المحتوى
مقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بحمد الله - الدرس السادس والثلاثون من التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسُّنَّة، وهي في المجموعة الثالثة، اللقاء الثاني عشر، وهو حول القيم والتربية على القيم والأخلاق.
نحن في اللقاء السادس بتوفيق الله وعونه، ونسأل الله قبل ذلك أن يلطف بإخواننا المسلمين في سوريا، وفي العراق، وفي بورما، كما نسأله أن يُرِيَنا في أعدائهم المُتربصين بهم عجائب قُدرته، اللهم آمين.
استثمار الأحداث في التربية على القيم
كنا قد تحدثنا عن العوامل المُؤثرة في تربية الأجيال على القيم والأخلاق، ونُكْمِل مشوار القيم والأخلاق فهي القضية الأساسية المهمة.
فأنا عندما أقف -مثلًا- مع أحداث المجزرة الأخيرة التي وقعت لإخواننا في سوريا أو في العراق كمثالٍ وغيرها من المجازر، فهي على لوعتها وعلى ثِقَلها على النفس إلا أنها من الفرص الكبيرة جدًّا التي تُساعدنا وتُساعد الأجيال في التربية على القيم والأخلاق والآداب، وهذه من أعظم الفرص حقيقةً فيما يتعلق بقيمة الأُخوة في الله، وقيمة الانتماء لهذه الأمة، وقيمة الدعاء للمسلمين ومُشاركتهم بما يستطيعه الإنسان، وقيمة الولاء والبراء، وحبّ المؤمنين، وبُغْض الكافرين وأعداء المِلَّة.
كل هذه القيم وغيرها من القضايا التي تَبْرُز في مثل هذه الأحداث العِظام، والتي يمكن أن نتربى عليها من غير كثير كلامٍ، وإنما تأتي هذه الأحداث فيستثمرها المُربي، أو الأب، أو الأم، أو المعلم أو المعلمة في الفصل، ويتم التعليق عليها، وهذه الأحداث بحدِّ ذاتها قد لا تحتاج إلى أن نُعلِّق عليها.
قد نُشاهِد حدثًا عبر مقطعٍ في (اليوتيوب) مثلًا، ويكون هذا المقطع بحدِّ ذاته يُعطي مجالًا للتربية على القيم والخُلُق، فيفتح المُربي النقاش والحوار.
وقد مارستُ شيئًا من هذا القبيل مع طلابنا في الجامعة، فإنك تجد أن لدى الطلاب فرصًا، وعندهم حقيقةً مجالٌ رحبٌ للتعليق على هذه الأحداث، وماذا يستفيدون منها؟ وإبراز قيمٍ ومجالاتٍ عديدةٍ جدًّا لم يكن في خاطرنا حقيقةً الوقوف عندها.
فنحن بأَمَسِّ الحاجة حقيقةً لاستثمار مثل هذه المعاني، وإبراز قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] أي: إبراز القيم السالبة التي يُمارسها الأعداء المُدَّعون للديمقراطية، والحرية، والإنسانية، وغير ذلك من الأمور، وهم أبعد ما يكونون عن هذه القضايا، فإن المسلمين حتى في أحوال الحرب والضيق والبلاء تَبْرُز منهم قيمٌ وأخلاقٌ وآدابٌ ليست موجودةً عند الكفار.
انظر لهؤلاء الذين يُذْبَحون ويُقْتلون على الهُوية وعلى الاسم فقط: عمر، وأبو بكرٍ ... إلى آخره! والذين يبغضون صحابة النبي ! فهل هؤلاء أصحاب قيمٍ إنسانيةٍ؟ ناهيك عن أن تكون قيمًا إسلاميةً ينطلقون من خلالها.
الأمر ليس كذلك أبدًا، بينما تجد أنَّ الواحد منا -نحن المسلمين- لا يُمكن أن يفعل هذا الفعل حتى لو تمكَّن من عدوه، بل إن من توجيهات الحروب ألَّا يُتعرَّض لكبيرٍ، أو عجوزٍ، أو امرأةٍ، أو طفلٍ، أو شجرةٍ، وما شابه ذلك، فمن أين أتت هذه القضايا؟
من خلال المعين والمنظور الإسلامي الذي ربَّى الأُمَّة على قضية القيم والأخلاق.
إذن نحن حتى في الحروب لنا أخلاقنا، وأعجبني أحد الكُتَّاب وقد ألَّف كتابًا سمَّاه: "أخلاقنا الحربية"، وهذا الذي جعل الكثير من النصارى أيام صلاح الدين -رحمه الله- يتمنون بقاءه، ولا يتمنون أصحابهم من النصارى!
فإنهم وجدوا العدل والصدق، ووجدوا هذه الأخلاق وهذه الآداب التي لا يتحلى بها ربما أصحابهم.
فيا إخواني، إذا كنا -نحن المسلمين- سنُشابه الأعداء في كوننا نتخلَّى عن قِيَمنا، فإن إخواننا سيتخلون عنا إلى غيرنا من أعدائنا، وإذا كان يحدث -وأستغرب ذلك- في بعض الأحيان من بعض المسلمين أن يقول لك: لا والله يا أخي، أنا أتمنى عاملًا كافرًا، فهو أفضل عندي من المسلم!
هو لا يُوازن بين المسلمين، ولم يكن يحتاج إلى أن يقول: أريد عاملًا كافرًا أو مسلمًا!
فهو الآن يُميز بين المسلم والكافر تمييزًا، ولا علاقةَ لهذا بهذا، وكان عليه أن يقول: أنا أحتاج إلى عاملٍ ناجحٍ، ولن أقبل العاملَ الفاشلَ. لكن أن تَصِمَ العامل المسلم بأنه فاشلٌ! هذا وصفٌ ووصمةٌ خطيرةٌ جدًّا.
وهذا هو الذي يجعل الإنسان في بعض الأحيان يتأثر بالأعداء: أنه قد يجد مسلمًا -مثلًا- لا يتعامل معه بخُلُقٍ حسنٍ، ثم يجد أن الكافر يتعامل معه بخُلُقٍ حسنٍ! أو يجد مسلمًا لا يُؤتَمَن على ما أُمِّنَ عليه! ويجد كافرًا ظاهره الأمانة، وما شابه ذلك.
فهناك قيمٌ موجودةٌ، والنبي جاء بدعوته ليُتمم مكارم الأخلاق، فإذن هناك مكارم كانت موجودةً قبل الإسلام، فقد كانت القيم والآداب الإيجابية موجودةً قبل الإسلام، والرسول جاء ليُتمِّم هذه المكارم.
التربية بالممارسة والسلوك
أيضًا من القضايا المهمة في هذا الموضوع -ونحن ما زلنا في موضوع القيم والأخلاق، وهو موضوعٌ رائعٌ ومهمٌّ وجديرٌ بالعناية ولا ينتهي، ونحن في الحلقة السادسة منه- أنَّه لا بد من التربية في قضية القيم والأخلاق من خلال سلوك الإنسان، فالإنسان نفسه -يا أحبتي- يتكون من ثلاثة أمورٍ:
- من قضايا مُرتبطةٍ بالجانب التصوري والعقلي والمعرفي.
- ومن خلال قضايا متعلقةٍ بالجانب الوجداني والمشاعر.
- ومن خلال قضايا متعلقةٍ بالجانب المهاري والسلوكي والخبرات في الحياة.
القيم والآداب والأخلاق تدخل في كل هذه الأشياء، فمثلًا: يحمل الجيل الأفكار الإيجابية والقيم المعرفية، ويتعلمون ويعرفون الصواب والخطأ، ويعرفون أن هذه هي العقيدة الصحيحة، والأخرى خاطئةٌ ومُنحرفةٌ، ويعرفون الأفكار الطيبة في مقابل الشُّبَه، وأن الرسول قال: فمَن اتَّقَى الشُّبهات استبرأ لدينه وعِرْضِه، ومَن وقع في الشُّبهات وقع في الحرام[1]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).، فيُصبح لديه سياجٌ علميٌّ ومعرفيٌّ يعلم به الصواب من الخطأ؛ حتى يكتسب قِيَمًا صحيحةً، ويبتعد عن القيم الخطأ، فإنه إذا اكتسب أشياء غير ذلك صار مُشوَّشًا؛ يظن المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وهذا موجودٌ.
إذا اختلَّ توازن التفكير ورُبِّي على: لا تقلق، هذا صحيحٌ، لا شيء في الأمر، ولا مشكلة. فهذا هو الخطأ بعينه، وخاصةً هذا الذي تأخذه العِزَّة بالإثم: كأبٍ لديه خطأٌ في السلوك، ويقف ابنه موقف المُحرج منه، ويقول لأبيه: يا أبي، نحن درسنا أن هذا الذي تفعله خطأٌ، أو حرامٌ، أو ليس جيدًا. فيردُّ الأب: مَن أخبرك بهذا؟! لا شيء في هذا الأمر أبدًا!
فإن القيمة السالبة الخاطئة انتقلت الآن وأصبحتْ قيمةً إيجابيةً، ويمكن أنك لو قلتَ لهذا الأب: هل أنت مُقتنعٌ بكلامك؟ يقول لك -لو صدق- أنه غير مُقتنعٍ بكلامه، وهذا وجهٌ موجودٌ، وهو من أصعب الأمور على الأجيال.
من أصعب الأمور على الأجيال: أن يتعلموا شيئًا، ويروا شيئًا آخر، ثُم يُخَطَّأ الذي تعلَّموه، ويُقال: إنه خطأٌ، ويُصَوَّب ما تعلَّموا أنه خطأٌ فيُقال: إنه صوابٌ. فيُصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، مع أنه في قرارة نفسه غير هذا، سواء كان أبًا أو معلمًا، فهو لا يريد أن يُقال له: إنه مُخطئٌ. فيُصوِّب الخطأ، ويُخطِّئ الصواب، وهو يعرف في قرارة نفسه أن هذا خطأٌ بالنسبة للخطأ، وهذا صوابٌ بالنسبة للصواب، لكن الموازين تُقلب عند الأجيال.
رأيتُ مرةً مشهدًا لطيفًا يحكي مثل هذه القضية، قام به أحد الأندية الصيفية فحضرتُه، وكان لطيفًا، وهو عبارةٌ عن فكرةٍ افتراضيةٍ لجيلٍ افتراضيٍّ، خرج هذا الجيل وهو يعلم أن 1+1= 3!
يا شيخ، كم يساوي 1+1؟ تفاحةٌ وتفاحةٌ، مسلمٌ ومسلمٌ = مسلمان، ونظارةٌ ونظارةٌ = اثنتان، لكن هذه التمثيلية كانت تحكي أن معلمًا دخل على طلابٍ فقال لهم: 1+1= 3، فرفع أحد الطلاب يده فقال: لا، اثنان. قال: لا، تغيرت الأمور، الآن 1+1≠ 2، إنما 1+1= 3!
فالطلاب الأطفال أصبح عندهم 1+1= 3، وعادوا إلى أهاليهم يُراجعونهم، ويقولون: 1+1= 3!
المقصود أنه حدثتْ نفس المشكلة، وتبيَّن بعد ذلك أن البيت تأثر، فأصبح 1+1= 3!
ثم أتى كهلٌ يجلس مع كهلٍ آخر، قال: أنا سأتزوج. قال: عندك ثلاثٌ. قال: ومَن أخبرك؟ قال: أما علمتَ أن 1+1= 3؟ أنت عندك ثلاثةٌ تكفيك. قال: سأتزوج الثالثة، أنا عندي اثنتان. قال: لا، هنَّ ثلاثٌ، وليس اثنتين. قال: صحيحٌ.
فأصبحت القرية والمدينة يعرفون أن 1+1= 3، فإذا ذهب أحدهم إلى البقالة ليشتري شيئًا وقال: كم؟ قال: أعطني علبة (بيبسي) وعلبة (بيبسي). فيُحضر له ثلاث عُلَبٍ؛ لأن 1+1 أصبحتْ تساوي ثلاثةً!
هذه صورةٌ افتراضيةٌ، وليست واقعيةً، لكنها تحكي أثر تغيير الاتجاهات والأفكار، وتُصبح كما قال الرسول عن أناسٍ: يصبح المعروف عندهم منكرًا، والمنكر معروفًا، وهذه من علامات الساعة، وهي موجودةٌ الآن.
فهذه الصورة التي ذكرتُها والمُتمثلة في تَمَلُّص المُربي حتى لا يكون في موقفٍ مُحرجٍ، أو أصحاب الشبهات الذين يريدون أن يُغيروا قناعات الأمة، فيأتيك الإعلام، ويأتيك كذا، ويظل يقول لك: لا شيء في هذا، وليست مشكلةً أبدًا.
وادخل إلى قضايا عديدةٍ لترى كم تغيرت فيها آراء البعض فيما يرتبط -مثلًا- بأمورٍ معينةٍ شرعيةٍ لله، أو قد بُيِّنتْ في أمور الشرع ... إلى آخره، كقضية الاختلاط -مثلًا- والتي هي من أشد الأشياء التي تُناقَش الآن: ماذا في الاختلاط؟ هل تريده أن يُعطيك دليلًا؟ لن يُعطيك دليلًا، بينما ذكر العلماء في كتبهم أدلةً كثيرةً جدًّا.
وهناك كتابٌ للشيخ الدكتور: خالد السبت، وهو كتابٌ رائعٌ صدر أخيرًا عن الاختلاط بين الجنسين، وأخذ كلام العلماء والفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، من القرن الأول إلى القرن الحالي، وكلهم يرون أن هذه القضية لا تجوز، ويأتي مَن لا يُقيم للعلم الشرعي قائمةً ويقول لك بكل بساطةٍ: ومَن قال لك أن الاختلاط أو الخلوة حرامٌ؟! من أين سمعها؟!
بدأت هذه القضية عنده من حوار (الطُّرشان) الموجود في بعض القنوات الفضائية ... إلى آخره، فأصبحتْ قيمة حماية العِرْض من الاختلاط ليست مُتوفرةً عنده، بل يرى أن من تطور المجتمع أن يحصل اختلاطٌ؛ حتى ننمو نموًّا اقتصاديًّا، وحتى نحلَّ مشكلة البطالة عند المرأة!
حسنٌ، نحن لم نستطع حلَّها عند الرجال، فهل سنحلها عند المرأة؟! ... إلى آخره.
فأصبح يرى أن القضية عاديةٌ، وبالعكس أصبح عندنا مَن يُطالب بها!
وأنا التقيتُ ببعض الأشخاص الذين يُطالِبون بالاختلاط ويُريدونه، ويرون أن عدم الاختلاط والفصل بين الجنسين من التَّخلف!
انتقلت القضية الآن من الناحية الفكرية المعرفية، ومن التَّصورات القِيَمية التي أراد الله أن يحفظ بها كرامتنا وأعراضنا إلى أن أصبحتْ ليست قيمةً، بل بالعكس أصبح هو القيمة! وأصبح يرى أن هذا هو المعروف! وهذا هو الصواب! وهذا الذي فيه التنمية المجتمعية!
هذه صورةٌ من الصور التي تُشكل مشكلةً كبيرةً في قضايا التَّصورات.
إذن لا بد أن نُربي الأجيال على التَّصورات الصحيحة -وهذا هو المقصود هنا-؛ حتى تتربى على الأخلاق والآداب الصحيحة، وتعرف الصواب من الخطأ، حتى لو قصَّر الإنسان في التطبيق.
ونعود إلى مثال الأب الذي قلنا قبل قليلٍ أنه مُقصرٌ وأتاه ولده، لو قال: نعم يا ولدي، أنا مُخطئٌ، وهذا الكلام الذي علَّمك إياه الأستاذ صحيحٌ، وهو الذي أتى به الله .
فما أجمل هذا الأب، وتلك الأم، وهذا المعلم، وتلك المعلمة حينما يعترفون بالخطأ الذي يُمارسونه، ويُبْقون الفكر النَّير صحيحًا، وأن هذا هو الصواب!
فينبغي أن يكون عند المُربين تجردٌ مع الأجيال، ينبغي أن نكون مُتجردين.
وأنا أنصح حقيقةً بما جاءني من استشاراتٍ في هذه القضية، أنصح أولياء الأمور والآباء والمعلمين ... إلى آخره بأن يعترفوا بأنهم مُخطؤون، فالأب المُبتلى بالتدخين يقول لأبنائه: لا تبتلوا بما ابتُليتُ به، فالتدخين خطأٌ، والله يُعينني على التَّخلص منه، وادعوا لي.
هذه هي التربية الصحيحة، حتى لو استمرَّ على هذا إلا أن هذا أحسن من أن يسكت ولا ينصح الابن، ناهيك عن أن يقول له: ليس به بأسٌ يا ولدي، التدخين للرجال!
هنا اختلف الشيء من كونه خطأً إلى أن يُصبح ليس خطأً، وهذا خطيرٌ، والصواب بلا شكٍّ أن يكون المُربي قدوةً ويمتنع عن التدخين، لكن -على أقل تقديرٍ- إذا لم يمتنع فإنه يُحافظ على التصور الصحيح، ويقول للابن وللجيل أن هذا خطأٌ، والله يهديه ويُصلحه، ويقول: إن شاء الله سأُحاول أن أُعدل من هذه القضية التي لدي.
فهنا سنُحافظ على تصوره بأن القيمة السالبة للتدخين بقيتْ سالبةً، ولكنك أنت الذي تتغير، والمشكلة فيك.
وخُذْ على ذلك أشياء كثيرةً وعديدةً جدًّا: لا يُصلي في المسجد، أو يُقصر في صلاته: يا أولادي، احرصوا على الصلاة، وأنا -إن شاء الله- كذا.
هنا أعطاهم القيمة التي درسوها في المناهج من أن صلاة الجماعة واجبةٌ، حتى لو كان هو مُقصرًا وكذا، فيقول: لا تكونوا مثلي.
أنا أقول: ما أجمل المُربي إذا كان مُخالفًا لتصورٍ من التصورات السليمة -سواء في القيم والآداب والأخلاق- أن يعترف بأنه مُخالفٌ! حتى يبقى الجيل واعيًا بأن هذا الفعل خطأٌ، ويثبت عنده أن هذه القيم صحيحةٌ حتى لو خالف محمدٌ، وإبراهيم، وعليٌّ، وفاطمة، وهدى ... إلى آخره.
واضحٌ يا إخوان؟
حتى لو خالف الأب والأم، أو المعلم، أو المسؤول، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، لماذا؟
لأن هذا فيه حمايةٌ للتصور السليم.
التربية على المشاعر
القضية الثانية: لا بد من التربية على المشاعر التي لها علاقةٌ بالقيم والأخلاق والآداب: كمشاعر الانتماء والحب، فيتربَّى عليها، وعلى حبِّ القيمة الإيجابية، وحبِّ الله ، وحبِّ الوالدين، وحبِّ الخير، وحبِّ مَن هو على خيرٍ.
كل هذه الأشياء من القيم العظيمة جدًّا، فلا تنقلب الأمور إلى أن يُصبح كارهًا لأهل الخير، ولا يُحب الشيء الصحيح، أو أن يشعر أن أي شيءٍ فيه دينٌ أو إسلامٌ فهو مُتشددٌ! بينما لو جاء (خواجة) أمريكي أو أوروبي ربما وجدتَ أن كل هذا يذوب؛ لأن مشاعره أصبحتْ مُشوَّشةً، وإنما يتربى على المشاعر والقيم الإيجابية.
التربية على الخبرات والمهارات
كذلك بالنسبة للتربية على الخبرات والمهارات والأشياء السلوكية من خلال ممارستها في الميدان: كممارسة آداب الاحترام، والسلام، واستقبال الضيوف، وتقبيل رأس الوالدين ... إلى آخر هذه الممارسات، فيكون هذا الشخص قد ربَّى أبناءه على تصوراتٍ إيجابيةٍ ومشاعر لها علاقةٌ بالقيم والآداب والأخلاق، وتربوا على مهاراتٍ وخبراتٍ إيجابيةٍ لها علاقةٌ بالقيم والأخلاق.
فإذا تربوا على هذه الأشياء كلها ستكون المنظومة الحقيقية لتربية الأجيال على القيم والأخلاق منظومةً ممتازةً جدًّا.
نعود إلى مثالنا الذي كنا فيه قبل قليلٍ يا إخواني: مثال سوريا والعراق وبورما، وأحداث مجازر إخواننا هناك، وما شابه ذلك، نسأل الله أن يلطف بهم.
تجد أن هذه القضية لا تخرج عن ثلاثة أمورٍ: تصوراتٍ، ومشاعر، وخبراتٍ.
دور التَّصورات في التربية
ماذا يوجد في التصورات؟ مَن يقول لي؟
فيها مثل هذه الأشياء، فمن التصورات القِيَمية: التربية على القيم والأخلاق من خلال تصور الفكر، مثل ماذا؟
معرفة مَن هو المسلم الحقيقي والأخ، ومَن هو العدو، فإدراك هذه القضية في الجانب العقلي قيمةٌ مهمةٌ جدًّا نحتاجها.
ولن نقول: أن تكون هذه القضية بين شعب البلد الواحد، لكنه لو تربَّى على قيمة الأخوة في الله، وعرف مَن هو العدو، وأصبحت القضية واضحةً عنده جدًّا، وأصبح يعرف العقائد والاتجاهات، وأن هذه الحروب وأمثالها قد تقوم على قضايا الجوانب العقدية، وما شابه ذلك؛ فسيستطيع أن يُدرك هذه القضية تمامًا.
فبعض الناس عندما أتى حزبُ الشيطان في أحداثه القديمة مع إسرائيل قام بعض الناس -وللأسف بعضهم من المحسوبين على الدعوة- وبدأ يُثني على هذا المُجرم أمين حزب الشيطان! ويرى أنه فعل شيئًا كبيرًا ... إلى آخره! لكن عندما انكشف العوار بعد ذلك تغير بعض هؤلاء والحمد لله.
وهناك أناسٌ كانوا يعرفون هذا من قبل -والحمد لله-؛ لأن تصورهم نظيفٌ، والمعلومات نظيفةٌ، وغير مُشوَّشةٍ.
فمن المهم جدًّا أن يكون العقل نظيفًا، فالمشاعر وحدها لا تكفي.
شخصٌ بمجرد أن يقول كلامًا ضد إسرائيل تنتهي القضية! ويتغير النظر إليه، ويقال: بالتأكيد أنه جيدٌ!
مَن قال ذلك؟!
فلا بد أن نفهم قضية مَن العدو؟ وعندما يفهم الجيل هذه القضية المهمة جدًّا وتَثْبُت عنده لا تكون القضية مثلما قال أحد الأوروبيين: "ليس لنا أصدقاء ثابتون، ولا أعداء ثابتون، وإنما مصالح ثابتةٌ"، فأصبحت البراغماتية -كما يُسمونها- هي التي تُسيرنا، أصبحت القضية قيمةً براغماتيةً نفعيةً، فليس هناك أصدقاء ثابتون، فقد يصير الصديق عدوًّا، والعدو صديقًا، لكن القضية واضحةٌ عندنا في منهجنا الإسلامي: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ [المجادلة:22]، وهي قيمةٌ ثابتةٌ ولا تتغير.
ونحن كنا اتفقنا على أن من خصائص القيم: الثبوت والاستمرارية، أما أن يكون هؤلاء أصدقاء مرةً وأعداء مرةً أخرى فلا يصلح، وهذا التصور مهمٌّ هنا.
أهمية المشاعر في التربية
نأتي للمشاعر، كيف نُطبِّق هذه المشاعر على ما يحدث لإخواننا هؤلاء؟
التَّألم والحزن، فيحزننا ما يحزن إخواننا، ونتألم، بل -والله- أعرف أحد الأشخاص يُحدثني ابنه فيقول: والله والدي لا ينام الليل من البكاء بسبب هذه المجازر.
هذه القضية عبارةٌ عن صفحةٍ من صفحات الأخبار، وتأتي بعدها كرة قدمٍ، أو مباراةٌ، ومَن فاز؟
فهي مشاعر تأتي كوَمْضَةٍ وتنتهي القضية، لكن عندما تكون هناك تربيةٌ على المشاعر وعلى قيمة الأخوة سيُفرحنا ما يُفرحهم، ويحزننا ما يحزنهم.
ولا شكَّ أن هذه من المواقف والمشاعر التي يمكن أن نُربي عليها هذه الأجيال: التربية على القيم والأخلاق من خلال المشاعر الإيجابية، والخبرات، والمهارات، والسلوك؛ أن يذهب -يا أخي- ويتبرع لإخوانه، وأن يكتب مقالةً ينصر فيها إخوانه، وأن يُلْقِي كلمةً يتكلم فيها عن إخوانه، بدل أن تكون المجالس حول العقارات وحكاياتٍ فارغةٍ، أو حول الكرة التي قد مللنا من أخبارها، فيكون الكلام له هدفٌ، فإذا جلس مع أقاربه، أو مع الشِّلة ... إلى آخره يقول: أرأيتم الأحداث؟ ما دورنا؟ ما المطلوب منا؟ تفضلوا، دعونا نتكلم ونتناقش؛ فتُصبح لدينا مهاراتٌ وخبراتٌ نكتسبها بفضل هذه الأحداث.
فلاحظوا أن حدثًا واحدًا أتى -سبحان الله!- بتصوراتٍ مُتعلقةٍ بالقيم والأخلاق والتربية عليها، فمن خلال هذه التصورات، ومن خلال المشاعر والوجدان والعاطفة، ومن خلال السلوكيات والمهارات والخبرات، وهذه المنظومة المُتكاملة؛ يتربى الجيل تربيةً جميلةً.
لا بد أن ننظر إلى سلوك الإنسان من خلال أمورٍ ثلاثةٍ: العقل، والوجدان، والمهارة والخبرات، فهذه مهمةٌ جدًّا، فلا يكفي أن أُغذيه بالقيمة المعرفية فقط، بل يجب أن يُمارسها عمليًّا، ولا يكفي أن يُمارسها عمليًّا وهو مُرغمٌ ولا يُحبها، فاجعل مشاعره إيجابيةً، واضحٌ؟
كلها منظومةٌ مهمةٌ جدًّا، فإذا تكاملتْ هذه المنظومة: من فكرٍ صحيحٍ يعرف به الصواب من الخطأ، ويعرف القيم الإيجابية من السلبية، هذا من ناحية التَّصورات.
ومشاعره تجاه القيم الإيجابية بأن يُحبها ويتمناها، والشيء الذي يفقده يتحسر عليه.
لماذا كان بعض السلف الصالح يُعزِّي بعضهم بعضًا إذا فاتتهم صلاة الجماعة؟!
يُعزِّي! الله أكبر! كم سنُعزي نحن اليوم من الآلاف المُؤلَّفة؟!
لأن القيمة عندهم قيمة مشاعر وتعلق بهذه الصلاة؛ فلذلك أصبحت قيمةً، وكذلك بالنسبة إلى أنه سيذهب ويُطبق هذه الأشياء ويُمارسها من خلال السلوك العملي: كتبرعٍ، أو صدقةٍ، أو من خلال كلمةٍ ... إلى آخره.
أمثلةٌ على القيم
خُذْ أمثلةً على قضايا القيم من الصدق، والأمانة، والاحترام؛ احترام الكبير.
حضرتُ لقاءً جميلًا جدًّا في جامعتنا لمشروعٍ يُشرف عليه قسم الدراسات الإسلامية، ويتبع عمل السَّنَة التحضيرية بعنوان: "قِيَمي"، أقاموا معرضًا، وهذا برنامجٌ يُلْزَم به طلاب الثقافة الإسلامية للسنة التحضيرية، وطلاب المسار الصحي، وكانوا تقريبًا أربعمئة طالبٍ في البرنامج، وقد طُلِبَ منهم أن يُكوِّنوا مجموعاتٍ، ويُقيموا مشروعًا لهذه القيمة، وفي هذا الفصل كانت القيمة هي "الاحترام"، وأخذوا احترام الأب، والمعلم، والعالِم.
أُقيم معرضٌ من ثمانيةٍ وثلاثين مشروعًا، وحضرتُ يوم الاثنين الماضي في (بَهْو) الكليات الصحية عندنا في الجامعة، وكل مشروعٍ يُمثِّله عشرة طلابٍ تقريبًا، فكان المجموع ثلاثمئةٍ وثمانين طالبًا، وكان المعرض رائعًا جدًّا: احترام كتاب الله، واحترام النبي ، واحترام الصغير، واحترام كذا، وكانت هناك إبداعاتٌ، وهناك مَن أنتج (فلاشاتٍ)، ومَن أحضر زُوَّارًا من جهاتٍ أخرى، وهناك مَن أحضر أيتامًا؛ لأن مشروعهم كان عن احترام اليتيم، فأتوا باثنين من الأيتام الذين ليس لهم آباء ولا أمهات (لُقَطَاء) وأشركوهما معهم.
وفي قيمة احترام القرآن أتوا بطالبٍ مُقْرِئٍ من نفس السنة التحضيرية يقرأ بالقراءات -ما شاء الله! تبارك الله!- وبالسند العالي، ويُحْسِن تلاوة القرآن.
حقيقةً من خلال هذه المشاريع يتربى الأجيال على القيم.
وقمنا بعمل برنامجٍ، وكانت تصفياته النهائية أيضًا يوم الاثنين الماضي، لكن في المساء، وكان بعنوان: "رُوَّاد الخير"، وتقدمت أربع عشرة مجموعةً على مستوى الجامعة بعمل مشاريع تطوعية نزلوا فيها للميدان، وكانت مختلفةً، وفي قضايا عديدةٍ جدًّا.
من المشاريع الغريبة جدًّا: أن مجموعةً نزلتْ من أجل أن تُعالِج المطبَّات أو الحُفَر الصغيرة الموجودة في الشوارع، ووثَّقوها بـ(فيديو ومونتاج)، ونزلوا وأحضروا (كنكري) أو شيئًا من هذا القبيل، وكانت التكلفة مئة ريالٍ فقط!
حتى إن لجنة التحكيم كانت تقول: هل ستستمرون؟
قالوا: إن شاء الله تعالى نحن وضعنا في بالنا هذه القضية، واتَّفقنا مع مراكز الأحياء، والحي الفلاني الآن سيقوم بمثل هذه المهمة.
وهو مشروعٌ بسيطٌ جدًّا، فكرته: (كنكري) وترابٌ، وبخلطةٍ بسيطةٍ في الشارع تظهر قيمة العناية بالبيئة، وهذه قيمةٌ من القيم.
وآخرون كان مشروعهم دورات مياه المساجد -أكرمكم الله-، ومشروعٌ ثانٍ مُتعلقٌ بقضية القراءة، ومشروعٌ آخر ...
فأنا أقول: إنْ لم نجعل في أُسَرنا، ومدارسنا، وبيئاتنا، وأحيائنا مثل هذه المشاريع العملية التي تكون تصوراتها إيجابيةً وتُكْسِب القيم والأخلاق والآداب بطريقةٍ صحيحةٍ؛ لن تتكون المشاعر والحب.
عندما كنا نَمُرُّ على مشاريع الطلاب الثمانية والثلاثين والله بعضهم ... وأنا كنتُ أقول لبعض المسؤولين الذين كانوا موجودين: يتكلمون وكأنه مشروعهم من حماسهم الشديد وانتمائهم لفكرتهم، يتكلمون معك بكل حماسٍ، ما الذي جعل الواحد منهم بهذا الحماس؟
لأنه لمَّا مُكِّنَ، وأُعْطِيتْ له الفرصة، وأُعْطِيَ التَّحفيز، ثم جاء وقدَّم مشروعه أمام الجامعة كلها؛ لا شكَّ أن هذه من القضايا المهمة جدًّا التي جعلته يكتسب هذا الاتجاه الإيجابي والرغبة والمشاعر، وما يكون بعد ذلك من التطبيقات الإيجابية والمهارات والخبرات.
إذا استطعنا أن نُوجد هذه المنظومة -أيها الإخوة- في بيوتنا، ونجمع بين الجانب المعرفي والتصورات وجانب المشاعر والتأثير الإيجابي؛ فيكون مُحبًّا للقيم والأخلاق، ويرى أن هذا الجزء مهمٌّ.
وأنا أعجبني أحد الطلاب عندنا في مُقررٍ اسمه "تعديل السلوك" اليوم، وكنتُ ألزمتهم بواجبٍ عبارة عن: أن ينتقوا فنيةً من فنيات تعديل السلوك التي درسناها في المقرر، ويُطبقوها على أحد أفراد أُسرتهم، أو على مَن يشاؤون، فقال لي أحد الطلاب اليوم -وكان تطبيقه على قيمة الأمانة والصدق-: عندي ثلاثة إخوانٍ صغارٍ، وأعطيتُهم مبلغًا طلبوه حتى يشتروا شيئًا من البقالة، فذهبوا واشتروا، ثم لما عادوا سألتُهم سؤالًا فقلتُ: هل بَقِيَ شيءٌ من النقود؟ قالوا: نعم، وكل واحدٍ أخرج الباقي، فقلتُ لهم: أنا سأسألكم سؤالًا: لماذا أعدتُم الباقي؟ لماذا لم تسكتوا وتضعوه في جيوبكم؟ قالوا: لا، نحن تعلمنا هذا الشيء منك، ونحن نُلاحظ أنك تفعل نفس هذا الفعل مع أبينا، فإذا ذهبتَ لتشتري شيئًا فإنك تُعيد باقي المبلغ.
فقد تأثر الإخوة الصغار بتصرف أخيهم الكبير -والذي هو الطالب الذي كان يحكي هذا الكلام وهذا الموقف- فاكتسبوا قيمة الصدق والأمانة، وتربوا عليها من صغرهم، وعندئذٍ تستطيع أن تقول: إن شاء الله تنضج عندهم هذه القيمة إذا أصبحوا على المَحَكِّ، وهو جعلهم على المَحَكِّ حتى يستطيعوا أن يتربوا على مثل هذه القيم والأخلاق والآداب العظيمة.
أسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن يستعملنا وإياكم في طاعته، ويجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
ولنا -إن شاء الله تعالى- استكمالٌ في الدرسين الباقيين، فقد بقي لنا الدرس الثالث عشر، ثم الرابع عشر -بإذن الله - في الأسبوعين القادمين، ونقف -إن شاء الله تعالى- بعدها، ونُحاول أن نأخذ أهم الأشياء المُتبقية بين أيدينا في القيم، والتربية على القيم والأخلاق.
↑1 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |
---|