المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: هذا هو اللقاء الخامس من هذه اللقاءات التربوية، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والإتقان في القول والعمل.
نحن مع المعلم الثاني، ألا وهو القدوة، وسنبدأ بهذا اللقاء -إن شاء الله تعالى- التطبيقات التربوية والنفسية للقدوة في الفرد والأسرة والمجتمع.
مفهوم القدوة
أولى هذه القضايا: المفهوم المُتعلق بقضية القدوة، وهو: أن يسلك المُربي سلوكًا صحيحًا وَفق هدي الله وهدي نبيه فيما يتعلق بقضية الأقوال والأعمال، حتى يكون مثالًا ونموذجًا للمُتربين.
هذا باختصارٍ ما يتعلق بقضية القدوة من الناحية المفهومية العملية، فالإنسان يضع في باله ذلك ما دام أنه يريد أن يكون قدوةً للآخرين، وأيضًا يبحث الشابُّ عن قدوةٍ لنفسه، فعلى هذا الشاب وعلى هذا المُربي والمُتربي أن يكون هذا هو معياره العملي فيما يتعلق بقضية القدوة.
وقد ذكرنا في هذه القضية أمورًا كثيرةً في ظل صراع القدوات اليوم، وفي ظل هذه المُتغيرات.
إذن هي: سلوك المُتربي قولًا وعملًا على هدي الله وهدي النبي .
مَن هو القدوة؟
يمكن أن نجد قدوةً ليست مسلمةً في قضايا دنيويةٍ، لكن ليست هذه القدوة التي نبحث عنها، أقصد: القدوة الشمولية، فيُمكننا أن نستفيد مما يتيسر منه حتى لو كان كافرًا، لكن ليست هي القدوة، فليست أزمة الأمة اليوم الاقتصاد، ففي القضية الاقتصادية تحتاج أن تبحث عن أناسٍ اقتصاديين قدوات في هذا الجانب، فهؤلاء يمكن أن تستفيد منهم، لكن قضية القدوة الشمولية بما ذكرناه من المفهوم العملي لقضية القدوة تختلف عن ذلك.
هذه النقطة الأولى فيما يتعلق بموضوع التطبيقات لقضية القدوة.
النقطة الثانية: مبدأ التطابق بين القول والفعل
أتمنى من كل واحدٍ أن يقف مع نفسه ويختبر ذاته، وكذلك الأخوات تختبر كل واحدةٍ ذاتها، والشباب: ذكورًا وإناثًا، والكبار والصغار، فالشخص حينما يكون ظاهره مثل باطنه، وقوله مثل فعله؛ يكون أثر هذا الشخص علينا كبيرًا.
ونحن أنفسنا إذا كانت ظواهرنا مثل بواطننا، وأقوالنا مثل أفعالنا، سنجد أن هناك مَن ينجذب إلينا بصورةٍ مغناطيسيةٍ قويةٍ جدًّا.
هذه قضية تطابق القول والعمل، والنفس البشرية تتأثر بمثل هؤلاء، حتى إن بعض غير المسلمين تقول حين تراهم: والله أقوالهم مثل أفعالهم. وذلك في المجال الذي يُبدعون فيه كمثالٍ، وبالفعل إذا أبدعوا في الجانب المادي، وكانت أقوالهم مثل أفعالهم سيتأثر بهم الناس، فالنفس البشرية تتأثر بمَن كان قوله يُطابق فعله، وإذا تأثر الإنسان من غير معيارٍ لضبط هذا التأثر حصلت المشكلة في الاقتداء بغير المسلمين، أو المسلمين الذين لا يصلح الاقتداء بهم.
إذن هذا المبدأ من أهم المبادئ في قضايا التطبيق، أنا وأنت، أين نحن من مُطابقة قولنا لعملنا؟ كذلك الذين يبحثون عن القدوات، ما معيار البحث؟ لا بد أن يكون مُطابقة القول للعمل، هذه هي القدوات.
أما الذين ذكرناهم في الدراسات فيما يتعلق بقضية الفن والرياضة ... إلى آخره، هل أهل الرياضة وأهل الفن أقوالهم مُطابقةٌ لأفعالهم؟ يعني: إذا تطابقت في الأمور التي لا يرضاها الله رجعنا إلى النقطة الأولى في التطبيق، وهي المُتعلقة بالقدوة في الجانب العملي: أن يسلك الإنسان على هدي الله وهدي النبي ، فإذا كان الأمر خلاف ذلك كيف يكون هذا الإنسان قدوةً؟!
لذلك أنت حين تتصور أبًا، أو تتصور مُعلِّمًا، أو تتصور شخصًا مُربيًا، ويسلك في أعماله وأقواله باتِّزانٍ واضحٍ وانسجامٍ واضحٍ تجده يُوجِّه إلى الصلاة ويُصلي، ويُوجِّه إلى الصدقة ويتصدق، ويُوجِّه لقضية الاحترام ويحترم الآخرين، ويُوجِّه لقضية بر الوالدين ويبرُّ والديه، ويُوجِّه لصلة الأرحام ويصل رحمه، ويُوجِّه إلى الرحمة بالآخرين ويرحم الآخرين، فهذا الأب، وهذا المعلم، وهذا المُربي سيُؤثر على مَن تحته كثيرًا.
سبحان الله العظيم! وُجِّهت لي استشاراتٌ بين المغرب والعشاء في مركز الحي -جزاهم الله خيرًا-، فاتصل بي أحد الآباء بعد صلاة المغرب وتحدث عن ابنٍ له عمره أربعٌ وعشرون سنةً، وهو مُبتلًى؛ دخل في دهاليز المخدرات ودهاليز المُسكرات، فيُضبط ثم يعود، ثم يُضبط ثم يعود، يقول الأب: يوم الجمعة الماضية -التي هي قبل أمس- اتصلت الشرطة، وما أدري عدد الحوادث التي يُضبط فيها الابن بسبب السُّكر لكثرتها! يقول: أنا الآن أريد أن أتركه. فقلت: ماذا تريد؟ وعمَّ تسأل بالضبط؟ ومتى بدأت هذه الحالة؟
يا إخواني، حين نبحث نجد أن هناك فِصامًا داخل الأسرة بين النظرية والتطبيق، فالرحمة تجدها موجودةً في غير مكانها في بعض الأحيان، لكن حين تبحث عنها في مكانها لا تجدها، ليست سمةً مُستمرةً، وهذا المبدأ -تطابق القول مع العمل- ينبغي أن يكون سمةً موجودةً، وليس وقت الأزمات فقط أرحم الابن!
فالرسول رحم شارب الخمر وقال: إني لأعلم أنه يُحب الله ورسوله[1]أخرجه البخاري (6780).، وهو شاربٌ الخمر، وكان يُجلد، يعني: يُقام عليه الحد، فهنا حزمٌ ورحمةٌ وودٌّ، والرسول ما كانت رحمته فقط في هذه اللحظة، ولا كان حزمه في هذه اللحظة، بل كان هذا ديدنه، وهذا هو مُطابقة القول للعمل، فيحتاج الإنسان أن يكون كذلك.
نحن نريد من أبنائنا أن يكونوا مُحافظين على الصلاة، فهل نحن مُحافظون على الصلاة؟
نحن نريد أن يكون أبناؤنا جادين في دراستهم، فهل نحن فعلًا نُساعدهم على ذلك؟ وهل نحن نموذجٌ في هذا الجانب؟
هل نريد من أبنائنا أن يكون أصدقاؤهم أسوياء، لا مُنحرفين، لا إفراط، ولا تفريط؟ فهل أصدقاؤنا كذلك؟
الأم تريد من بنتها أن تتحجب الحجاب الشرعي وتكون عفيفةً، فهل الأم كذلك؟ وهل النماذج المُقدمة عبر الإعلام تُساعد البنات على العفاف؟
أسئلةٌ كثيرةٌ تحتاج منا أن نقف أمامها، ولن تُحلّ هذه القضية إلا بمُطابقة القول للعمل مباشرةً في شخصية الأب والمعلم والمعلمة والأم والفرد، وكذلك ما يرتبط بتقديم القدوات.
ماذا سيجني شبابنا وفتياتنا وأجيالنا من القدوات التي تظهر عبر التقنية؟
لن يجنوا إلا ما ذكرناه سابقًا في تلك الإحصائيات والدِّراسات.
فالأم إذا بادرت إلى الحجاب والستر وطاعة الزوج ستكون نموذجًا لبنتها في مثل هذه الجوانب؛ ولذلك قال بعض المُختصين: القدوة تختصر المفاوز والمسافات فيما يتعلق بالتربية والتأثير على الأنفس البشرية وبناء الأُسَر، فسيحذون حذوهم مباشرةً، خاصةً حين تكون القضية في محكاتٍ يكون المُربي فيها مُتشبثًا بقضية مُطابقة القول للعمل.
مثلًا: أمٌّ مُتسترةٌ، لكن سافرت إلى الخارج، وما إن صعدت إلى الطائرة إلا وأزالت الحجاب، هل في هذا مطابقةٌ بين القول والعمل؟!
فمُطابقة القول للعمل لا بد أن تكون سمةً مُستمرةً للشخص المُربي، فلا يمكن أن نكون قدواتٍ وعندنا شيءٌ يجعل أبناءنا أو تلاميذنا أو مُجتمعنا يضع استفهاماتٍ، أو حتى الكبار والصغار يضعون استفهاماتٍ، يقول هذا الكلام ولا يفعله!
طيب، لماذا تتحجب في هذا البلد ولا تتحجب في الخارج؟ ولماذا يقول الأب: لا تُدخن يا ولدي. ثم يقول له: اذهب واشترِ لي دخانًا؟
أسئلةٌ كثيرةٌ تُحير المُقتدين فعلًا، وتحتاج إلى أن ننتبه إلى مثل هذه القضايا.
مُطابقة القول للعمل حتى في أَحْلَك الظروف
يُحدثني أستاذٌ لنا -وفَّقه الله-، وكان يُشرف عليَّ في (الماجستير) بتوفيق الله ، وهو مُختصٌّ بعلم النفس الاجتماعي، ودرس في أمريكا، يقول: في بداية دراستي احتجتُ إلى أن أتزوج، وتزوجتُ، فلم يكن أحدٌ يستطيع أن يأتي بزوجتي إلا والدي؛ على أساس أنه مَحْرَمٌ لها، وأنا لم أكن أستطع أن آتي وآخذ الزوجة.
دعك من الآخرين الذين يسمحون لنسائهم أن يُسافروا بدون مَحْرَمٍ، لكن هؤلاء الذين نتحدث عنهم عندهم مبادئ، والمبادئ من القدوات، وعندهم مُطابقة القول للعمل.
يقول: لأول مرةٍ في حياة والدي يخرج من البلد إلى أمريكا، ولم يسبق له ذلك، فوالده -ما شاء الله- له سنواتٌ طويلةٌ وهو مُؤذنٌ.
فتصور واحدًا ما خرج من قبل أبدًا خارج البلد، ثم خرج إلى أمريكا.
يقول: أمضى والدي ساعاتٍ طويلةً في الطائرة حتى وصل عندي وجاء بالزوجة -جزاه الله خيرًا-، يقول: أنا أعرف والدي؛ لا يترك قيام الليل البتة.
يقول: والله مع كون والدي أمضى عشرين ساعةً أو أكثر في السفر إلا أنه لم يُغير طريقته التي عهدته عليها في الرياض، وفي البيت، فبرغم التعب لم يترك قيام الليل!
يقول الدكتور -وفَّقه الله وبارك في والده-: والله هذا الجيل من الصعوبة بمكانٍ أن يعود مرةً أخرى. أو كأنه يقول: يا ليت التربية ومحاضن التربية تأتي بأناسٍ مثل أولئك الناس.
فعلًا سنفقد مثل هؤلاء الناس، وإن شاء الله ما تكون القضية مستحيلةً، ولكنه تحدٍّ كبيرٌ للتربية.
هذه السِّمة وهذه القدوة تُؤثر حتى لو كان مُقصرًا، فهذا الابن -مثل صاحبنا الدكتور- مُقصرٌ في هذا الجانب، ومع ذلك ما زالت عنده مُطابقة القول للعمل حتى في أحلك الظروف.
دعه يُدرك أن هذا هو الصواب، وهذا هو النموذج الحي، وهذا هو المثال الذي أحتاج أن أكون عليه، والله يتوب علينا، ويغفر لنا تقصيرنا، حتى لو كان من المُستحبَّات.
فهذه قضيةٌ من آثار مُطابقة القول للعمل؛ لذلك من أكبر ما يصدّ الأجيال التعارض بين القول والعمل، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].
هذا المَقْتُ أشدّ البُغض، وممن؟ من الله ؛ لذلك هذا مما يكرهه الله ويبغضه أشد البُغض: أن نقول ما لا نفعل، وقد قال الله : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:43-44].
الآن الاستنكار في هذه الآية مُوجَّهٌ إلى ماذا؟ الأمر بالبرِّ أو ماذا؟
قضية عدم وجود المُطابقة، نسيان النفس، والبعض -للأسف الشديد- يتعامل مع هذه الآية بالنقيض من تطابق القول مع العمل مباشرةً، فيقول: ما دمتُ مُقَصِّرًا ومُدخِّنًا إذن لا أُوجِّه أبنائي إلى ترك التدخين، وما دمتُ مُقصرًا في الصلاة فلا أُوجِّه طلابي إلى الحرص على الصلاة.
لا، يا حبيبي، وجِّه، فهذا طريق خيرٍ، وأنت مطلوبٌ منك هذا الكلام، وهذا طريقٌ لأن تكون أنت قدوةً، نعم، فالله استنكر ترك النفس على الباطل مع أمر الآخرين بالمعروف، لكن ترك الأمر بالمعروف وترك النفس على الباطل أشد من ترك الإنسان لنفسه أو نسيان الإنسان لنفسه مع أمره بالمعروف، فهذه قضيةٌ مهمةٌ، وكما يقول الشاعر:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله | عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم[2]"عيون الأخبار" لابن قتيبة (2/ 24). |
عرض النفس كنموذجٍ
التطبيق الثالث يرتبط بعرض النموذج، وهذا مهمٌّ جدًّا في قضية القدوة، يعني: مثلما قلنا الآن في مُعادلة مُطابقة القول للعمل، فأنت تُطابق، تأخذ القول وتُطبقه، فالشيء الذي تُظهره لا بد أن يكون باطنك مثله، والشيء الذي تُوجه إليه لا بد أن تحاول فعله، واجعل هذا مقياسًا عندك لتكون قدوةً، وكذلك تُنشئ قدواتٍ في المجتمع.
فالنقطة الثالثة من التطبيق هي: عرض النفس كنموذجٍ، وهذه لها عدّة احتمالاتٍ، وأرقاها في التأثير أن يكون الشخص القدوة نموذجًا مُباشرًا لمَن حوله.
إذا قلنا: مَن هو النموذج للأبناء؟
الوالدان: الأب والأم، وكلما كان النموذج حيًّا أمامهم كلما كان التأثير أسرع؛ ولذلك ينبغي أن نُدرك هذه القضية، فالمعلم الذي يُمضي مع الطلاب خمس ساعاتٍ -وهي من أثمن الأوقات- إذا كان نموذجًا حيًّا مباشرًا لهؤلاء الطلاب سيكون أسرع في التأثير.
لذلك النبي كان كما قال الله : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وانظروا إلى الذين تأثروا بالنبي وقد شاهدوه وعاصروه، وهنيئًا لهم الصُّحبة، فهم أصحاب النبي ، حتى الأجيال التي جاءت بعد الصحابة كانت قوتها بقوة صحابة رسول الله الذين تأثروا بوجود شخص النبي كنموذجٍ.
فأنا وأنت إذا كنا نماذج حيةً لأبنائنا ثِقْ تمامًا أن هذا النموذج ستستفيد منه أجيالٌ عدة، وهكذا المعلم.
أنا أقول للآباء والأمهات والمعلمين والذين يقفون موقف التوجيه والإرشاد والقدوة: الإحباط الذي قد نعذر فيه أنفسنا، لا نُفكر في اللحظة الحالية، لا بد أن نُفكر في المستقبل، فنحن -بعد توفيق الله وعونه- نحمي المجتمع من الشرور في المستقبل، ونبني نماذج وقدواتٍ للمستقبل، فحينما نتخلى سيتخلى غيرنا، وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح، والدائرة تدور، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، والأجيال المُقبلة شاهدةٌ علينا.
فالنماذج الحية نحن أول مَن يُسأل عنها؛ ولذلك شاهد الصحابةُ صلاةَ النبي كما جاء في حديث مالك بن الحُويرث أنه قال: صلُّوا كما رأيتُموني أُصلي[3]أخرجه البخاري (631).، وذهبوا وعلَّموا أصحابهم صلاة النبي .
هذا النموذج الحيّ تطبيقه لا يحتاج إلى كثير كلامٍ، وإنما يحتاج إلى المُعايشة التربوية والتأثير النفسي المُباشر.
فالرسول خالط أصحابه، وسافر معهم، وكان كثيرًا ما يُقال: خرج الرسول وأبو بكر وعمر، وذهب الرسول وأبو بكر وعمر، وجلس الرسول وأبو بكر وعمر، وسافرنا مع النبي ، وحين يأتي من السفر إلى المسجد إذا به أول مَن يتقدم عليه الصلاة والسلام، وفي المعركة يكون في المُقدمة.
فهذا النموذج الحي، وهذه القضية لا شك أنها تفعل فعلها، وتُحدث الأثر الكبير في نفوس المُقتدين.
القصة أسلوبٌ من أساليب عرض النموذج
القضية الثانية في جانب عرض النموذج: القصة، وهي أسلوبٌ من أساليب عرض النموذج، يعني: ذاك مثالٌ حيٌّ، الذي هو أنا وأنت، وأيضًا الشباب والأطفال يعودون، والجيل كله، ونحن كذلك نعود إلى البحث عن النموذج الحي، يعني: ما أكتفي فقط بالقراءة؛ صحيحٌ أن القراءة عن النماذج رائعةٌ وممتازةٌ، ولكن المُعايشة المُباشرة لها قوةٌ، وأجيالنا اليوم عندها كثيرٌ من الضعف الثقافي، وأيضًا ضعف الاستشعار.
فنحن بحاجةٍ مُلحةٍ للنموذج الحي، وإذا كانت الحاجة للنموذج الحيِّ في عهد الصحابة وفي عهد النبي قويةً جدًّا ومُؤثرةً، فحاجتنا اليوم للنموذج الحي أكثر، فأولئك كانوا إذا قرأوا القرآن تأثروا به، وإذا قرأوا القصص القرآني وعاشوا أحداث السيرة النبوية تأثروا؛ لأن قلوبهم حيةٌ، ونحن اليوم ضعفنا في هذا الجانب من الناحية الثقافية، ومن ناحية الجانب الوجداني.
فنحن اليوم وأجيالنا بأمس الحاجة إلى ما يتعلق بالنماذج الحية، فنحتاج أن نُغير من مُعادلات مُجتمعنا اليوم في إيجاد محاضن تُخرج نماذج وقدواتٍ للمجتمع من الصِّغَر.
ومن أفضل هذه النماذج وأفضل هذه المحاضن: الأُسَر نفسها، فالأسرة لا بد أن تكون هي أول محضنٍ تربويٍّ يُساعد في تخريج هذه القدوات، أما إذا كانت المُؤثرات الأخرى هي التي تُخرج لي ...
أنا سألتُ صاحب هذا السؤال الذي اتصل بي اليوم وقلتُ: مَن أصدقاؤه؟ قال: والله ما أدري. فقلت: هل له أصدقاء؟ قال: لا، أظن أنه ليس له أصدقاء. قلت: هل يُعقل أخي الكريم أن يكون شابٌّ عمره أربعٌ وعشرون سنةً وليس له أصدقاء؟! قلت: هذا خلاف طبيعة النفس البشرية، فلا بد أن يكون له أصدقاء، لكني ما أحببتُ أن أُثقل عليه؛ حتى لا أُحمله شعورًا زائدًا على ما هو عليه في الوضع الحالي، لكن هذا جزءٌ من الإشكالية: أننا قد نفقد مثل هذا الجانب مع أبنائنا.
لذلك القصص القرآني مهمٌّ جدًّا في هذا الجانب، إضافةً إلى النموذج الحي، وقصص النبي مهمةٌ جدًّا، وهناك كتبٌ في هذا الجانب رائعةٌ جدًّا.
وحين نقف مع أبنائنا وطلابنا وأجيالنا على قصة يوسف مع امرأة العزيز، فهي من أروع ما يكون في التربية والتأثير على قضية العفة، واليوم شبابنا يستطيعون بضغطة زرٍّ أن يدخلوا على ما يريدون.
يقول لي أحد الأشخاص: لا يُعقل الآن أن يوجد أحدٌ في هذا الوجود لم يُشاهد فيلمًا إباحيًّا -والعياذ بالله-، هكذا يتصور! قلت له: أنت مُحقٌّ. قال: هذه قناعتي. قلت: طيب، هناك ناسٌ حفظهم الله، فلا يتصور هذا الكلام، يعني: كأنه الآن بلغ إلى مستوى أن يُبرر لنفسه هذه القضية، وهذا يُعطي إشارةً إلى أن هناك خطورةً شديدةً في هذا الجانب.
طيب، عندما أقرأ قصة يوسف، هل مرَّ أحدٌ في هذا العالم بمشهدٍ مثيرٍ كما مرَّ يوسف؟
قال العلماء: لم تجتمع مواطن الإثارة والشهوة كما اجتمعت في قصة يوسف؛ فهو وسيمٌ، وقد أُعطي شطر الجمال، وهي امرأة العزيز، وكانت جميلةً، وزوجة العزيز، وفي قصرها: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23]، وهو مُغْتَرِبٌ ... إلى آخره.
فهذه مُعطياتٌ نادرة الحصول، ومُؤثرةٌ جدًّا في تعاطي المُحرَّم -والعياذ بالله-، ولكنه قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]، هذا الحاجز الذي يحجز الإنسان عن أن يضرب (كلك) في جهازه، أو في أي مكانٍ آخر، ويقول: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ.
وكما يقول أحد الدعاة -وهي لفتةٌ جميلةٌ جدًّا-: ما أجمل أن يترك الإنسان هذا الفعل وهو متاحٌ أمامه ويقول: اللهم إني تركتُ هذا لوجهك، فارحمني وتُبْ عليَّ! فيكون هذا من أكبر صالح عمله، ويدعو الله به.
ولا شكَّ أن هذا الأمر اليوم من أكبر الأعمال الصالحة التي لا يُوفَّق إليها إلا القلَّة في زمن تفجر الشهوات.
فهذا أيضًا من النماذج؛ ولذلك استغلَّ الأعداء هذا الأسلوب من التطبيق الثالث المُتعلق بعرض النموذج من خلال القصة عبر المُسلسلات والأفلام و(الفيديو كليب)، وما يُسمَّى بـ(تليفزيون الواقع، الأكشن، tv)، حتى أصبح في هذا البرنامج المشؤوم سيِّئ الذكر (ستار أكاديمي) سبعون مليون متصلًا على قلَّة الأدب وقلَّة الحياء.
فهذه القضية مؤثرةٌ؛ لأن هناك فرقًا بين أن تدعو الشخص مباشرةً، وبين أن تأتي بذلك على شكل قصةٍ واقعيةٍ حيةٍ، فهم ربطوا بين النموذج الحي والقصة، أصحاب (تليفزيون الواقع) والمشاهد الواقعية و(الأكشن) ربطوا بين النموذج الحي والقصة، وعندما يندمج الأمران بعضهما مع بعضٍ يكون الأمر أخطر.
وكذلك المسرحيات والروايات، فاستغلَّ الأعداء ذلك بشكلٍ كبيرٍ جدًّا؛ لأن طبيعة النفس البشرية تُحب القصص، وتُحب أن تعيش الحدث، فتتأثر؛ لأن عندها حاجةً للاقتداء، وعندها حاجةً للتأثر بأسلوب القصة، وهذان الأمران مهمَّان جدًّا: الحاجة للاقتداء -الذي هو القدوة- وأسلوب القصة.
طيب، لماذا لا نستغلّ هذه القضايا؟ لا بد أن نستثمر هذه القضايا، فنُقدم لهم القصة المُؤثرة المُفيدة التي تُعين الإنسان على أن يتمثل القيم الفاضلة، ونحميهم من تلك الأشياء حتى لو كانت مُؤثرةً، وهذا من ابتلاء الله لعباده.
السير والتراجم من أساليب عرض النموذج
أيضًا من القضايا المتعلقة بهذا الجانب -المتعلقة بعرض النموذج- السير والتراجم، فلا بد من ربط الناس بسيرة النبي وتراجم الشباب والرجال العُظماء، وربط النساء بتراجم الصحابيات وفُضليات أمهات النبي وأمهات هذه الأمة، وكذلك العالمات الفاضلات العفيفات، وغير ذلك من نماذج الشباب من الصحابة ومن التابعين: كقصة مصعب بن عُمير، وسيرة عبدالله بن عمر، وعبدالله بن مسعود، ... إلى آخره من تلك النماذج قدر المستطاع.
وأخذ السيرة في مواقف القيم في البذل وتحمل المسؤولية، وكيف كان النبي يضع سرَّه عند أنس بن مالك، الطفل الصغير؟ وهذا الطفل الصغير يحفظ سرَّ النبي [4]أخرجه البخاري (6289)، ومسلم (2482).، حتى إن أمه تقول له: احفظ سرَّ النبي . وكانت كافرةً لما استنطقته، فقال لها: إنه سرٌّ، يعني: طلب منه النبي أن يحفظه، فقالت: عليك بحفظ سرِّ النبي .
الحاصل أن التعلم بالقيم من خلال السيرة لا شك أنه يُنشئ عند أجيالنا أشياء عظيمةً جدًّا.
التكرار في القول والفعل
نقطة التطبيق التي بعد ذلك هي: ما يتعلق بمبدأ التكرار في القدوة، ولا يمكن أن تكون من خلال فعلٍ في لحظاتٍ، وإنما هي عبارةٌ عن شيءٍ متكررٍ، ولعل هذا يُفسر ما كان النبي يفعله ويُكرره حتى في القول، فكان يُكرر ما يقوله ثلاثًا، مع جزلٍ في العبارات واختصارٍ فيها، وكذلك ما حصل في السياق القرآني في تكرار التوجيهات.
هذا التكرار يغرس القيم، والقدوة تحتاج إلى هذا المبدأ: مبدأ التكرار، فالقدوة لا يمكن أن تحصل من خلال موقفٍ، ثم هذا الموقف يتلاشى بعد ذلك، فكما قلنا لا بد أن تكون سمةً مُستمرةً عند الإنسان؛ لأن الذي يغرس الخير ويغرس الأمور الإيجابية لا بد أن يُكرر هذا السلوك قولًا أو فعلًا.
فالأب إن كان صادقًا باستمرارٍ سيكون أبناؤه كذلك، وإذا كان الأب جادًّا في عمله الدنيوي، ومُنضبطًا في حضوره إلى الوظيفة سيكون أبناؤه كذلك، وإن كانت الأم تعرف حقَّ زوجها عليها، وكذلك تعرف حقَّ والدتها ووالدها عليها، وكذلك تعرف ما يجب على المرأة، وحصانة المرأة وعفَّتها؛ ستكون بناتها مثلها؛ لأنه سلوكٌ مُستمرٌّ.
وما ذكرناه قبل قليلٍ في قضية الحجاب في الداخل كعادةٍ، بينما في الخارج يتم نزعه، هذا هو الفصام، ويُفسر وجوده عدم وجود مبدأ التكرار أو ضعفه، فالقدوة تُشير إلى أهمية التكرار، فهي سجيَّةٌ وسِمَةٌ مهمةٌ لا بد أن تكون عند الإنسان.
لذلك قال الله : كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] من كثرة ما يتكرر عليهم الشرّ ويكتسبونه، حتى أصبح شيئًا ران على القلوب، فهذا أثرٌ من آثار التكرار.
الاعتدال والتوسط في القدوة
التطبيق الخامس: أن مجال الاعتدال والتوسط هو أفضل طريقٍ تطبيقيٍّ لقضية القدوة، كيف؟
خذوا معي هذه القضية التي جاءت في "مسند الإمام أحمد"، ورجالها رجال الصحيح كما قال أهل التحقيق: قال رجلٌ من الأنصار من أصحاب النبي : ذكروا عند النبي مولاةً لبني عبد المطلب، فقال: إنها تقوم الليل وتصوم النهار. فقال رسول الله : لكني أنا أنام وأصلي، وأصوم وأُفطر، فمَن اقتدى بي فهو مني، ومَن رغب عن سنتي فليس مني، إن لكل عملٍ شِرَةً ثم فترة، فمَن كانت فترته إلى بدعةٍ فقد ضلَّ، ومَن كانت فترته إلى سنةٍ فقد اهتدى[5]أخرجه أحمد في "مسنده" (23474)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ..
فالقدوة طريقٌ من طرق الاعتدال، واليوم نسمع قضية الاعتدال والتوسط، لكن ما هو الاعتدال والتوسط؟ إذا لم يكن هو منهج النبي فما هو؟!
للأسف الشديد نسمع اليوم بعض الإطلاقات الخاطئة التي يُطلقها بعض الآباء وبعض الأمهات -وسمعنا هذا في الاستشارات-، بل إننا الآن نجد التمرد عند الأبناء، ويتَّهمون آباءهم وأمهاتهم بالتشدد، وتجد الآباء أحيانًا يتهمون الأبناء بالتشدد، والسبب في ذلك أنهم مُتَّبعون للنبي ، لكن -للأسف الشديد- مشكلتنا في تقصيرنا في الفهم.
فالقدوة سبيلٌ لإدراك التوسط والاعتدال مثلما كان عليه الرسول ، فهذه المرأة لم يُوافق النبي على عملها، وقال : لكني أنا أنام، وماذا؟ وأُصلي، وأصوم، وماذا؟ وأُفطر، وبيَّن أن الذي يقتدي به هو على هدًى، وإلا فلن يكون كذلك.
إذن فإننا حين نضع منهج النبي أمامنا نستطيع أن نعرف التوازن في هذه الحياة، كما قال الله : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].
طيب، الدنيا والآخرة طريقان، فأيهما أولى؟
هناك أناسٌ سيلغون الدنيا من أجل الآخرة، وهناك أناسٌ سيلغون الآخرة من أجل الدنيا، وهناك أناسٌ سيُقدِّمون الدنيا على الآخرة، مع وجود الآخرة، وهناك أناسٌ سيُقدِّمون الدنيا، فأيهم أصح؟
ومن الناس مَن يقول: نجعلهما مُتوازيين مع بعضٍ، فدعنا نفترض هذا الافتراض، والآية واضحةٌ جدًّا، منهج النبي واضحٌ جدًّا: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ هذا هو الأصل، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.
إذن هذا اعتدالٌ، ولو سِرنا على هذا المنهج لعرفنا كيف نستطيع أن نربي؟ وكيف نستطيع أن نُؤثر في هذه النفس البشرية؟ وكيف نستطيع أن نكون قدواتٍ للأجيال؛ ليُدركوا الدنيا والآخرة ويتوازنوا فيهما؟ حتى الذي يخاف من أن ابنه (يشطح) في قضية التدين فإنه يُضبط بالقدوة، فإذا كنا قدواتٍ صحيحةً على منهج النبي ستنضبط القضية، وسيُصبح الرجل على سنة النبي ، فهذه القضية فيها ضمانةٌ لقضية الاعتدال والتوسط في هذه الحياة.
الأجر دافعٌ كبيرٌ لمَن يكون قدوةً
النقطة السادسة من التطبيقات: أن الأجر دافعٌ وحافزٌ كبيرٌ لمَن يكون قدوةً، فهو يكسب الأجور، ويتجنب الأوزار، يقول النبي في الحديث الصحيح: مَن استَنَّ خيرًا فاستُنَّ به كان له أجره كاملًا، ومن أجور مَن استَنَّ به، ولا ينقص من أجورهم شيئًا، ومَن استَنَّ سنةً سيئةً فاستُنَّ به فعليه وزره كاملًا، ومن أوزار الذي استنَّ به، ولا ينقص من أوزارهم شيئًا[6]أخرجه ابن ماجه في "سننه" (204)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6014)..
إذن القضية أيتها الأم، وأيها المعلم، وأيها الشاب، وأيها الصديق هي أن تكون قدوةً لإخوانك الصغار، ... إلى آخره، فنحن أمام أمرين: إما أن نكون قدوةً حسنةً، وسنكسب من خلالها أجورًا من الله بسبب أننا قدوةٌ حسنةٌ، وإما أن نكون قدوةً سيئةً. وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
فالقضية أن كل مُرَبٍّ لا بد أن يكون قدوةً، ولا يتصور أنه لن يكون كذلك، فبعض الناس يتصورون أن القدوة هو العالم، فإمام المسجد قدوةٌ لأولاده في قضية الصلاة، طيب، وأنت؟ فالمعلم قدوةٌ في جانب العلم والمعرفة، وهذه مشكلةٌ، فإننا إذا ما وزعنا القدوات أخطأنا في حقِّ أجيالنا؛ لذلك نحتاج أن نُدرك مثل هذه القضية المتعلقة بالجانب التطبيقي: الدافع والحافز: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
بل إن موضوع القدوة يُحقق ما حذَّر منه النبي ، يقول عليه الصلاة والسلام: ما من نبيٍّ بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون هم المُقتدون الذين يقتدون بالأنبياء وأصحاب، ما سَمتهم؟ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم قال: ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ.
انظر، هذه هي صفة الحواريين: يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، هذه القدوة الحسنة، أما صفة الخلوف فهي أنهم: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون[7]أخرجه مسلم (50)..
إذن أيها الإخوة، القدوة منجاةٌ من قضية الوقوع في الأوزار، وكذلك الوصول لمثل هذا الوصف لأولئك الذين يقولون ما لا يفعلون.
التطبيق السابع: قوة الملاحظة وسرعة التنفيذ
انظروا إلى ابن عمر رضي الله عنهما، وهو من أقوى الصحابة الذين كانوا يقتدون بالنبي عليه الصلاة والسلام، قال: قال الرسول : لا يبيت أحدٌ ثلاث ليالٍ إلا ووصيته مكتوبةٌ قال: فما بِتُّ من ليلةٍ بعد إلا ووصيتي عندي موضوعةٌ[8]أخرجه أحمد في "مسنده" (4469)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ.، طبَّق ما قاله الرسول مباشرةً.
وانظروا أيضًا إلى زيد بن خالد الجهني ، حيث قال: لأرمقنَّ الليلة صلاة رسول الله . قال: فتوسَّدتُ عتبته، أو فُسطاطه، فصلَّى رسول الله ركعتين خفيفتين، ثم صلَّى ركعتين طويلتين، طويلتين، طويلتين، ثم صلَّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلَّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلَّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلَّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فتلك ثلاث عشرة ركعة[9]أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1362)، وقال مُحققه: حديثٌ صحيحٌ..
فينبغي أن نُشغل (الرادار)، وتجدون الأطفال حين يكونون معكم في السيارات وفي الطرق يُكثرون الالتفات، وهذه سمةٌ عند الطفل مُرتبطةٌ بقضية المُحاكاة والتقليد، وأنت حين تلفت نظر الأجيال من الأبناء والطلاب إلى القدوات، وتكون عندهم قوة ملاحظةٍ يصلون إلى ما وصل إليه مثل زيد بن خالد حيث قال: لأرمقنَّ الليلة. فيحاول الإنسان أن ينظر إلى سلوك أبيه، وسلوك مُعلمه؛ من أجل أن يُقلده ويتبعه.
كذلك سرعة التنفيذ، فحين يقرأ سيرة النبي -كما حصل من ابن عمر في قضية الوصية- يُطبِّقها مباشرةً، فلا شك أن هذا من تطبيقات القدوة.
الثامن: أن يأخذ العقلُ مكانه في مقابل الشرع
جاء في الأثر عن عمر : أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، ثم قال: "إني أعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي يُقبلك ما قبَّلتك"[10]أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270)..
إذن هنا شيءٌ مُتعلقٌ بالاتباع، متعلقٌ بقضية الشرع الذي هو فوق العقل، فلا يمكن أن نجعل العقل يقودنا بعيدًا عن إطار الشرع، هذا الذي سيُورد الناس والأجيال المهالك بحقٍّ.
وعمر من أقوى الناس صفاءً في الذهن والعقل، وهذه القضية واضحةٌ جدًّا، والنبي قبَّل الحجر، فنحن نُقبله، ظهرت العلةُ أو لم تظهر، انتهى الموضوع: "لولا أني رأيتُ النبي يُقبلك ما قبَّلتك".
وعلي بن أبي طالبٍ يقول: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفِّ أولى بالمسح من أعلاه"[11]أخرجه أبو داود في "سننه" (162)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (525)..
فباطن الخفِّ من القدم هو الذي يُلامس الأرض، طيب، لماذا نمسح على ظاهره؟
لأن النبي مسح على ظاهره.
ولما قيل لأبي بكرٍ الصديق : إن صاحبك يزعم أنه أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس، ثم عُرِجَ به إلى السماء! قال: "إن كان قالها فقد صدق". انتهت القضية.
فإعمال العقل في غير مجاله سيُودي بالإنسان إلى المهالك، وخاصةً مع الأذكياء، وهذا الذي نُعاني منه في زمن الشبهات، فنحن اليوم نرى مَن وصل إلى الإلحاد والردة وعدم تنفيذ أوامر الشرع -والعياذ بالله- من خلال قضية العقل التي تزيد وتنقص.
على أية حالٍ بقيت دقيقةٌ، وعلى إثر ذلك لعلنا نكتفي بهذا القدر؛ لأنه بقيت عندنا بعض التطبيقات، والمهم الفائدة ومحاولة التطبيق من الجميع، إن شاء الله تعالى.
نسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته، ونكمل -إن شاء الله تعالى- المُتبقي في اللقاء القادم.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يُعلمنا وإياكم ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يجعلنا وإياكم ممن سلك مسلك الاقتداء والقدوة الحسنة في هذه الحياة؛ حتى يتربى الأجيال على ما يُحبه الله ويرضاه، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
↑1 | أخرجه البخاري (6780). |
---|---|
↑2 | "عيون الأخبار" لابن قتيبة (2/ 24). |
↑3 | أخرجه البخاري (631). |
↑4 | أخرجه البخاري (6289)، ومسلم (2482). |
↑5 | أخرجه أحمد في "مسنده" (23474)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ. |
↑6 | أخرجه ابن ماجه في "سننه" (204)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6014). |
↑7 | أخرجه مسلم (50). |
↑8 | أخرجه أحمد في "مسنده" (4469)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ. |
↑9 | أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1362)، وقال مُحققه: حديثٌ صحيحٌ. |
↑10 | أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270). |
↑11 | أخرجه أبو داود في "سننه" (162)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (525). |