن حين تنظر إلى هذه النتائج، وتُقارنها بالقيم الإسلامية الأصيلة لا تحتاج أن تُجامل، يكفينا ما وقع من مُجاملات لأنفسنا، ومجاملات لأُسَرنا ولمجتمعنا، وفي ظل الانفتاح الذي يُوجد مجالًا للنقد ينبغي أن نكون صُرحاء، وإن لم نكن صُرحاء في تقييمنا لأنفسنا ولأُسَرنا ولمجتمعنا فيما يتعلق بميزانية القيم الإسلامية وتطبيقاتها فلا خيرَ فينا.
ابن القيم يتكلم في عهده ويقول: "تجد أكثر الناس مُنحرفةً أخلاقهم، وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها"[3]"تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229)..
ونحن نقول نفس هذا الكلام بالضبط، فإذا كانت النماذج لأجيالنا كما قال الصحفي: أصحاب الفن والكرة، وكما أكَّدت الوثائق الصهيونية عبر عشرات السنين، وكما أكَّدت نتائج الدراسات التي أُجريت على مُجتمعاتنا المحلية والإقليمية؛ فإن هذا يؤكد مثل هذه القضية، وهي: أن الأجيال في أزمة القدوة، أجيالنا اليوم في أزمة القدوة.
وأصحاب المسؤولية في تربية النشء -كما قال ابن القيم- يتحملون هذه المسؤولية؛ لأن من أسباب انحرافهم: أن اهتماماتهم وأولوياتهم أصبحت مُرتبطةً بالفن والرياضة على حساب القضايا الأهم.
هذا فيما يتعلق بالجانب النظري المعرفي العلمي، وعندما نأتي للجانب السلوكي نُدرك بعض القضايا المتعلقة بالجانب السلوكي من الدراسة التي ذكرناها قبل أسبوعين عن الشباب والاهتمامات والأولويات.
إذن القضية أصبحت جانبًا معرفيًّا، وجانبًا تطبيقيًّا، والسبب في ذلك أزمة القدوات، ولو أن أجيالنا كان بين أيديهم القدوات التي تُنافس هذه القدوات، وحُيِّدت هذه القدوات؛ لكان الأمر غير ذلك.
لذلك دلَّت الدراسات على أثر القدوة العملية على المُتربين من المُربين، إذا كانت القدوات أصحاب علمٍ ودينٍ وقيمٍ وخلقٍ ظاهرٍ وباطنٍ، وهذه الدراسات كثيرةٌ، حتى على المستوى العالمي.
والمختصون بعلم النفس التربوي يُدركون هذه القضية عندما يتكلمون عن خصائص المُربي الناجح والمعلم الناجح، بالاطراد مع كون النتائج تدل على هذه القضية، فالطالب والمُتربي والابن -أيًّا كان- يتأثر بالمُربي إذا كان قدوةً، وأكبر قدوةٍ أن يكون ظاهره مثل باطنه، وأن يكون قوله مثل فعله، وأن تكون القيم موجودةً عمليًّا، وأن يتخلق بالأخلاق التي تطرد مع مبادئه.
فهل هذه الأمور موجودةٌ عند أصحاب الفن والرياضة؟!
فالقضية تحتاج إلى إدراكٍ وإثارةٍ مهمةٍ؛ حتى نُدرك حاجتنا الكبيرة إلى هذا الأمر.
ولهذا من الخيانة الكبرى على مستوى الأفراد والأُسَر والمجتمعات: أن ننقض هذه القدوة من خلال الفصام النَّكد بين الجانب النظري والجانب التطبيقي، نقول شيئًا لأبنائنا وطلابنا وأجيالنا، ونفعل خلاف ما نقول، نقول الشيء الجميل، ونفعل غير ذلك، هذه من أشد الأمور المُؤثرة نفسيًّا وتربويًّا على الأجيال، وكل واحدٍ منا يُدرك هذه القضية.
لا أستغرب إذا جاءت بعض الأسئلة على أية حالٍ -وقد لا يكون هناك مجالٌ للأسئلة اليوم- يشتكي فيها الآباء من بعض تصرفات أبنائهم، فيأتي ابنٌ ويطعن في الدين كما جاء في أحد الأسئلة، فقد أصبحت قضية الكلام في الدين والطعن في الدين عند بعض الأبناء قضيةً مُتوقعةً الآن، يقول أحد السائلين: ما العمل مع هذا الموضوع؟ يعني: تجاوزنا إلى هذا المستوى.
لا تستغرب ولا تستبعد أن تجد الآن من أبنائك مَن يرضى بقضايا السلوكيات المُنحرفة مثلًا، فمن العادي جدًّا بالنسبة له أن تكون له علاقاتٌ، ويقبل بعملٍ فيه اختلاطٌ مع النساء، وكذلك البنت، ويتخذ اللاعب ذا الفانيلة الفلانية نموذجًا له، وهو يُدرك شخصيته واهتماماته من الصباح إلى المساء، ويُدرك كم يأخذ من راتبٍ في الشهر؟ ويُدرك الأشياء المُفضلة له والتي يقرأها أو يسمعها، ويُدرك حركاته وقصَّات شعره.
فمن الطبيعي جدًّا أن تجد مُنتجًا في السلوك والأفكار مثل منتج هذا اللاعب، أو منتجًا في السلوك والأفكار من الأبناء والطلاب مثل منتج هذا الفنان، وهكذا بالنسبة للإناث مع اللاعبين ومع الفنانين والفنانات.
إن المُحبَّ لمَن يُحب مُطيع
رأيتُ مرةً في إحدى الحواري وأنا مارٌّ في الطريق طفلًا صغيرًا في المرحلة الابتدائية وهو يلعب في مكانٍ ترفيهيٍّ لطيفٍ، ما نقول: لا يلعب، لكنه حينما أتى بالهدف -وأنا في السيارة أنظر- أخذ جسمه يهتز من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين مثل أمواج البحر.
وقد لفتت نظري هذه الرقصة العجيبة؛ لأني لستُ صاحب ثقافةٍ في هذا الجانب، فتأكدتُ أن هناك أثرًا للقدوة في هذا الأمر، فأردتُ أن أتطفل، فذهبتُ إلى هؤلاء الشباب والأطفال الصغار وسلَّمتُ عليهم، ثم طلبتُ هذا الطفل الصغير على انفرادٍ؛ حتى لا أُحرجه في وجود زملائه، وقلتُ له: يا ولدي، أنت الآن عندما حققتَ الهدف، ما شاء الله، تبارك الله على الفوز والانتصار الكبير الجميل! لكني رأيتُك ترقص مثل المرأة أو شيء من هذا القبيل. فاستحى الطفل الصغير، وكان في الابتدائية، فقلتُ له: ما سبب ذلك؟ فتبين لي بعد الأخذ والعطاء، وتدخل واحدٍ من إخوانه أو من اللاعبين الذين معه؛ أن هذا فعل أحد اللاعبين في أحد الفرق الأجنبية -وسمَّى لي الفريق الأجنبي-، عندما سدد اللاعب الهدف قام بنفس الحركة، فانطبعت الصورة في ذهن الطفل واقتدى به، والاقتداء حاجةٌ نفسيةٌ بالدرجة الأولى كما يقول أهل التخصص النفسي للأطفال، وكذلك للمُراهقين، وعندما نتكلم لاحقًا عن حاجات الأطفال والمُراهقين سنُدرك هذه القضية، بإذن الله.
هذه حاجة الطفل، فالطفل خاصةً عنده ما يُسمّى بقوة التقليد والمحاكاة التي هي قضية القدوة، فانطبعت هذه الصورة لديه؛ لأنه كما قال الشاعر:
لو كان حبُّك صادقًا لأطعتَه | إن المُحبَّ لمَن يُحب مُطيع[4]"الكامل في اللغة والأدب" للمُبرد (2/ 4). |
فتأصَّلت هذه القضية من خلال النموذج الحي الذي يُتابعه ويُحبه، وعندئذٍ سيُقلِّد تصرفاته، ويُطيع آراءه، وسينسجم معه ويتشكل به، إلا أن يشاء الله ، فتكون لدى هذا الإنسان معايير رُبِّيَ عليها، فيستطيع أن يفصل الجانب الرياضي عن الجانب القِيَمي والمبادئ إذا وفَّقه الله لذلك.
حلق رأسه اقتداءً باللاعبين لا بالرسول
قال لي أحد الجيران عندما تحدثنا في مثل هذا الموضوع: كان لي قريبٌ يذهب إلى مكة، فقلتُ له: احلق يا أخي، الرسول يقول: رحم الله المُحلِّقين، قالوا: والمُقَصِّرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المُحلِّقين[5]أخرجه البخاري (1727)، ومسلم (1301)..
المقصود أن الرسول ترحم على المُحلِّقين ثلاثًا، وترحم على المُقصِّرين مرةً، فأجرهم ثلاث أضعاف أجر المُقصرين.
يقول: فلم يحلق في حياته أبدًا، ولم أره مُحلِّقًا، ويذهب إلى مكة ولا يحلق.
يقول: وفي ذلك اليوم ونحن في البيت دخل علينا والرأس محلوقٌ على الصفر تمامًا، يقول: فقلتُ له: خيرًا إن شاء الله، فلما تحرَّيتُ الخبر وجدتُ أحد الفرق الرياضية العالمية عبر الشاشة التقطوا صورةً وقد حلقوا رؤوسهم تمامًا، فاقتدى هذا الرجل بهم وفعل مثلما فعلوا، دون أن يكون بينه وبينهم احتكاكٌ مباشرٌ أو لقاءٌ، ولكنه اقتدى بهم عبر الشاشة.
فهذا الفريق الأجنبي نزل كله بلاعبيه وقد حلقوا رؤوسهم على الصفر، فتأثرت النفسية المُحبة المُقتدية بهم، فقال: الآن أقرع!
فانظر كيف يكون التقليد بالمُحاكاة عبر الشاشة؟! لأنهم وضعوا القدوة له كما قال ذلك الصحفي، وكما تُؤصله تلك البروتوكولات ... إلى آخره.
تصور أن واحدًا يذهب للحلاق ويقول له: "موس على الصفر الله يُعطيك العافية"، وله سنواتٌ ما حلق على الصفر، وهذا يرجع إلى الأثر النفسي المُتولد من خلال الاقتداء، فالقضية قضية اقتداءٍ، يعني: هي أكبر عاملٍ مُؤثرٍ في تسيير الفكر والسلوك، إن لم تكن رقم واحدٍ.
لذلك مَن هم القدوات لأبنائنا ولأجيالنا ولطلابنا؟ مَن هم القدوات لكبارنا وصغارنا، وذكورنا وإناثنا؟
سؤالٌ كبيرٌ جدًّا نحتاج أن نقف عنده أحبتي، وهذه الدراسات وهذه الدلائل تُؤكد لنا الحاجة الماسة لذلك.
استطاعوا إخراج أموال أهل الجزيرة من جيوبهم
عندما يقول لنا أحد ملاك القنوات الفضائية المُنحرفة اللاأخلاقية الإباحية في إحدى المُقابلات المشهورة، وهي موجودةٌ، وقد اطلعتُ عليها، يقول: عرفنا كيف نستطيع أن نُخرج أموال أهل الجزيرة من جيوبهم.
أنا لا أتكلم عن قضية التقنية، سيكون لها كلامٌ آخر، لكن عندما تتمثل نماذج الشباب في سبعين مليون اتصالٍ على برنامج "ستار أكاديمي" في إحدى السنوات القريبة -قبل سنتين أو ثلاثٍ-، سبعون مليون متصلٍ! كثيرٌ من هذه الملايين من أرض الجزيرة، ولا أستطيع أن أقول الرقم؛ لأني لستُ متأكدًا منه، ولكنه كان بنسبةٍ كبيرةٍ من هذا العدد: السبعين مليونًا.
فالقضية تحتاج إلى إدراكٍ كبيرٍ ومُعالجةٍ قويةٍ من أجل النظر في حال القدوات بين أبنائنا وبناتنا، أطفالًا ومُراهقين وشبابًا، كيف حال هؤلاء؟ نُقيِّم القضية، وما ذكرناه جزءٌ من التقييم، كيف نستطيع أن نُقدم لهم القدوات؟ ما المطلوب منا؟ هذا كله سنأتي إليه -إن شاء الله تعالى- من خلال لقاء اليوم والأسبوع القادم، خاصةً في التطبيقات التربوية والنفسية لموضوع القدوة.
لذلك حين نرجع إلى مصطلح "القدوة" نجدها من الناحية اللغوية كما يقول أهل الاختصاص: هي المُداومة والإصلاح[6]"المخصص" لابن سيده (3/ 379).، ولما نرجع إلى كلمة "أسوة" في اللغة نجد جذرها: الألف والسين والواو، ومعناها: المُداومة والإصلاح[7]"معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (1/ 105).، وهكذا القدوة فيها دوامٌ، ما الذي جعل هذا الإنسان يُحب الفن؟ شغله، برامجه الموجودة في البيت، القنوات التي تشتغل في البيت بدون أي فلترةٍ، وبالعكس تجد أن الأب والأم ربما يكونان نماذج لمثل هذه القضايا.
أبٌ يطلب من أولاده متابعة بعض المسلسلات في رمضان!
تقول لي إحدى المُتصلات من النساء في رمضان، وطلبت مني أن أذكر هذا الاتصال، تقول: نحن في بيتٍ مُحافظٍ، ما عندنا قنوات فضائية إلا القنوات المُحافظة فقط، وزوجي يُتعبني في قضية التربية، فيأتي بـ(اللاب توب) مع أبنائه، ويقول: هيا افتحوا، فيفتحون على القنوات بعد صلاة المغرب والإفطار، ويطلب منهم إلزامًا أن يُتابعوا بعض المسلسلات في هذا الشهر المبارك!
فأي جريمةٍ، وأي خيانةٍ تربويةٍ تُمارسها بعض الأُسَر؟! يُمارسها بعض الآباء! وبعض الأمهات! وبعض المُعلمين! وبعض المُربين في حقِّ أجيالنا! نحتاج إلى الانتباه.
فقضية المُداومة هي سمةٌ من سمات القدوة، فالقدوة لا تكون في لحظةٍ واحدةٍ -كما سيأتي معنا-، ولكنها قضية ديمومةٍ، ثم القدوة لا يمكن أن تكون إفسادًا، هي إصلاحٌ؛ ولذلك فإن معناها اللغوي: المُداومة والإصلاح[8]"المخصص" لابن سيده (3/ 379)..
قال ابن منظور: "الأسوة هي القدوة، فلانٌ يأتسي بفلانٍ، أي: يرضى لنفسه ما رضيه، ويقتدي به، وكان في مثل حاله"[9]"لسان العرب" لابن منظور (14/ 35).، يعني: إذا اقتدى شخصٌ بشخصٍ فهذا معناه أنه يرتضي أفعاله، فشخصٌ يقتدي بعالمٍ أي: يرضى بفعل هذا العالم، وما يُفكر فيه، أو شخصٌ يقتدي بلاعبٍ أي: يرتضي فعله وسلوكه، هذا أمرٌ طبيعيٌّ.
يحفظون أسماء اللاعبين ولا يحفظون أسماء الصحابة
كنا قديمًا في الجامعة نعقد مقابلاتٍ شخصيةً مع الطلاب قبل التحاقهم بالجامعة، وذلك قبل أن توجد هذه التقييمات والمعايير الحديثة من خلال القدرات، ... إلى آخره، وبعض الجهات عندها إلى الآن مُقابلات وتُخبرنا بهذه القصص، وهي أننا حين نسأل الطالب عن بعض الرموز في هذه الأمة يُشَرِّق ويُغَرِّب، فعندما تذكر له سيرة أحد الصحابة ما يعرف أنه صحابيٌّ، ويتفلسف على اللجنة ويقول: هذا أحد الكُتَّاب المُؤلفين الذين لهم كتبٌ مُؤلَّفةٌ! وهو أحد الصحابة، فقلتُ له: ما رأيك في اللاعب الفلاني؟ فأعطاني سيرته.
وقد جربتُ هذه القضية مع طلابنا، فتجد عنده معرفةً في قضيةٍ ثقافيةٍ مثلًا -والثقافة هي جزءٌ أساسيٌّ لقضية السلوك-، فهو يعرف بالضبط كم يأخذ المدرب؟ ويعرف بالضبط كم يأخذ اللاعب؟ وبكم يُشترى؟
وتصور أنه يدخل هذه القضية من غير نقدٍ بنَّاءٍ، وإنما يدخل باقتداءٍ وحبٍّ وتأثرٍ، ويقول: لماذا لا أصير مثل هذا اللاعب وأسلك مسلكه؟! ولماذا لا أصير مثل هذا الفنان وأحصل على مثل هذه الشهرة، وأحصل على مثل هذه الأموال؟! فيزهد في التعليم، وفي الأشياء التي عنده، وهكذا بالنسبة للبنات.
وأظن أن هذا هو تفسير الاهتزاز القِيَمي عندنا في مُجتمعنا، شئنا أم أبينا، فالقضية هي أزمة قدوات؛ ولذلك في الاصطلاح يقولون: الأسوة: هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن حسنًا، وإن قبيحًا، وإن سارًّا، وإن ضارًّا[10]"التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص51).، ولا بد للأجيال من واقعيةٍ ونماذج قويةٍ.
إذن النماذج القوية هي التي تصرف شبابنا عن قِيَمنا وأهدافنا في هذه الحياة؛ لأنها قويةٌ بجاذبيتها، وقويةٌ بتمكين وسائلها لأجيالنا اليوم، وقويةٌ بسبب أنه معلمٌ يأتي ويدخل على الطلاب، وبدل أن يُوصل لهم رسالةً إيجابيةً تتمثل في تذكيرهم بالنماذج الطيبة لهذه الأمة، ويكون هو قدوةً لهم في نفسه، تجده بدلًا من ذلك يُحدِّثهم عن المباريات والتحليلات الكروية!
استغرق محاضرة كاملةً في تحليل مباراة!
وأذكر أحد أساتذة الجامعات، وأعرف هذه القصة، وأعرف هذا الأستاذ -هداه الله-، ويأتي من منطقةٍ إلى منطقةٍ، ويذهب إلى تلك المحاضرة من أجل أخذ البدل فقط، فكانت مُحاضرته في أحد الأسابيع بعد إحدى مباريات المنتخب، فكانت المحاضرة كاملةً عن تحليل مباراة الأمس وما يتعلق بها!
تصور هذا الشيء الذي يمكن أن يكون عليه الإنسان! أين الاهتمامات الأخرى؟! أين الأولويات التي يمكن أن تُزرع؟! أين قيمة القدوة حين يراها الطلابُ في مُعلميهم؟!
وهكذا وأشد من ذلك حين يتكلم أحد المُربين -معلمًا كان، أو أبًا، أو ما شابه ذلك- عن قضية البرنامج أو المسلسل الذي كان بالأمس، والتحليل المُتعلق بهذه القضية، وما شابه ذلك.
فالقضية تحتاج إلى انتباهٍ، وتحتاج إلى رعايةٍ، مَن هم القُدوات المُؤثرون؟ مَن هم مُعلِّمو أبنائنا؟ مَن نحن مع أبنائنا في أُسرنا؟ ممن يتلقى الأبناء في إعلامنا؟
سؤالٌ كبيرٌ يحتاج إلى مراجعةٍ، وإذا كنا صادقين في المراجعة فإننا نستطيع أن نتخذ قراراتٍ قويةً جدًّا في: ماذا نقبل؟ وماذا نذر؟
ولو حصلت إشكالاتٌ في المدرسة مثلًا أستطيع أن أتخذ القرار، ولا يمكن أن أُضحِّي بفلذة كبدي، وإذا أخطأ المعلم في جانب القدوة سأذهب وأنصح هذا المعلم، وسأكون إيجابيًّا، أما أن تسير الأمور دون أن نُدرك، أو نكون نحن سببًا في سيرها بشكلٍ سلبيٍّ؛ فستكون النتائج والتوابع لها سلبيةً بشكلٍ كبيرٍ.
وكما يقول أهل التربية: لا يمكن كسر القيود إلا برؤية نماذج من الناس تُقدم أمثلةً رائعةً للناس، يعني: أنت الآن عندك قيودٌ مُعينةٌ تريد أن تتجاوزها.
المقصود بالقيود أنك في وضعٍ تريد فيه أن تتقدم، ومحصورٌ في شيءٍ سلبيٍّ، أو ناقصٍ تريد أن تزيد فيه، وتريد أن تكتسب المعرفة الإيجابية فيه، وتريد أن تسلك السلوكيات الإيجابية.
البعض يقول: ما أقدر، وهذا من الأسئلة الموجودة، وهذا مُتوقعٌ جدًّا، حيث يقول البعض: أنا ما أقدر، حاولتُ وما استطعتُ، أنا ما أفعل، ما أقدر!
هو في قيودٍ، وحين تأتي النماذج القوية الحية يتخذ الإنسان القدوة، ويُعايشها ويتعرض لها، فتكسر القدوة كثيرًا من هذه الإحباطات الموجودة عند بعض النفوس البشرية.
ذلك المنتج الذي صار من الصحابة كان بسبب وجود القدوة، وهو النبي ، والمنتج الذي جاء بعد ذلك كان بوجود القدوات من الصحابة.
ونحن أيضًا ستحكم علينا الأجيال، وستحكم على تربيتنا لهذه الأجيال، فإذا كنا صالحين ستشهد لنا الأجيال بأنا كنا قدواتٍ لأجيالنا.
لذلك أحبابي ليس للمسلمين من سبيلٍ إلا هذا السبيل: أناسٌ يتأسون بخطوات محمدٍ وأصحابه شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ في كل ظاهرةٍ وخفيَّةٍ، وفي كل دقيقةٍ وجليلةٍ، في العبادة والتفكير، وفي الحرب والتدبير، والسياسة والدعوة، والجرأة والحكمة: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها[11]"أثر العبادات في حياة المسلم" لعبدالمحسن البدر (ص9).، والقدوة تنقسم إلى حسنةٍ وسيئةٍ.
أهمية القدوة
وتبرز أهمية القدوة في أمورٍ عديدةٍ، منها ثلاثة أمورٍ:
أولًا: أن المثال الحيَّ الذي يرتقي في درجات الكمال يُثير في نفس البصير العامل قدرًا من الاستحسان والإعجاب، يعني: النموذج حين يكون موجودًا يبدأ المُقتدون في الانتباه: لماذا ما أصير مثل فلان؟ لماذا ما أكون مثله؟ ويصير الإعجاب والاستحسان.
نحن نتكلم عن القدوات الحسنة، فإذا جاءتنا القدوات السيئة وحصل الاستحسان والإعجاب؛ أصبحت المُعادلة سلبيةً في الأمة.
ثانيًا: القدوة الحسنة تُعطي الآخرين قناعةً لبلوغ الفضائل والتفاوت فيها، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا أيضًا، ونحن نريد أن نكسب من الفضائل ما أمكننا، طيب، فما الحل؟
الحل هو: أن نقتدي ما أمكننا بالقدوات الحسنة، وأن نكون قدواتٍ لأجيالنا، ويكون الخير ماشيًا لنا ولغيرنا كذلك من خلال الاقتداء بهم، وهذه من أهمية القدوات الحسنة.
ثالثًا: الأتباع ينظرون إلى القدوة نظرةً دقيقةً فاحصةً دون أن يعلم، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
أذكر أحد الزملاء -وهو إمام مسجدٍ- ذكر لي قصةً لطيفةً، يقول: عادةً أنا إذا انتهيتُ من الصلاة والتفتُّ إلى المأمومين أجلس جلسةً عاديةً، يعني: تعوَّدتُ عليها، عادة، فأمدّ رجلي بطريقةٍ معينةٍ.
يقول: فتبين لي بعد فترةٍ من الزمن أن حمامة المسجد يُمارس نفس الحركة التي أُمارسها.
يقول: فلما أخذتُ وأعطيتُ تبين لي أن الرجل يظن أن الذي أفعله هو سنة النبي ! فأخذ بها، وبدأ يُطبقها، فكلما صلَّى وضع رِجله مثل رِجل الإمام؛ لأن الإمام بالنسبة له قدوةٌ، فأعاد هو فعلها بشكلٍ أكثر، وأخذ يُقلده على أنها سنةٌ، ويقول: والله يا أخي جلسته ممتازةٌ. يقول: والله لي شهورٌ وأنا أُقلده على أنها سنة النبي .
إذن الشخص صاحب القدوة الحسنة تحت المجهر، وهذه مَنقبةٌ، وبمعنًى آخر: كلما فاحت منك مظاهر الاقتداء الحسن كلما استطعتَ أن تُؤثر في أناسٍ أنت لا تعرف أنك قد أثَّرتَ فيهم.
وهذا المُوفَّق من المُربين، فكيف بأولادنا فلذات أكبادنا؟ لا شك أنهم أولى؛ ولذلك لا يعرف أحدٌ عن الآباء والأمهات مثلما يعرف الأبناء، فالآباء يكونون في الخارج على صورٍ معينةٍ، لكن في الداخل يُوضع تحت المجهر، وتأتيك حقائق بعض الأشياء لما تنكشف الأمور؛ ولذلك لا يحلّ هذا الموضوع إلا القدوة، لماذا؟
لأن الأب عنده كلامٌ جميلٌ أمام الناس، لكنه في البيت قد تكون له صورةٌ أخرى، وربما يكون عنده كلامٌ طيبٌ مع أبنائه، لكن قد يكون عنده عجزٌ وكسلٌ في جانب التطبيق.
فالقدوة تحلّ هذه المعادلة، فتُبعد هذه الأشياء، وإذا حلّت هذه المعادلة ارتاحت النفوس خاصةً المُتربية، مثل: هذا الشخص "حمامة المسجد" الذي أخذ يُتابع الإمام، ستجد أبناءك بهذه الصورة، حتى ربما في طريقة لبسك للشماغ ونحوه.
فالقضية تصل إلى العادات، لكن لا يمكن لإنسانٍ أن يُقلد إنسانًا في مستوى العادات إلا وهو يُحبه، إن المُحبَّ لمَن يُحب مُطيع[12]"الكامل في اللغة والأدب" للمُبرد (2/ 4)..
بعض الشباب يقص شعره مثل قصَّات شعر اللاعبين، أو الفنانين، أو شيء من هذا القبيل، ويُقلده حتى في طريقة كلامه؛ لأنه يُحبه.
لماذا لا يكون هذا هو الأب، المُعلم؟ هذا لن يكون إلا عن طريق المُعادلة التربوية السليمة في قضية القدوة والاقتداء.
أصول القُدوة
للقدوة ثلاثة أصولٍ أذكرها سريعًا، وهي: الصلاح، وحُسن الخلق، ومُوافقة القول للفعل.
الصلاح: ويدخل في ذلك الإيمان والعبادة والإخلاص الذي ذكرناه في النية سابقًا، وكذلك حُسن الخلق ومُوافقة القول العمل.
فإذا اجتمعت هذه الأمور تكوَّنت القدوة الحسنة، فلا يمكن أن تكون قدوةٌ حسنةٌ من غير صلاحٍ، ولا يمكن أن تكون قدوةٌ حسنةٌ من غير حُسن خلقٍ، ولا يمكن أن تكون قدوةٌ حسنةٌ من غير مُوافقة القول العمل.
فهذه أصولٌ سهلةٌ من الناحية المفهومية، لكن تحتاج إلى مُجاهدةٍ من ناحية التطبيق.
أثر القدوة الحسنة في انتشار الإسلام
لذلك كان للقدوة الحسنة أثرٌ كبيرٌ في انتشار الإسلام كما تعرفون، فقد انتشر من خلال الصلاح الذي كان ظاهرًا على أتباعه، فمَن يرى أحد أتباعه يرى أنه نموذجٌ صالحٌ، علاقته بالله واضحةٌ جدًّا، وهو رجلٌ يُقدِّم حقَّ الله على غيره من الحقوق، ورجلٌ علاقته بالآخرين حسنةٌ، ورجلٌ تجد كلامه مُوافقًا لعمله، وأمينٌ، وما شابه ذلك، فانتشر الإسلام في شرق آسيا من خلال التجار ومُعاملتهم الحسنة وتطبيقهم للإسلام، من غير كلامٍ كثيرٍ وخُطَبٍ ومُحاضراتٍ.
فنحن بأمس الحاجة إلى التأثير، وكثيرٌ من الآباء والمعلمين والأبناء يقولون: تعبنا من التوجيه. ومُعادلة القدوة في التربية هي: أن تُقلل من منسوب الكلام، وأن تزيد من منسوب الفعال، ومن خلال هذه الأصول تستطيع أن تُغير هذه المعادلة، فترتاح أنت، حتى حركات الفم تُريحها لأشياء أخرى مهمةٍ، لكن الجوانب الأخرى تنتظر منك العمل، وهي التي عليها القدوة، وهي التي عليها العمل.
لذلك يقول الله : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، هذه قضية الأسوة والقدوة الحسنة، وهذا أهم نموذجٍ نحتاج أن نكون مثله؛ حتى نكون قدواتٍ لغيرنا، وتكون الأجيال كذلك، فيقتدون بمثل هذا النموذج.
ويقول الله: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ إلى آخر الآية [الممتحنة:4].
النبي القدوة
ومن نماذج التوجيه في قضية القدوة الحسنة وأهمية التأثر بها: شخص النبي في أقواله وأفعاله وتقريراته، وكذلك موقف إبراهيم والذين معه؛ حيث تبرؤوا من الشرك وأهله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الممتحنة:6].
والله يقول لنبيه آمرًا له بالصبر من خلال قضية الاقتداء: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، فهناك نماذج من الناس قبل النبي ، فيا محمد، اصبر كما صبر أصحابك من أولي العزم من الرسل. وهذا من التسلية، ومن الدافعية، إلا أنها تسلك مسلك القدوات، والرسول احتاج إلى هذا التوجيه عليه الصلاة والسلام من ربه، ونحن من باب أولى نحتاج إلى ذلك في أمور حياتنا.
لذلك يقول ابنُ عمر رضي الله عنهما: قدم رسول الله فطاف بالبيت سبعًا، وصلَّى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة، وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فنحن نفعل كما فعل محمدٌ .
ويقول ابن عمر رضي الله عنهما -وهو من أعظم الصحابة الذين طبَّقوا القدوة في حقِّ النبي واتباع النبي - يقول: اتَّخذ النبي خاتمًا من ذهبٍ، فاتخذ الناسُ خواتيم من ذهبٍ، فقال النبي : إني اتَّخذتُ خاتمًا من ذهبٍ، فنبذه -أي: النبي - بعدما اتَّخذه، وقال: إني لن ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم[13]أخرجه البخاري (5867)، ومسلم (2091).، هكذا يكون الاتباع، وهكذا يكون الاقتداء.
الإجابة عن الأسئلة
كنتُ أريد أن أستمر معكم في موضوع القدوة في جانب التطبيقات التربوية والنفسية على الفرد والأسرة والمجتمع، لكن لعلي أُجيب في الدقائق السبع المُتبقية عن أسئلة الإخوان، وأترك التطبيقات كاملةً للأسبوع القادم، إن شاء الله.
هنا سائلٌ يقول: هناك مَن سُئل عن الكلام الذي ذكرناه في الأسبوع الماضي في إحدى الإجابات حول ما يتعلق بالتقنية وضبط المكان والوقت والمضمون والنوع، ما المقصود؟
ضبط المكان والوقت والمضمون والنوع، وأنا أُضيف إليها: الجنس والعمر، لما تكلمنا عن التقنية في الأسرة كيف تُضبط؟
لا يمكن أن يكون التعامل مع التقنية والأبناء صغارٌ -سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا- في كل مكانٍ، لا بد للقضية أن تُقنن حسب المكان.
وأنا أعرف عددًا من الأُسَر الناجحة في هذا المضمار، فتفتح الأسرة التقنية في مكانٍ عامٍّ -في الصالة مثلًا-، هذا من حيث ضبط المكان.
ومن حيث الوقت أيضًا، فلا تفتح التقنية طوال الوقت، بل تُخصص وقتًا للأطفال، وعندما تكون علاقتي بالطفل سليمةً فإنه سيتقبل مني، يعني: قضية هذه التوجيهات أيضًا مُنضبطةٌ، أو مُتأثرةٌ بقضية تربيتنا نحن وعلاقتنا بالأبناء، فالتَّمرد الذي يحصل وعدم الاستجابة ناشئٌ من ضعف تربيتنا كما قال ابن القيم[14]"تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229).، عدِّل يا أخي، ونحن نُعدِّل من طريقة تربيتنا للأبناء حتى يستجيبوا لنا.
وقد ذكرتُ لكم مثالًا لبعض الشباب في المُراهقة والمرحلة الجامعية يقبل أن يأخذ أبوه جوَّاله ويرى الذي فيه؛ لأن هذا أبوه ووالده، ووُجِدَت المحبة، فالابن يُحب والده فيُطيعه عندئذٍ.
وإذا دخلت القضية الشرعية، وفهم هذه القضية؛ أصبحت القضية أقوى وأقوى، إذن لا بد من ضبط الوقت.
ضبط المضمون
أي مضمونٍ؟
أقصد تلك الأوقات التي تضيع في قضايا تافهةٍ، فلا بد أن نُعوِّد أبناءنا ونُعوِّد أنفسنا ونُعوِّد الأجيال على قضية المضامين الجيدة، ونُقربها لهم في التقنية.
النوع
هناك فرقٌ بين أن أُعطي الطفل الشيء الذي يحتاجه، وبين أن أُعطيه أرقى الأنواع في الجوالات مثلًا، لماذا أُلاحق أرقى الأنواع في الجوالات، أو هو يُلاحقني بأرقى الأنواع في الجوالات؟
في بعض الأشياء نحن نقول لأبنائنا: لا، في القضايا الدنيوية المادية البحتة إذا كان الأب لا يريد، فلماذا لا نُعلِّمه أنه ليس من الصواب أن يحصل على كل شيءٍ يُريده أو يراه عند الآخرين، ومن حقِّي كذلك أن أُبين له أن هذا ليس صوابًا، ... إلى آخره؛ ولذلك لا بد أن نُدرك أن القضية هنا فيها أمانةٌ ومسؤوليةٌ من الأب تجاه الأبناء.
الجنس والعمر
هناك فرقٌ بين الذكور والإناث فيما يتعلق بهذه القضايا كلها، وكذلك بالنسبة للعمر، فهناك فرقٌ بين الصغار والكبار، والمُتزوجين وغير المُتزوجين.
فلا بد يا إخواني أن نُفرِّق، والبيت الذي يتعامل مع موضوع التقنية من غير اعتبارٍ لهذه القضايا: لا في المكان، ولا في الوقت، ولا في المضمون، ولا في النوع، ولا في الجنس، ولا في العمر، كلهم سواسيةٌ، أنا أقول لهم: عليهم أن يُدركوا أنفسهم قبل أن يقع الفأسُ في الرأس.
وأنا أقول هذا الكلام من حيث التخصص، فالدلائل تؤكد ذلك، ولقاءاتنا مع الشباب وفي اتِّصالاتنا الهاتفية تؤكد خطورة الوضع الموجود عند كثيرٍ من الأُسَر للأسف الشديد، وذكرنا لكم الإحصاءات عند المجتمع السعودي.
وبالنسبة لقصة عجوز بني إسرائيل، فنحن سنأخذ القصة كاملةً، لكننا أردنا أن نأخذ الشواهد فيها، وسنأخذها كاملةً، ونقرأها كاملةً، ونأخذ منها دروسًا نفسيةً وتربويةً، لكن في لقاءاتٍ أخرى قادمةٍ، بإذن الله .
الطرق التي تُساعد على التخلص من القلق والتوتر والاكتئاب
يقول السائل: ما الطرق التي تُساعد على التخلص من القلق والتوتر والاكتئاب؟
هذا سؤالٌ كبيرٌ جدًّا في هذه الدقائق، وهو كبيرٌ لأن الوسائل كثيرةٌ، والذي يُطالع كتب المُعالجين والمُختصين في هذا الجانب يجد عدة وسائل، ولا يمكن أن نُجاوب بكلامٍ كثيرٍ في هذا الموضوع، لكن يمكن أن نُشير إشاراتٍ سريعةً جدًّا للحاجة إلى هذا الموضوع: القلق والتوتر والاكتئاب، وإن كان القلق والتوتر شيئًا، والهم شيئًا، والاكتئاب شيئًا آخر، لكن الأدعية والأذكار وقراءة القرآن والصلاة قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في تخفيف القلق والتوتر والاكتئاب، والنبي يقول: يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها[15]أخرجه أبو داود في "سننه" (4985)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (1253).، والنبي كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة[16]"الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي" للمناوي (1/ 168)..
والمكتئب عنده ما يُحزنه، وكذلك القَلِق عنده ما يُقلقه؛ فلذلك ينبغي أن نُعوِّد أنفسنا ونُعوِّد أجيالنا على الالتجاء إلى الله القوي، الغني، الحميد ، هذه هي التربية الإيمانية.
والبعض يذهب ويأخذ السيارة ويتجول، والبعض -للأسف- يتجاوز الخطوط الحمراء فيما لا يرضاه الله عند الاكتئاب والقلق، والبعض يعتزل الناس، يعني: كل هذه التَّصرفات -سواءٌ كانت حلالًا أو حرامًا- لا تحلّ هذه المشكلة، فهذه القضية مهمةٌ جدًّا.
والنبي نصح مَن سأله فقال: فليستعذ بالله ولينتهِ[17]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134)..
فالذي يعيش هذه الاضطرابات ويأخذ بهذا المنهج ويقول: أعوذ بالله، وينتهي من خلال الضبط الذاتي والمُجاهدة؛ سيكون في مستوًى عظيمٍ جدًّا.
وبالنسبة للقلق هناك مبدأ الاسترخاء يُمكن أن يُمارسه صاحب القلق، وهناك الأسلوب العقلاني الانفعالي، وهو الأسلوب الذي يُخاطب الإنسان فيه عقله ويُؤثر في وجدانه بأن هذا المستوى من القلق والاكتئاب سيؤول إلى مصائب أخرى كبيرةٍ، فهذه المُخاطبة العقلية الانفعالية -كما يُسميها أهل الاختصاص- تُفيد في هذا الجانب.
وهناك أسلوبٌ يُسمونه: الأسلوب المعرفي، وهو دَرْأُ ما يُسمى بالأفكار اللَّاعقلانية، وإحلال الأفكار العقلانية مكانها، فغالبًا يكون لدى الشخص المُكتئب أفكارٌ لا عقلانية، فينطلق من فكرةٍ غير صحيحةٍ، فأحتاج أن أكسر عنده الفكرة غير الصحيحة، وكلٌّ منا مُعرَّضٌ لمثل هذه الأشياء، كأن يرى أنه لا بد أن يفعل فعلًا ما ويتهيَّأ له؛ فيتوتر، وهذا الأسلوب سيُعقِّد الأمور.
اتصل بي واحدٌ من الشباب عمره ستةٌ وعشرون سنةً، يقول: أنا أريد أن أتزوج، وكنتُ أفعل من المُوبقات ما الله به عليمٌ، وكلما تذكرتُ مُوبقاتي أمنع نفسي من أن أتزوج! قلت: كيف؟! أنت الآن تتوب. قال: تبتُ والحمد لله. قلت: بعد ذلك أنت بحاجةٍ إلى الزواج، والأمور التي كنت تفعلها هي بسبب القضايا المُتعلقة بالشهوة، فلماذا لا تتزوج؟! هذا حلٌّ لك. قال: أخشى ألا يقبل الله توبتي لو تزوجتُ! فدخلنا في أفكارٍ غير سليمةٍ، وتصوراتٍ غير سليمةٍ، فيحتاج أن تكسر عنده هذه الأفكار.
ولا بد من الدور الأُسري في تعزيز الشخص القَلِق والمُتوتر والمُكتئب إلى أن يرتاح من هذه القضية من الناحية النفسية، ونكون قريبين منه، ونطرد الخواطر -كما قال ابن القيم- حتى لا تكون أفكارًا، ونطرد الأفكار حتى لا تكون إراداتٍ، ونطرد الإرادات حتى لا تكون أعمالًا، ولا تكون عاداتٍ، هذه لا بد لها من مُجاهدةٍ من خلال الضبط الذاتي.
ولا بد أيضًا من الاندماج الاجتماعي، خاصةً عند الاكتئاب، وقد يحتاج الإنسان إلى التدرج في قضية الأنشطة، وفي قضية العمل، وبعضهم يريد حلَّ القضية بسهولةٍ، خاصةً الذي عنده قلقٌ شديدٌ، أو عنده الاكتئاب المُتوسط أو الشديد، فهو يحتاج إلى فترةٍ، ويحتاج أن يذهب إلى الأطباء النفسيين من أجل التدخل الدَّوائي، وهناك علاجاتٌ بالصدمات الكهربائية تُساعد في هذه القضية، وغيرها من العلاجات.
أجعل بقيت الأسئلة -إن شاء الله- في وقتٍ آخر، وأسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن يُعين إخواننا في سوريا على ما هم فيه، وأن ينصرهم ويُعلي كلمتهم، ويُذلّ أعداءهم.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
↑1 | "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 192). |
---|---|
↑2 | "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229). |
↑3 | "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229). |
↑4 | "الكامل في اللغة والأدب" للمُبرد (2/ 4). |
↑5 | أخرجه البخاري (1727)، ومسلم (1301). |
↑6 | "المخصص" لابن سيده (3/ 379). |
↑7 | "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (1/ 105). |
↑8 | "المخصص" لابن سيده (3/ 379). |
↑9 | "لسان العرب" لابن منظور (14/ 35). |
↑10 | "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص51). |
↑11 | "أثر العبادات في حياة المسلم" لعبدالمحسن البدر (ص9). |
↑12 | "الكامل في اللغة والأدب" للمُبرد (2/ 4). |
↑13 | أخرجه البخاري (5867)، ومسلم (2091). |
↑14 | "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229). |
↑15 | أخرجه أبو داود في "سننه" (4985)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (1253). |
↑16 | "الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي" للمناوي (1/ 168). |
↑17 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |