المحتوى
مقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
أما بعد: يَسُر إدارة البرامج العلمية بجامع الشيخ سليمان الراجحي بحائل أن تُرحب بفضيلة الشيخ الدكتور: خالد بن أحمد السعدي؛ ليُتْحِفَنا بهذا الموضوع المهم "التربية بالقدوة"، سائلين المولى أن يهديه للطيب من القول، وأن يجعلنا وإياكم وإياه ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
فليتفضل فضيلة الشيخ مشكورًا مأجورًا، إن شاء الله.
الضيف: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى أن يُوفقنا وإياكم للخيرات، وأن يُبارك في الجميع، وأن يجزي الإخوة في منطقة حائل خيرًا، وفي هذا الجامع المبارك -جامع الشيخ المُوفَّق سليمان الراجحي حفظه الله- والإخوة جميعًا الذين قاموا بالإعداد لمثل هذه اللقاءات، وأسأل الله أن ينفع بنا وبهم.
أما بعد: فالموضوع الذي بين أيدينا من الصعب تحديد أبعاده وحجمه؛ لأنه مُرتبطٌ بالجانب العملي أكثر من الجانب التَّنظيري، فالقُدوة تتعلق بالجانب العملي أكثر من الكلام، فما يراه أبناؤك منك أيها الأب، وما يراه الصديق منك أيها الصديق، وما يراه الطالب منك أيها المعلم هو المهم، وليس مجرد الكلام وما شابه ذلك.
ولذلك دعونا نُحلق حول هذا الموضوع.
الاقتداء بالغراب وبعجوز بني إسرائيل
يقول الله : فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، فهذه هي قصة قابيل حينما قتل هابيل، ثم وجد هذا الغراب، وأصبح الغراب الحيوان الذي يقتدي به الإنسان بحيث جعله يُراجع نفسه فيما فعل، ولا شكَّ أن هذه الصورة مُرتبطةٌ بقضية الاقتداء.
وفي قصة عجوز بني إسرائيل المشهورة، وهي قصةٌ رائعةٌ ولطيفةٌ كما جاء في الحديث: عن أبي موسى قال: أتى النبيُّ أعرابيًّا فأكرمه، فقال له: ائتنا، فأتاه، فقال له رسول الله : سَلْ حاجتك، قال: ناقةٌ نركبها، وأَعْنُزٌ يحلبها أهلي. فقال رسول الله : أعجزتُم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ قالوا: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلُّوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا مَوْثِقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال: فمَن يعلم موضع قبره؟ قال: عجوزٌ من بني إسرائيل. فبعث إليها، فأتته، فقال: دُلِّيني على قبر يوسف. قالت: حتى تُعطيني حكمي. قال: وما حكمكِ؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكَرِهَ أن يُعطيها ذلك، فأوحى الله إليه: أن أَعْطِها حكمها. فانطلقتْ بهم إلى بحيرةٍ -موضع مُستنقع ماء- فقالتْ: أَنْضِبوا هذا الماء. فأَنْضَبوه، فقالت: احتَفِروا. فاحتَفَروا فاستخرجوا عظام يوسف، فلما أَقَلُّوها إلى الأرض وإذا الطريق مثل ضوء النهار[1]أخرجه ابن حبان (723)، والحاكم (4088)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (313)..
فهذا الأعرابي أكرم النبيَّ ، فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: تعاهدنا أو ائتنا لكي نُكافئك. فجاء هذا الأعرابي للنبي ، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: سَلْ حاجتك، فقال الأعرابي: ناقةً برَحْلِها، وأَعْنُزًا يحلبها أهلي. يعني: أنا أريد ناقةً وأعنزًا.
وتصور نفسك الآن في موقف هذا الأعرابي، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول لك: سَلْ حاجتك، فماذا سنقول للنبي -عليه الصلاة والسلام-؟ هل سنكون مثل الأعرابي؟
الأعرابي سأل ناقةً برَحْلها، وأَعْنُزًا يحلبها أهله.
وفي هذا الموقف قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ فقال أصحابه: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلُّوا الطريق يريد أنهم تاهوا، فقال موسى: ما هذا؟ فقال علماؤهم: نحن نُحدثك، إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا مَوْثِقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال: فمَن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوزٌ من بني إسرائيل هي التي تعرف القبر، فبعث إليها، فأتته، فقال موسى لها: دُلِّينا على قبر يوسف. فقالت: لا والله لا أفعل حتى تُعطيني حكمي. فقال: وما حكمكِ؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكَرِهَ أن يُعطيها ذلك؛ لأن الأمر ليس بيده.
فكَرِهَ أن يُعطيها ذلك، فأوحى الله إليه: أن أَعْطِها حكمها جاء الوحي وقال له: قُلْ لها: أنتِ معي في الجنة، فانطلقتْ بهم إلى بحيرةٍ -موضع مُستنقع ماء-، فقالت: أَنْضِبوا هذا الماء أي: جفِّفوه فأَنْضَبوا، واستخرجوا عظام يوسف حيث كانت عظام يوسف تحت هذا المُستنقع.
والمقصود بالعظام هنا: الجسد؛ لأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء.
يقول النبي : فلما أَقَلُّوها إلى الأرض أي: رفعوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار فاستطاع موسى وقومه أن يخرجوا من مصر بعد أن حلُّوا هذه المشكلة.
فهل لاحظتم الفرق بين موقف الأعرابي وموقف العجوز؟
فرقٌ واضحٌ جدًّا؛ كان الأعرابي بإمكانه أن يسأل الرسول الجنة كما سألت العجوز موسى ، وقد كانت ذكيةً.
اللهم اجعلنا كالعجوز ممن يستثمر مثل هذه الفرص، ويكون مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقًا، وفي جنَّات النعيم، قولوا: آمين.
فالرسول يذكر في هذا الموقف صورتين واضحتين مختلفتين، وهما: موقف الأعرابي والعجوز، فهل أنا وأنت مثل الأعرابي أم مثل العجوز؟
ولاحظوا أن الأعرابي لم يسأل حرامًا، وإنما سأل حلالًا: ناقةً بِرَحْلِها، وأَعْنُزًا يحلبها أهله، ولكن النبي استنكر هذا الموقف فقال: أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ فضاعت عليه الفرصة.
وهذا يدل على أهمية الاهتمامات، فالرسول أراد من خلال هذا الموقف أن يُبين علو الهمة التي كانت عليها هذه العجوز، وهنا تظهر لنا قيمة القدوة وقدرها.
أثر مشايخ ابن الجوزي في نفسه
ابن الجوزي -رحمه الله، صاحب المُؤلفات العظيمة، والرجل العالم المُربي- ذكر في كتابه الرائع "صيد الخاطر" كلامًا رائعًا، حيث يقول: "ولقيتُ عبدالوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف، لم تُسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى واتَّصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد، وكان على سَمْت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل"[2]"صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص147)..
ثم يقول: "ولقيتُ الشيخ أبا منصور الجَوَالِيقي، فكان كثير الصَّمْت، شديد التَّحري فيما يقول، مُتْقِنًا، مُحقِّقًا، وربما سُئل المسألة الظاهرة التي يُبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت.
فانتفعتُ برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمتُ من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.
ورأيتُ مشايخ كانت لهم خلواتٌ في انبساطٍ ومزاحٍ، فراحوا عن القلوب، وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم، فَقَلَّ الانتفاع بهم في حياتهم، ونُسُوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحدٌ أن يلتفت إلى مُصنفاتهم.
فالله الله في العلم بالعمل، فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين مَن ضاع عمره في علمٍ لم يعمل به؛ ففاتته لذَّات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مُفْلِسًا مع قوة الحُجَّة عليه"[3]"صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص147، 148)..
فهو يذكر كيف كان لهؤلاء العلماء أثرٌ عليه، وهذا الأثر بقي عند ابن الجوزي إلى أن كبر، وهذا بسبب أنهم كانوا قدوةً، فالقدوة ليست محاضراتٍ ومدخلاتٍ ونظرياتٍ فقط، وليست توجيهاتٍ وأقوالًا، وإنما القدوة رصيدٌ من العمل والتطبيق، وهذا الذي نحن بأَمَسِّ الحاجة إليه في علاقتنا مع الله، ومع الناس، ومع المجتمع، فأين هذه القدوة في بيوتنا؟ وأين هي في إعلامنا؟ وأين هي في مدارسنا وتعليمنا؟ وأين هي في مساجدنا؟ وأين هذه القدوة في المجتمع والشارع وغير ذلك؟
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "إن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول"، وهذا هو معنى التربية بالقدوة.
والبعض يقول: يا أخي، وجَّهنا أولادنا كثيرًا، ونصحنا، وتكلمنا.
ويقول بعض الأساتذة: تكلمنا وتكلمنا.
فنقول: التأثير ليس بالتوجيه، وإنما بالقدوة والفعل، والأبناء والطلاب والمجتمع والصديق والزوجة يتأثرون بالفعل أكثر من القول؛ ولهذا يقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21].
ولما جاء مالك بن الحُويرث وأصحابه -رضوان الله عليهم أجمعين- وجلسوا أيامًا عند النبي ، وعلَّمهم الصلاة، ثم لما اشتاقوا إلى أهلهم أَذِنَ لهم النبي ، وقال لهم -عليه الصلاة والسلام-: صلوا كما رأيتُموني أُصلي[4]أخرجه البخاري (631).؛ ولذا لما تنظر إلى أحاديث مالك بن الحُويرث في الصلاة تجدها منقولةً عن فعل النبي ؛ لأنه أخذها منه مُباشرةً.
وهكذا يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أَحُجُّ بعد حجَّتي هذه[5]أخرجه مسلم (1297).، وكان -عليه الصلاة والسلام- يُطبِّق ذلك أمام أصحابه، فالتَّوجيه بالفعل أرشد من التوجيه بالقول.
وفي هذا بيانٌ لأهمية التربية بالقدوة؛ لأننا ما أكثر أن نتحدث! وما أكثر أن ينطق اللسان! وبعض الناس عنده المخزون اللفظي كثيرٌ؛ فتجده يتكلم كثيرًا، ولكن التربية بالقدوة عنده ليست كذلك، فالتربية بالقدوة وكثرة الفعل والتطبيق هذا هو المطلوب من هذا الدرس أو المحاضرة.
أثر القدوات في الشباب
كنتُ مرةً ساكنًا في أحد الأحياء، ورأيتُ مجموعةً من الشباب قبيل صلاة العشاء، وذهبتُ إلى المسجد، ولم أَرَهم في المسجد، وليس غريبًا؛ لأنني أعرف أنهم ليسوا مُحافظين على الصلاة، لكن العجب أنهم بقوا في أماكنهم على الرصيف في الشارع إلى ما بعد الصلاة! يعني: لم يُصلوا، وهم يسمعون الصلاة!
فأتيتُ إليهم؛ لأن الأمر أصبح مُنكرًا واضحًا، فكان من واجبنا أن ننصحهم، فقلتُ لهم: يا شباب، الصلاة لا تأخذ منكم إلا دقائق معدودةً، وهذا حقُّ الله ، وأنتم مسلمون، والمُستفيدون؛ فأنتم الذين ستشعرون بسعادةٍ من الصلاة وأداء حقِّ الله تعالى.
فقال لي واحدٌ منهم كلمةً واحدةً ما زالت تَرِنُّ في أذني، حيث قال لي: جزاك الله خيرًا، كيف تُريدنا أن نُحافظ على الصلاة في المسجد، وآباؤنا لا يُصلون في المسجد، ومُقصرون في الصلاة؟!
وصدق في تفسير الحال، لكن هذا لا يصلح أن يكون تبريرًا، فصدق فعلًا أن أباه لو كان ممن يُحافظ على الصلاة لأصبح الابن مثله -بإذن الله -؛ لأن الأب قُدوةٌ للابن، لكنه لم يُوفَّق في قضية التبرير؛ لأنه حتى لو كان أبوك أو مُعلمك أو القدوة التي تتلقَّى منها سيئةً، فليس معنى هذا أنك تفعل الفعل السيئ مثله.
أضعتني صغيرًا فأضعتُك كبيرًا
ابن القيم -رحمه الله- له كلامٌ جميلٌ؛ إذ يقول: "فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدًى؛ فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسُننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أَبَتِ، إنك عققتني صغيرًا، فعققتُك كبيرًا، وأضعتني وليدًا، فأضعتُك شيخًا"[6]"تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229)..
ولهذا تجد أكثر الناس مُنحرفةً أخلاقهم، وذلك بسبب التربية التي نشؤوا عليها، والتربية بالقدوة مما يُساعد في تشخيص الأحوال والمشكلات والوقائع، وما حصل من انحرافٍ في أخلاق الجيل -في الغالب- نشأ عن هذا الانحراف في البيئة التي عاش فيها، فلم تكن القدوة إيجابيةً، وإنما كانت سلبيةً.
ماذا تقول الدراسات؟
هناك دراسةٌ في المجتمع السعودي على الشباب وأولوياتهم واهتماماتهم نشرها مركز "رؤية للدراسات الاجتماعية"، وهي دراساتٌ رسميةٌ، وتُقدم نتائجها للجهات ذات الاختصاص وأصحاب القرار، وكانت النتيجة: أن الاهتمامات والأولويات لدى الشباب السعودي هي الفن والرياضة بأرقامٍ ونِسَبٍ كبيرةٍ.
وفي دراسةٍ أخرى عن ثقافة الشباب بعنوان "شبابنا جماجم فارغة" كان المركز الأول والثاني من الاهتمامات هو الفن والرياضة.
وهناك غيرهما من الدراسات: كدراسة "القنوات الفضائية وأثرها على الانتماء الوطني للشباب السعودي"، وقد أعطتْ أيضًا نفس النتائج السلبية.
و"بروتوكولات حكماء صهيون" تذكر في أكثر من بروتوكول: أن أشغلوا هذه الشعوب بالفنِّ والرياضة، أو بمُسابقات الفنِّ والرياضة.
وفعلًا حصل هذا التأثير العالمي عبر الفضاء والإعلام الجديد، وقبله في (التليفزيون) وبعض المصادر الأخرى: كالمجلات، وغيرها، فقد أثَّرت هذه الوسائل في الأولويات والاهتمامات، فصار الشباب المسلم -ذكورًا وإناثًا- شغلهم الشاغل المُمثلين والمُمثلات، والمُطربين والمُطربات، واللاعبين، وما شابه ذلك.
وهل تدرون ما السر في هذا؟
السر قاله أحد الصحفيين -وهو من رُواد الرياضة- في إحدى الجرائد، حيث قال مُفتخرًا: الشباب في مجتمعنا اليوم قُدوتهم هم أهل الرياضة والفن.
فتوافق كلامه مع البروتوكولات، ومع الدراسات الميدانية على المجتمع، وهذا كله بفعل القدوة السيئة والنماذج التي تُعرض للأجيال، وعندئذٍ سيخرج الجيل كما يقول الشاعر:
وحَسْبُكُمُو هذا التفاوت بيننا | وكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَحُ[7]البيت لابن الصيفي. ينظر: "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (3/ 1355). |
فالذي بضاعته وأولاده قناة (MBC) كيف سيكون حاله وحالهم؟!
وقد قرأتُ عن مواد برامج هذه القناة، وقد قلنا هذا الكلام، وفي هذا المكان، وذكرنا دراسةً عن ثماني ساعاتٍ عشوائية من هذه القنوات، وفي ثلاث باقاتٍ منها، فكانت النتيجة شيئًا يشيب منه شعر الرأس، وهذا في ثماني ساعاتٍ عشوائية، فكيف بأربعٍ وعشرين ساعةً؟!
وبعض الناس إلى الآن لم يتَّخذ قرارًا بالمُقاطعة، أو التَّشفير، وما شابه ذلك، فكيف سيكون حال بناته وعياله؟!
فنحن نُغالط أنفسنا إذا ظهرتْ هذه الصورة، أو هذا المشهد، أو هذا (الفيديو كليب)، أو هذا الفيلم، أو هذا (الأكشن)، أو هذا المُطرب واللاعب ... إلى آخره، ألا يُؤثر هذا في أجيالنا!
ألا نُدرك حقيقة التربية بالقدوة؟! وهذه قضيةٌ فطريةٌ، وحاجةٌ نفسيةٌ، وكل نفسٍ بشريةٍ تشعر بذلك، خاصةً الأطفال والمُراهقين، وحتى الكبار يشعرون بذلك، ولكن الأطفال والمُراهقين يتأثرون بالنماذج: إن كان خيرًا فخيرٌ، وإن كان شرًّا فشرٌّ، وبشكلٍ أكثر، فما النماذج المُقدمة لأجيالنا؟
وقد مررتُ بالسيارة في حيِّنا، وأطفالٌ وشبابٌ يلعبون الكرة، فالتفتُّ وإذا بطفلٍ يقوم بِهَزِّ جسمه من أعلى رأسه إلى أَخْمَص قدميه، فدُهِشْتُ من هذه الحركة التي ربما تعلَّمها من القنوات، خاصةً أنه طفلٌ، ويستحيل أن يقوم بهذه الحركة ابتداءً من نفسه، وبالتأكيد أنه رآها، وأن هناك مُؤثرًا، فذهبتُ إليهم وقلتُ: السلام عليكم. فقالوا: وعليكم السلام. وأخذتُ هذا الولد على جانبٍ، وكان أخوه موجودًا، فقلتُ له: يا ولدي، ما شاء الله عليك! تلعب على التمام ... إلى آخره، فالله يُوفقك، ويُسهل أمرك، ويُعينك، ويُفرحك، ويُسعدك، لكن رأيتُك تفعل حركةً: ترقص كأنك بنتٌ! فاستحى هو وأخوه، فقلتُ: أريد أن أسألك: من أين تعلمتَ هذه الحركة؟
فتبين أن أحد مُهاجمي المنتخبات العالمية -وهو مهاجمٌ مشهورٌ- لما سجَّل أحد الأهداف فعل هذه الحركة! وإن المُحبَّ لمَن يُحب مُطيع، وهذا هو القدوة، فهو يُحب الكرة، ويُحب لاعبيها؛ فيُقلدهم، خاصةً عندما يكون طفلًا لا يُدرك بعض القضايا، فتكون القضية أكثر خطورةً.
وأحد الجيران يقول: مجموعةٌ من أقاربنا شباب لم أجدهم يومًا حالقي شعورهم.
يقول: وفي يومٍ دخلوا عليَّ وهم مُحلِّقون، فقلتُ: ما شاء الله! تقبل الله عُمرتكم. فقالوا: والله ما ذهبنا للعمرة. فقلتُ: طيب، لماذا حلقتم؟ قالوا: أعضاء الفريق العالمي الذي يُتابعونه ويُحبونه نزلوا لأرض الملعب وهم حالقوا الرؤوس!
وهذا سِرّ أثر التربية بالقدوة: إن كان خيرًا فخيرٌ، وإن كان شرًّا فشرٌّ.
فتجد الواحد ربما يُقلِّد طريقة حركة يده ... إلى آخره، ويتأثر بمُعلمه ووالده بطريقة احتفائه وخُلُقه، ويتأثر بالجانب الإيجابي، أو بالجانب السلبي، فلا بد أن نَعِي هذه القضية حتى نتجنب القُدوات السلبية، فالمطلوب منا أن نكون قُدواتٍ إيجابيةً لغيرنا.
والدراسات دلَّت على أثر القُدوات من أصحاب العلم والدين والخُلُق الظاهر والباطن على المُتربين، ولا شكَّ أن هذه القضية واضحةٌ، ولا يُوجد عاقلٌ إلا ويقول هذا الكلام.
وأنا أقول -واسمحوا لي بهذه اللفظة الشديدة-: إن من الخيانة ونقص القُدوة أن نقول لأبنائنا وطلابنا وأجيالنا كلامًا وتوجيهًا وعلمًا ثم نُخالفه واقعًا! فوالله إن هذا من أكبر الأشياء على الأجيال، وهذا نقيض التربية بالقدوة، بل هو من القُدوة السيئة.
فهم يدرسون كلامًا جميلًا في التوحيد والفقه والأخلاق، ويسمعون من الخطيب كذلك، وربما الأب يتكلم كلامًا طيبًا، ولكنهم يرون مُخالفته له في المجلس وغرفة النوم والصالة والمدرسة، وهذا التَّناقض له أثرٌ كبيرٌ في بناء الشخصيات، فينبغي أن نهتمَّ اهتمامًا كبيرًا بالتربية بالقدوة.
ومن هنا نُدرك معنى القُدوة، وهي حالةٌ يكون عليها الإنسان في اتِّباع غيره، سواءٌ كانت حالةً حسنةً أو قبيحةً، وسواءٌ كانت حالةً سارَّةً أو ضارَّةً، ولا بد لها من نماذج، ولا بد من البحث عن هذه النماذج، وأن نكون نحن تلكم النماذج.
أصول القدوة
أصول القدوة ثلاثةٌ:
الأول: الصلاح، وهذا تدخل تحته ثلاثة أشياء: الإيمان، والعبادة، والإخلاص.
الثاني: حُسْن الخُلُق.
الثالث: مُوافقة القول العمل.
هذه هي أصول القدوة، فهل تريد أن تكون قدوةً، وتريد أن تبحث عن القدوات والنماذج الإيجابية؟
فانظر لهذه الأصول الثلاثة: الصلاح، وحُسْن الخُلُق، ومُوافقة القول العمل، فإذا وُجِدَتْ فيك فأنت قدوةٌ حسنةٌ، والنماذج التي تُقدمها لأبنائك تكون حسنةً، والله تعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ويقول الله : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ [الممتحنة:4]، ويقول : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الممتحنة:6].
ويأمر الله رسوله بالصبر فيقول: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، فالله يأمر نبيَّه بالصبر، وذكَّره بصبر أُولي العزم من الرسل، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، فهذا من القُدوة؛ لأن النفس البشرية إذا وجدتْ لها المُثُل والنماذج تَسَلَّتْ بها، وتَشَوَّفَتْ إلى الاقتداء بها.
ولا يُتصور من النفس البشرية أن تعيش بدون الاقتداء بشيءٍ إيجابيٍّ أو سلبيٍّ.
ولا يُتصور أحدٌ يقول: أنا سأعيش من غير قُدوةٍ حسنةٍ أو سيئةٍ.
فهذا شخصٌ لا يُدرك حقيقة النفس البشرية بحالٍ من الأحوال.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: قدم رسول الله فطاف بالبيت سبعًا، وصلَّى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة، وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[8]أخرجه البخاري (1623)، ومسلم (1234).، يعني: أن ما فعله النبي نحن نقتدي به في فعله -عليه الصلاة والسلام- في العمرة والحج.
وجاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما، وهو نموذجٌ من النماذج التي كانت تتحرى الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "اتَّخذ النبي خاتمًا من ذهبٍ، فاتَّخذ الناس خواتيم من ذهبٍ"، أين القدوة في هذا الموقف؟
أن النبي اتَّخذ خاتمًا من ذهبٍ، والناس قلَّدوه واتَّبعوه واقتدوا به، فقال النبي : إني اتَّخذتُ خاتمًا من ذهبٍ فنَبَذَه -أي: خلعه- وقال: إني لن ألبسه أبدًا، فنَبَذَ الناس خواتيمهم[9]أخرجه البخاري (7298)، ومسلم (2091)..
فهل لو كنا في مكانهم -يا جماعة- سنكون مثلهم؟
هذا سؤالٌ كل واحدٍ منا يسأله لنفسه، فقد كان الرسول يلبس فيلبسون، ويَنْبِذ الرسول ما لبسه فينبذون، وهذا معنى الاتباع والاقتداء بالنبي : فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2- 3]، فهذه الآية -والله- مُؤثرةٌ جدًّا؛ لأنها تُبين أنَّ المَقْت والبُغْض الشديد من الله لمَن يُخالف قولُه فعلَه؛ ولذلك حينما تُخالف الاقتداء الصحيح فإنك ربما تدخل في هذا الوعيد، وهو أشد البُغْض من الله للإنسان الذي يُخالف قولُه فعلَه، وفعلُه يُخالف قولَه، فالتربية بالقدوة قضيةٌ أساسيةٌ، ونجاحٌ رائعٌ جدًّا في هذه الحياة، وعاملٌ من عوامل بناء الشخصية.
مبادئ القدوة
للقدوة ثلاثة مبادئ:
المبدأ الأول: مبدأ التطابق بين القول والعمل
ولا نتصور شخصًا يكون قدوةً إلا إذا كان قولُه يُطابق عملَه، وتظهر هذه القضية أكثر في المَحَكَّات والأزمات، يعني: الإنسان عندما يكون في وضعٍ طبيعيٍّ يمكن أن يكون هادئًا، ولكن حين يتعرّض إلى مُثيرٍ هنا يظهر معدنه، ويُعرف: هل هو حليمٌ أو غَضُوبٌ؟ فهذا هو المَحَك الحقيقي، وهو مُطابقة القول للعمل، فتبقى سمة الإنسان وخُلُقه وقِيَمه موجودةٌ حتى في الظروف الصعبة.
وخُذْ مثالًا: عندما يكون الإنسان في بلد الغُربة، فهل يكون باقيًا على قِيَمه أم لا؟
ولما تُسافر المرأة إلى الخارج هل تُحافظ على حجابها؟
وربما ترى البنت أمَّها -ما شاء الله!- مُتحجبةً في البلد، ولكنها بمجرد أن تركب الطائرة تخلع الحجاب!
وحدثني بعض الذين يُسافرون -وهو شخصٌ ليس ظاهره الالتزام، ولكنه صاحب غِيرةٍ ومُحافظةٍ- يقول: والله نرى في الطائرة مثل هذه المظاهر، فنُصاب بالألم والحَسْرة.
وأنا -والله- أحترم المرأة التي لا تتحجب هنا أو هناك؛ لأن هذه -على أقل تقديرٍ- عندها اطِّرادٌ في طريقتها، وإن كانت مُخطئةً، ولا بد من نصيحتها، ولكن العجب من التي عندها تناقضٌ.
فهذه البنت التي ترى أمَّها بهذا الشكل: إما أن يُوفقها الله لمعرفة أن هذا خطأٌ كبيرٌ وممارسةٌ خاطئةٌ من أمها، ويكون الإيمان مُؤثرًا عليها؛ فتبقى على حجابها.
وإما أن تقول: ما تفعله الأم هو الصحيح، وما ندرسه في الحجاب ليس صوابًا. وربما يكون هذا من باب الهوى والرغبة والشهوة، وما شابه ذلك، فهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا.
وحدثني أحد الإخوة أنه دخل إحدى الجهات في مدينة الخُبر لأخذ التأشيرة، وهو مكتبٌ مُتعلقٌ بإحدى البلاد الأوروبية، يقول: لما دخلتُ وجدتُ أسرةً كاملةً، وكلهم نساء مُتحجبات، وبمجرد أن دخلوا من الباب خلعوا كل عباءاتهم!
وهذا في الخُبر، وفي مكتبٍ مُتعلقٍ بإحدى الدول الأوروبية لأجل التأشيرة، فكيف يكون حال هؤلاء لما يَصِلْنَ إلى البلاد الأوروبية؟!
فهذه صورٌ مُتناقضةٌ وخطيرةٌ جدًّا، والمشكلة أن هذه الصور -للأسف- موجودةٌ في شاشة (التليفزيون) الذي ابتُلِيَ به كثيرٌ منا، ولو أن كل واحدٍ منا فكر في التربية بالقدوة والعقل -وليس بالدين- لأدرك هذه القضية.
تقول الأم لبنتها: الحجاب سترٌ للمرأة، ولا بد أن تستر كافة جسمها من أعلى رأسها لأَخْمَص قدمها، والدليل قول الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، وتُسمِّع لها، وتختبر وتنجح وتأخذ 100% بالاختبار، ثم تجدها تُشاهد (ستار أكاديمي)! والفيلم الفلاني! والمسلسل الفلاني! وترى النساء وهنَّ كاشفات، فتقتدي بهنَّ! وما شابه ذلك.
فهذه الصور تنطبع في أذهان الجيل فتُؤثر فيهم، ولا نُخادع أنفسنا بأننا أقوياء ولا نتأثر، فنحن لسنا مثل الصخر، حتى الصخر لو استمرتْ نقاط الماء عليه فإنه يتأثر، بل يقول الله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ [البقرة:74]، فهذا حال الحجارة، والإنسان أكثر تأثرًا منها.
فلا يأتي أحدٌ ويقول: أنا أرى المُذيعة في الأخبار فقط!
طيب، الله قال لك: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، فمهما كان الإنسان سيتأثر، وسيُوجِد هذا انطباعًا داخليًّا.
فعلى أية حالٍ القصد هنا مُطابقة القول للعمل حتى في أَحْلَك الظروف، فهو إذا احتاج إلى المال، وصار عنده فقرٌ، فلا بد أن يبقى على صدقه وأمانته، ولا يخون، ولا يسرق، ويتربى الأبناء من الأب على الأمانة دائمًا.
وتأملوا صلاة الخوف متى تُقام؟
في الحرب، وأُمِرُوا بإقامتها، وهذه بحدِّ ذاتها تُعطي دلالةً على أهمية الاقتداء، وهذا من أكبر الأدلة عند أهل العلم على وجوب صلاة الجماعة، وأنهم في وقت الحرب أُمِرُوا بالجماعة، ولم يُعْذَروا في التَّخلف عنها بأن يُصلي كل واحدٍ على انفرادٍ، فكيف بنا ونحن في أماكننا آمنون مُطمئنون؟!
والبعض منا ربما صلَّى بعض الأوقات في بيته مُنفردًا بغير عذرٍ، وربما أنه لا يعرف المسجد إلا يوم الجمعة، أو في رمضان، أو ما شابه ذلك!
وهذا يُسمونه: مبدأ تطابق القول والعمل، وهو مبدأٌ مهمٌّ جدًّا، ومن أكبر ما يُؤثر في الجيل، فحينما يَرَون التعارض بين القول والعمل تكون مشكلةً، كما قال الله : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:43، 44].
فكل واحدٍ منا يُفتش عن نفسه، ويجتنب مُعارضة القول للفعل؛ إذ ليس من العقل والدين والقِيَم، ولا من شِيَم الرجال، ولا من صفات الشخصية أن يتعارض قولي مع عملي، فأدعو إلى الصدق وأنا أكذب! وأدعو للأمانة وأنا أَخُون! وأدعو للابتعاد عن التدخين وأنا أُدخن! وأدعو للانضباط وأنا غير مُنضبطٍ! فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، يقول الشاعر:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله | عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ[10]البيت للمتوكل الليثي. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" لابن سلَّام الجُمحي (2/ 684). |
المبدأ الثاني: مبدأ عرض النموذج
إن أردنا فعلًا التربية بالقدوة فعلينا أن نأخذ بهذا المبدأ، وهو مبدأ عرض النموذج، وهو كما قال الله : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فهذا عرضٌ للنموذج وهو النبي ، فهو قدوةٌ وأُسوةٌ، وعندئذٍ لا بد أن أقرأ سيرته وأَتَمَثَّل بهديه ، ومَن وُفِّق لذلك فهو على خيرٍ عظيمٍ.
والله أظهر من خلال كتابه مكانة النبي ، وكونه قدوةً يجب أن نقتدي به.
ففي هذا المبدأ يجب علينا أن نعرض النموذج، وأعظم نموذجٍ هو النبي بلا نقاشٍ، ولكن من أكبر النماذج المُؤثرة أنا وأنت؛ لأننا نماذج حيةٌ، فحين يرى الأبناء آباءهم، والبنات أمهاتهم، والطلاب مُعلميهم ... إلى آخره، ويجدونهم قُدواتٍ، وهم يتعايشون معهم يوميًّا، ويجدونهم في محل الاقتداء والالتزام بالقيم والأخلاق، ويُشكِّلون فعلًا قدوةً حسنةً؛ فهذا لا شكَّ أنه عرضٌ للنموذج رائعٌ جدًّا.
ومما يُعَدُّ من عرض النموذج -وهو مهمٌّ جدًّا وأدعوكم إليه-: نشر ثقافة القصة، فالنفس البشرية تُحب القصة، والقرآن مليءٌ بالقصص القرآني، والسنة مليئةٌ بالقصص النبوي، وكذلك قصص العلماء والصحابة والتابعين، وما شابه ذلك.
وإذا أمكن أن يكون للأسرة والمحاضن التربوية والتعليمية رصيدٌ من القراءة في هذه القصص القرآنية والنبوية، والقراءة في سيرة النبي ، وسِيَر الأنبياء والصحابة والتابعين؛ كان لذلك أثرٌ كبيرٌ.
وهناك سلسلةٌ في القصص النبوي للأشقر وغيره، وهي مفيدةٌ فائدةً عظيمةً جدًّا.
فيسمع الأبناء والزوجات والأجيال والطلاب قصةً من القصص، وينتفعون بإذن الله تعالى.
وأنا ذكرتُ لطلابي في الكلية قصةً من القصص النبوي، وهي ما جاء في حديث سَمُرَة بن جُندب قال: كان رسول الله مما يُكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا؟ قال: فيَقُصُّ عليه مَن شاء الله أن يقُصَّ، وإنه قال ذات غَدَاةٍ: إنه أتاني الليلة آتيانِ، وإنهما ابْتَعَثَانِي، وإنهما قالا لي: انطلقْ، وإني انطلقتُ معهما، وإنَّا أتينا على رجلٍ مُضْطَجعٍ، وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرةٍ، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فَيَثْلَغ رأسه، فَيَتَدَهْدَه الحجرُ هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصحَّ رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثلما فعل المرة الأولى ...[11]أخرجه البخاري (7047).، يعني: التفت النبي إلى أصحابه بعد صلاة الفجر فقال: مَن رأى منكم رؤيا؟ فلما لم يَرَ أحدٌ منهم رؤيا حدَّثهم النبي عن رؤيا رآها هو فقال: إنه أتاني الليلة آتيانِ ... والحديث طويلٌ، ويتعلق بقضية المعاصي والمُنكرات والكبائر وأثرها وجزائها يوم القيامة، والحديث مُؤثرٌ جدًّا في الكذب، وفي النوم عن الصلاة، والزنا، وغيرها.
أحد طلابنا في التدريب مرَّ عليَّ في المكتب يُسلِّم، فقال لي: تَذْكُر الحديث الفلاني يا أستاذ؟ قلتُ: أي حديثٍ؟ فذكره، وقال: والله قرأتُه على طلابي في مرحلة رابع ابتدائي. قلتُ: عجيب! وكيف كان انجذابهم؟
وأنا كنتُ أتصور أن طلاب رابع ابتدائي لن ينجذبوا.
فقال: والله انتهت الحصة وما استطعتُ أن أنتهي من الحديث؛ لأن الحديث طويلٌ، وأحداثه مُتسارعةٌ وكثيرةٌ، فقالوا: كمِّل، كمِّل. فاضطررتُ إلى أن أستأذن من الأستاذ الذي بعدي في الحصة أن آخذ جزءًا من حصته حتى أُكمل لهم الحديث.
وهذه طبيعةٌ في النفس البشرية: أنها تُحب القصص وتهواها، هل تدرون لماذا؟
كما قال أهل الاختصاص وغيرهم: إن الإنسان يضع نفسه في مكان الحدث، أو أصحاب الأحداث، فيعيش البطولة والجوَّ؛ ولذلك استثمر الأعداء -للأسف الشديد- مثل هذه القضايا في الاتجاه السلبي؛ فأنتجوا لنا الأفلام ذات البطولات المُنحرفة، بل حتى الأغاني أتوا بها بطريقة القصص، وذلك من خلال (الفيديو كليب)، والروايات المُنحرفة.
ولذلك من المهم جدًّا أن نُغذي الأجيال بالروايات النافعة، والرسوم المُتحركة النافعة، والأفلام والمسلسلات النافعة المُنضبطة بالضوابط الشرعية، وبالقصص النافعة، فهذا مهمٌّ جدًّا؛ لأن النفس البشرية تَتَشَوَّف لمواقف القُدوات، وتتمثل هذه القُدوات، فإن كانت القدوات غير ذلك فستُصبح مشكلةً.
وقد حدثني -وهذا الكلام قديمٌ قبل القنوات الفضائية- مشرفٌ من المُشرفين التربويين يقول: كنا نلعب في حصة الرياضة، ومعنا طفلٌ صغيرٌ في الابتدائي، ويريد أن يُسجل هدفًا، فقال: واللَّاتِ والعُزَّى لأجيب (جول)!
يقول: لما بحثنا وجدنا أن هذه مادةٌ من مواد الرسوم المُتحركة التي يُتابعها في بيته وتَشَرَّبها.
وهذا الطفل معذورٌ عند الله ما دام ليس بالغًا، لكن أين ولي الأمر الذي بَذَرَ هذه البذور السيئة فيه؟! فهو الذي يتحملها عند الله .
ولذلك تنبغي العناية بالقصص النظيفة في مجالاتٍ متعددةٍ من الروايات والسِّيَر وحياة العظماء، ومن الأفلام والمسلسلات الإسلامية المُنضبطة.
ولا أتكلم عن المصطلح الإعلامي المشين الذي في الوقائع مما هو معروفٌ.
فهذا هو المبدأ الثاني، وهو: عرض النماذج الإيجابية، وكذلك نكون نحن نماذج إيجابيةً.
وجميلٌ أن نربط الأبناء بنماذج سابقةٍ، أو نأخذهم إلى نماذج تعيش اليوم معنا من علماء وطلبة علمٍ وأناسٍ ناجحين في تخصصاتهم، وشرفاء، وأصحاب خبرةٍ، وكبار السن ... إلى آخره، فيزورونهم، ويأخذون منهم.
المبدأ الثالث: التكرار
وهو مهمٌّ جدًّا في التربية بالقدوة، فالتكرار لا بد منه، والناس يقولون: التكرار يُعلم الشُّطَّار.
وبغَضِّ النظر عن العبارة؛ فالعبارة عليها انتقادٌ من حيث بعض ألفاظها العربية، لكنها تُعطي الدلالة التي نقصدها.
فلا يُتصور أن يكون الإنسان قدوةً إذا كان يفعل الفعل مرةً أو مرتين فقط، وإنما لا بد من التكرار.
يقول البعض: يا أخي، أنا فعلتُ هذا الشيء أمام ولدي مرةً.
فنقول: المرة لا تنفع، فلا بد أن تكون سمةً وعادةً عندك، وشيئًا دائمًا، فهذه هي القُدوة، فلا بد أن تكون أمام أولادك دائمًا صادقًا وأمينًا، وأما أن تقول: فعلتُها مرةً. فهذا لا يصلح؛ ولذلك لا يُربي الأب أبناءه على الصلاة في الجماعة إذا كان مرةً يُصلي في المسجد، ومرةً لا يُصلي في المسجد، فلا يتربون على صلاة الجماعة بحالٍ من الأحوال، وإنما يتربون على ذلك إذا كان ديدنه دائمًا، حتى لو لم يَقُل لهم بالألفاظ، فإذا كانت علاقته حميميةً معهم فإنهم سيكونون معه؛ لأنه ربَّاهم من خلال هذه المبادئ، ومُطابقة القول للعمل، وعرض النموذج، ومبدأ التكرار.
دوافع التربية بالقدوة
التربية بالقدوة دافعٌ وحافزٌ لكسب الأجور، والخوف من الأوزار، يقول النبي : مَن سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، ومَن سَنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وِزْرُها ووِزْر مَن عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ[12]أخرجه مسلم (1017).، فالتربية بالقدوة تُساعد في وجود هذا الحافز والدافع لكسب الأجور.
وأيضًا القدوة طريقٌ للاعتدال والتوسط في الحياة، وقد ذُكِرَت عند النبي مولاةٌ لبني عبدالمطلب فقيل: إنها تقوم الليل، وتصوم النهار. فقال رسول الله : لكني أنا أنام وأُصلي، وأصوم وأُفطر، فمَن اقتدى بي فهو مني، ومَن رَغِبَ عن سُنتي فليس مني[13]أخرجه أحمد (23474)، وقال مُحققو "المسند": إسناده صحيحٌ.، فعندما نقتدي بالنبي نكون على المنهج الوسط والاعتدال، فلا إفراطَ ولا تفريط.
وأيضًا من خلال التربية بالقدوة يُساعدنا ذلك على قوة المُلاحظة وسرعة التنفيذ، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله : لا يبيت أحدٌ ثلاث ليالٍ إلا ووصيته مكتوبةٌ، فقال ابن عمر: "فما بِتُّ من ليلةٍ بعد إلا ووصيتي عندي موضوعةٌ"[14]أخرجه أحمد (4469)، وهو في "صحيح مسلم" (1627) بنحوه.، وهنا تظهر سرعة التنفيذ مباشرةً؛ فلما وجَّه النبي هذا التوجيه نفَّذه ابن عمر مباشرةً، وهذه من آثار التربية بالقدوة؛ ولذلك يقول البعض: مع كثرة المناهج والتوجيهات والخُطب لا نجد التطبيق والعمل!
نقول: السبب: ضعف التربية بالقدوة، فلو ربَّينا أجيالنا على أهمية التربية بالقدوة، وكنا قُدواتٍ؛ لحصلنا على سرعة التنفيذ مباشرةً.
وكذلك لما نزلتْ آيات الخمر استجاب الصحابة -رضوان الله عليهم-، وبعضهم كان بيده كأس الخمر، فلما سمع الآيات تُتلى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] رماها مباشرةً وهو في حالة سُكْرٍ، فَجَرَتْ في سِكَك المدينة[15]أخرجه البخاري (2464)، ومسلم (1980)..
فسرعة الاستجابة معنًى تربويٌّ عظيمٌ نتحصل عليه من التربية بالقدوة.
وكذلك قوة المُلاحظة، فعن زيد بن خالد الجهني قال: لأَرْمُقَنَّ صلاة رسول الله الليلة. فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين، طويلتين، طويلتين، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعةً[16]أخرجه مسلم (765)..
فالتربية بالقدوة جعلتْ زيد بن خالد قوي المُلاحظة لمَن يريد أن يقتدي به، فذهب يتتبع النبي ويَرْمُق صلاته؛ ليعرف كيف يُصلي ؟
ولذلك لو نجحنا في التربية بالقدوة لجعلنا الأبناء والأجيال يكونون سريعي المُلاحظة، وسيتجهون إلى البحث عن هذه القُدوات وتمثُّل أخلاقها وتصرفاتها بطريقةٍ صحيحةٍ، وإلا سيُوجد عندنا جيلٌ يعرف رقم الفانلة التي يرتديها اللاعب الفلاني، ويعرف أكلته، وقَصَّة شعره، واهتماماته؛ لأنه يَرْمُقُه ويُتابعه، ويعرف حركاته، مثل: الطفل الذي ذكرناه قبل قليلٍ، والذي فعل الحركة السابقة؛ لأن القُدوة تُسبب شدة الملاحظة وقوتها: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
والآن نُعطي فرصةً للأسئلة؛ لأننا لا نستطيع أن نذكر كل شيءٍ.
احتلال العقل مكانته الصحيحة
لاحظوا أيضًا في جانب القدوة من التطبيقات التربوية: أن يحتلَّ العقل مكانته الصحيحة، فأبو بكرٍ لما أخبرته قريش بأن صاحبه أُسْرِي به إلى المسجد الأقصى، وعُرِجَ به إلى السماء، وهذه صورةٌ غير مُعتادةٍ، فقال: "أوقال ذلك؟" قالوا: نعم. قال: "لئن كان قال ذلك لقد صدق"، قالوا: أوتُصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يُصبح؟ قال: "نعم، إني لأُصدقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أُصدقه بخبر السماء في غَدْوَةٍ أو رَوْحَةٍ"؛ فلذلك سُمي أبو بكر: الصديق[17]أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4407)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (306)..
وعمر بن الخطاب يقول للحجر الأسود: "إني أعلم أنك حجرٌ، لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي يُقبِّلك ما قبَّلتُك"[18]أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270)..
وعلي بن أبي طالب يقول: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيتُ رسول الله يمسح على ظاهر خُفَّيه"[19]أخرجه أبو داود (162)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (103)..
ونحن نمسح على الأعلى، فلماذا نمسح على الأعلى مع أن الأسفل هو الأولى بالمسح؟
لأن النبي فعل ذلك، وهو القُدوة، ولو جلسنا نُفكر ونقول: الباطن هو الذي يَحْتَكُّ بالأرض؛ فنمسح على الباطن.
لا يا حبيبي، أنت مأمورٌ بالاتباع والاقتداء.
فيقول: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه".
فالتربية بالقدوة تُعلمنا أن نجعل العقل في مكانه الصحيح، ولا يكون فوق الشرع؛ لأن الشرع هو المُهيمن على العقل، وعندئذٍ اللوثات العقلية والفكرية المُنحرفة الموجودة اليوم من المُفترض أن تُعالج بالتربية بالقدوة؛ لما تُربَّى الأجيال بالاقتداء بالنبي ومَن اتَّبعه.
وأيضًا السير في طريق الأنبياء بالأخذ بالعزائم، يعني مثلًا: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- لما رأى على طلحة بن عبيدالله ثوبًا مصبوغًا وهو مُحْرِمٌ، فقال عمر: "ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟" فقال طلحة: "يا أمير المؤمنين، إنما هو مَدَرٌ" أي: طين، فقال عمر: "إنكم أيها الرهط أئمةٌ يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلًا جاهلًا رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيدالله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئًا من هذه الثياب المصبغة"[20]أخرجه مالك في "الموطأ" (1164)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9117)..
فهذا الثوب لا إشكالَ في لبسه على المُحرم، ولكن عمر يقول: أنت يا طلحة في محل الاقتداء، فالناس ربما يظنون أن هذا الثوب من الثياب المصبوغة، وهو ليس كذلك.
ويقول أحد زملائنا -وهو إمام مسجدٍ-: كان من عادتي وطبيعتي أنني كلما انتهيتُ من الصلاة واستَدَرْتُ إلى المصلين أجلس جلسةً معينةً، بحيث تكون رجلي على شكلٍ معينٍ، ومرةً تألَّمَتْ رجلي، وما استطعتُ أن أجلس هذه الجلسة، فجاء أحد الإخوة المصلين وسلَّم عليَّ، وقال لي: يا شيخ، ماذا فيك؟ كنتَ تجلس جلسةً معينةً، وهي سنةٌ، ونحن نتبعك فيها.
فهذا الرجل يرى ما يفعله الإمام ويفعل مثله، ويظنها سنةً عن النبي ، يقول: ولما رآني تغيرتُ جاء وسألني، فقلتُ له: يا أخي، هذه الجلسة ما لها علاقةٌ بالسنة، ولا اتباع النبي ، هذه عادةٌ.
فالمقصود: أن الذي يكون في محل القدوة لا بد أن ينتبه لأفعاله وأقواله، كما قال عمرُ لطلحة، فالذين هم محل الاقتداء يظن الناس أن ما يفعلونه هو الشيء الصحيح، حتى لو كان خطأً؛ ولذلك ينتبه المعلم، وينتبه الأب، وينتبه المسؤول لهذا الجانب.
فالتربية بالقدوة تُساعدنا في الأخذ بالعزائم، وترك الشيء ولو كان أحيانًا مُباحًا، فنتركه حتى لا تحصل فيه شُبهةٌ وإشكالٌ.
لعلنا نكتفي بهذا القدر حتى لا نُطيل عليكم، وحتى نقف أيضًا مع الأذان، وبقيت أمورٌ أخرى، وأنصح بالرجوع إلى بعض الكتب والمراجع، خاصةً في موسوعات الأخلاق، مثل: "موسوعة الأخلاق الإسلامية" لحبنكة الميداني، أو "موسوعة نضرة النعيم في مكارم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام" تبع الشيخ سليمان الراجحي -جزاه الله خيرًا-، وهي مجموعة مجلداتٍ كبيرةٍ جدًّا، وكذلك "موسوعة الأخلاق" التي نزلتْ مُؤخرًا على موقع "الدرر السَّنية".
فكل هذه الموسوعات في الأخلاق والقيم ستجدون فيها بابًا وفصلًا كاملًا حول القدوة، وهو رائعٌ ومُفيدٌ، فيُمكن أن يُستفاد من هذه الموسوعات أو الكتب المُستقلة، وقبل ذلك من الآيات المُتعلقة بالقدوة، وقراءة تفاسير هذه الآيات.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياكم هداةً مُهتدين، غير ضالين، ولا مُضلين، وأن يجعل قُدوتنا النبي في حياتنا العلمية والعملية، وأن يُعين الأُسَر على القيام بهذا الواجب، ويُعيننا على أنفسنا أولًا؛ حتى نُدرك التربية بالقدوة وأهميتها، لعل الله أن يُخرج من أصلابنا ومجتمعنا مَن يكون قدوةً مُؤثرةً؛ حتى يسُدُّون حاجات الأمة في مجالاتٍ عديدةٍ.
نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من كل سوءٍ وشرٍّ.
استقبال الأسئلة والرد عليها
س: هل يُوجد موقعٌ رسميٌّ عن التربية؟
ج: توجد عدة مواقع، منها: موقع "المُربي" للشيخ الدكتور محمد الدويش، وموقع "حلول" للدكتور عبدالعزيز الأحمد، وموقع مركز "رؤية للدراسات الاجتماعية"، وغيرها من المواقع التي يُمكن أن يُستفاد منها.
س: هل يجوز تطبيق قصص الأنبياء في التربية؟
ج: نعم، الله تعالى يقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111]، فقصة يوسف -مثلًا- واضحةٌ تمامًا، وليست القصة للتسلية فقط، وإنما للعبرة والاتِّعاظ، ولا شكَّ أننا نحتاج إلى أن نُطبق ما يتعلق بموطن التطبيق منها، ونترك ما يتعلق بخصوصيات الأنبياء، وإنما المقصود الأشياء التي هي محل الاقتداء، كما قال الله : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ؛ ولذلك القصص القرآني يُمثِّل ثلث القرآن.
س: أرجو التَّحدث عن الآباء الذين ينهون أبناءهم عن التدخين ويُدخنون؟
ج: عليهم أن يتذكروا قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، فالله تعالى يستنكر أمر الناس بالبرِّ ونسيان النفس، وهذه مشكلةٌ، وليس المقصود أنه إذا كان عندك خطأٌ لا تأمر بالبرِّ، فعندنا ثلاثة أحوالٍ:
- شخصٌ يأمر بالبرِّ ويقوم به، وهذه الصورة النموذجية، وهذا هو القدوة، والذي ننبغي أن نكون عليه.
- شخصٌ يأمر بالبرِّ، ولكنه مُقصرٌ فيه، مثل صاحبنا هذا الذي يُسأل عنه، يقول لأولاده: لا تُدخنوا. وهو يُدخن.
- شخصٌ لا يأمر بالمعروف، ويقع في ضدِّه، فيقول: أنا مُدخنٌ؛ ولهذا لن أنصح أولادي بترك التدخين؛ لأنني مُدخنٌ.
فأيُّهما أفضل: الثاني أم الثالث؟
الثاني أخفُّ من الثالث بلا شكٍّ.
وهذا الأمر -كما قال العلماء- يجعله إذا وجَّه أبناءه إلى عدم التدخين وهو مُدخنٌ يُراجع نفسه فيترك التدخين، لكن العاقل -على أقل تقديرٍ- يستتر، وأيضًا يعمل ما يستطيع من أجل ترك التدخين، وما شابه ذلك، وإلا فلا شكَّ في أن الإنسان إذا أمر بالبرِّ ونسي نفسه فهذا مُنكرٌ، ولكن ليس معنى هذا أن يترك الأمر بالبرِّ، وإنما بالعكس.
وأنا أرى أنه قد يكون مُؤثرًا بشكلٍ إيجابيٍّ، وأقصد لما يقول الوالد لولده: يا ولدي، أنا مُدخنٌ، لكن لا تتبعني في تدخيني، ولا تجعلني قدوةً، والله ما استفدتُ، وأنا أرجو الله أن يعصمني من هذا الأمر، فانتبه يا ولدي.
ويقول المعلم المُدخن لطلابه مثل ذلك، خاصةً لما يُصارحهم، فهذا بلا شكٍّ عاملٌ مُؤثرٌ في الأجيال، وفي الشخص المُبتلى بهذا الجانب.
س: يتكلم عن القنوات الفضائية فيقول: أرشدني لإخراجها من بيت والدي، مع العلم بأنه يَنْعَتنا بالتَّشدد إذا طلبنا منه ذلك؟
ج: لا شكَّ أن هذا ابتلاءٌ إذا كان المقصود هنا القنوات الفضائية التي تُجرم في حقِّ الفضيلة والأخلاق، فعلى الإنسان أن يلجأ إلى الله : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62].
ونحن عندما تصير عندنا ضائقةٌ ماليةٌ ونفسيةٌ نلجأ إلى الله ، وهذه القضايا أشدّ، فنحن نحتاج إلى أن نلتجئ إلى الله ، وأن نُرِيَه من أنفسنا خيرًا، فلتلجأ إلى الله كي يفتح أبواب قلب والدك، لعل الله أن يهديه.
ثم إن لكل شخصٍ مفاتيح من خلالها يُؤثَّر عليه، والناس يختلفون بلا شكٍّ، ووالدك -جزمًا- هناك مَن يستطيع أن يُؤثر عليه، فابحث عمَّن يُؤثر عليه، فقد تكون والدتك، وقد تكون إحدى أخواتك، أو شخصًا خارجيًّا.
المقصود: ضَعْ هذه القضية أيضًا في البال.
ثم لا بد من الإحسان للوالد بحيث تكون العلاقة معه علاقةً حميميةً؛ بحيث يُحبك ويطمئن إلى بِرِّك وإحسانك حتى يتقبل منك.
ثم لا بد من التَّحمل والصبر على الكلام الذي يقوله لكم، وكونه يَنْعَتكم بالتَّشدد، وما شابه ذلك.
والمشكلة عندما لا يقوم الابن بالواجب الذي عليه، ويريد أن يُصلح مثل هذه القضية، ولا تُوجد أرضيةٌ مناسبةٌ من التفاهم بين الأبناء والآباء، ولا علاقةٌ طيبةٌ من البرِّ.
والأمر الآخر: لا بد من الحوار والنقاش والتأثير بطرقٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ، وخاصةً الطرق غير المباشرة، فهي مهمةٌ، وكذلك الإقناع، وكما قلنا: اللجوء إلى الله بالدعاء، وإيجاد البدائل التي تُنافس الموجود، وإدخالها إلى البيت حتى قبل خروج القنوات السابقة، فهذا مهمٌّ جدًّا.
وهناك الآن قنواتٌ كثيرةٌ مفيدةٌ، مثل: قنوات دِشّ الفلك، وكذلك الدّش الخاص بقنوات المجد، وما شابه ذلك، وإدخالها إلى البيت حتى تعرفها الأسرة.
وبعض الناس لا يعرفون عن هذه القنوات شيئًا، ويعرفون عن (mbc)، ويعرفون عن القنوات الأخرى و(الأوربت) ... إلى آخره! ولا يعرفون عن هذه القنوات -للأسف الشديد-، بينما أناسٌ يعرفونها -والحمد لله-، والله قد عافاهم منذ سنوات من القنوات الفاسدة؛ ولذلك لا بد من الدخول بالمُزاحمة لهذه القنوات، فهذا أيضًا مهمٌّ جدًّا.
ولو لم تنجح أخي الكريم، فعليك تقليل مستوى التأثر بهذه القنوات من خلال وضعها في غرفة الوالد، فهذا أهون من أن تكون في المجلس العام، أو في الصالة والجميع يراها.
ولا بد أن يكون هناك -على أقل تقديرٍ- مجالٌ لإقناع الوالد بأثر هذه القنوات على بناتنا وأخواتنا وعيالنا الصغار، وهكذا، فقد يقتنع بعض الآباء.
وأنا أعرف أحد الآباء وضع له دِشًّا خاصًّا في مكانه الخاص، وهو يُتابع ما هَبَّ ودَبَّ، لكنه -على أقل تقديرٍ- عنده جزءٌ من العقل في قضية تأثر الأبناء.
فأنت حاول أن تُقلل الشر، والشريعة جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها، ودَرْأ المفاسد وتقليلها، فإذا لم تستطع أن تَدْرَأ المفسدة كاملةً فعلى أقل تقديرٍ تُقلل المفسدة، وهذا إجراءٌ رائعٌ جدًّا، فيبذل الإنسان جهده، ويسأل الله العون والتوفيق.
وأنا أُناشد مثل هذا الأخ وغيره أن يكونوا رُسُل خيرٍ في هذه الأشياء التي طَغَتْ على أُسَرنا وأثَّرتْ فيها تأثيرًا كبيرًا جدًّا، وما يُلحظ من مُتغيراتٍ في المجتمع عندنا من أكبر ما يُفسره هذا الزَّخَم في مُتابعة القنوات في البيوت.
وقد يقول البعض: أصبحتْ هذه الآن في أجهزة الإعلام الجديد، وما شابه ذلك.
وسبقتْ لنا محاضرةٌ حول التربية في عصر التقنية والإعلام الجديد، ناقشنا فيها هذه القضية.
فهذه لا شكَّ أنها همومٌ ضخمةٌ جدًّا اليوم، والمُتساهل والمُتكاسل لن يستطيع أن يفعل شيئًا، بل سيُحاسَب بين يدي الله ، وربما يكون عليه من الملامة والغضب الرباني والمَقْت من الله حينما لا يقوم بالواجب الذي عليه.
فتنبغي علينا جميعًا المُجاهدة، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فنحن نُجاهد أنفسنا في الإعمار والعقار، ونُجاهد أنفسنا في الصحة والمرض والوظيفة، ولكن -للأسف- بعضنا لا يُجاهد نفسه حقَّ المُجاهدة في القنوات الفضائية والمُؤثرات على القيم والأخلاق، وعلاقة أبنائه بالصلاة والأصدقاء، وتدين أبنائه وبناته، فهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا.
س: هل يكون قدوةً مَن يكون مُتذبذبًا بخَلَوَاته؟
ج: أسأل الله أن يعفو عنا وعنكم، فكلنا ذلك الرجل المُقصر في الخلوات، ومَن ذا الذي يسلم من الزلل والخطأ؟!
ولكن لا شكَّ أنه كلما كان الإنسان ظاهره مثل باطنه كان ذلك أدعى للاقتداء به، وهذا يُرى ربما في وجهه، وكما قيل: "أولياء الله مَن إن رأيتَهم ذكرتَ الله"، وأولياء الله يُحافظون على خَلَوَاتهم، وإذا خَلَوا بمحارم الله لم ينتهكوها، وقد يحصل عندهم خطأٌ، لكنهم يُعظِّمون أوامر الله، كما قال يوسف: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
فالإنسان المُستحضر لمُراقبة الله في خَلَوَاته لا شكَّ أن هذا أدعى للقدوة، وضعف هذا الجانب سيُسبب ضعفًا في القُدوة بلا شكٍّ، وليست النائحة الثَّكْلَى كالنائحة المُستأجرة، فالمرأة التي تنوح في العزاء بالافتعال لا تُؤثر في الناس، ولكن التي تبكي من قلبها تُؤثر في الناس، فالشيء الذي يكون من القلب غير الشيء الذي يكون مُفتعلًا، ونفس الكلام فيما يتعلق بهذا الجانب.
ولكن ليس معنى هذا أن نترك القدوة بسبب أن بيني وبين ربي خبيئةً سيئةً، فأترك محل الاقتداء.
لا، وإنما نقول نفس ما قلناه قبل قليلٍ في موضوع التدخين: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
أسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن يُوفقنا وإياكم لسعادة الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا وإياكم مُباركين أينما كنا، وأن يُوفقنا وإياكم لأن نكون قُدواتٍ صالحةً، وأن يُعيننا على أن نُوجد القدوات الصالحة لأهلينا وأبنائنا ومجتمعنا.
كما أسأله أن يلطف بإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها: في غزة، وسوريا، والعراق، واليمن، وفي كل مكانٍ، وأن يلطف بالمسلمين، وأن يحفظهم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن ينصر دينه، وأن يُعْلِي كلمته.
هذا والله تعالى أعلم.
والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | أخرجه ابن حبان (723)، والحاكم (4088)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (313). |
---|---|
↑2 | "صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص147). |
↑3 | "صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص147، 148). |
↑4 | أخرجه البخاري (631). |
↑5 | أخرجه مسلم (1297). |
↑6 | "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229). |
↑7 | البيت لابن الصيفي. ينظر: "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (3/ 1355). |
↑8 | أخرجه البخاري (1623)، ومسلم (1234). |
↑9 | أخرجه البخاري (7298)، ومسلم (2091). |
↑10 | البيت للمتوكل الليثي. ينظر: "طبقات فحول الشعراء" لابن سلَّام الجُمحي (2/ 684). |
↑11 | أخرجه البخاري (7047). |
↑12 | أخرجه مسلم (1017). |
↑13 | أخرجه أحمد (23474)، وقال مُحققو "المسند": إسناده صحيحٌ. |
↑14 | أخرجه أحمد (4469)، وهو في "صحيح مسلم" (1627) بنحوه. |
↑15 | أخرجه البخاري (2464)، ومسلم (1980). |
↑16 | أخرجه مسلم (765). |
↑17 | أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4407)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (306). |
↑18 | أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270). |
↑19 | أخرجه أبو داود (162)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (103). |
↑20 | أخرجه مالك في "الموطأ" (1164)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9117). |