المحتوى
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات في الحلقة الثانية من أدوار الأسرة التربوية، والشكر لله ثم للإخوة في جمعية "وئام للرعاية الأسرية"، فبارك الله فيهم واحدًا واحدًا.
في الحقيقة أنا أعتذر اليوم عن العرض؛ نظرًا لخللٍ فنيٍّ، وكانت هناك بعض الترتيبات من دقيقتين أو ثلاثٍ، ولكن لم يكتب الله .
فعلى أية حالٍ لعله -إن شاء الله تعالى- ينسجم ذلك مع اللقاء الثالث –بإذن الله- في الأسبوع القادم بتوفيقٍ من الله وعونه.
كنا -أيها الأحبة- قد تحدثنا معكم حول مقدماتٍ فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهذه السلسلة، وهذا البرنامج؛ فتحدثنا عن قضية الإخلاص والجهد المبذول في التربية، وما هو مطلوبٌ منا في مقابل ما هو مطلوبٌ من أجيالنا، وما هو مطلوبٌ من آبائنا من قبل.
ثم تحدثنا عن الثقافة التربوية، وعرجنا على خماسية التَّميز: المعرفة، والخبرة، والتفاؤل، والصبر، والمُثابرة.
وتحدثنا عن التربية وكونها تربيةً ممتعةً رغم مشقتها، ثم عن انهيار الأسرة وارتباط ذلك بانهيار المجتمع، ثم انهيار الحضارة، وتحدثنا عما قبل الإنجاب.
وكانت النقطة التي عرَّجنا عليها بعد ذلك ما يتعلق بقضية: نحن جزءٌ من العالم، ولنا خصوصياتنا.
ثم عرَّجنا على المقاومة والاستثمار في ظل هذا التحدي التربوي الذي نعيشه في عصر التقنية والانفتاح والإعلام الجديد، ووقفنا عند العناية بالبيئة الأُسرية، وهذا الذي سنبدأ به في الحلقة الثانية من هذا البرنامج: "أدوار الأسرة التربوية"، ألا وهو ما يرتبط بقضية العناية بالبيئة التربوية.
العناية بالبيئة التربوية
نحن عندما نتحدث عن العناية بالبيئة التربوية فإننا نريد أن نُركز على أمورٍ مهمةٍ جدًّا في هذا الموضوع تتعلق بقضية القدوة والبيئة الآمنة.
بمعنى: أن الأسرة ذات العناية ببيئتها تنبعث أول ما تنبعث من كون الأبوين قُدواتٍ؛ ولذا كانت من اللفتات المهمة: أنني أذكر أحد الأشخاص وقد سُئل -وكنتُ في هذا اللقاء التربوي- فقال له سائلٌ -أي: يسأل المُتحدث-: كيف يستطيع أن يجعل ابنه كذا وكذا؟ قال: إذا كنتَ تريد أن تجعل ابنك بأية صورةٍ كن أنت الذي تتمثل هذا الأمر.
فقضية القدوة قضيةٌ مهمةٌ جدًّا أيها الإخوة، ولا شكَّ أن أكبر عنايةٍ نستطيع أن نُقدمها لبيئاتنا الأُسرية حتى تكون تربويةً بحقٍّ هي: أن تتمثل قضية القدوة في الوالدين؛ ولذلك فإن الاختيار قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
والدراسات دلَّت في قضايا التدخين، والسِّمْنَة، والعادات، والأخلاق، والقيم -سلبًا وإيجابًا- على الأثر الكبير جدًّا لموضوع النموذج على الأجيال، بل إن هناك نظريةً كاملةً تُسمى: نظرية التعلم الاجتماعي (Social learning) التي قدَّمها (باندورا)، وهي قضيةٌ مشهورةٌ، ولكن هذه القضية في ثقافتنا الإسلامية وديانتنا العظيمة موجودةٌ سلفًا، وانظروا لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
إذن هذه القضية التي تتعلق بقضية أن أشدَّ البُغْض عند الله هو: أن نقول ما لا نفعل، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ تُواجه الأجيال، وهي: أن هناك توجيهاتٍ معينةً عبر محضنٍ سليمٍ أو مصدرٍ سليمٍ، ولكنهم يجدون عكس ذلك أو خلاف ذلك عبر الأبوين، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ خاصةً عند الأبوين.
لذا ينبغي أن نتمثل القُدوات؛ فإذا كنا نريد أن يكون أبناؤنا صادقين فلنكن نحن صادقين، وإذا أردنا أن يكون أبناؤنا بعيدين عن التدخين فلنكن نحن بعيدين عن التدخين، وإذا أردنا أن يكون أبناؤنا مُنضبطين فلنكن نحن مُنضبطين ومُحافظين على الصلاة، وخُذْ هذه الأمور وما يتعلق بها.
ولذا جانب الاقتداء والحاجة إليه موجودةٌ بقوةٍ في مرحلة الطفولة، وكذلك موجودةٌ في المراحل الأخرى المتعلقة بالمُراهقة والشباب.
إذن نحن نوجد بيئةً أسريةً ناجحةً تربويًّا، وحتى تُمارس الأسرة دورها التربوي الحقيقي لا بد من عنايةٍ بهذه البيئة؛ ولذلك فإن الاختيار المستقل الذي أشرنا إليه في اللقاء الماضي مهمٌّ جدًّا، أي: قضية مَن هي الزوجة التي سيتزوجها الرجل وتكون قُدوةً لتلكم الأسرة ولأبناء تلكم الأسرة؟ ومَن هو الزوج الذي ستتزوجه المرأة ويكون قُدوةً لأبنائه؟
كل هذه القضايا مهمةٌ جدًّا.
بل إن الدائرة تتسع أكثر -أيها الأحبة- حينما نشعر بأن الإخوة والأخوات الكبار يلعبون هذا الدور في مجال الاقتداء، وهذا أيضًا من الدور التربوي الأُسري الناجح، ومن العناية بالبيئة، فحينما يكون لك اهتمامٌ بإيجاد صفوفٍ أخرى في الأسرة تُمارس أيضًا قضية الاقتداء، وتكون نموذجًا إيجابيًّا من خلال الممارسة التربوية؛ فيلعب الابن الأكبر دورًا يُساعد فيه الأب، وتلعب البنت دورًا تُساعد فيه الأم، أو أحد الوالدين عمومًا.
إذن نحن نحتاج إلى مثل هذه القضية حتى نُحقق فعلًا قضية العناية، ولقاؤنا اليوم في النقطة الأولى، وهي: كيف نعتني بهذه البيئة؟ وهذه العناية بالبيئة لا تتأتى إلا من خلال -كما قلنا- موضوع القُدوة.
البيئة الآمنة
انظروا لهذه المواصفات في موضوع البيئة الآمنة؛ حتى نستطيع أن نقيس وضع الأُسر لدينا، ووضعنا نحن في تلكم الأُسر، ومن خلال هذه المواصفات يمكننا أن نَصِفَ هذه البيئة الأُسرية بأنها مُريحةٌ وآمنةٌ وهادئةٌ: الثقة، والأمن، والحب، والتعاطف، والاهتمام، واللُّطْف، والمزاح، والمرح، والتفاؤل، والتقليل من النقد، وعدم الإثقال بالأنشطة والمسؤوليات -مع أهمية تحميل المسؤولية-، ومُراعاة الفروق الفردية، وترك المُقارنات السلبية، وتوخي العدل، فلا يُقارن ويقول: أخوك أحسن منك؛ لأنها مُقارنةٌ سلبيةٌ، وسيكون أسوأ من أخيه.
وتوخي العدل: اتَّقوا الله واعدلوا بين أولادكم[1]أخرجه البخاري (2587)، ومسلم (1623)..
وجود الاحترام المُتبادل، وتفهم الظروف، والاعتذار عن الخطأ، وغَضّ الطرف عن بعض الأخطاء والهفوات.
كل هذه معالم مهمةٌ جدًّا حتى نوجد ما يُسمى بالبيئة الآمنة، وإذا أوجدنا البيئة الآمنة وأوجدنا القدوات في تلكم الأسرة حقيقةً سنكون قد حققنا العناية بتلكم البيئة الأسرية التي من الممكن من خلال هذين الوصفين أن نضمن -بإذن الله - وجود أسرةٍ تقوم بأدوارها التربوية الناجحة.
إذن قضية القدوات، والأمر الثاني: ما يتعلق بجانب إيجاد البيئة الآمنة.
البعض يذكر المكان وسعته وراحته من الناحية الفيزيقية والبيئية من تنظيمٍ للمكان، وأن يكون هناك مكانٌ ومُتَّسعٌ يلعب فيه الأبناء ... إلى آخره، فحتى هذه لها دورٌ وأثرٌ، ولكن لا شكَّ أن الجانب الذي ذُكر قبل قليلٍ من المواصفات مهمٌّ جدًّا، وتكاد تكون أهمَّ خاصيةٍ، فلا يمكن أن نتوقع أن الكل يتسنَّى له أن يجد بيتًا فسيحًا -وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم-، لكن الجانب المتعلق بالبيئة الآمنة يجعل انتماء الفرد للأسرة انتماءً حقيقيًّا؛ فهو يأتي إلى بيئةٍ يشعر بحبها وبمحبتها، ويشعر بأنه ينجذب إليها، وهو لا يتَّخذ هذه الأسرة وتلكم البيئة الأسرية كفندقٍ من أجل أن ينام؛ لأنه لا مجالَ له أو لا مجالَ لها أن تنام في مكانٍ آخر، ومن أجل أن يأكل؛ لأنه لا يجد مكانًا يأكل فيه، وإنما يأوي إلى هذه الأسرة، ويدخل من باب البيت ويشعر -وتشعر- فعلًا بأن هناك بيئةً آمنةً جاذبةً لأفراد الأسرة.
هذه النقطة الأولى أيها الأحبة.
التربية تفاعلٌ
النقطة الثانية: سنتحدث حول أن التربية تفاعلٌ.
من عجيب ما يقف الإنسان عنده في الأسرة التربوية العظيمة التي هي بيت النبوة -على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم- ما جاء في الأثر -وانتبهوا لهذا الحديث العظيم-: أن النبي كان إذا دخلتْ عليه فاطمة ابنته.
ولو أردنا أن نستوعب حديث النبي بالنسبة لأسرته سنجد أن أكثر ارتباط الرسول كان مع فاطمة؛ فقد أدركتْ مرحلة الطفولة، وأدركتْ مرحلة ما بعد الطفولة، وكذلك أدرك النبي زواجها، وما بعد زواجها، إلى مستوى أن النبي كان يزور –كما تعرفون من الأحاديث- بيت علي بن أبي طالب ليزورها، ويأنس بها، ويُوجهها عليه الصلاة والسلام.
فكان إذا دخلتْ عليه فاطمة ابنته -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- قام إليها، وليس قام لها في مكانه، بل قام إليها: يتحرك من مكانه ويستقبلها، ويُقبِّل جبينها، ويأخذ بيدها، ويُرحب بها، ويُجلسها مكانه[2]أخرجه أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (4689)..
انظروا لهذا التفاعل الأبوي تجاه البنت، حقيقةً فيه شيءٌ عظيمٌ من الإشباع، وشيءٌ من البيئة الآمنة التي ذكرناها قبل قليلٍ.
هذه الأوصاف والمواصفات التي ربما لو فعل منها واحدةً لكَفَتْ؛ فلو أنه يقوم إليها كَفَتْ، أو يتحرك من مكانه إليها، أو يُقبِّل جبينها -الأب هو الذي يُقبِّل جبينها-، أو يأخذ بيدها، أو يُرحب بها ويُجلسها مكانه، فما بالكم بالخمسة مُجتمعةً، وفي المرة الواحدة؟
في نفس هذا الحديث وهذا الأثر أيضًا جاء فيه: وكانت فاطمة إذا دخل عليها النبي قامتْ إليه، وقبَّلته، وأخذتْ بيده، ورحبتْ به، وأجلسته مكانها، عليهما رضوان الله سبحانه [3]سبق تخريجه..
فهذا التفاعل وهذا التبادل في العلاقات قضيةٌ من القضايا المهمة جدًّا في الأدوار الأسرية، فمطلوبٌ في الدور التربوي أن نتفاعل مع أبنائنا بما يُشبعهم، وبما يُعينهم على ممارسة الحياة بطريقةٍ سليمةٍ، وبما يُساعدهم في التوجيه السليم؛ فحينما يأتي التوجيه في ظل هذه البيئة الآمنة، وهذه البيئة المُتفاعلة؛ صدِّقوني سيكون التوجيه سَلِسًا جدًّا، وله أثره ومفعوله، ولا يلزم أن يكون في تلك اللحظة، وإنما بعد حينٍ.
نحن بأَمَسِّ الحاجة إلى هذه القضية في التربية: التفاعل؛ ولذا من أهم الأدوار التربوية للأسرة: قضية التفاعل بين أفراد الأسرة: بين الزوجين بعضهما مع بعضٍ، وبين الآباء والأبناء بعضهم مع بعضٍ، وبين الأبناء بعضهم مع بعضٍ. وهكذا المعلمون مع الطلاب، وما شابه ذلك، ونحن بأَمَسِّ الحاجة إلى ذلك.
أمورٌ تُقوي التفاعل
ما الذي يُقوي –أيها الأحبة- هذا التفاعل؟
عندما نقول: إن هناك تفاعلًا، فنحن نقول: إن موضوع التربية ليس من طرفٍ واحدٍ أبدًا.
إذن كيف نجعل التربية لا تكون من طرفٍ واحدٍ؟ كيف نجعل التربية فيها جانب التفاعل فعلًا؟
هذا سؤالٌ مهمٌّ: ما الذي يُقوي التفاعل؟
اسمعوا لهذه المواصفات، وأنا أتمنى من كل واحدٍ منا من الإخوة والأخوات الحاضرين -ومُحدثكم أولكم- أن نُنزل حالتنا الأُسرية على هذه المواصفات الرائعة البديعة.
لا بد من الاستماع للأبناء، والتعاطف معهم، وأن نكون قدوةً لهم في التعامل، ونُجيب عن أسئلتهم، ونتحدث معهم عن تطلعاتهم، وطموحهم، وما يُضايقهم، ونُحدثهم عن الـمُسَلَّمات التي لا يجوز التنازل عنها.
هذا هو الحزم، مع البيئة الآمنة، ومع بيئة الودِّ، تلكم المبادئ -الـمُسلَّمات- التي لا يجوز التنازل عنها، فنتحدث معهم ونُوجههم إليها، وأنها لا يجوز التنازل عنها، وعن مخاطر بعض السلوكيات والأفكار.
وحتى تكون بيئةً تفاعليةً فعلًا ونُحقق التربية بالتفاعل لا بد من إشراكهم في بعض القرارات داخل المنزل، وأيضًا عدم التَّكتم الشديد في أمورٍ لا إشكالَ في توضيحها؛ حتى لا يخافوا من السؤال عنها، فهذه قضيةٌ من القضايا المهمة جدًّا، والتي يمكن أن تُحقق ذلك التفاعل كما رأيناه في الصورة الرائعة للنبي مع ابنته فاطمة في بيت النبوة.
أمورٌ تُضعف التفاعل
تظهر قضية التربية بالتفاعل بشكلٍ جَلِيٍّ حينما نُدرك أيضًا: ما الذي يُضعف هذا التفاعل؟ فما ذكرناه قبل قليلٍ هو مما يُقوي التفاعل.
الآن خوضوا معي فيما يتعلق بما يُضعف هذا التفاعل، مثلًا: عدم مُراعاة الاختلاف بين الجيلين ونظرتهما من حيث الميل للتَّحرر من التقاليد والقيود وعكس ذلك.
فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا حقيقةً، وما ذكرناه قبل قليلٍ، فكل واحدةٍ منها تحتاج إلى تنبُّهٍ، أي: ما يتعلق بقضية الأخذ والعطاء، وقضية اتِّخاذ القرارات، وقضية الاستفادة من الأبناء في الآراء والاقتراحات، وسماع ما لديهم، ويستمعون إلى ما لدينا، ونتحاور فيه؛ فهذا كله من التفاعل.
أيضًا من المشاكل التي تُعيق التفاعل في بعض الأحيان، وتُعيق هذا الجمال في التواصل بين الطرفين من التحدث والاستماع من الطرفين، واتِّخاذ القرارات، والعناية بما يهمُّهم ويحرصون عليه: ما ذكرناه قبل قليلٍ في تعليمهم، وتنبيههم، وحلِّ مُشكلاتهم، وتنبيههم للمخاطر، أي: أنها بيئةٌ تفاعليةٌ قائمةٌ على الأخذ والعطاء، وعلى التفاعل، فهذه قضيةٌ نحن بأَمَسِّ الحاجة إليها.
فعندما تأتي قضية الاختلاف بين الجيلين حقيقةً لا بد أن ننتبه إلى أنه إذا لم نُراعِ هذه القضية فقد تحصل الإشكالية في هذا الموضوع، فعندما يتصور الأب أن الذي تربى عليه، أو الذي تعوَّد عليه ينبغي أن تكون عند الابن القابلية له، كما كانت لديه القابلية من قبل بهذا الإطلاق، دون النظر لِمَا قبل، وأن الأمور كانت تُساعد الإنسان على الانضباط أكثر، مثلًا: في جيل الآباء -أجيالنا نحن كمثالٍ وما قبلنا-، بينما بعد ذلك أصبحت عندهم محاولةٌ للخروج من القيود، وهذه القضية تستدعي جانبًا ليس من التَّمَلُّص أو إهمال التربية، ولكن تستدعي مزيدًا من التفاعل، والحوار، والإقناع، والتَّجاذب، والسماع، ومزيدًا من أن يكون لهم دورٌ في الاستقلال الفكري -أقصد في رأيهم الذي يطرحونه-، وربما كان رأيهم هو الذي يُؤخذ به، وربما كان رأيهم هو الأنضج.
هذه المُعطيات أصبحت اليوم في زمن القرية الواحدة والانفتاح مما يُلزم القائمين على تربية الأُسر بمُراعاة هذا الاختلاف بين الجيلين.
ولذا لا بد من البحث والنظر والاستشارة فيما يتعلق بما يحتاجه جيل التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، وجيل الإعلام الجديد.
ونحن عندما نقول: الجديد، فإننا نقصد أن الكبار اليوم لهم علاقةٌ بالتقنية والإعلام الجديد ... إلخ، ولكن الجيل الذي نشأ في الطفولة والمُراهقة على هذه القضية نحتاج أن ننتبه له بشكلٍ كبيرٍ، فللتقنية أثرها على الجيل، ولكن يأتي هنا الدور التربوي في مُراعاة هذا، وإذا لم نُراعِ هذا الاختلاف حصل القطع في التفاعل بين الطرفين، والإشكالية هي أننا لا نُراعي هذا الاختلاف، ولا شكَّ أن المُخاطبين أكثرهم من الآباء، ذكورًا وإناثًا.
انظروا كذلك إلى وجود الثقة الزائدة في النفس عند الوالدين، وقضية أن الوالدين يثقان في أن ما لديهما هو الصحيح، وقد يكون الذي لديك هو الخطأ، وقد يكون هناك فعلًا ما هو أحسن منه، وقد يكون صحيحًا لكن هناك ما هو أصحُّ منه.
قضية الثقة الزائدة هذه هي التي تجعل الإنسان غالبًا يتكلم بمستوى من تضخيم الأنا؛ فيقع الزوج في الإشكالية تجاه زوجته، ويقع أكثرها بين الآباء والأبناء.
فلنتنبه لمثل هذا الأمر حقيقةً؛ لأنه قد يكون له ردُّ فعلٍ عكسيٌّ إذا كان الأبناء ذوي ثقافةٍ أعلى من الآباء، فقد يجد عنده هذه الثقة، أي: أن الابن هو الذي يرى أنه الأصح والأسلم؛ لذا على الوالدين أن يُناقشا بالدرجة الأولى.
أيضًا من الأشياء التي تقطع وتُؤثر وتُضعف قضية التفاعل في البيئة الأُسرية والدور التربوي المطلوب؛ وهو التفاعل والتبادل بين أطراف الأسرة بشكلٍ جاذبٍ ومُريحٍ، فالكل يأخذ، والكل يُعطي، فمن الأشياء التي تُضعف ذلك: ما لدى بعض الوالدين من الصرامة في المواقف، وهذه مُرتبطةٌ بالثقة الزائدة، بمعنى: أسود أو أبيض، ولا توجد مرونةٌ.
النبي –أيها الإخوة والأخوات- كما جاء عنه: ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا[4]أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327)..
هذا شاهدٌ قويٌّ جدًّا على موضوع المرونة، وأنه إذا كان لدينا طريقان للوصول إلى الهدف التربوي، أو لدينا طريقان لحلِّ مشكلة الابن، أو لدينا طريقان لتوجيه الابن، أو لدينا طريقان لتحميل المسؤولية للابن، وكلا الطريقين سَليمانِ، ولكن أحدهما أيسر من الآخر، فالمنهج النبوي أن يتَّخذ الإنسان الأيسر ويترك الأعسر، حتى لو كان الأعسر يأتي بنتيجةٍ، أو كان الأعسر مُباحًا، فتنتبه لذلك.
لذا فإن نوع الصرامة التي تكون في المواقف هي مما يعيق قضية التفاعل.
وأنا أذكر بعض النقاشات مع بعض الشباب: حسنًا تحدث مع والدك. يقول: كيف أتحدث؟! إذا تحدثتُ وبدأتُ في الكلام انتقل (الميكروفون) لأبي -الله يحفظه- وبدأ يُلقي الخطبة والمحاضرة!
فيقول: جربتُ هذا مرةً ومرتين وثلاثًا، وفي الأخير أنا المُخطئ! وأنا كذا!
فهذه الثقة الزائدة، واتِّخاذ المواقف الحازمة، وعدم مُراعاة الفروق بين الجيلين، وحاجة الجيل اليوم للقُرب والتفاعل أكثر، فلا بد أن نتنبه لمثل هذا المُعطى.
حتى في جانب التأديب -كما سيأتي معنا في نهاية السلسلة بإذن الله في البرنامج- هناك تطرفٌ في طريقة التأديب والتوجيه، وإبداء الملاحظات، والمتابعة، والتدقيق، وربما استخدام الضرب، والمُقارنات التي أسميناها: السلبية، والصراخ، والاتهام.
فكل هذه من الأمور التي تُضعف ما يتعلق بالدور التربوي المطلوب؛ ألا وهو قضية التفاعل بين الأطراف -المُربين والمُتربين-، فلا بد من فقه التأديب، وفقه تعديل السلوك، والتدريب على مهارات تعديل السلوك، والاطلاع على مثل هذه القضايا المتعلقة بحلِّ المشكلات.
أيضًا الأجهزة نفسها: كالتلفاز، والألعاب الإلكترونية، و(الإنترنت)، والإعلام الجديد، والجوالات الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي عمومًا؛ كلها من الأشياء التي تُضعف هذا الدور التربوي المُتعلق بالتفاعل.
ومع أنها سُمِّيت بوسائل التواصل الاجتماعي، لكن الدراسات التي طُبِّقَتْ عليها أكَّدتْ أنها عكس ذلك فيما يتعلق بالتواصل الإيجابي والتربوي من المُربي مع المُتربي، ومن حيث التواصل المباشر المهم، خاصةً في بيئة الأسرة نفسها، أما المُتباعدون فقد خدمتهم خدمةً كبيرةً، ولكن أيضًا تفقد قضية المُواجهة، وقضية الأخذ والعطاء بشكلٍ كبيرٍ.
صحيحٌ أن هناك الآن (الفيديو) والصورة، وما شابه ذلك، لكن تبقى قضية أن الانشغال بهذه التقنية، وبهذه الأجهزة، وبالألعاب، والانشغال بوسائل التواصل، وبالأجهزة الذكية جعلت الأسرة مُفككةً من حيث العلاقات، وهذا لا بد أن تنتبه له.
بل إن البعض –كما يُحدثني أحد الآباء- يقول: نحن أسرةٌ نجلس، وأنا أُخاطب ابنتي وأُخاطب ولدي من خلال (الواتساب)، ومن خلال كذا ... إلى آخره!
فهم يجلسون ربما ساعةً أو نصف ساعةٍ وكأنهم من عالم الصُّمِّ والبُكْم.
فنحن بأَمَسِّ الحاجة إلى أن ننتبه لمثل هذه القضايا.
الصورة المشهورة: صورة أُمِّكم حصة وهي تجمع الجوَّالات في سَلَّةٍ وتضعها، وتأمر أبناءها وبناتها أن يضعوا الجوَّالات؛ حتى يأنسوا بالحديث فيما بينهم؛ هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا لإضعاف هذا السبب المُضْعِف لجانب التفاعل: إضعاف وسائل التواصل التي تُضْعِف ذلك الجانب فعلًا.
أنا سألتُ والدتي –الله يحفظها ويحفظ لنا ولكم آباءنا وأمهاتنا، ويغفر للموتى منهم- فقلتُ: عندما تجدين واحدًا منا يحمل الجوَّال وهو معكِ هل تشعرين بغَضَاضةٍ ومرارةٍ؟ قالت: والله نعم، لكن ما أريد أن أُحرجكم، أو أقول شيئًا في نفسي.
إذن هذا بحدِّ ذاته يُضْعِف جانب التفاعل، والقضية ليست مجرد جسدٍ، فلا بد من الكلام والحديث، ولا بد من النظر إلى كل هذه الوسائل الصارفة عن حقيقة التواصل التفاعلي الأُسري الذي ينبغي أن يكون.
لعلي أختم لقاءنا اليوم بالنقطة التي بعدها، ألا وهي: التربية وضوحٌ، ثم نُتيح المجال للنقاش والحوار.
التربية وضوحٌ
إذن نحن نتربى على شيءٍ بَيِّنٍ، ونُربي على شيءٍ بَيِّنٍ.
وضع الأسرة الحالي من حيث الأساليب التربوية المُرادة إذا لم يكن هناك تفاهمٌ بين الوالدين على هذا الأسلوب، أو تلكم الأساليب والطرق التي يُراد تربية الأبناء بها؛ ستكون القضية عائمةً، وليست واضحةً، والتربية لا بد أن تكون واضحةً، وهذا دورٌ تربويٌّ مُناطٌ بالأسرة: أن يكون الدور التربوي الذي يُمارسه الوالدان واضحًا لكلٍّ منهما، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا من خلال التفاعل بينهما -كما قلنا قبل قليلٍ في الدور الآخر- وكذلك التفاعل مع الأبناء؛ حتى نعرف احتياجاتهم.
كذلك الوضوح في قضية درجة التدين، ودرجة التدين بمعنى: ماذا نريد أن نُوصل أبناءنا إليه؟ وما الواقع الحالي للأسرة؟
فلا بد من وضوحٍ في هذه القضية؛ لأن المُغالطات في هذا الموضوع وأمثاله من الأشياء المهمة والصعبة جدًّا.
وليس أمرًا صائبًا: إذا جاء شخصٌ وقال: أهم شيءٍ أن يُصلي، وماذا غير أنه يُصلي؟!
هناك أشياء أخرى مطلوبةٌ، هل هي ليست مهمةً عندك؟!
كيت، وكيت، وكيت.
وهناك أشياء أخرى ممنوعةٌ، هل هي عاديةٌ؟!
إذا كان يُصلي ويشرب الخمر! عادي!
بالتأكيد لا.
إذن الوضوح مهمٌّ، فحينما تدخل الأسرة في حيِّز الممارسة التربوية وهي تشعر بالدور المطلوب منها، والأمور واضحةٌ لديها من حيث الأهداف، والأساليب، والإجراءات، وماذا نريد أن نُربي عليه بالضبط؟ وما درجة التدين؟ وما حال الأسرة اليوم؟ وما الأسلوب الذي ينبغي أن نُمارسه في القضية أو المشكلة الفلانية؟ وما الجوّ الصحي الإيجابي المُريح؟ وكيف نستطيع أن نصل إليه؟
وأيضًا الأنظمة؛ فالاتفاق على أن تكون هناك أنظمةٌ مُتَّفقٌ عليها في الأسرة، وتكون واضحةً بين أطراف المُربين داخل هذه الأسرة، والاستماع كذلك للأبناء مهمٌّ جدًّا وبوضوحٍ، وماذا نريد أن نفعل؟ وكيف سنعمل؟ وماذا نريد أن نصل إليه؟ وما الخطط التي يمكن أن نقوم بها؟ وكيف نتحدث مع الأبناء عند حصول مشكلاتٍ؟ وكيف تحصل هذه القضية؟ ... إلى آخره.
لا تظنوا أن القضية عَسِرَةٌ، ليست القضية أنها ...، هي تكليفٌ بلا شكٍّ، وأنا أحيانًا أسمع وأقرأ.
وبالأمس كان هناك لقاءٌ تربويٌّ مع إحدى الجهات التي تهتم بهذه القضية من قضايا التربية، فطرح أحد الفضلاء الحاضرين: نريد مُلخصًا لهذه القضايا الكبيرة. فذكَّرتُه بحديث عبدالله بن بُسْرٍ رضي الله عنه وأرضاه -وهذا يُساعدنا في الوضوح-: أن رجلًا أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثُرتْ عليَّ. كثيرةٌ، ومن المُتوقع أن يُقال: "كثيرةٌ" معناها: أنه يطلب التخفيف من النبي .
لا، هؤلاء أصحاب الحِسِّ المُرْهَف، وإنما قال: فدُلَّني على شيءٍ أتشبَّث به. أي: أتعلق به، قال: لا يزال لسانك رَطْبًا من ذكر الله[5]أخرجه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7700)..
انظر هنا جاء تكليفٌ أيضًا لكنه علاجيٌّ، تكليفٌ لكنَّه يحلّ هذا الإشكال، والنفس تكون جاهزةً هنا؛ لأنها سألتْ: ما الذي يمكن أن أتشبَّث به حتى أُخفف عليَّ هذه الوطأة؟
هكذا العقول الراجحة، وهكذا أصحاب استثمار الفرص، وليس الذين يريدون التخلص من التكاليف التربوية، ومن المهام المطلوبة منهم، ومما يجب عليهم تجاه أُسرهم وأبنائهم.
إذن لا بد أن تكون الأمور واضحةً، فلا يُعقل أبدًا ألا نعرف كيف نحلّ مشكلةً حصلتْ لنا؟! هل هذا طبيعيٌّ أيها الإخوة والأخوات؟! هل من الطبيعي عندما تحصل قضيةٌ مرضيةٌ عضويةٌ أن الأب والأم -مثلًا- يتحيَّران ولا يعرفان إلى أين يذهبان؟!
بالتأكيد القضية واضحةٌ جدًّا لهما: أنهما سيذهبان إلى المركز الصحي في الحي، أو إلى المستشفى، أو ... إلى آخره، ويعرضانه؛ حتى يطمئنا على وضع الابن من الناحية الصحية، أو يستشيرا أحدًا قبل ذلك، ويكون مُختصًّا، وما شابه ذلك.
إذن هنا الوضوح، فأين الوضوح في القضايا التربوية؟ أين الوضوح في قضية البناء التربوي؟ أين الوضوح في قضية حلِّ المشكلات وعلاج المشكلات؟ أين الوضوح في قضية الوقاية؟
لو فتَّشنا عن أنفسنا في أُسرنا قد نجد أنه لا وضوحَ لدينا، فهناك حيرةٌ في هذه القضية، أما لو كان هناك وضوحٌ لاتَّخذنا قراراتٍ لأجل البناء التربوي، وعملنا عليها، واتَّخذنا قراراتٍ من أجل الوقاية، وتركنا قراراتٍ حتى لا تقع المشكلات لنا ولأبنائنا، ولو عملنا ذلك لاتَّخذنا قراراتٍ لحل المشكلات، أو على الأقل للتقليل منها؛ ولذلك نحن نحتاج إلى العناية بهذا.
يذكر أهل الاختصاص والاهتمام -مثلًا- في هذا: عندما يأتي أبٌ ويقول لابنه: لا تتأخر.
كلمة "لا تتأخر" يسمعها الطفل غير ما يسمعها المُراهق أو الشابّ، فإذا عاد الشابُّ إلى البيت في الساعة الثانية عشرة يقول له: أين كنت يا ولدي؟ أين أنت؟ قال: ها أنا ذا جئتُ يا أبتاه. قال: أنا قلتُ لك: لا تتأخر. قال: نعم، أنا جئتُ الثانية عشرة، وهذا مُناسبٌ، لكن زملائي يجلسون حتى الثانية ليلًا!
هنا عدم وضوحٍ في إعطاء الرسائل والتوجيهات، وهذا يُسبب إشكاليةً في التوجيه بين المُربي والمُتربي.
فأنا أقول له: وَضِّحْ أنك لا تتأخر عن الساعة الحادية عشرة، هذا النظام.
إذن لا تكون الأنظمة والتوجيهات هُلاميةً، ليست واضحةً، وإنما تكون واضحةً، وبَيِّنةً، ومُهدَّفةً، وقابلةً للتطبيق، وواقعيةً.
كذا بالنسبة للأطفال، مَن عنده طفلٌ وقال له -مثلًا-: قلتُ لك: افعل هذا. فالطفل مسكينٌ، ولا يعرف المصطلح؛ فظنَّ شيئًا، وإذا به يكون شيئًا آخر.
فأيضًا إدراك الوعي الفكري عند الطفل والوضوح في التوجيهات له دورٌ مهمٌّ جدًّا.
لا شكَّ أنهم يُؤكدون في الوضوح على موضوع القوانين، "في بيتنا قانون" للدكتور خالد المنيف -وفَّقه الله- له مقالةٌ رائعةٌ جدًّا أنصحكم بها بعنوان: "في بيتنا قانون"، تجدونها في (الإنترنت)، وهي عبارةٌ عن مقالةٍ كُتبتْ في إحدى الصحف المحلية، وهي رائعةٌ في ديوانية المُربي، وقد درسناها حقيقةً وناقشناها في لقاءٍ لمدة ساعةٍ إلى ساعةٍ ونصف، وهي موجودةٌ أيضًا على (اليوتيوب) حول هذه المقالة الرائعة.
يؤكد الدكتور باختصارٍ على أنه لا بد من الوضوح في قضية القوانين، فإن عندنا وضوحًا عندما نذهب الآن إلى الشوارع، ونجد أنظمة المرور واضحةً -مثلًا- في كذا، فالوضوح يُطمئن النفوس ويُريحها، إذن لا بد من الوضوح حتى لا يحصل الخلاف والاختلاف.
أيضًا يؤكد البعض على أن من الممكن أن تُكتب بعض العقود والاتفاقات داخل الأسرة، وما يُسمى بالعقود التبادلية السلوكية، وما يتعلق بهذه القضايا؛ حتى تحصل الاتفاقيات.
وأنا أعرف بعض البيئات التي مارستْ مثل هذا الجانب، ووقَّع الزوج والزوجة والأبناء، وكانت عبارةً عن وثيقةٍ، وأصبحتْ مرجعيةً واضحةً، وهذه من القضايا المتعلقة بالوضوح، وأنها مُوضحةٌ لتلك الأسرة ما ينبغي أن تفعل، وكذا مُوضحةٌ للمهام المطلوبة، ومُوضحةٌ كذلك لما يترتب على ذلك حسبما يتعلق بموضوع المُكافآت والجوائز والحوافز.
ماذا نُحبُّ أن يكون أبناؤنا عليه؟
نختم أيضًا من الوضوح: ماذا نُحب أن يكون أبناؤنا عليه؟
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في التربية، فأنا عندما يمكنني جمع عشرات ومئات وآلاف الآباء المسلمين في أُسرهم، وسؤالهم هذا السؤال، هل ستكون التَّقاطعات نسبتها عاليةً؟
هذا سؤالٌ كبيرٌ ومهمٌّ جدًّا، فما أكثر تلك الأمور التي يريدون أن يبنوها في أبنائهم؟
وهناك قضيةٌ أخرى: هل سيُجيب بعضهم فعلًا، أم سيتردد في الإجابة؟ أقصد أنه ليست هناك صورةٌ واضحةٌ، وهل سيذكرون شيئًا واحدًا؟ وقد يذكر غيره عشرةً، فتكون العشرة قضايا بالنسبة لهذا الأب واضحةً لديه، بينما الآخر قد لا يكون استحضرها، وعندئذٍ يعيش في غموضٍ في أسرته، وما شابه ذلك.
نعم القضية ليست بالعدد، لكنها أيضًا مُؤشرٌ لقضية الوضوح، وماذا يريد الإنسان؟
نحن نريد من أبنائنا أن يكونوا صالحين، وينتمون لأُمتهم، ويعتزون بذواتهم ويُقدرونها؛ لأن لديهم فعلًا قُدراتٍ، ولديهم إمكاناتٍ، وعندهم ميولٌ يستطيعون خدمة أنفسهم وغيرهم بها، ولكن يحتاجون إلى مَن يكتشف ذلك، ويُعينهم على الاكتشاف، وكذا نُمكِّن لهم تلك الأمور؛ حتى يشعروا بأنفسهم ويُقدرون ذواتهم.
وأيضًا نتمنى أن يكون هذا الجيل من أبنائنا ممن يتشربون الأخلاق والقيم من خلال الاحتكاك بالكبار أصحاب الحكمة والخبرة.
الصدق؛ صدق هذا الإنسان، صدق هذا الابن، فنتمنى أن يكون شخصًا صادقًا في كل أحواله، في السراء والضراء، والشجاعة الأدبية، فنحن نريد من أبنائنا أن يكونوا كذلك، وهذا من الأشياء التي ينبغي أن تكون واضحةً كأهدافٍ لنا.
الحوار؛ بأن يكون شخصيةً قادرةً على الحوار، والتعبير عن الرأي، وما أسميناه بالاستقلال الفكري، وهذه قضيةٌ مهمةٌ لعله يأتي لها نقاشٌ آخر، أو من خلال الحوارات والنقاشات بإذن الله .
أن يكون لديه عملٌ: كمُشاركةٍ في العمل الخيري، أو العطاء ومُساعدة الآخرين، أو البذل، وما شابه ذلك.
هكذا تكون أهداف التربية فعلًا، وماذا نريد أن يكون أبناؤنا عليه؟ تكون واضحةً، وبهذه الصورة تكون التربية فعلًا تربيةً واضحةً.
مُلخصٌ لما تقدم
نحن بهذه الصورة نكون قد أنجزنا في هذا اللقاء في الحلقة الثانية العناية بالبيئة الأُسرية، وذكرنا القُدوة، والبيئة الآمنة، وفي الجانب الثاني تحدثنا عن أن التربية تفاعلٌ، وأشرنا إلى حديث الرسول وموقفه من ابنته، والموقف المُتبادل بينهما، وأنه نموذجٌ في التفاعل، وذكرنا كيف نُقوِّي التفاعل داخل الأسرة، وأيضًا ما الأشياء التي تُضعف التفاعل؟
ثم ختمنا كلامنا عن أن التربية وضوحٌ؛ فلا بد أن تكون الأمور واضحةً لدينا من خلال بعض الأشياء التي ذكرناها: من أمثلةٍ مُتعلقةٍ بالأهداف، أو مُتعلقةٍ بمستوى التدين، أو أسلوب حلِّ المشكلات، والقضايا المتعلقة بوضع الأسرة، وأساليب التوجيه ... إلى آخره.
وكذلك أكَّدنا على قضية أن الأسرة لا بد لها من قوانين وأنظمةٍ تسير عليها.
ثم ختمنا كلامنا في الوضوح بأن من الوضوح أن تكون الإجابة عن سؤال: ماذا يجب أن يكون أبناؤنا عليه في المستقبل كمُنتجٍ تربويٍّ؟ فلا بد أن يكون هذا واضحًا.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمنِّي ومن الشيطان.
والحمد لله ربِّ العالمين.
تعليقٌ وبيانٌ
المُداخل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يُعطيكم العافية يا دكتور.
الضيف: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا أستاذ علي، أهلًا وسهلًا.
المُداخل: الله يُسلمك ويُبارك فيك.
أنا أقول يا دكتور: إن القواعد التي تكلمتم عنها في الأسرة؛ أهم شيءٍ فيها أن تكون قائمةً على ثلاثة محاور، أي: أن المحاور الرئيسة التي تقوم عليها؛ حتى تضع قواعد في الأسرة، وعند أولادك، أو قوانين تريد تطبيقها في البيت، أعتقد أن هناك ثلاث ركائز أساسية لتطبيق هذا القانون:
- أنا أرى أنك تُشرك الطرف الثاني في وضع هذه القوانين؛ حتى تعرف وجهة نظره، ولا تكون قوانين فرديةً، ثم تتفاجأ أن الطرف الآخر لم يتقبلها أصلًا، وربما يكون طفلك مُعارضًا، أو يكون ابنك المُراهق مُعارضًا. أرى أن هذه هي الركيزة الأولى.
- الركيزة الثانية: أن تُوضح لماذا وضعتَ هذا القانون؟ وما السبب الذي جعلك تضع هذا القانون.
- الركيزة الثالثة: هي الجدية في تطبيق القانون، فالفكرة التي وضعتَها أمام أولادك تكون جادًّا في تطبيقها، ولا يكون فيها تساهلٌ، أو تتجاوز مرةً، ولا تتجاوز في الثانية، وطبعًا بقدرٍ، ولا يكون فيها من الليونة التي تجعلك تُميِّع الموضوع، لكن تكون فيها مع المرونة الخفيفة جديةٌ في التطبيق.
هذا ما لدينا يا دكتور.
الضيف: أحسنتَ يا أستاذ علي، جزاك الله خيرًا، وبارك الله فيك، كلامٌ جميلٌ.
لي تعليقٌ أستاذ علي: فأنا معك فيما ذكرتَ، وهو جميلٌ جدًّا، وهو أيضًا تفنيدٌ أو تأكيدٌ على ما يتعلق بقضية القوانين، ولعلكم إذا رجعتُم إلى ما أشرتُ إليه في (اليوتيوب) في اللقاء التَّحاوري الذي حصل حول مقالة الدكتور خالد المنيف؛ ستجدون مُنتجًا شاركنا فيه مجموعةٌ من الفضلاء في هذا الموضوع -إن لم تَخُنِّي الذاكرة-: الدكتور خالد الحليبي، والدكتور علي الشبيلي ... إلى آخره.
وستجدون مُنتجًا مهمًّا جدًّا، وأشار الأستاذ علي إلى شيءٍ منه، لكن أريد أن أقف عند نقطةٍ، وهي: أنه عندما ذكر الأستاذ علي أنه قد لا يكون الابن مُقتنعًا -أنا أرجو أن يُتنبه لمثل هذه المُعطيات-، نعم إذا كان الصواب هو الذي يحمله الوالدان، واقتنع به الابن؛ فهذا رائعٌ جدًّا.
وكذلك نقول عكس هذا: قد يكون الصواب عند الابن، ويقتنع به الأب، وهذا رائعٌ جدًّا؛ ولكن القضية فيما إذا كان الصواب عند الأب، والابن غير مُقتنعٍ، فمن المهم جدًّا أن يُتنبه لمثل هذه القضايا، وأنه من الحزم مع وجود الودِّ ... إلى آخره أنه يُلزم هذا الإنسان؛ لأنه من الممكن أن يأتيك ابنٌ ويقول: لا أرضى بهذا، واسمعوا لكلامي. ولكن كلامه لا يمكن بحالٍ من الأحوال، بل حتى في قرارات الشركات إما أن تكون القضية بنسبة 100% من المُوافقين، أو لا يُطبق هذا الأمر.
لذا في بعض الأحيان -حقيقةً- يُلحظ على بعض الجهات التي تُقدم بعض جوانب الدورات التدريبية التربوية، والقضايا المتعلقة بالعلاقات داخل الأسرة: أنها لا تكون دقيقةً؛ لأنها قد تكون وسيلةً لقضية التمرد، فيُتنبه لمثل هذا الأمر؛ لأن لدينا شيئًا أكثر من العلاقات الإنسانية، لدينا أمرٌ مُتعلقٌ بالعلاقات المُرتبطة بالتوجيهات الشرعية التي جاءت من ربِّ العالمين: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، والله وجَّهنا إلى كل هذه الأشياء الرائعة الجميلة، والتي تُذكر في العلاقات الإنسانية، وموجودةٌ في النظريات ومبثوثةٌ.
هل يوجد أعظم من قول الله لنبيه بعد غزوة أحدٍ؟ ومع ذلك تتنزل الآيات التي تُبين هذا الموقف الذي حصل، وتلك الحالة التي حصلت: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152]، حتى يقول أحد الصحابة: "ما كنا نتوقع أن منَّا مَن يريد الدنيا إلا لمَّا أنزل الله هذه الآيات"[6]عن عبدالله بن مسعودٍ قال: "ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله يريد الدنيا حتى نزلتْ فينا يوم أُحُدٍ: … Continue reading.
تتنزل آياتٌ منها: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، ما أعظمها! ما أعظم هذه الآية!
والله لو صارتْ منارةً في بيوتنا، وفي علاقاتنا مع أبنائنا، وزوجاتنا، وأهلينا، وطلابنا، ومع كل مَن نتعامل معه، حتى الكفار الذين ندعوهم للإسلام؛ لوجدنا شيئًا كبيرًا عظيمًا، والله أعلم.
المقدم: شكرًا دكتور، هناك أسئلةٌ عبر (الشات) يا دكتور.
الإجابة عن الأسئلة الصعبة للأبناء
كيف تكون الإجابة عن الأسئلة التي يصعب أن نُجيب عنها الأطفال في عمر تسع سنواتٍ؟
الضيف: جميلٌ، على أية حالٍ هناك قاعدةٌ عامةٌ تكلَّمتْ عنها بعض الكتب التي تحدثت عن القضايا المتعلقة بالأسئلة الإيمانية، والمتعلقة بالأسئلة المُرتبطة بالجوانب الجنسية ... إلى آخره، لكن القاعدة العامَّة المهمة: أنه لا بد أن تُجيب، وليس عكس ذلك بألَّا تُجيب، وتمنعه من أن يسمع إجابةً، أو من باب أولى تُوبخه، أو تصرفه، مع أنك تعرف أنه سيعود إليك، فهذه قضيةٌ يُتنبه لها.
إذن لا بد أن أُجيب، وأُجيب بالقدر الذي يُناسب الوعاء الفكري والعقلي والوعي الذي لديه، وهذا لا شكَّ أنه يلزمه اطلاعٌ على الخصائص العمرية ومراحلها، فهذا له دورٌ في هذا الجانب.
إذن أُجيب، ولكن لا تكون إجابتي إما أسود أو أبيض، إما ألَّا أُجيب، أو أُجيب بكل شيءٍ؛ لأنه حَدِّثُوا الناس على قَدْر ما يعقلون؛ حتى لا تكون فتنةٌ، كما جاء[7]قال علي بن أبي طالب : "حَدِّثُوا الناس بما يعرفون، أتُحِبُّون أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه؟". أخرجه البخاري … Continue reading.
فالإنسان ربما يُحدِّث بما لا يُعقل ... إلى آخره، مع أن هذا الحديث مُتعلقٌ بالكبار، ولكن أحيانًا تكون هناك بيئاتٌ لا تفهم بعض الأشياء، أو بعض المصطلحات، أو بعض الأمور؛ فيكون لها فتنةً بأن تفهمه بصورةٍ مُعينةٍ.
حتى إنك ترى أن منهج التفصيل كان عند بعض العلماء منهجًا واضحًا، فابن القيم في كتاب "الجواب الكافي لمَن سأل عن الدواء الشافي" يسأله شخصٌ سؤالًا في سطرين أو ثلاثة أسطر، فيُجيب بهذا الكتاب كاملًا.
وشيخ الإسلام ابن تيمية -وهذا في أمر العقيدة من باب أولى وأظهر- عندما يأتيه سؤالٌ من واسط، فيُجيب بتلكم "العقيدة الواسطية"، فهذا التفصيل يُساعد على هذا الجانب؛ لأن القضية فيها احتمالاتٌ لحالاتٍ عديدةٍ جدًّا؛ حتى تظهر القضية.
إذن أحتاج إلى أن أُجيب هذا الطفل الذي أمامي بما يُناسبه ويُناسب مستواه العقلي، ولا أُعطيه كل شيءٍ أُعطيه للكبير.
الأمر الآخر: أن أُعطيه الحقيقة، فلا أكذب عليه.
بهذا المستوى أستطيع أن أقول: هذا الحدّ ...، ثم إن أيَّ سؤالٍ يسأله الطفل فلا تظنوا أن هذا مصدر إزعاجٍ، ولا تظنوا أن هناك إشكالًا، بالعكس هي سمةٌ من سمات الشخصية الناجحة الرائعة التي ينبغي أن تُشْبَع، لكن بهذه الضوابط، وربما لو اطلعتم على تفصيلاتها في بعض الكتب التي حملت الأسئلة الإيمانية، وكيف نُجيب عنها؟ ... إلى آخره؛ لتزداد ثقافتكم في هذا الموضوع، ربما يكون هذا الأمر -بلا شكٍّ- مُعينًا ومُساعدًا على هذا الأمر؛ لأننا عندما نُشبع هذا الأمر فإننا -حقيقةً- نبني شخصيةً بصورةٍ إيجابيةٍ، فلا بد من إجابةٍ حقيقيةٍ، وبقدرٍ يُناسب الطفل من حيث المعلومات وكمّها وكيفيتها.
في بيتنا قانون
سؤال: ما اسم المقالة التي تكلمتَ عنها؟
الضيف: اسم المقالة للدكتور: خالد المنيف "في بيتنا قانون"، اذهب إليها عن طريق (جوجل) مباشرةً، وقد جربتُ هذا أكثر من مرةٍ، وأظنها مقالةً في جريدة "الجزيرة" أو "الرياض"، لكن أظنها في "الجزيرة" -والله أعلم-، والمقال قديمٌ، وله سنواتٌ، لكنه رائعٌ وقديمٌ جديدٌ ومهمٌّ: "في بيتنا قانون".
التعامل مع الأبناء منظومةٌ شموليةٌ
سؤال: جزاكم الله خيرًا، كيف أتفاهم مع ابني في الوقت عند الرجوع إلى البيت؛ كي لا أُقارنه مع الآخرين؟
الضيف: على أية حالٍ -كما قلتُ لكم يا إخوان- التوجيه إذا جاء في بيئةٍ آمنةٍ، وقد أشرنا إلى عددٍ منها، وهي المُتعلقة بالعناية بالبيئة الأُسرية: البيئة الآمنة، والتفاعل، والوضوح؛ فهذه القضايا تكون سهلةً.
المشكلة تظهر إذا لم تكن البيئة آمنةً، وليست هناك علاقةٌ حميميةٌ، وهناك ضعفٌ، وهناك قسوةٌ وشدةٌ، أو هناك دلالٌ ودلعٌ وحمايةٌ زائدةٌ؛ هنا تكمن المشكلة.
لذلك أرجو ألا نتصور أن القضية عبارةٌ عن مرضٍ عضويٍّ، فيأخذ الإنسان (كبسولةً) وينتهي الموضوع تمامًا، كمَن كان عنده صداعٌ في رأسه فأخذ (بانادول) فخفَّف الصداع.
القضايا المتعلقة بالتربية والعلاقات مع الإنسان والتأثير هي قضايا كما قال (ألكسيس كاريل) في كتابه الجميل "الإنسان ذلك المجهول" -وهو طبيبٌ فسيولوجي- قال: إن جهلنا بالإنسان مُطبقٌ، فنحن مهما وصلنا إلى عمق التعلم في القضايا الطبية والفسيولوجية في وظائف الأعضاء، يقول: جهلنا مُطبقٌ.
وفعلًا جهلنا بالإنسان مُطبقٌ، فهو كبيرٌ وضخمٌ جدًّا حقيقةً.
ولذا يُعتبر التعامل مع الإنسان ليس بتلك السهولة؛ ولذلك لا نتصور أن الأمر عبارةٌ عن أني سأتفاهم معه بطريقةٍ ثم ننتهي منه، لا، هذا جانبٌ في منظومةٍ شموليةٍ وتربيةٍ وعلاقاتٍ ... إلى آخره، وهذا مهمٌّ جدًّا أن نُؤكده؛ لأن المشكلة أن البعض يقول: أنا وجَّهتُ، لكن التَّمرد حاصلٌ! وهذا حصل كثيرًا، ونُسأل كثيرًا في الاستشارات الأُسرية عن هذا.
والدكتور عمر المديفر -استشاري الطب النفسي للأسرة والعلاج الأُسري- له ورقةٌ جميلةٌ جدًّا في مُلتقى المُستشارين الأُسريين في جمعية "ابن باز للزواج" -الشيخ عبدالعزيز رحمة الله عليه- كان يتحدث فيها عن هذا الأمر الذي هو التمرد، فقال: نُسأل عن طريقة تعامل الآباء مع الأبناء، فإما أن تجد أنها عبارةٌ عن حزمٍ بلا ودٍّ، أو ودٍّ بلا حزمٍ، فالحزم بلا ودٍّ قسوةٌ وشدةٌ وغلظةٌ، والودُّ بلا حزمٍ دلالٌ ودلعٌ وحمايةٌ زائدةٌ.
وقد طبقتُ هذه القاعدة، ولا أقول لكم: في الغالب، بل 100% من الحالات التي أتت إليَّ كانت كلها بهذه الصورة: إما أن تجد قسوةً وشدةً، أو تجد حمايةً زائدةً ودلالًا ودلعًا؛ ولذلك لا يقبل التوجيه: أريدك أن ترجع الساعة الحادية عشرة. فلا يرجع، ولا ينضبط.
إذن لا بد من منظومةٍ شموليةٍ، ولا بد من إعادة التفاهم والوضوح بين الوالدين في قضية لَمْلَمَة الأسرة، فعندما كان الحجر المنزلي في (كورونا) -كشف الله الغُمَّة يا ربّ عاجلًا غير آجلٍ- هناك أُسَرٌ نجحتْ نجاحًا كبيرًا جدًّا في مُراجعة وضعها، وأنا أعرف هذا الكلام، وقد حدَّثتني بعض الفئات المختلفة بهذا الأمر، وهذا من توفيق الله لهم.
وفي مقابل ذلك أناسٌ ربما لم ينجحوا، أو أنهم غفلوا، أو أن مشاكلهم زادت، وهذا كله يمكن أن يفعله الاستثمار أو المقاومة.
فنحن بأَمَسِّ الحاجة إلى مثل هذه المعاني؛ فالمُفترض أن تكون العلاقة حميميةً، ويكون هناك نظامٌ، وعند وجود نظامٍ مع العلاقة الحميمية سيكون مقبولًا في الوضوح في قضية العودة والرجوع، وقضية الحوار والنقاش قبل ذلك.
قد يقول الابن: لماذا يرجع غيري كذا؟!
فالأخذ والعطاء في هذا الجانب مهمٌّ جدًّا، والاتفاق بين الأبوين أولًا، ومُراعاة هذه القضايا، والتَّدرج في الأمر كذلك مهمٌّ جدًّا.
التربية من وقتٍ مبكرٍ؛ أي: يتربى الأطفال على الأنظمة من وقتٍ مبكرٍ، وهذا ملحوظٌ، وأنا أعرف أُسرًا، والله يا جماعة أعرف مُهندسًا خريجًا من جامعة البترول، وهو في عمله المُضْني، لكنه الآن ينام مع أبنائه الساعة التاسعة، كلهم ينامون في الساعة التاسعة.
فأنا استغربتُ عندما كنتُ معه في عشاءٍ، قلتُ: يا أخي. قال: والله نحن مُستمرون، أُبشرك والحمد لله، والثاني لقاءٌ أُسريٌّ بعد صلاة الفجر، والثالث لقاءٌ أُسريٌّ كل مغربيةٍ ... إلى آخره.
نحتاج إلى هذه القضايا لتُساعدنا في قضية تقبُّل الأبناء لما نطلبه؛ لأن النوازع والمُثيرات كثيرةٌ: من زملاء، وأصدقاء، وصديقات بالنسبة للبنات، كلهم يُؤثرون بالتواصل معهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فهذه القضية مُؤثرةٌ، لكن لو أعطينا من أنفسنا للتربية، ومن وقتٍ مبكرٍ في الطفولة، ما فات انتهى، لكننا نتكلم عن الناس الذين هم من بيئاتٍ جديدةٍ.
وأقول دائمًا: أنقذوا أنفسكم، وابنوا أنفسكم، وقوّوا أنفسكم وأهليكم من وقتٍ مبكرٍ، فهذه القضية مهمةٌ جدًّا؛ لأنها تُخفف جدًّا في المستقبل بعد ذلك، ويُقْبِل الإنسان على مرحلة المُراهقة والشباب -والتي يخاف منها الكثير- وهو على شيءٍ كبيرٍ من الاستقرار؛ لأنه كان مُستقرًّا.
هذه المعاني أشار إليها بعض علماء المسلمين السابقين: كابن القيم -كمثالٍ- وغيره، فنحن بأَمَسِّ الحاجة إلى ذلك عندئذٍ: أن نحاول قدر المُستطاع أن نأخذ ونُعطي ونُبين بالحوار مع الإقناع، ثم بعد ذلك إذا كانت هناك مصلحةٌ راجحةٌ في الأمر، ومع المُشاورة بين الزوجين بعضهما مع بعضٍ، والحوار مع الابن، وكذلك استخارة الله ؛ يكون اتِّخاذ القرار المُتعلق بوجود نظامٍ في هذا، إنما المشكلة عندما يكون هذا الأمر بعدما وقع الفأس في الرأس، فهنا تكمن الإشكالية.
المقدم: دكتور، بقي سؤالان وبعدهما نختم إن شاء الله.
الضيف: تفضل، بإذن الله.
ماذا يفعل الزوجان عند الاختلاف؟
المقدم: سؤال: ما أفضل الطرق ليكون التفاهم بين الزوجين في حال الاختلاف بالتربية أو بأمورٍ أخرى؟
الضيف: جزاكم الله خيرًا، نسأل الله أن يُبلغنا وإياكم كل خيرٍ.
أولًا: وجود الخلاف أمرٌ طبعيٌّ، وقد حصل حتى في بيت النبوة، وهذا لا بد أن نُدركه، ولا بد أن نرجع إليه، ولا بد أن نقرأ في سورة الطلاق، ونقرأ التوجيهات القرآنية، ونقرأ الأحاديث، والرسول يقول: لا يَفْرَكْ أي: لا يَبْغَضْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخر[8]أخرجه مسلم (1469)..
فهذا -كما قال العلماء في شرح هذا الحديث- تأكيدٌ على قضية أنه لا بد أن يَرِدَ الخلاف، ولا بد أن يَرِدَ الخطأ، وكل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون، وهذا جانبٌ مهمٌّ جدًّا.
إذن لا بد أن تتوقع من الطرف الآخر أن يحصل عنده خللٌ: الزوج تجاه الزوجة، والزوجة تجاه الزوج، فالخطأ واردٌ، ونحن بشرٌ.
لكن لما نأتي إلى الثقة الزائدة التي عندي -مثلما ذكرنا قبل قليلٍ- يعني: يقول الزوج: ليس من حق الزوجة أن تُعطي رأيًا!
بعض الناس عنده هذه الإشكالية، أو تُنْكِر الزوجة جميل الزوج، والله يقول للجميع: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، هنا تحصل إشكالاتٌ.
إذن لا بد من توطين النفس على وجود الخلاف، فهذه قضيةٌ طبيعيةٌ، فكلٌّ يحصل منه خطأٌ، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ.
هذا كلامٌ نظريٌّ، وأنا أعرف أنه سهلٌ، لكنه في الميدان يحتاج إلى جانبٍ من سمات الشخصية، والتَّحمل، والنماذج الإيجابية ... إلخ.
نعود إلى حديث النبي : إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخر هنا الجانب الآخر بعد أن نكون مُقتنعين بأنه لا بد من الخلاف، ولا بد من -كما يُقال- الخطأ الذي يحصل من طرفٍ تجاه الطرف الآخر، فهنا لا بد أن ننظر للجوانب الإيجابية.
وهذا أيضًا لعله في ظلال قول الله : وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، فهناك فضلٌ من الزوجة على زوجها، ومن الزوج على زوجته، ولو عددنا هذه الأفضال، وعددنا هذه الخيرات وهذه المحاسن لوجدناها كثيرةً؛ ولذلك لا بد من استحضارها خاصةً وقت الخلاف بين الزوجين، وهذا أيضًا مما يُساعد حقيقةً.
ولو كانت هناك عقوبةٌ محمودةٌ ستُفعل من طرفٍ تجاه الطرف الآخر -مثلًا- وكان لهذا حقٌّ شرعيٌّ ومقبولٌ ... إلخ سيكون أيضًا مبنيًّا على الرحمة، ومبنيًّا على قضية التفاهم، وما شابه ذلك، وقد قال الله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، فالإمساك واضحٌ، لكن لا يمكن أن يكون إمساكًا رائعًا يُولد السكن والودَّ والمحبة والرحمة إلا إذا كان بمعروفٍ، حتى التَّسريح قال: تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ يعني: يمكن أن يكون التسريح خيرًا، لكنه أيضًا بمعروفٍ.
فنحن نحتاج إلى مثل هذه المعاني.
القضية الأخرى أيضًا: لا نُظهر هذه الخلافات بين الأبناء قدر المُستطاع، وإن ظهرتْ بين الأبناء لا بد من أن يكون للأبناء دورٌ في علاجها، أو تفهيم الأطراف العاقلة من الوالدين لهم في هذا الموضوع.
الأمر الآخر: نحاول أن نحلَّ الموضوع داخل الزوجين أنفسهما، ولا يتدخل أحدٌ إلا في حالة الاضطرار؛ ولذلك: ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب [9]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609)..
ومما يظهر من الاستشارات التي تَرِد كثيرًا في هذا المجال: أن جانب الغضب -الذي هو انفعال أحد الطرفين تجاه الطرف الآخر عند الخطأ- من الأسباب الواضحة جدًّا في هذا الموضوع؛ ولذلك لا بد من التربية على قضية: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، ومحاولة الابتعاد وقت الخلاف ووقت -كما يُقال- الصدمة، ومحاولة أخذ النفس والتَّريث في الردِّ، والبُعد عن الموقف المُثير، وما شابه ذلك؛ فلهذا كله أثره الإيجابي، والله تعالى أعلم.
الشجاعة الأدبية
المقدم: نختم بهذا السؤال يا دكتور: ماذا تقصد بالشجاعة الأدبية؟
الضيف: الشجاعة الأدبية: الجرأة في الحديث والكلام والطلاقة، وأنه يُعبر عما لديه، فهناك أناسٌ الذي يُعبر عنهم غيرهم، وأيضًا قد لا تكون عنده قُدرةٌ على أن يحكي ما لديه للآخرين.
هذا المقصود من الشجاعة الأدبية، والله أعلم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا يا دكتور.
الضيف: وإياكم، وحيَّاكم الله، وشكر الله لكم، وسعيدٌ بكم.
ولقاؤنا الأسبوع القادم -إن شاء الله- يا شيخ، فهناك لقاءٌ في ذي الحجة -بإذن الله- وهو اللقاء الثالث، يوم الأحد القادم، فنلتقي على خيرٍ.
ونسأل الله أن يجعل هذه العشر المُباركات عشر خيرٍ وبركةٍ لنا ولكم وللمسلمين جميعًا، وأن يُعيننا وإياكم على الأعمال الصالحة، فما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام.
وفَّقنا الله لمرضاته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه البخاري (2587)، ومسلم (1623). |
---|---|
↑2 | أخرجه أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (4689). |
↑3 | سبق تخريجه. |
↑4 | أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327). |
↑5 | أخرجه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7700). |
↑6 | عن عبدالله بن مسعودٍ قال: "ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله يريد الدنيا حتى نزلتْ فينا يوم أُحُدٍ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152]". أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1399). |
↑7 | قال علي بن أبي طالب : "حَدِّثُوا الناس بما يعرفون، أتُحِبُّون أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه؟". أخرجه البخاري (127). |
↑8 | أخرجه مسلم (1469). |
↑9 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |