المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: بادئ ذي بدءٍ، لوجود عارضٍ طارئٍ الأسبوع القادم يوم السبت اتفقنا مع الإخوان على أن يكون لقاؤنا يوم الجمعة القادمة بعد ستة أيامٍ -إن شاء الله تعالى- بدل السبت، وذلك فقط في الأسبوع القادم، وسيكون اللقاء مُخصصًا بالكامل للإجابة عن أسئلتكم السابقة -إن شاء الله تعالى- ثم نعود السبت الذي بعده، ليكون لقاؤنا كل سبتٍ، بإذن الله .
واقترح الإخوان برنامجًا مُعينًا، حيث يرون أنه لا بد في كل لقاءٍ من تخصيص خمس دقائق -على الأقل- للأسئلة.
وبناءً على ذلك فإننا بعد الانتهاء من كل الأسئلة يوم الجمعة القادمة سنُخصص في آخر اللقاء الذي بعدها وفي آخر كل لقاءٍ -بإذن الله - دقائق للإجابة عن سؤالٍ أو سؤالين حسب الاستطاعة، وهكذا في كل لقاءٍ نأخذ القسم الأساسي الذي سنُقدمه، ثم الإجابة عن بعض الأسئلة، بإذن الله .
ولقاؤنا اليوم هو الحلقة السادسة من هذه اللقاءات التربوية الأسبوعية، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها، وأن ينفع بنا وبكم.
ونُكمل اليوم الحديث عن المعلم الثاني، وهو: معلم القدوة، وسنحاول أن ننتهي منه اليوم بتوفيق الله وعونه.
وقد وقفنا عند التطبيق التربوي والنفسي الثامن، وخلصنا منه إلى قضية أن يأخذ العقلُ مكانه مقابل الشرع، كتطبيقٍ من التطبيقات المُتعلقة بقضية القدوة.
الأخذ بالعزائم طريق الأنبياء
النقطة التاسعة من التطبيقات: الأخذ بالعزائم، وهذا طريق الأنبياء لتثبيت الناس على طريق الحق، وهذا تطبيقٌ مهمٌّ أيضًا للقدوة.
أذكر في ذلك مثالًا لعمر بن الخطاب -وليتنا نقف عند هذا المثال- فقد جاء في الأثر عن عمر بن الخطاب أنه رأى على طلحة بن عبيدالله ثوبًا مصبوغًا وهو مُحرم، فقال عمر: "ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟" فقال طلحة: "يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر -أي: طين-"، فقال عمر: "إنكم أيها الرَّهط أئمةٌ يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلًا جاهلًا رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيدالله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئًا من هذه الثياب المصبغة"[1]أخرجه مالك في "الموطأ" (1164)..
هو لم يلبس ثيابًا مُصبغةً، ولكن البعض قد يرى ذلك، خاصةً أنه قدوةٌ.
فعمر يقول: القدوات لهم سلوكيات تختلف عن سلوكيات غيرهم، وهكذا ينبغي على الأب أن ينتبه، وعلى الأم أن تنتبه، والمعلم ينتبه؛ لأن القدوة تحت المجهر وتحت النظر دائمًا، فلا يظن أنه يفعل هذا السلوك المعين وابنه لا يتصور أن هذا سلوكٌ إيجابيٌّ، أو الطالب لا يتصور أنه سلوكٌ إيجابيٌّ، فما دمتَ في موطن القدوة لا بد أن تُدرك أن هناك أنظارًا تتجه إليك.
قد لا يسألك مَن يقتدي بك: هل هذا الأمر هو هدي النبي ؟ هل هذا الأمر صحيحٌ؟ هل هو خيرٌ أم شرٌّ؟ وإنما يقول: ما دام الأب فعله فهو صحيحٌ، أو ما دامت الأم فعلته فهو صحيحٌ، أو ما دام المعلم فعله فهو صحيحٌ، أو ما دامت المعلمة فعلته فهو صحيحٌ، وهكذا.
فلذلك ينبغي الأخذ بالعزائم عند القدوات، فنأخذ بالعزائم، ونكون واضحين.
وهذا من التطبيقات المهمة في قضية القدوة؛ حتى نُثبِّت الناس على الصواب، وعلى الخير، وعلى الحقِّ.
ومن الشواهد على ذلك ما جاء في الأثر عن وهب بن منبه -اسمعوا أيضًا هذا الموقف وهذه القصة- قال: كان جبارٌ في بني إسرائيل يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير، فلم يزل الأمر كذلك حتى بلغ إلى عابدٍ من عُبَّادهم. يعني: وصل الأمر إلى هذا العابد، وربما يقتله الجبار.
قال: فشقَّ ذلك على الناس، فقال له صاحب الشرطة: إني أذبح لك جديًا، فإذا دعاك الجبَّار لتأكل فكُلْ. ليس خنزيرًا، بل جَدْيًا، فلما دعاه ليأكل أبى أن يأكل، قال -أي: الجبار-: أخرجوه فاضربوا عنقه.
يعني: كان هذا الجبار يأتي بخنزيرٍ ويقول للناس: كلوا. والذي ما يأكل يقتله، فلما جاء العابد عمل له صاحبُ الشرطة هذه الحيلة، فأبى العابد أن يأكل من هذا الجدي، وهو يعلم أنه جديٌ، فقال الجبَّار: أخرجوه فاضربوا عنقه. فقال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل وقد أخبرتُك أنه جديٌ؟! قال -وهنا الشاهد-: إني رجلٌ منظورٌ إليَّ، وإني كرهتُ أن يُتأسَّى بي في معاصي الله. قال: فقتله[2]"الورع" لابن أبي الدنيا (ص114)..
قال: إن الناس ينظرون إليَّ، فأنا عابدٌ قدوةٌ، فلو أني أكلتُ لأكل الناس من بعدي؛ لأنني قدوةٌ.
انظر كيف قدَّم هذه القضية وأخذ بالعزيمة، وكان مصيره القتل؟
وهذا يُذكرنا بموقف الإمام أحمد رحمه الله في قصة خلق القرآن لما قيل له فقط: قل: إن القرآن مخلوقٌ. وقد تأوَّل بعض أصحابه بأن القرآن مخلوقٌ، يعني: قالوا بلسانهم ما ليس في قلوبهم، ففتح شرفةً فقال: انظروا إلى الناس. فالناس كانوا ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد؟ فقال: لئن قلتُ لكتبوا، ولطار بها الناس والركبان: أن الإمام أحمد يقول: إن القرآن مخلوقٌ، ولأصبحت العقيدة أن القرآن مخلوقٌ، فرفض ذلك، وأخذ بالعزيمة رحمه الله ورضي عنه، هذا هو التطبيق التاسع.
التطبيق العاشر: معرفة الحق، وتجنُب التقصير بسبب الجهل
انظروا هذه القصة: عن سعيد بن يسار أنه قال: كنتُ أسير مع ابن عمر في طريق مكة. قال سعيد: فلما خشيتُ الصبح نزلتُ فأوترتُ. الذي نزل هو سعيد بن يسار، ومعه ابن عمر، وهو من أشد الناس اقتداءً بالنبي .
قال سعيد: فلما خشيتُ الصبح نزلتُ فأوترتُ. يعني: توقف، فهم كانوا في طريق سفرٍ، يقول: فأوترتُ، ثم أدركته. يعني: ابن عمر، فقال لي ابن عمر: أين كنت؟ فقلتُ له: خشيتُ الفجر فنزلتُ فأوترتُ، فقال عبدالله: أليس لك في رسول الله أسوةٌ؟ فقلت: بلى والله. قال: إن رسول الله كان يُوتر على البعير[3]أخرجه البخاري (999)، ومسلم (700)..
الآن فعل ابن عمر اقتداءٌ أم لا؟
اقتداءٌ، أيّهما أسهل على الإنسان: فعل ابن عمر، أم فعل سعيد بن يسار؟
فعل ابن عمر الذي هو الاقتداء بالنبي ، وهو الوتر على الراحلة.
فلذلك من صور التطبيقات في جانب القدوة: أن تعرف الحق، وتبتعد عن التعسير والجوانب المتعلقة بالجهل.
هنا سعيد بن يسار وقف ونزل فصلَّى، وهو يريد الخير، لكنه ما كان يعرف هدي النبي ، فمعرفة الهدي تُساعد على معرفة الحق، والابتعاد عن التقصير بسبب الجهل.
التطبيق الحادي عشر: الوقوف عند الحق، والتنازل عن الحق الخاص وضبط الانفعال
انظروا هذا الموقف الجميل أيضًا: عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمرُ -أي: يُقربهم-، وكان القرَّاء أصحاب مجلس عمر، وعمر كان يُقرب القرَّاء، ويُشاورهم، كهولًا كانوا أو شبابًا.
فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجهٌ عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه.
قال ابن عباسٍ: فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تُعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ أن يقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله[4]أخرجه البخاري (4642)..
يعني: ضبط انفعاله رضي الله عنه وأرضاه، وتنازل عن حقِّه الخاص، وهذا من التطبيقات المهمة: أن القدوة تُساعد على التنازل عن الحقِّ الخاص، ومعرفة حق الإنسان الخاص أهم من هذا الحق الخاص، فيضبط انفعاله.
القدوة دليل الحب لرسول الله
من التطبيقات التربوية والنفسية لقضية الاقتداء: أن القدوة دليل الحب لرسول الله ، فإذا ظهر المسلم بمظهر التأسي برسول الله أحبَّه الناس، ووثقوا به، وجعلوه قدوةً يُحتذى بها.
وهذا أمرٌ يحتاج إلى أن يُنتبه له جدًّا: أن سنة النبي لها أثرها الكبير على النفوس، فأين هي من بيوتنا؟ وأين هي من تعليمنا؟
كذلك المسلم المُتبع نهج النبي ، المُقتفي أثر السلف يجد في نفسه سعادةً ما بعدها سعادة؛ لأنه يرى نفسه على بصيرةٍ وهدًى، وينظر بنورٍ، ويسير في الطريق الصحيح، كذلك التأسي في الدين يكون بنظر الإنسان إلى مَن هو فوقه، وفي الدنيا بالنظر إلى مَن هو دونه.
إذن كل هذه القضايا المُرتبطة بجانب القدوة والتأسي دليل المحبة، وطريق السعادة، فالناس ينظرون إلى هذا الإنسان صاحب القدوة ويُحبونه، وكذلك القدوة في أمور الدين بمَن هم أعلى؛ حتى يتأسى بهم، وفي أمور الدنيا بمَن هم أقل.
سندخل في تطبيقاتٍ ختاميةٍ لكن فيها شيءٌ من التركيز في النصف ساعة المُتبقية؛ لأنها ذات أهميةٍ كبيرةٍ جدًّا في موضوع القدوة، ويمكن أن يكون هذا التطبيق السادس عشر.
الجمع بين تلاوة القرآن والعمل به
أنا الآن لو قلتُ للإخوان: كل شخصٍ منا يتمنى أن يكون حافظًا لكتاب الله، أو شيئًا من ذلك، كذلك بالنسبة لأبنائه، ولو أخذنا نموذج حلقة تحفيظ القرآن كمثالٍ، نأخذ المنهج الذي كان عليه السلف الصالح ونُطبقه على عنايتنا بكتاب الله .
جاء عن أبي عبدالرحمن السلمي -وهو من كبار التابعين- أنه قال: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا -أي: القرآن- أنهم كانوا يستقرئون من النبي -أي: القرآن-، فكانوا إذا تعلَّموا عشر آياتٍ لم يخلفوها -أي: يتجاوزونها- حتى يعملوا بما فيها من العمل. يقول أبو عبدالرحمن السلمي رحمه الله: فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا[5]"تفسير مجاهد" (ص193)..
أنا أقول: هذا منهجٌ مهمٌّ جدًّا حتى نُوجد موضوع القدوة والأسوة الحسنة في مجتمعنا، يعني: التعامل مع كتاب الله بهذا المنهج، فحين تقرأ لبعض السلف تجد أن أحدهم جلس ثماني سنوات وهو يحفظ سورة البقرة[6]انظر: "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" (2/ 22).، فلا يمكن تفسير هذا -وهم أصحاب عقولٍ ناضجةٍ- إلا بهذا المنهج الذي ذكره أبو عبدالرحمن السلمي الذي كان عليه السلف الصالح، فهل منهجنا اليوم في التعامل مع كتاب الله بهذه الطريقة؟
تصوروا لو كان هذا هو المنهج اليوم، وهذا تطبيقٌ تربويٌّ ونفسيٌّ واجتماعيٌّ مهمٌّ جدًّا، فليست القضية كم نقرأ؟ وإن كان في قراءة كتاب الله أجرٌ، ولكن القضية الأساسية في بناء الشخصية، وفي التأثير في الآخرين، هذا هو المنهج الذي ساروا عليه في كونهم لا يتجاوزون عشر آياتٍ حتى يُطبقوا ما فيها، فتعلَّموا العمل والعلم معًا.
ماذا لو كان هذا منهج حلقات تحفيظ القرآن، ومنهج حصص القرآن في المدارس، ومنهج كل واحدٍ منا في تعامله مع كتاب الله ؟ فيأخذ التوجيه من الآية، ثم يذهب ويُطبق هذا التوجيه ولو مرةً واحدةً إذا كان مُستحبًّا مثلًا، فيُعود نفسه على الجانب التطبيقي، وعندئذٍ يظهر النموذج العملي كما ظهر في منهج السلف الصالح.
ولذلك أيها الإخوة كان القرآن عندهم غير القرآن عندنا؛ ولهذا قالت عائشةُ رضي الله عنها تصف النبي : «كان خُلُقه القرآن»[7]أخرجه أحمد في "مسنده" (25302)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4807).، فإذا أردتَ أن تعرف خُلق النبي فانظر لكتاب الله، معنى ذلك أنه عبارةٌ عن تطبيقٍ عمليٍّ لما في كتاب الله في السلوك من خلال الجوانب الفكرية، والجوانب الشعورية، والوجدانية، والانفعالية، والجوانب المهارية.
فلو كان هذا هو دَيدننا في التطبيق مع كتاب الله لاستطعنا أيضًا أن نتمثل هذا التطبيق الرائع للقدوة.
السابع عشر: اقتران العلم بالعمل
تميز أسلوب عصر النبي وعصر الخلفاء الراشدين في التعليم بقضية اقتران العلم بالعمل، وهذا بلا نقاشٍ، وذكرنا هذا في مُقدماتنا في الحلقات السابقة في كلام أبي عبدالرحمن السلمي.
ما الذي حصل بعد ذلك؟
دخل الترفُ الفكري والنزوع العقلي في الأمة الذي هو مدرسة الاعتزال، خاصةً في العصر العباسي عندما صارت الكتب تُترجم، فأصبحت هناك عنايةٌ عند بعض المسلمين بقضية الترف الفكري والجانب العقلي، يعني: يمكن أن يغرق في الجانب التنظيري، ويغرق في الجانب الفكري، ولا تهمه قضية التطبيق، وكان هذا بسبب منهج الاعتزال الذي كان يُقدِّم العقل على النَّقل.
فعندنا صورتان:
الصورة الأولى: عهد النبي وعهد الراشدين، والتي تمثلت فيها مطابقة القول للعمل، واقتران القول بالعمل، وكان العقل تبعًا للنقل، والنقل له الهيمنة، ولم يكن هناك ترفٌ فكريٌّ، والكلام قليلٌ، فكان كلام النبي جَزْلًا، مع تكراره للعبارات ثلاثًا، ومع ذلك كان كلامه قليلًا، وكان يُعَدُّ عَدًّا.
فلما دخلت المدارس الفكرية العقلية أصبح هناك جنوحٌ للجانب الفكري؛ لذلك أين الجانب التطبيقي هنا؟!
فالقدوة لا يمكن أن تكون في قضية الجنوح في الجانب العقلي والترف الفكري بحالٍ من الأحوال، واليوم عندنا (موضة) في ظل التقنية الحديثة وهي: الانهماك في هذه الآراء والأفكار المُتعددة عند الذكور والإناث، وعند الكبار والصغار، ووُجد اليوم فكرٌ اعتزاليٌّ جديدٌ عبر قضايا التنوير والتجديد، والقضايا الجديدة التي تم تبنيها -للأسف- من بعض المحسوبين على الإسلام، فهذا ليس منهج النبي ، ولا منهج الخلفاء الراشدين، ولا يُمثل القدوة، وستشطح الأذهان إلى قضية الفكر، ويُصبح هو الذي يُسيطر على الإنسان، لكن العمل في مقابل الفكر في ظل هذا الوضع لا تبحث عنه.
أعرف بعض الذين تابوا من الليبرالية، يقول أحدهم: من الأشياء التي جعلتني أترك هذا الاتجاه أنني كنت ألحظ اشمئزاز هؤلاء الناس عندما يُؤذن المُؤذنُ، ويسعون إلى تغيير القنوات والإذاعات التي يظهر فيها الأذان، أو يظهر فيها كتاب الله ، وثقل هؤلاء في العبادة، بل تردّيهم في أمور الطاعات، فأدركتُ أن المسألة مسألة هوًى، وقضية فكرٍ مُنحرفٍ؛ لأني إذا كنت أريد الحق -حتى لو كنتُ أدَّعيه وأقول أن الحقَّ الذي في ذهني هو الصحيح- فلا بد أن يكون له أثرٌ على حياتي العملية، وعلى طاعتي وقُربي من الله ، أما إذا زاد الفكرُ وقلَّت الطاعة وقلَّت العبادة؛ فإن هذا الفكر ليس إلا مضرَّة للإنسان، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أوتوا ذكاءً، ولم يُعطوا زكاءً"[8]"شرح الفتوى الحموية" للتويجري (ص616).، يعني: أُعطوا ذكاءً، ولكن لم يُعطوا التزكية لهذه النفوس.
فعلينا أن ننتبه للشطح الذي عندنا اليوم، حتى وصل بعض الناس -والعياذ بالله- إلى الردّة عن دين الله ، واتباع النصرانية، وطرح الأفكار الهدَّامة، والتشويش على الفكر الإسلامي الناصع من خلال عدم تطبيق هذا المنهج التربوي في قضية مُطابقة القول للعمل.
أخلاق العلماء
الثامن عشر من التطبيقات: ما قام به العلماء في التأليف، مثلما فعل الزرنوجي، وكذا الآجري رحمه الله، فله كتابٌ عظيمٌ جدًّا اسمه "أخلاق العلماء"، وحين تقرأ فيه تجد الشيء الذي يجعلك تقتنع بأن العالم هو العامل.
يأتيني عالمٌ هو مجرد حافظٍ، أو عالمٌ عنده من الفكر، لكن ليس عنده تطبيقٌ، هذا ليس بعالمٍ؛ ولذلك قال: هذه أخلاق العلماء الربانيين.
فنحن نحتاج هذا الذي ذكره الآجري وذكره الزرنوجي في كتاب "تعليم المتعلم طريق التعلم" وأمثاله، نحتاج أن نُقرب الصورة للمجتمع اليوم من خلال نشراتٍ، ومن خلال استخدام وسائط التقنية، وتأليفٍ جديدٍ بأسلوبٍ مناسبٍ جدًّا.
هذه من التطبيقات المهمة لإيجاد قضية القدوة التي اصطلحنا عليها، وهي: مُطابقة القول للعمل.
فلا بركةَ في الكُليات، ولا في الجامعات، ولا في التعليم العام، ولا في التوجيهات الأسرية الشفوية الثقافية المعرفية؛ إذا كانت بعيدةً عن التأثير في العمل والسلوك، أيًّا كانت نوعية هذا السلوك.
انظروا إلى منهج العلماء الربانيين أصحاب القدوة في قضية العقيدة، وقد كتب في العقيدة علماء كثيرون على اختلاف مشاربهم، لكن خذ مثالًا من الأمثلة التي تهمنا هنا: شيخ الإسلام ابن تيمية كمثالٍ ونموذجٍ من النماذج، وغيره كذلك، لكن سأذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، لقد قعَّد عقيدةً في الأسماء والصفات في كتابه "العقيدة الواسطية"، فعندما تقرأ في العقيدة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء -كالطحاوي واللالكائي وغيره- تجد النفس المتعلق بقضية القدوة وهم يُعلِّمون الناس العقيدة.
بعض الناس عندهم العقيدة هي فكرٌ ومعلوماتٌ للحفظ، وليس لها أثرٌ على السلوك، إذن فما فائدة العقيدة؟
حين يُقال: الله هو الرزاق، والله عليمٌ خبيرٌ، والله في السماء. طيب، ما أثر هذا الكلام على سلوكي؟ وما أثر هذا الكلام إذا كنت أعرف هذا للمعرفة فقط؟ طيب، قد علم إبليسُ شيئًا من هذا القبيل، أليس كذلك؟!
شيخ الإسلام ابن تيمية بعدما قعَّد عقيدة الأسماء والصفات في "العقيدة الواسطية" انظروا ماذا قال في آخر فصلٍ ختم به "العقيدة الواسطية"؟ حتى نُدرك تطبيقًا من تطبيقات القدوة في مثل دراسة العقيدة، كما قلنا في القرآن: ما فائدة أن نقرأ ونحفظ دون أن نأخذ التوجيهات ونُطبقها؟! كان خُلُقه القرآن[9]أخرجه أحمد في "مسنده" (25302)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4807)..
كذلك في العقيدة لا بد أن نعرف أثر هذه العقيدة، انظروا أثر العقيدة التي ختم بها شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه العظيم: "العقيدة الواسطية"، يقول بعدما سرد العقيدة السلفية: "ثم هم" هؤلاء المُتبعون لهذه العقيدة، "ثم هم مع هذه الأصول".
الآن أتمنى أن تسيروا معنا في هذا الوصف الرائع في أثر العقيدة على النفس البشرية، والتي ينبغي أن نُعلم أبناءنا ذلك، وتُربيهم مدارسنا من خلال التعليم الحقيقي، هذا هو التعليم التربوي لقضية العقيدة.
يقول: "ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما تُوجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد والجُمَع والأعياد مع الأُمراء: أبرارًا كانوا أو فُجَّارًا، ويُحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله : المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدُّ بعضُه بعضًا وشبَّك بين أصابعه[10]أخرجه البخاري (481).، وقوله : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم".
انظروا إلى هذه القيم الكثيرة التي ذكرها، والتي نحتاجها في الأُسَر، ونحتاجها في المجتمع.
"مثل المؤمنين في توادهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى[11]أخرجه مسلم (2586)..
ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر والرضا بمُرِّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله : أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا[12]أخرجه أبو داود في "سننه" (4682)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5101)..
ويحثون على أن تصل مَن قطعك، وتُعطي مَن حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك.
ويأمرون ببرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، وحُسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرِّفق بالمملوك.
وينهون عن الفخر والخُيلاء، والبغي والاستطالة على الخلق -أي: التَّكبر عليهم- بحقٍّ أو بغير حقٍّ، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفسافها.
وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه مُتَّبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا .
لكن لما أخبر النبي أن أمته ستفترق -هنا ذهبت القدوة- على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة[13]أخرجه ابن ماجه في "سننه" (3993)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2040).، وفي حديثٍ عنه أنه قال: هم مَن كان على مثل -هنا القدوة- ما أنا عليه وأصحابي[14]أخرجه قوام السنة في "الترغيب والترهيب" (965)، وهذه الزيادةُ وهي قوله: مَن كان على مِثل ما أنا عليه وأصحابي رواها … Continue reading، صار المُتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشَّوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصَّالحون، ومنهم أعلام الهُدَى ومصابيح الدُّجَى، أولوا المناقب المنثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي : لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرُّهم مَن خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس[15]أخرجه مسلم (1037).".
أين ذكر هذا الكلام؟
بعد الأصول، بعد العقيدة، والعقيدة عندما يكون لها أثرٌ فهذا تطبيقٌ مهمٌّ جدًّا للقدوة، فلا بد أن نجعل من العقيدة التي نلتزم بها هذا الأثر الذي ذكره ابن تيمية بهذا البحر الواسع من القيم والأخلاق والسلوكيات التي أشار إليها فيما يتعلق بالإنسان بينه وبين نفسه، ومع الله ، ومع الناس.
الفكر التربوي
التطبيق العشرون: في الدراسات دأب الباحثون اليوم على إيجاد دراسات في (الماجستير) و(الدكتوراة) من التطبيقات الجميلة، وهي دراسة الفكر التربوي عند بعض العلماء، مثل: الدكتور حسن الحجاجي الذي عمل دراسةً بعنوان: "الفكر التربوي عند ابن القيم"، ثم يستعرض عنده جانب الفكر التربوي والمعالم المُتعلقة بهذا الجانب، هذا من التطبيقات العملية: أن نستعرض الجوانب التربوية التي قدَّمها العلماء من خلال كتبهم وتُراثهم.
فمثلًا الدكتور عبدالعزيز الرشودي كانت دراسته في (الدكتوراة) بعنوان: "الفكر التربوي عند السعدي، دراسةً تحليليةً ناقدةً للشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى"، ذكر فيها مُقتطفاتٍ متعلقةً بهذا الموضوع الذي نحن بصدده، وسأقرأ مجموعةً من المُقتطفات المهمة:
"العلم نوعان -هذا كلام الشيخ ابن سعدي رحمة الله عليه-: نوعٌ لا يُثمر العمل بمُقتضاه، وإنما هو حُجَّةٌ على صاحبه، وهو غير نافعٍ.
وعلمٌ يُثمر العمل بمُقتضاه، وهو علم المؤمنين بأن الله سيبعثهم ويُجازيهم بأعمالهم، فأحدث لهم هذا العلمُ الخوفَ؛ فخافوا مقام ربهم، وانتفعوا بنذارة الرسول".
لما يُقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] هؤلاء لا يمكن أن يكون العلمُ عندهم هو الترف الفكري الذي هو مجرد الحفظ المعلوماتي، وما شابه ذلك، وإنما هو العلم الذي يُثمر العمل.
يقول الشيخ رحمة الله عليه: "فإذا كان فقد العلم جهلًا"، الآن الواحد إذا لم يكن عنده علمٌ ماذا يُقال؟ جهل، "فإذا كان فقدُ العلم جهلًا قبيحًا، ففقد العمل به جهلًا أقبح وأشنع".
ويقول رحمه الله: "كان السلف يستعينون بالعمل على العلم، فإن عمل به استقرَّ ودام ونمى وكثرت بركته".
الآن كثيرٌ من الناس يشتكون ويقولون: يا أخي، نحن درسنا لسنواتٍ، وما بقي شيءٌ عندنا، ذهب كل العلم. طيب، ما السبب؟
السبب عدم وجود العمل الذي هو معيار القدوة.
يقول: "فإن عمل به -هذا العلم- استقرَّ وبقي ودام ونمى وكثرت بركته"، فالواحد يجد علمًا قليلًا وينفع الله به كثيرًا، "وإن ترك العمل به ذهب وعُدمت بركته -والعياذ بالله-، فروح العلم وحياته وقوامه إنما هو بالقيام به عملًا وتخلُّقًا وتعليمًا ونُصْحًا"، هذه هي بركة العلم، ولا توجد بركةٌ في العلم في محاضن العلم؛ لعدم وجود تربيةٍ على مثل هذه القضايا المتعلقة بقضية القدوة وقضية أثر وثمرة هذا العلم بالعمل، بل إن الدراسات غير الشرعية المتعلقة بالعلوم الأخرى من وسائل المعرفة ووسائل العلوم هي كذلك؛ إذا ما طبَّقتها فلا فائدةَ منها، كشخصٍ مُختصٍّ بالاقتصاد، أو شخصٍ مُختصٍّ بالطب، أو شخصٍ مُختصٍّ بعلم النفس، إذا ما طبَّق هذه العلوم فلا بركةَ فيها.
ويقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "يكون الغرض الوحيد من المتخرجين" هذا في وقته، انظر للعبارات، وهذه رسالةٌ للخريجين، "يكون الغرض الوحيد من المتخرجين في المدارس الناجحين في علومها: أن يكونوا صالحين في أنفسهم وأخلاقهم وآدابهم، مُصلحين لغيرهم، راشدين، مُرشدين، مُهتمين بتربية الأمة"، الله أكبر! الله أكبر!
اليوم كان عندنا لقاءٌ مع الدكتور عبدالعزيز النغيمشي بين المغرب والعشاء في كُليتنا، فكان هناك سؤالٌ، لكن ما كتب الله أن يُسأل لكثرة الأسئلة، وهو سؤالٌ أعجبني، وكان عن المُخرجات التربوية: ماذا تنصح فيما يتعلق بها حتى تكون مُخرجاتنا التربوية سليمةً؟ لكن جاء الجواب الآن من كلام الشيخ رحمة الله عليه، وهو كلامٌ عجيبٌ جدًّا، وقد سمَّاهم مُتخرجين في المدارس، ناجحين في علومها، طيب، متى؟ هؤلاء صحيحٌ أنهم خريجون، وهذه المُخرجات التربوية، يقول: "أن يكونوا صالحين في أنفسهم وأخلاقهم وآدابهم، مُصلحين لغيرهم"، فهو صالحٌ في نفسه في القضايا هذه كلها، ومُصلحٌ لغيره، "راشدين، مُرشدين، مُهتمين بتربية الأمة"، الله أكبر!
التطبيق الحادي والعشرون: الفقه
هذا من التطبيقات المهمة، فعلى كل واحدٍ منا أن يهتمَّ به، فكل واحدٍ منا لا بد أن يعرف أحكام العبادات وأحكام المُعاملات التي يحتاج إليها، أليس كذلك؟ لا بد من هذه القضية.
طيب، الدكتور عبدالعزيز القارئ له كلامٌ جميلٌ جدًّا في كتابه "برنامج عام للمُتفقهين" عن ثماني قواعد ضروريةٍ لمَن يهتم بقضية الفقه، فقط آخذ الشاهد كتطبيقٍ عمليٍّ، يقول: "القاعدة السادسة: أن تصرف العناية عند تلقيك للعلم، وهو عند تفقهك في دين الله" تريد أن تتفقه في دين الله، ماذا تفعل؟ أعطاك المنهج الذي له علاقةٌ بقضية القدوة: "أن تصرف العناية عند تلقيك للعلم -وهو عند تفقهك في دين الله- إلى العلوم العملية، وإلى الجوانب العملية في العلوم".
انظر إلى العلوم التي لها تطبيقٌ واهتمَّ بها، وانظر إلى الجانب العملي للشيء الذي تتعلمه واذهب ونفذه، فكل علمٍ فيه جوانب يتعلق بها العمل، وفيه جوانب زائدةٌ عن ذلك تُعدّ من باب الترف العلمي، والأعمار كما ذكرنا محدودةٌ، فعمرك أيها المُتفقه لا يسع كل تلك العلوم، فعليك أن تغتنم عمرك وتُركز على الجوانب التي يتعلق بها العمل.
إذن ركِّز في تفقهك في الدين على الجوانب التي يتعلق بها العمل، لا تأخذ القضية بالجوانب الفلسفية، ويذكر لك مسائل لم تحصل، ويتفلسف، ويُحب أن يقرأ القضايا المُعقدة، لا، هذا ترفٌ فكريٌّ لا قيمةَ له، ولا يُنشئ لنا القدوة، ولا يُنشئ لنا مُطابقة القول للعمل الذي تحتاجه الأمة.
يقول: لا تصنع مثل الفلاسفة، ضيَّعوا أعمارهم في الأوهام في أمورٍ نظريةٍ جدليةٍ لا طائلَ من ورائها، وهذا الآن مُطبَّقٌ على ما حصل في قصة الكاشغري وغيره، حتى صار الشك زبدة علوم الفلاسفة، فالشك عندهم هو أول الطريق ونهايته، ما الفائدة من ذلك؟ خُزعبلاتٌ وأوهامٌ، ثم ضعفٌ في الدين، وربما ردَّةٌ عنه، والعياذ بالله.
ولذلك كان يحذر من الكتب الفقهية التي فيها تعقيداتٌ لفظيةٌ، وتُؤخذ الكتب المُبسطة السهلة التي فيها وضوحٌ بيِّنٌ، هذا هو المجال التطبيقي.
التطبيق الثاني والعشرون في فقه تربية الأبناء
يقول الشيخ الدكتور مصطفى العدوي -حفظه الله- وهو يتكلم عن قضية تربية الأبناء: ينبغي على ولي الأمر ألا ينهَ عن خلقٍ ويأتي مثله. يقول: بل هو العار أن ينهاهم عن الكذب وهو يقول لمَن جاء يسأل عن ابنه: إنه غير موجودٍ! أو ينهاهم عن رفع الصوت وهو يرفع صوته بالسباب والشتائم والصياح في البيت، أو ينهاهم عن شُرب الدخان والنظر إلى المُحرمات وهو ينظر لها، ويأمر ابنه أن يشتري له سيجارةً، وهكذا.
يقول: وقد كان شُعيب عليه الصلاة والسلام يقول: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88].
ويقول أبو الأسود الدؤلي رحمه الله:
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله | عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ |
وابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها | فإن انتهت عنه فأنت حكيمُ |
فهناك يُقبل إن وعظتَ ويُقتدى | بالقول منك وينفع التعليم [16]"المستطرف في كل فنٍّ مُستظرف" للأبشيهي (ص27). |
اتصلت بي إحدى الفتيات في عمر الزهور، وأخذت في البكاء -وربما ذكرتُ هذا من قبل-، وكان السبب شيئًا بسيطًا جدًّا: أن أباها قد وعدها بأمرٍ، ويعدها بأمورٍ، لكنه لا يُنفذ.
وقد أدركتُ عدة مراتٍ أننا نقرأ أشياء في التخصص، ونقرأ أشياء متعلقةً بمثل هذه الأمور، لكن حين تأتيك الوقائع وتسمعها عبر الاستشارات تشعر أنها واقعيةٌ، فأثرها كبيرٌ على النفس البشرية؛ لأن أقرب الناس إلى الأبناء هم الآباء، فإذا كان الآباء غافلين عنهم، ويعدونهم ولا يُوفون بالوعود، فهذه شديدةٌ جدًّا.
إحدى الأخوات اتصلت بي قريبًا وقالت: الزوج حالته عجيبةٌ جدًّا إلى مستوى أنه فعل فينا هذا الموقف، أخذني والأبناء إلى إحدى المناطق، وعندما وصلنا تصنَّع قضيةً مُعينةً وأرجعنا ليذلنا! يعني: ذهبوا حوالي أربعمئة أو خمسمئة كيلو، فلما وصلوا هناك قال لهم: نسيتُ شيئًا في الدمام، وأرجعهم إلى البلد، تقول: والله حدث هذا قبل أسبوعين تقريبًا، فكيف نتصرف مع هذا الأب؟ تصور! هذا الفصام النَّكد بين النظرية والتطبيق.
التطبيق الثالث والعشرون: الأهداف السلوكية
أي تربيةٍ لها شيءٌ يُسمَّى: الأهداف السلوكية، هناك أهداف معرفية، ووجدانية، ومهارية، والأساس هو الهدف المعرفي، لكنه ليس الأساس الذي هو النهاية، لا، بل هو البداية، ويترتب عليه الهدف المهاري والهدف الوجداني.
قصدنا بهذا الكلام كله هو نفس كلامنا السابق، لكنه ترجمةٌ لقضية الأهداف، فالبعض عندنا يغرق في الأهداف المعرفية، مع كونها ليست نهاية المطاف، بل هي بداية المطاف، فهناك أهدافٌ أخرى في التربية اسمها: الأهداف الوجدانية؛ والمُتمثلة في تأثير هذه القضية على الاتجاهات نحو الأشياء: قبولًا ورفضًا، حبًّا وكُرهًا، خيرًا وشرًّا، حقًّا وباطلًا، وأيضًا الأهداف المهارية، مثل: تطبيق الصلاة: صلُّوا كما رأيتُموني أُصلي[17]أخرجه البخاري (631).، وما شابه ذلك.
فالقضية ليست أحكامًا فقط، كأن أُعلم الأبناء الصلاة فقط وانتهى الأمر، القضية أشد من ذلك: حب الصلاة، ثم بعد ذلك تطبيق الصلاة.
بعض المعلمين تخصصهم لغة عربية، وأنا وقفتُ هذا الموقف بحكم تخصصي الأساسي في اللغة، فأتيتُ للطلاب في جامعة الملك فيصل، وقلتُ لهم: أنا أعرف أن بينكم وبين اللغة العربية عداوةً وبغضاء، فأنا سألغي الجانب المعرفي، وسأقوم بعملية فلترة حتى أحاول أن أجعلكم تُحبون اللغة.
الآن حب اللغة هذا جانبٌ وجدانيٌّ، وضحينا بالجانب المعرفي من أجل تحقيق الجانب الوجداني؛ لأنه لا فائدةَ من العلم بدون حبٍّ، فما فائدة المدارس وأنا لا أُحبها؟ وأذهب وما أحبها، وأتمنى أن أطلع منها بسرعةٍ، وأرجع إلى البيت وأتمنى أن أخرج منه، لكني أحتاج أن أنام فيه، وأحتاج أن آكل فيه، ولكني ما أُحب أن آوي إليه!
فالأهداف الوجدانية غير موجودةٍ، وإذا كانت غير موجودةٍ فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا.
التقييم
وأخيرًا ما يتعلق بالتقويم التربوي، فأي قضيةٍ مُتعلقةٍ بالجانب التربوي والنفسي لا بد لها من تقييمٍ، أنا أُقيم ربّ الأسرة، وأُقيم وضع أبنائي وزوجتي ونفسي، والمعلم في الفصل، والشخص في دائرته، والناس في المجتمع.
يقول أهل الاختصاص: التقويم هو المقياس الحقيقي في نجاح أي برنامجٍ، فإذا لم نُحقق البرنامج فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ.
وعندنا مرضٌ وثقافةٌ في المجتمع؛ فكل برنامجٍ ناجحٍ ما شاء الله، تبارك الله، كل الأمور تمام، البرنامج ناجحٌ، قلت: ناجحٌ! على أي أساسٍ هو ناجحٌ؟
وهذا من تطبيقات القدوة، على أساس قضية أين الأثر؟
يقول: المقياس الحقيقي لنجاح برنامجٍ ما هو مقدار ما يُحققه ويُمارسه المُشاركون مما تعلَّموه، هذا هو المقياس؛ فإننا إذا رأينا أثرًا للبرنامج على الذين تعلَّموه فإن هذا البرنامج ناجحٌ فعلًا، أما إذا لم يكن له أثرٌ: سمعوا الخطبة ولم يتغيروا، أو قرأوا الكتاب ولم يتأثروا، فما الفائدة؟ ليس هناك فائدةٌ.
إذن لا بد من التطبيقات، لا بد أن نهتم بقضية التقويم التربوي؛ ولهذا يُفضل أن نضع تقويمًا لتغيرات وتوجهات المشاركين وسلوكهم وأدائهم بعد برنامج التعليم التربوي.
بعد هذا البرنامج يمكن أن نقول: اللقاء كذا وكذا، لكن التقويم الصحيح: ما أثر هذا اللقاء عليَّ وعلى إخواني الموجودين؟
فعندما أدرس سلوكهم وأنظر إلى المُتغيرات في سلوكهم: هل تغير سلوكهم بعد اللقاء في مقابل ما كان قبل اللقاء؟ في هذه الحالة سأعرف فعلًا أثر هذا اللقاء، هذا هو التقويم التربوي.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، غير ضالين، ولا مُضلين، وأن يُوفقنا وإياكم للقدوة الحسنة.
وبهذا نكون قد انتهينا من المعلم الثاني "القدوة"، وسيكون لقاؤنا القادم -إن شاء الله- يوم الجمعة بدلًا من السبت، وسنُجيب عن الأسئلة السابقة في اللقاء كاملًا، إن شاء الله تعالى.
ونسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
ونُصلي على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه مالك في "الموطأ" (1164). |
---|---|
↑2 | "الورع" لابن أبي الدنيا (ص114). |
↑3 | أخرجه البخاري (999)، ومسلم (700). |
↑4 | أخرجه البخاري (4642). |
↑5 | "تفسير مجاهد" (ص193). |
↑6 | انظر: "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" (2/ 22). |
↑7 | أخرجه أحمد في "مسنده" (25302)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4807). |
↑8 | "شرح الفتوى الحموية" للتويجري (ص616). |
↑9 | أخرجه أحمد في "مسنده" (25302)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4807). |
↑10 | أخرجه البخاري (481). |
↑11 | أخرجه مسلم (2586). |
↑12 | أخرجه أبو داود في "سننه" (4682)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5101). |
↑13 | أخرجه ابن ماجه في "سننه" (3993)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2040). |
↑14 | أخرجه قوام السنة في "الترغيب والترهيب" (965)، وهذه الزيادةُ وهي قوله: مَن كان على مِثل ما أنا عليه وأصحابي رواها الآجري من طُرقٍ، ومعناها لا شكَّ في صحَّته. انظر: "المفصل في تخريج حديث افتراق الأمة" للشحود (ص279)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا حديثٌ محفوظٌ. انظر: "المفصل في تخريج حديث افتراق الأمة" للشحود (ص172). |
↑15 | أخرجه مسلم (1037). |
↑16 | "المستطرف في كل فنٍّ مُستظرف" للأبشيهي (ص27). |
↑17 | أخرجه البخاري (631). |