المحتوى
مقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، ومرحبًا بالجميع، وحيَّا الله الإخوة طلاب الدكتوراه في جمعية "رعاية طلاب العلم في المدينة النبوية".
موضوعنا اليوم حول "التربية في عصر التقنية والإعلام الجديد" أو "التقنية والتحدي التربوي".
سبب اختيار الموضوع
التقنية اليوم لا تكاد تُفارقنا في كل ثانيةٍ ودقيقةٍ، وهذه البرامج والوسائط مُنتشرةٌ جدًّا، وهذه التي أمامكم الآن نماذج من هذه النماذج، والتوسع فيها كبيرٌ وضخمٌ في الجانب الكمّي والكيفي، ونحن بأَمَسِّ الحاجة إلى إدراك هذه الحقيقة التي قد نكون غافلين عنها في ظل انشغالاتنا، فهناك فرصٌ فيما يتعلق بقضية استثمار هذه التقنية.
وتأملوا هذه الصورة التي كانت سببًا في إسلام العديد من رجال الأمن في القارة الهندية بسبب التعامل الحسن مع عاملٍ.
وهذه صورةٌ تُقارن بين التعامل مع المصحف و(الواتس آب)، وأيّهما يفتح الإنسان أكثر؟ وتُعطي مُؤشرًا لأهم برنامج تواصلي في العالم يحتل المركز الأول، فهذه رسالةٌ نافعةٌ ومفيدةٌ في المقارنة بين ما نُمضيه مع التقنية، وما نُمضيه مع كتاب الله ومصدر التشريع.
وتجدون أيضًا من وسائل استخدام التقنية: مجال الدعوة إلى الله ، مثل: ركن الحوار، فالجانب التقني -مثل (الواتس) والبرامج التقنية عمومًا- عاملٌ رائعٌ جدًّا يُساعد بشكلٍ كبيرٍ في ذلك.
واستخدامات العائلة للإنترنت كبيرةٌ جدًّا، وأنتم من جنسياتٍ مختلفةٍ، وتجدون إحصائياتٍ متعلقةً ببلدانكم وأرقامًا مُرتفعةً، فهذه قضيةٌ عالميةٌ، وقد تختلف نسبتها من برنامج لآخر، فـ(الفيس بوك) في جهاتٍ معينةٍ أكثر استخدامًا من (تويتر)، و(تويتر) في بعض الجهات أكثر استخدامًا من (الفيس بوك)، وكذلك استخدام الأطفال والمُراهقين للتقنية.
أرجو من الإخوة المشاركين عبر (الزووم) أن يُغلقوا (المايكات) مشكورين.
الأخ الدكتور المُنسق، لو تُغلقون (المايكات) وتنتبهون معي؛ لأن أصوات الإخوة ظاهرةٌ في (المايكات)، حفظكم الله.
وأيضًا تجدون في الصور التي أمامكم -أيها الإخوة والأخوات المتابعين معنا- كيف تَصْرِفنا التقنية حتى ونحن في المسجد! وربما ونحن في أهم صلاةٍ، وهي صلاة الجمعة؛ فيجلس الشابُّ أو الطفل في الخلف ويفتح الجوال ويسرح! بل إن بعضهم يفتح المصحف -كما ترون في الصورة أمامكم- والجوال داخل دَفَّتي كتاب الله !
وللتقنية أثرٌ حتى في جانب الإدمان على الألعاب الإلكترونية الذي يُسبِّب إصاباتٍ في الجانب العصبي، ودخول أناسٍ إلى العناية المُركزة، فكم نحن بأَمَسِّ الحاجة إلى أن نترك المجالات السلبية في التقنية.
وهذه صورةٌ من الصور أيضًا لرجلٍ مع أمه، وهي عبارةٌ عن (فيديو) يحكي البرَّ بالأم، وهذا دليلٌ على أن التقنية تلعب دورًا مُهمًّا في الجانب الإيجابي.
دكتورنا الفاضل، (المايكات) ما زالت تعمل، هل هناك علاجٌ لهذا الموضوع، حفظكم الله؟
المقدم: نحاول قدر الإمكان.
الضيف: ألا توجد عندكم خاصيةٌ في إيقاف كل (المايكات)؟ فلا يمكن أن يستقيم الأمر بهذه الصورة، الله يُعطيك العافية.
كذلك ترون الصورة التي بعدها، وهي تُبين أثر الأجهزة على الدماغ، وكذلك الإحصاءات تُعطي دلالةً على ارتفاع الإحصاءات في بلدانٍ كثيرةٍ في الجانب الرقمي والكمّي فيما يتعلق باستعمال الأطفال والشباب والمُراهقين للتقنية، وما يتعلق بمضامين الألعاب الإلكترونية، ومُتابعة الأفلام، والرياضة، والأغاني ... إلى آخره، فهذه من القضايا الواضحة جدًّا، وأكثر من ذلك ما يتعلق بقضايا الإباحية والجوانب المُنحرفة فكريًّا وأخلاقيًّا، فالقضية خطيرةٌ جدًّا.
نعم هناك مَن يستثمر التقنية إيجابيًّا من الأبناء والأجيال والكبار، وهذا شيءٌ يُشرف بلا شكٍّ، لكننا أيضًا كما أدركنا الجانب الإيجابي ينبغي أن نُدرك الجانب السلبي.
ولاحظوا الأعداد الضخمة التي تتعامل مع الأجهزة الذكية والبرامج من جيل اليوم، وهو جيل التقنية، حتى أصبح الأبناء أكثر ثقافةً منا بذلك، فهذا الجيل فعلًا يحمل ثقلًا كميًّا وكيفيًّا ضخمًا من حيث الجوانب الموضوعية والمجالات التي يهتم بها، واختلاف ذلك بين السلب والإيجاب.
والدكتور مصطفى أبو سعد له كلامٌ جميلٌ في التربية، حيث يقول: 70% بناء علاقةٍ إيجابيةٍ، و10% بناء ثقةٍ، و10% تعزيزٌ للسلوك الإيجابي، و10% تعديلٌ للسلوك السلبي.
يقول: المشكلة عند الآباء تتمثل في تركيزهم على الـ 10% الأخيرة، ويتهاونون بالـ 90% الأخرى، بمعنى: أنَّ التعامل مع الأبناء مُرتبطٌ بالمشكلات، فإذا حصلت مشكلةٌ نريد أن نحلَّ هذه المشكلة، ونُعدل السلوك، وتعديل السلوك ممتازٌ، وقد نُعدله بطريقةٍ سليمةٍ، وقد لا نُعدله كذلك، وقد نصل للنتيجة الإيجابية في تعديل السلوك، وقد لا نصل، لكن كل هذا في حيز الـ 10%، فأين الـ 90%؟ وأين بناء العلاقة الإيجابية التي تُمثل 70% كما يقول؟ وأين بناء الثقة في الأبناء؟ وأين تعزيز السلوك الإيجابي؟
وحتى نُبقي هذا السلوك الإيجابي ونحرص على أن يتعامل أبناؤنا به، وأيضًا يثبت السلوك الإيجابي عندهم، فأين هذا الأمر؟
تجد القضية -للأسف الشديد- مهملةٌ، والأُسر غير الناجحة -أيها الإخوة والأخوات- هي الأُسر التي تهتم فقط بـ 10%، فهي أُسَرٌ غير ناجحةٍ، ولو رأت نفسها ناجحةً، حتى لو نجحتْ في تعديل السلوك السلبي، لكنها خسرتْ 90%، فيكون البناء ضعيفًا، والثقة ضعيفةً؛ ولذلك نحن بأَمَسِّ الحاجة إلى مجموعةٍ من العوامل التي تُساعدنا في التعامل مع أجيالنا، بل ومع أنفسنا ابتداءً.
تربية النفس والغير
أول هذه القضايا هي: كيف نُربي أنفسنا وغيرنا؟ وكيف نُربي فلذة أكبادنا؟
أبناؤنا كيف نُربيهم -ذكورًا وإناثًا- في خضم هذه المُتغيرات الكبيرة والرهيبة؟ وكيف نُربي الأقربين: كزوجاتنا وأهلينا ومَن نُحب؟ فهذه خارطة الطريق نقف معها، حفظكم الله.
علاقة المربي بالله والإخلاص
أول هذه القضايا هي علاقة المُربي -الأب وغيره- بالله ، ومسألة الإخلاص.
سيقول قائلٌ: ما علاقة الإخلاص بهذا الموضوع؟
فنقول: إنَّ الإخلاص ركيزةٌ أساسيةٌ، ويكفي فيها أنك تركن إلى ركنٍ شديدٍ وهو الله الخالق الذي نحن بأَمَسِّ الحاجة إلى عونه، والله يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، فلا بد أن نلجأ إلى الله تعالى في قضايا تعامل أبنائنا مع التقنية والإعلام الجديد بحيث يستثمرونها في الخير، وينجون من مزالق الانحرافات الفكرية والخُلُقية، وبحيث يكونون إيجابيين فيها، فيكون الجيل جيلًا تقنيًّا إيجابيًّا، وليس جيلًا تقنيًّا سلبيًّا مُنحرفًا، والذي يُعين على ذلك هو الإخلاص.
وتأتينا استشاراتٌ ونستغرب من بعض الناس حرصه على أن يستشير -وهذا ممتازٌ- لكن أين لجوؤك إلى الله ؟
ولذلك نقول: لا بد من مُجاهدة النفس في هذا الموضوع، وأن نتذكر هدفنا وغايتنا، وهو أن نُعبِّد أنفسنا وأبناءنا لله ، كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فنحن نريد تعبيد الناس لله ، فهل هذه التقنية تُقرِّب إلى الله أم تُبعد عنه؟
فينبغي أن يكون هذا هو الهاجس، ويكون هناك حوارٌ بين الآباء والأبناء، وبين الزوجين في قضية استثمار التقنية، ومع الإخلاص سنجد العون من الله .
ولا نجعل الإخلاص هنا عبارةٌ عن شيءٍ ليس له قيمةٌ، أو ليس له اعتبارٌ، أو أن نعتمد على قُدرتنا، وإنما القضية مُرتبطةٌ بعون الله لنا.
كما أن التقنية أصبحت حديث الناس اليوم، فلا أجلس مجلسًا ولا أحضر لقاءً إلا وتكون التقنية هي حديث الناس، وما تُسبِّبه من مُشكلاتٍ فكريةٍ وأخلاقيةٍ؛ ولذلك لا بد من مُراجعة النفس، فليست النائحة الثَّكْلَى كالنَّائحة المُستأجرة، والذي يجعل قلبه مُعلَّقًا بالله ، ويسأل الله التوفيق والإعانة؛ فإن الله يُبارك فيه، ويُعينه على التربية والتَّغلب على مشاكل التقنية.
يقول أهل مقامات العبودية: إنَّ من الناس مَن إذا رأيتَه ذكرتَ الله، حتى لو كان أقلَّ الناس في المهارات، أو أقلَّ علمًا بالتقنية من غيره، أو أقلَّ قراءةً وتدريبًا فيما يتعلق بحلِّ المشكلات، أو التعامل مع التقنية، أو ما شابه ذلك من هذه الأمور، لكنه قويٌّ في علاقته بالله ، وإذا حلَّتْ به مشكلةٌ يقوم ويفزع إلى الصلاة، فمَن كان بهذه الصورة فإنه يفتح لنفسه أبواب خيرٍ وبركةٍ من ربِّ العالمين.
فهذه قضيةٌ لا بد أن نُدركها، وهذا ليس تقليلًا من المهارات أو الأساليب، لكنه بيان أن هذا هو لُبُّ النجاح؛ لأن الإنسان ضعيفٌ، وبحاجةٍ إلى الله : أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فنحن نحتاج إلى الافتقار إلى الله في مثل هذه الأمور؛ لأنها أصبحت من الخطورة والتحدي بمكانٍ، وأصبحت الفرص فيها كبيرةً ورائعةً ومهمةً، لكن -كما قلتُ- البعض قد يُوفَّق، والبعض لا يُوفَّق.
فنقول: أيها المُربي، وأيها الأب، وأيتها الأم، وأيها الحريص على التربية، أخلصوا في أعمالكم لله ، وأخلصوا في تعاملكم مع التقنية، وأخلصوا في تربيتكم لأبنائكم، واجعلوا الهدف واضحًا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، واجعلوا هذه القضية في ذهنكم، واهتموا بالوسائل والبرامج والمواقع التي تُقرب إلى الله، واهتموا بالفرص التي تُقرب إلى الله، واجعلوها بين أيدي أبنائكم، وانتبهوا لها، وحذِّروهم، وكونوا نِعْم القُدوة لهم في هذا، بارك الله فيكم.
فهذا أول ما ينبغي أن نكون عليه في تربيتنا لأبنائنا على التقنية والإعلام الجديد في خضم هذه التحديات الضخمة.
ونحن هنا لا نُناقش المخاطر فقط، ولا الإيجابيات فقط، وإنما نُناقش الاثنين معًا؛ ولذا فعنوان "التحدي التربوي" أو "التقنية والتحدي التربوي" عنوانٌ مهمٌّ في خضم التقنية اليوم، ويستحق المُناقشة والحوار.
والتحدي أن تكون لديك فرصٌ ومخاطر، ولا بد أن نفهم هذه القضية، فلما يكون عندي هذا التقدم التقني الكبير، والثورة المعلوماتية الضخمة، والانفتاح المعرفي الكبير، ووسائل التواصل التي أَسَرَت الجميع، والأجهزة الذكية المُتطورة، والله أعلم، ماذا سيكون بعد ذلك؟ فقد يكون شيئًا مهولًا.
فهذه الأمور تحمل فُرصًا إيجابيةً نحتاج إلى أن ننجح في استثمارها، وهي كذلك تحوي في طيَّاتها المخاطر التي نحتاج إلى أن نُواجهها ونُقاومها، فنحن -كما سيأتي- بين استثمارٍ ومقاومةٍ.
أهمية الود والحزم
نحن بأَمَسِّ الحاجة إلى الودِّ في تعاملنا مع أبنائنا؛ حتى ننجح في توجيهنا التقني لهم، وننجح في تفاعلنا معهم من خلال التقنية، وأن نكون أيضًا حازمين من خلال وجود نظامٍ.
ونحن بأَمَسِّ الحاجة إلى وجود نظامٍ في الأسرة يضبط التعامل مع التقنية.
وللدكتور خالد المنيف مقالةً جميلةً بعنوان: "في بيتنا قانون"، فبيوتنا تحتاج إلى أنظمةٍ، ويحتاج رأسا الهرم في البيت -وهما الأب والأم- إلى أن يتَّفقا على النظام الذي ينبغي أن يسيرا عليه.
وتُعجبني تلكم الأنظمة التي تُقرر -مثلًا- أن الطفل لا يُمكَّن من أي جهازٍ ذكيٍّ، فهذا هو النظام الصحيح بالنسبة للأطفال، حتى ما بعد مرحلة الطفولة إذا أمكن ذلك وربَّيناهم على ذلك، وهناك مَن نجح في هذا الأمر، وعددٌ من أهل الاختصاص يرون ذلك إلى سنِّ ست عشرة سنة.
وأما الطفولة فنحن فعلًا قد نخسر كثيرًا حينما نضع الأجهزة الذكية بين أيديهم.
طيب، لو بكى الطفل ماذا نفعل؟
ليبكي الطفل قبل أن نبكي عليه، لا إشكالَ في ذلك، وهذا أحسن من أن نبكي عليه بعد ذلك، دَعْهُ يبكي، ولا نستجيب له إذا رأى قريبه عنده جوالٌ ذكيٌّ، أو رأى شيئًا مع زميله، فيقول لنا: اشتروا لي جهازًا جديدًا.
فالتربية لا تكون بهذه الصورة، ولا تكون بالرغبات، وإنما من خلال القناعات ابتداءً، وكذلك من خلال نظامٍ حازمٍ، وعلاقةٍ حميميةٍ مع حزمٍ، فهذه القضية -أيها الإخوة الأكارم- مهمةٌ جدًّا.
وكم نُقصّر في هذا كثيرًا، وكم يحدث من ويلاتٍ لبعض الأُسر من التَّراخي، والدلال والدلع، والحماية الزائدة، وكل ما يطلبه الابن يُحقق له، فهذا خطأٌ كبيرٌ، بل أنا أعتبره جريمةً تربويةً، فيحتاج الإنسان إلى أن يتنبه إلى هذه القضايا.
وهناك أناسٌ -وهم قليلٌ جدًّا- يمنعون كل شيءٍ، وما يتعاملون بـ"الإنترنت" تمامًا! فهذا إفراطٌ وتفريطٌ.
فهناك مجالاتٌ يمكن معها أن أُعطيهم جهازًا، ولا يكون هذا الجهاز مُرتبطًا بالإنترنت، وأُحمّل لهم فيه بعض الألعاب التربوية، وبعض البرامج النافعة المفيدة، وبعض الكتب والقصص وآيات القرآن، وتعليم بعض الأشياء المُتعلقة بالمهارات ... إلى آخره، فهذا يمكن أن نفعله، وهذا هو الذي يحتاجه الأطفال، ولا يحتاجون غيره.
وأن يكون هناك نظامٌ في الأسرة بحيث يقطع -مثلًا- (الواي فاي) في الساعة الحادية عشرة ليلًا لمَن عنده أجهزةٌ ذكيةٌ، ونقطع الإنترنت أيضًا.
وأنا أعرف أن هناك مَن يُمارس هذا الدور في وقت الاجتماعات، ويمنع وجود الأجهزة الذكية وقت الاجتماعات، فينبغي أن يكون هذا النظام في الأسرة أيضًا.
وهناك بعض الأُسَر ناجحةٌ في إدارة أبنائها، فالأب والأم يُشرفان على جوالات أبنائهم، خاصةً في بدايات منح الجوال، وفي بدايات عمر الشباب والمُراهقة، مع العلاقة الحميمية معهم، والتي كوَّنوها عبر السنين، وكلما كان العمر أقلَّ كانت هناك حاجةٌ لمثل هذه الأشياء حتى ينضج بعد ذلك وتكون الثقة قد تمَّت أو نضجتْ بإذن الله .
وقد كنتُ عند أحد الأشخاص، ولديه بنتٌ في المتوسط، وكان يفتح لها البرنامج من جواله ثم يُغلق، وقد يظن البعض أن هذه الصورة فيها تشديدٌ، فسألته، فكانت الإجابة: أنه مُقتنعٌ بذلك، وأن هذا نظامٌ بينه وبين أبنائه في الأسرة، وهناك أيضًا توافقٌ مع الزوجة في هذا الجانب، وأنه لا إشكالَ عند الأبناء في ذلك، وهناك قناعةٌ وعلاقةٌ طيبةٌ.
وقد أعطى هذا الأب جزءًا كبيرًا من وقته لأبنائه، فلا بد من الودِّ، وأن يكون مقدمةً للحزم والنظام في استعمال التقنية، والأسرة التي تعيش بلا نظامٍ لن تكون حازمةً في موضوع التقنية، وعندئذٍ ستتفاجأ بويلاتٍ شديدةٍ في هذا الموضوع.
استثمار التقنية
نحن نحتاج إلى الاستثمار في التقنية كما نستثمر في حياتنا وأموالنا وأوقاتنا، وهذا يستدعي البحث عن الفرص، وهذا دور الأب والأم، وإذا كانا لا يعرفان فعليهما أن يسألا أهل الاختصاص، ويبحثا عن الأفضل.
وكلٌّ منا إذا مرض ابنه أو كان يحتاج إلى شيءٍ معينٍ استقصى الفرص الموجودة في البحث عن الدكتور والمستشفى المُناسب، أو المدرسة المناسبة ... إلى آخره، وهذا جيدٌ، لكن قد تجد نفسك لا تعرف -مثلًا- فعليك أن تسأل، وستعرف كيف تستثمر الوقت مع أبنائك وأطفالك من خلال هذا الموقع مثلًا: (kiss application).
فكم نحن بأَمَسِّ الحاجة إلى مثل هذا الأمر، وأيضًا استثمار الألعاب المناسبة، والكتب التعليمية، وبعض المسابقات التي تُنمي الجانب العقلي.
ولا يقل أحدٌ: أنا لا أدري. فإذا كنتَ لا تدري اسأل أهل الاستشارات وأهل الخبرة ممن يُحسنون التعامل مع التقنية، وكلما استثمرنا هذه الفرص سنكون أكثر تأثيرًا في أجيالنا، وسيتعودون على استثمار الجانب الإيجابي للتقنية، وستكون لديهم تجارب ناجحةٌ، وعندئذٍ سنحصل على السعادة، وليس الشقاء بسبب الولوغ في المخاطر، وضعف الهوية، وما شابه ذلك.
فنحتاج إلى العناية بالاستثمار، والسؤال لنا -كآباء وأمهات-: كيف نستطيع أن نستثمر الفرص؟ وما هي الفرص؟
فابحثوا عن هذه الفرص، وشجِّعوا أبناءكم، واجعلوا لهم جوائز، وعلموهم إياها، ونزلوها لهم إذا لم يكونوا ممن يُناسب أن تكون لديهم الأجهزة الذكية، أو ليكن ذلك من خلال أجهزتكم الذكية، وبإشرافكم المباشر.
الحذر من المخاطر
ينبغي أن نحذر من المخاطر، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ونحن لسنا أكرم من عمر بن الخطاب ، وأبناؤنا ليسوا كذلك، فقد جاء عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-: أن عمر بن الخطاب أتى النبي بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي ، فغضب وقال: أَمُتَهَوِّكُون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، لقد جئتُكم بها بيضاء نقيةً، لا تسألوهم عن شيءٍ فيُخبروكم بحقٍّ فتُكذبوا به، أو بباطلٍ فتُصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني[1]أخرجه أحمد (15156)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1589)..
وفي الحديث الآخر يقول النبي : وَيْحَك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تَلِجْهُ[2]أخرجه أحمد (17634)، والحاكم (245)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3887).، يعني: لا تفتح باب الشر، ولا نكون نحن عونًا للجيل على فتح باب الشر بغفلتنا، وبعدم تثقيفهم، وبعدم وجود نظامٍ، وضعف استشعار المسؤولية.
لا تفتحه لا تقتحم باب الحرام والشر، إنك إن تفتحه إذا فتحته وَلَجْتَه، وإذا وَلَجَه الإنسان تلبس به.
أهمية الثقافة التقنية
النقطة التي بعدها: الثقافة التقنية، وربما أشرنا قبل قليلٍ إلى قضيةٍ مهمةٍ في هذا الجانب، وهي ما يرتبط بقضية الثقافة، وأهمية أن يتعلم الإنسان أو يسأل أهل الاختصاص، وما شابه ذلك.
الآباء أحيانًا يكونون سببًا في هُوَّةٍ ضخمةٍ وفجوةٍ كبيرةٍ بينهم وبين الأبناء في هذا الجانب، فيملك الأبناء ثقافةً تفوق ثقافة الآباء بمراحل، يعني: هم فوق، والآباء تحت، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا، ونحن نحتاج إلى أن نُقلل الهُوة، ولا يلزم أن نكون مثل أبنائنا؛ لأن الجيل يختلف بلا شكٍّ.
وإن كان بعض الآباء منكم ربما -يعني- يكونون قريبين في العمر نوعًا ما، يعني: ليس قصدي أنه -مثلًا- ستيني أو عشريني أو شيءٌ من هذا القبيل، فالمُفترض أن الإنسان عمومًا يُقلل هذه الهُوة بالثقافة، ويأخذ منها ما يحتاجه؛ لذلك سيتعلم الفرص لاستثمارها -وهذا الذي قلناه قبل قليلٍ-، وسيتعلم المخاطر ليَحْذَر منها، ويُحَذِّر منها، ويبني كيانًا من النظام داخل الأسرة؛ حتى يُحافظ على هذا الأمر وما يتعلق به.
فالثقافة التقنية مطلوبةٌ، وكلٌّ منا قد يكون لديه ضعفٌ في مجالٍ معينٍ في هذه الحياة: كمجال العلم الشرعي، أو في مجالات تخصصية معينة، فعليه أن يرتقي وتُصبح لديه قراءةٌ واطلاعٌ، ويحضر بعض اللقاءات والدورات، وما شابه ذلك، ويرجع إلى كتبٍ، ويجعل له مُستشارًا في هذا، ويسأل.
وكما قلنا: إن وسائل التواصل اليوم سهَّلتْ ذلك جدًّا، فيمكن أن نستثمرها بالسؤال: ماذا تعرفون عن البرنامج الفلاني؟ وماذا تعرفون عن كذا؟ وما رأيكم في القضية الفلانية؟
فيتعلم الإنسان من سؤال مَن يفهم هذه الأمور، ويبحث الإنسان عن الألعاب الإلكترونية للأطفال، والتي ليس فيها مُخالفاتٌ شرعيةٌ: لا فكرية، ولا سلوكية وأخلاقية ... إلى آخره، فكلما استطعتَ أن تُثبت هذه الأمور في جوالك تستطيع أن ترجع إليها بعد ذلك.
وجزءٌ من الأشياء التي عندنا إنما تعلمناه في لحظةٍ من اللحظات، وإن تركناه للذاكرة ذهب، لكن لما نحفظه في محفوظاتٍ وما شابه ذلك يمكن أن نرجع إليه بسهولةٍ.
فالثقافة التقنية مهمةٌ جدًّا؛ لأن الابن سيجد أنه بحاجةٍ إليك في هذه التقنية، وهناك هُوَّةٌ بيننا وبين أبنائنا، فهم أكثر منا ثقافةً في هذا الجانب.
ولما يجد الأبناء أن الأب يُثقفهم في الجانب التقني، وهم يُحبون هذا الجانب التقني؛ سيكون أقرب إلى نفوسهم مما لو كان ضعيفًا في التقنية.
المشاركة الإيجابية
لا بد أن تكون للآباء مشاركةٌ مع الأبناء في الجانب التقني، وأن يكون لحضورنا دورٌ إيجابيٌّ، وليس سلبيًّا، وأن يُزاحموا الأشياء السلبية بالإيجابية، فيستغلوا الفرص، ويُقلِّلوا المخاطر، يعني: مثلًا لو نظرنا في (التليجرام) الآن نجد عددًا كبيرًا من الفضلاء يبثون فيه بثًّا مباشًرا، ولهم لقاءاتٌ ومناقشاتٌ، وما شابه ذلك، فهذه من الأشياء الرائعة جدًّا.
وقد التقيتُ اليوم بأحد أفراد العائلة، وقال لي: إن أفضل برنامجٍ عنده هو برنامج (التليجرام)، ويُتابع فيه المشايخ والدكاترة، ويتقلب من مكانٍ إلى مكانٍ بين المعرفة من خلال الشخصيات القوية التي تُقدم مجالاتٍ متعددةً في التفسير، والعقيدة، والفقه، والفكر، والتربية ... إلى آخره.
فنحن بأَمَسِّ الحاجة إلى مثل هذه الأشياء، وخاصةً أصحاب الإمكانات الذين أعطاهم الله قُدراتٍ وإمكاناتٍ، فعليهم أن يُشاركوا في هذا المجال، وأن تكون لهم مُشاركاتٌ إيجابيةٌ، ونحن كذلك لا بد أن يكون لنا دورٌ ومُشاركاتٌ إيجابيةٌ.
وأعجبني أحد الأشخاص وقد فعل مجموعةً أو (جروبًا) مُشتركًا لبنات الأسرة اللاتي هو مَحْرَمٌ لهن، ويطرح آيةً في كل أسبوعٍ تتعلق بالمرأة، ثم يطلب التعليق عليها بذكر استنباطاتٍ أو فوائد، ثم يقوم بعد ذلك بتتميم بعض هذه الأشياء والفوائد من خلال كلام أهل العلم وذِكْر الأشياء المُختصرة المُناسبة التي يحتاجها أفراد أسرته، وما شابه ذلك.
وهذا البرنامج مُستمرٌّ أسبوعيًّا، فيقول أنه وجد له أثرًا كبيرًا على المرأة في العِفَّة والحجاب والسّتر والحياء، وغير ذلك.
التحصين الإيماني والعلمي
لا بد من الاهتمام بالتحصين الإيماني والعلمي؛ لأن مداخل الشيطان على الإنسان إما بالشهوات، وهذا علاجه بالإيمان، وإما بالشبهات، وهذا علاجه بالعلم، كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إن القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه، إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما: مرض الشهوات، ومرض الشبهات، هذان أصل داء الخلق إلا مَن عافاه الله"[3]"مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 110)..
يعني: أن مداخل الشيطان على النفس من خلال الشهوات والشبهات، وهما أكبر خطرين من مخاطر التقنية اليوم، ولا نستطيع أبدًا أن نكون دائمًا على رؤوس أبنائنا عند كل شهوةٍ، وعند كل شبهةٍ، فقد يجد الشهوة والشبهة من خلال رابطٍ معينٍ، أو (الواتس آب)، أو شخصٍ ما يُرسل له شيئًا فيه انحرافاتٌ ذات اليمين وذات الشمال في الجانب الفكري أو الأخلاقي.
فنحتاج إلى أن نُنَمِّي فيهم الجانب الإيماني، وأن يكون لنا دورٌ في التربية الإيمانية داخل الأُسَر، ونرجع إلى السؤال المهم: ما الدور التربوي الكبير الذي قدَّمناه لأُسرنا؟ وهل هو الدور المطلوب فعلًا أم أننا مُقصرون فيه؟
والجواب: إننا مُقصرون، وليس تواضعًا، وإنما هي الحقيقة؛ ولذلك لا عاصمَ إلا بالتربية الإيمانية، وتعميق عظمة الله ، وبيان حقّ الله في العبودية.
وقد كان السلف يُعلمون أبناءهم علامات الساعة الكبرى، ويقرؤون عليهم الوعد والوعيد.
فعلينا أن نهتم بهذه الأطروحات المباشرة وغير المباشرة، ونُراجع أنفسنا: ماذا قدَّمنا لأُسرنا في الجانب الإيماني الذي هو سبب الفلاح أو الخسارة؟ كما قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:1- 3].
وكذلك ضرورة الاعتناء بالجانب العلمي؛ لأجل دفع الشبهات، بحيث تكون عند الابن المعرفة والعلم الصحيح، والتفكير السليم، ولا يكون شخصًا إمَّعةً كما جاء في الحديث: لا تكونوا إمَّعةً، تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وَطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا[4]أخرجه الترمذي (2007).، فيكون عنده تمييزٌ وقُدرةٌ على التحليل، وقُدرةٌ على النقد.
فعَوِّدوا أبناءكم على أن ينقدوا بأدبٍ، واطرحوا لهم قضيةً، وقولوا لهم: ما رأيكم فيها؟ ودعوهم يحلُّون مشكلةً، وقولوا لهم: كيف تحلُّون هذه المشكلة؟ حتى تكون عندهم مستوياتٌ عُليا من التفكير، مع العناية بالأساس العلمي والعقدي والفكري، وتعليم أمور الدين المتعلقة بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من قيمٍ، وما شابه ذلك، وستكون هذه القضية عاصمةً -بإذن الله - من الشبهات.
فنحتاج إلى أن نُراجع أهدافنا التربوية وأدوارنا التربوية داخل أُسرنا فيما يتعلق بالتربية الإيمانية والعلمية.
أهمية الدعاء
ينبغي على الوالدين العناية بالدعاء، فهو مُؤثرٌ جدًّا في وقاية الأبناء من الانحراف في التقنية، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وذكرنا قول الله : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62].
ويقول أحد المُربين -وهو رجلٌ مُرَبٍّ قديرٌ وقارئٌ ومُستشارٌ-: تنغلق السُّبُل أحيانًا أمام الإنسان، فلا تنفعه قراءاته ولا دوراته التدريبية التي حضرها، ولا النقاشات والحوارات، ولا شيء، ثم يلجأ إلى الله فيُفرج الله من عنده: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، فلا بد أن يكون لنا اهتمامٌ بالدعاء، فنحن بأَمَسِّ الحاجة إلى الركن الشديد، وهو الله .
التخلية والتحلية
من القضايا التربوية المطلوبة في أُسرنا في خضم هذه التقنية: مبدأ التخلية والتحلية في التربية، وهو مبدأٌ رائعٌ ولطيفٌ وجميلٌ، وهو يُحلل لنا بعض الإشكالات الحاصلة، وقد تجد أحيانًا بعض الآباء يقول: والله ربَّينا عيالنا، وكانت عندنا برامج نافعةٌ، ولكن حصلت عندهم لخبطات. مثل: شخص تزوج، ولكن ما زالت عنده علاقاتٌ مُحرمةٌ، مع أن الزواج عِفَّةٌ، والعلاقات المُحرمة عكس العِفَّة، فما السبب؟
السبب هو: عدم وجود التخلية قبل التحلية، وكما قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256]، فلاحظوا أن الله بدأ أولًا بالكفر بالطاغوت؛ لأنه لن يستقيم الإيمان بالله إلا عندما نكفر بالطاغوت، كما أنه لن يستقيم أن نشرب الماء العذب الزلال إذا صُبَّ في إناءٍ مُتَّسخٍ، ولا بد من تنظيفه أولًا، ثم شرب الماء ثانيًا، وهكذا التخلية والتحلية؛ ولذلك لا بد من استثمار الفرص، ومقاومة المخاطر.
وللأسف الشديد هناك عددٌ من الأُسر تقول: ابننا ما شاء الله! تبارك الله! يعرف التقنية بشكلٍ ممتازٍ، وله إنجازاتٌ كبيرةٌ، وعنده دِقَّةٌ في المعلومات، حتى الطفل الصغير!
ويقول أحدهم: ابني عمره أربع سنوات، وعنده معرفةٌ كبيرةٌ بالتقنية، ويُمارسها بإتقانٍ.
فقلتُ: طيب، وبعد ذلك ما الفائدة من ذلك؟ ماذا استفدنا من هذا الشيء؟
فهذا الأب يُفكر بالشيء الذي فيه -كما يقال- أُبهة، وتجده بعد ذلك يجد ابنه قد انحرف؛ لأنه أدخله في التحلية دون التخلية.
مثل الذي يقول: والله أنا ربَّيتُ ولدي على الصلاة، ولكن ضَعُفَ عنده الاهتمام بالصلاة.
وغفل عن السبب في ذلك وهم الأصدقاء الذين معه، فاهتمامهم بالصلاة ضعيفٌ، ويدخل في ذلك الأصدقاء الافتراضيون عبر التقنية، وهذا جزءٌ من الإشكالات الكبيرة اليوم في هذا الجانب.
فنحن نحتاج لهذين المسارين في تربيتنا، فتقوم على التخلية قبل التحلية، وإبعاد أي مُثيرٍ سلبيٍّ وتحجيمه، وإغلاق مصادر أي مُثيرٍ سلبيٍّ، ثم بعد ذلك استثمار وفتح أي مُثيرٍ إيجابيٍّ، وتقديم كل ما يتعلق بالمُثيرات الإيجابية لأبنائنا وأجيالنا، فتكون التربية بهذه الصورة ناجحةً بإذن الله .
الحوار والإقناع
من الأمور المهمة: الحوار والإقناع، وعلاقة هذا بالموضوع ببيئة التقنية؛ لأنها بيئة كتابةٍ وردودٍ وزرعٍ ونشرٍ للأفكار، فإذا لم نُوجد في أُسرنا بيئةً حواريةً تُساعد في الجانب الإقناعي سنندم كثيرًا.
وهناك تفسيرٌ لبعض ما يحصل من انحرافاتٍ في الجانب الفكري عند الأجيال اليوم: أنه بسبب عدم إتاحة بيئة الحوار داخل الأسرة، وداخل المحاضن التربوية في المدرسة والتعليم ... إلى آخره، فلا بد أن نسمع كما سمع النبي من الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، ويظن أن الرسول سيأذن له[5]أخرج أحمد (22211) عن أبي أمامة قال: إن فتًى شابًّا أتى النبي فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه … Continue reading، وكما سمع النبي لعتبة بن ربيعة أبي الوليد[6]أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (36560) عن جابر بن عبدالله قال: اجتمعتْ قريشٌ يومًا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر … Continue reading
والأول في مجالٍ، والثاني في مجالٍ آخر، وكلها انحرافاتٌ، مع تفاوتٍ بينها.
فكان الرسول مُستمعًا، وهذا من أهم ما يكون في الحوار؛ لأن المشكلة عند الأب أنه يريد من أبنائه أن يستمعوا، وهو الذي يتحدث، فيقول الأب: وجَّهْنَا، وأَعْطَينا. لكن هل أعطيتهم فرصةً كي يقولوا ما عندهم؟ وهل أعطينا فرصةً للطرف الآخر كي يتكلم؟
فدَعْه يتكلم ويبوح بما في نفسه، ويتحدث بالأمر الذي عنده، وإذا شعر بالأمان كما شعر الشابُّ الذي جاء يستأذن في الزنا وغيره سيُفرغ ما في نفسه، فقد جاء عتبة بن ربيعة فتكلم، والنبي يسمع، حتى قال: أفرغتَ يا أبا الوليد؟ أي: هل عندك شيءٌ آخر؟ ثم تلا عليه سورة فصلت، فرجع بغير الوجه الذي أتى به.
وذاك الشاب وضع النبي يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيءٍ. أي: رجع وليس في نفسه حاجةٌ إلى الزنا.
فنحن بحاجةٍ إلى الإقناع الإيجابي، وإلا فهناك من بيئات التقنية مَن سيفتح الحوار لأبنائنا وبناتنا، وسيجذبونهم وسيُقنعونهم بما لديهم، ولاتَ حين مندم.
وأنا أُركز على هذا الجانب بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، فلا بد أن نفتح الجانب الحواري، وكما نُحب أن نتحدث لا بد أن نستمع، والمُستمع الجيد مُتحدثٌ جيدٌ كما يقولون، هذا باختصارٍ شديدٍ.
الحس النَّقدي
ونُؤكد على الحسِّ النَّقدي، فنُعلم أبناءنا منذ نعومة أظفارهم النَّقد الصحيح، ومعرفة الصحيح والخطأ، فدَعْه في البداية ينقد، فإذا كان تقييمه سليمًا ونقده سليمًا فنُؤكد عليه، وإذا كان تقييمه غير سليمٍ ساعدناه في معرفة الصحيح، حتى في الأمور الحياتية.
وأُعطيكم مثالًا -وهذه قصةٌ حصلتْ-: أبٌ يذهب ليشتري لأبنائه الثياب، وهم في البيت، والثاني يذهب مع أبنائه ليشتري الثياب، فهناك فرقٌ بين الاثنين؛ فالأول لن يُحاورهم، ولكن سيأتيهم بالثياب جاهزةً، والثاني عكسه.
وهذه قصةٌ حصلتْ: شخصٌ أبناؤه في البيت، فذهب ليشتري لهم معطفًا و(بنطلون) وملابس وما شابه ذلك، يقول: فرأيتُ شخصًا من الخواجات -يعني: غربيًّا- وإذا به قد أتى للمكان، ولنفس الغرض الذي أتيتُ إليه، لكن معه أبناؤه.
يقول: ثم بدأتُ أنظر، وأنا أبنائي في البيت.
وهو يظن أنه يُحْسِن صنعًا في أنه يذهب ليشتري لأبنائه ويخدمهم، ولكن ليس هذا هو الأسلوب؛ لأنه رأى أمامه التأثير والتعليم.
يقول: فبدأ هذا الأب الذي أمامي يقول لولده: اخْتَرْ ما تشاء. فيقول الابن: أنا أريد هذا. فيقول الأب: لماذا تريد هذا؟ فيقول: لأن لونه كذا. فيقول الأب: هل هذا مُناسبٌ للغبار أو غير مُناسبٍ؟ يقول: فبدأ الحوار والنقاش والانتقال من خيارٍ إلى خيارٍ، وأدركتُ أنني أخطأتُ حين ظننتُ أنني أُحْسِن صُنْعًا، وأنا في الحقيقة حرمتُ أبنائي هذا المستوى من التعامل في الحوار والحسِّ النَّقدي.
والعالم اليوم امتلأ بالأفكار المُنحرفة، وأصبح قريةً واحدةً يُبَثُّ فيها كل شيءٍ، فإذا لم يكن عندنا حِسٌّ نقديٌّ كما قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] سيُصبح الابن بعد ذلك ضعيفًا أمام تلكم التيارات، فهذا الأمر نحتاجه في تربية الأبناء؛ لأجل أن يتعاملوا بطريقةٍ سليمةٍ؛ فيعرفوا ما يقبلون وما يتركون.
الأصدقاء
لا بد من معرفة أثر الأصدقاء على الأبناء، وهذه قضية القضايا اليوم، والدراسات أثبتتْ أن أكبر أسباب انحراف الأحداث والمُراهقين هم الأصدقاء، واليوم زاد الطين بِلَّةً بسبب الأصدقاء الافتراضيين، فهؤلاء أخطر ما يكون، وكذلك في الألعاب الإلكترونية يكون للابن صديقٌ، وما تدري حال هذا الصديق، وما ديانته؟ وهل هو رجلٌ أو امرأةٌ؟ وكما قال النبي : المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل[7]أخرجه أحمد (8028)، وأبو داود (4833)، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (927).، حتى في البيئات الترفيهية عبر التقنية نحتاج حاجةً ماسةً جدًّا إلى اختيار الأصدقاء، فحين يكون الابن في (جروب) مع أناسٍ إيجابيين، ويتواصل مع أناسٍ إيجابيين عبر (سناب شات)، ويلعب مع أناسٍ طيبين؛ يتأثر بهم، فلا بد أن نعرف مع مَن يلعب؟ ولا نتساهل في هذه القضايا، ونُربي أبناءنا عليها.
فكما أننا لا نقبل أن يكون أبناؤنا في الشارع مع أصحاب المخدرات، فكذلك الأمر مع أصدقاء التقنية، وأصحاب المخدرات موجودون في التقنية، وبأساليب أغرى من الشارع.
ودلَّت الدراسات أيضًا على أن من أكبر الأشياء الخطيرة على الأطفال فكرًا وسلوكًا: الألعاب الإلكترونية، وجاءت الرسائل في الدكتوراه مُوافقةً لعددٍ من تلكم النتائج التي جاءت بها الدراسات على المستوى المحلي الإقليمي والعالمي.
فلا بد أن نُعرِّفهم كيف يختارون الأصدقاء الإيجابيين؟ وكما قيل: "صديقك مَن صدَقَك لا مَن صدَّقَك"[8]"المدهش" لابن الجوزي (ص225).، فلما يتعلم هذا الابن، ويتعرف عليه، ويعرف بالحسِّ النَّقدي الصحيح من الخطأ، ويُميز مَن هو الصديق المُناسب وغير المُناسب؛ نكون قد نجحنا عندئذٍ في مُساعدته في اختيار الأصدقاء.
إشغال وقت الفراغ
وكذلك دلَّت الدراسات على أن الفراغ من أشد الأسباب في انحراف الأحداث، وكما قيل:
إن الشباب والفراغ والجِدَه | مفسدةٌ للمرء أي مفسده[9]البيت لأبي العتاهية. ينظر: "لباب الآداب" للثعالبي (ص172). |
فالشباب عمر الفتوة والنشاط والحيوية، والفراغ هو حيزٌ من الزمن والوقت، كما قال الله : وَالْعَصْرِ [العصر:1]، فأقسم بالعصر -وهو الزمان- على أن الإنسان في خسارةٍ؛ لأنه سيُضيِّع هذا الزمان، إلا الذين استثناهم الله .
و"الجِدَه" هو المال الذي سيُساعده في هذا الانحراف.
إذن فإشغال وقت الفراغ قضيةٌ مهمةٌ جدًّا؛ لأنني حين أشغلهم وأُحمِّلهم المسؤوليات في الأسرة، وأُقنين لهم التقنية في الأسرة، وأشغلهم بالتكاليف الإيجابية في التقنية، وأشغلهم بالعلاقات بين أفراد الأسرة، وبإشباع الجانب الوجداني والعاطفي؛ عندئذٍ لا يمكن أن يبحث الابن عن إشباع الجانب الوجداني المحروم منه عن طريق التقنية، وسيكون مشغولًا وقتًا وعاطفةً داخل الأسرة، حتى في البيئات المُحافظة.
كما أشار الدكتور الفاضل عبدالكريم بكار في رسالته "التواصل الأُسري" من سلسلته الرائعة "التربية الرشيدة" -وأدعوكم إلى قراءة هذه السلسلة الرائعة- إلى أن الدراسات دلَّت على أن الانهماك في التقنية هو بسبب ضعف إشباع الجانب الوجداني؛ ولذلك سيشغل الأبناء أنفسهم بالبحث عن إشباع الجانب الوجداني، وربما حصل عندهم الانحراف.
العلاج بالحُسْنَى
النقطة قبل الأخيرة هي: العلاج بالحُسْنَى، وكل إنسانٍ مُعرَّض للخطأ والزلل، كما قال النبي : كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون[10]أخرجه أحمد (13049)، والترمذي (2499)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4515).، وكما جاء في حديث النبي : لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخر أو قال: غيره[11]أخرجه مسلم (1469).، وهذا في العلاقات بين الناس عمومًا، وليس فقط بين الزوج والزوجة، كما ذكر بعض الشُّراح لهذا الحديث، ومنهم الشيخ السعدي؛ إذ ذكر من فوائد هذا الحديث: "الإرشاد إلى مُعاملة الزوجة، والقريب، والصاحب، والمُعامل، وكل مَن بينك وبينه عَلَقَةٌ واتصالٌ، وأنه ينبغي أن تُوطِّن نفسك على أنه لا بد أن يكون فيه عيبٌ، أو نقصٌ، أو أمرٌ تكرهه، فإذا وجدتَ ذلك فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك، أو ينبغي لك من قوة الاتصال والإبقاء على المحبة بتذكر ما فيه من المحاسن والمقاصد الخاصة والعامَّة، وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن تدوم الصُّحبة والاتصال، وتتم الراحة وتحصل لك"[12]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص26)..
فنتوقع -كما يقول- الخطأ؛ لأن الإنسان بطبعه خطَّاء، فماذا نفعل؟
نأتي هنا للعلاج، وأخطاء التقنية في بعض الأحيان تكون من العيار الثقيل الذي يُؤرق الآباء والأمهات، ومن حقِّهم أن يكونوا بهذه الحالة من القلق والأَرَق، لكن قد يكونون هم السبب إذا ظلّوا مُتفرجين، ولم يبنوا البناء الصحيح، ولم يأخذوا بمثل هذه المُعطيات التي ذكرناها قبل قليلٍ، وإنما فتحوا على الـ 10% التي ذكرها الدكتور مصطفى أبو سعد، ونسوا الـ 90%، وحينئذٍ ستكون ولاتَ حين مندم.
والهدف من هذه النقطة: أنه لا بد أن نعرف كيف نُعدِّل سلوك أبنائنا حينما تحصل عندهم مشكلةٌ في التعامل مع التقنية؟ حتى نُقلِّل المشكلة، أو نُنْهِي المشكلة، ولا نزيد الطين بِلَّةً، وهذه من القضايا المهمة جدًّا.
وأُعطيكم مثالًا: شخصٌ اكتشف أن ابنه يدخل على مواقع إباحيةٍ، فتشاور مع زوجته، فأخذ الابن وتحدث معه، وبدأ يتحدث معه عن محاسنه وإيجابياته، ولاحظوا: إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخر، فبدأ يتحدث عن إيجابياته، فكانت هذه هي الطُّعْم، كما قال النبي : نِعْمَ الرجل عبدالله[13]أخرج البخاري (1121)، ومسلم (2479) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال -واللفظ لمسلمٍ-: كان الرجل في حياة رسول الله إذا … Continue reading، وقال في حديث أبي بكرة : زادك الله حرصًا[14]أخرج البخاري (783) عن أبي بكرة : أنه انتهى إلى النبي وهو راكعٌ، فركع قبل أن يصل إلى الصفِّ، فذكر ذلك للنبي … Continue reading، فبدأ بالثناء، وهذا من أجمل أساليب تعديل السلوك، وهو: أن تبدأ بالأشياء الإيجابية لدى الأبناء.
فقال له: أنت كذا، وأنت كذا، وأنت تاجٌ على رؤوسنا.
والأب مالكٌ نفسه، ومُتكيفٌ مع الوضع، صحيحٌ أنه من داخله مُتضايقٌ، لكنه صابرٌ.
ثم بدأ يتحدث: أن الإنسان ولو كان مثل الصحابة، ومن أفضل خلق الله ، فلا بد أن يقع في الخطأ، فالإنسان قابلٌ لأن يُخطئ.
فبدأ الابن بعد الكلام الأول بالثناء يشعر أن هناك شيئًا معينًا، ثم صارحه، فبكى الابن بكاءً شديدًا وتاب إلى الله ، ثم رتَّب له برنامج زيارةٍ إلى مكة مع أمه ... إلى آخره، فكانت طريقة العلاج حُسْنَى.
وتأملوا لو أنَّ هذا الأب سكت عن الابن وتركه؛ فإنه سيتمادى في ذلك، أو أنه تعامل معه بغلظةٍ وشدةٍ؛ فربما كَرِهَ الابنُ الأبَ، وهذا يُبين أهمية الجمع بين الودِّ والحزم؛ لأن ويلات التقنية من ناحية المخاطر ضخمةٌ جدًّا، حتى لو لم يكن في الجانب الأخلاقي والفكري والسلوكي، وإنما في الوقت الطويل الذي يقضيه في التقنية، وقد يكون على حساب علاقته بوالديه وبمسؤولياته ودراسته، فتُصبح هنا مشكلة، فكيف نحلُّها؟
بالعلاج السليم، وبالنظام والعلاقة الحميمية، والحوار والإقناع، والتربية منذ نعومة الأظفار، وما شابه ذلك؛ ولذلك نقول للآباء والأمهات الذين هم في بداية بناء أُسرهم: عليكم بذلك، وعَضُّوا عليها بالنَّواجذ، ولا تتأخروا كما تأخر غيركم.
حماية الفكر والسلوك من الإفراط والتفريط
ونقول في الأخير -حفظكم الله وبارك فيكم-: لا بد من حماية الفكر والسلوك من الإفراط والتفريط، وهذا دورٌ تربويٌّ مهمٌّ جدًّا، وقد ذكرنا طرفًا منه، ولكن لا بد من الشعور به، فالغفلة عن هذه القضية خطيرةٌ جدًّا، وما قُلناه عن النبي في حقِّ عمر وحماية الفكر نُؤكد عليه الآن، فالنبي يُغلق الباب أمام عمر ومَن وراء عمر، فكيف بنا نحن؟
فقد جاء عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-: أن عمر بن الخطاب أتى النبيَّ بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي ، فغضب وقال: أَمُتَهَوِّكُون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، لقد جئتُكم بها بيضاء نقيةً، لا تسألوهم عن شيءٍ فيُخبروكم بحقٍّ فتُكذبوا به، أو بباطلٍ فتُصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني[15]سبق تخريجه.، فعمر يقرأ في التوراة، وينظر فيما يُعجبه منها، وهو -جزمًا- لم يُعجبه إلا الذي يتوافق مع الشرع، ومع ذلك الرسول أراد أن يحميه، وأن يأخذ من المنبع الصافي.
ويَحُزُّ في نفسي حين يأتيني شخصٌ ويُخبرني أن له قريبًا أصبح لا يؤمن بالله ، وعنده هذا الانحراف الإلحادي والفكري بسبب أنه أمضى ستة أشهرٍ في التعامل مع مواقع الإلحاد حتى أصبح مُلحدًا!
فإذا كان النبي يُحذر عمر بن الخطاب ، وهذا عشريني يدخل على المواقع، فأين أُسرته؟ وأين هو من هذه القضية؟ وأين التربية السابقة في مرحلة الطفولة؟ ومَن نحن حتى نقول: والله نحن أقوياء، لا نتأثر بهذا السيل الجارف من قضايا الانحرافات الفكرية والإلحاد؟
فنحتاج إلى انتباهٍ، ولا بد من حماية الفكر.
فالرسول يقول: أَمُتَهَوِّكُون أي: شكَّاكون، مُتحيرون، فهل عمر وصل للشك والتَّحير؟
أبدًا، لكن هذا سدّ الذريعة، والوقاية خيرٌ من العلاج، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
وليس معنى ذلك: أن الأب لا يثق بأبنائه، فانتبهوا لهذه القضية فهي مهمةٌ جدًّا، فإن جاءت الحماية مع باقي البرامج الأخرى البنائية فستكون في محلها الصحيح.
وفي الجانب السلوكي -مثلًا- انظروا إلى موقف النبي مع الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- ابن عمه، وكان شابًّا وَضِيئًا، فمرَّت امرأةٌ أمامه وهو في المُزدلفة، ومع النبي ، وفي الحج، وجزمًا أنها على سترٍ وعفافٍ تمامًا، فوقعت عينه عليها، فصرف النبي وجه الفضل بن عباس حتى لا يقع في نفسه شيءٌ، كما جاء في حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: كان الفضل رديف رسول الله ، فجاءت امرأةٌ من خَثْعَم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي يصرف وجه الفضل إلى الشقِّ الآخر[16]أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334).، وفي روايةٍ: إني رأيتُ غلامًا شابًّا، وجاريةً شابةً، فخشيتُ عليهما الشيطان[17]أخرجه أحمد (564)، والترمذي (885)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3467)..
فهذه الوقاية والحماية والعناية نحتاجها في أمور الفكر والسلوك؛ حتى لا نقع في الإفراط أو التفريط، وأجيالنا إذا تعاملوا مع التقنية فإنهم يتعاملون في غياب نور الوحي والخير والحقِّ؛ ولهذا يحصل عندهم الانحراف، ويحصل في القلب ما يحصل: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
وفي هذه الصورة التي أمامكم ...، الإخوة في جمعية "رعاية طلاب العلم" مشكورين يُرسلون لكم عبر (الزووم) روابط الموقع والحسابات الأخرى، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها.
وتأملوا هذه الصورة الأخرى، وهي صورةٌ من الصور التي أشرنا إليها من قبل، وهي تُبين كيف يكون حال الأبناء عندما يكونون في مجلسٍ عائليٍّ، وينشغلون عن الأم؟
وأنا سألتُ والدتي -حفظها الله ورعاها، وغفر لوالدنا، وغفر لآبائنا وأمهاتنا جميعًا- فقلتُ لها: حين نكون بحضرتك ونحن مشغولون بالجوال هل تشعرين بتذمُّرٍ؟ قالت: نعم، ولكنني أسكتُ ولا أتكلم.
فحين يتوقع أبوك أو أمك منك العناية والاهتمام وأنت تنشغل عنهما فهذا شيءٌ معيبٌ، وكذلك الأبناء يتوقعون من الآباء الاهتمام بهم، وهم مشغولون بجوالاتهم، فعلينا أن نبتعد عن هذه القضية.
ولماذا لا نضع لهذا نظامًا؟ وماذا يَضِيرنا؟ هل نتوقع أننا سنخسر شيئًا كثيرًا؟
لا والله أبدًا، وإنما سنتعب في البداية، ثم نرتاح بعد ذلك، وجرِّبوا أن تجلسوا مع آبائكم وأمهاتكم وزوجاتكم وأبنائكم والجوالات بعيدةٌ، واجعلوا هذا نظامًا ثابتًا، وهذا السلوك يكون صعبًا في البداية، ولكنه يُصبح بعد ذلك سهلًا ومُريحًا، وستكون له فوائده العظيمة.
وتأملوا هذه الصورة أيضًا -وبها نختم-، فهؤلاء جماعةٌ عزمهم شخصٌ، ويُرحب بهم ويقول: أهلًا بكم ومرحبًا، زارتنا البركة، والله لا يحرمنا منكم ومن سواليفكم وجمعتكم. والجماعة مشغولون بجوالاتهم.
ويقول أحدهم: نحن مع بعضنا البعض داخل البيت نُراسل بعضنا في الصالة نفسها بـ(الواتس آب)، أو (السناب شات)، أو أي برنامج تواصل!
ولهذا ضعُفتْ مهارات الاتصال اللفظي عند الأجيال بسبب هذا الأمر، وهذا قد دلَّت عليه بعض الدراسات.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
هذا، والله تعالى أعلم، والحمد لله ربِّ العالمين.
استقبال الأسئلة والرد على الاستفسارات
نُتيح الفرصة للإخوة الذين معنا في جمعية "رعاية طلاب العلم" وطلاب الدكتوراه من المدينة المنورة، والإخوة والأخوات عبر البثِّ، بارك الله في الجميع.
فتفضلوا إذا كانت لديكم أسئلةٌ أو نقاشاتٌ.
المقدم: جزاكم الله خيرًا شيخنا، وأحسن الله إليكم، وأسأل الله الكريم ربَّ العرش العظيم ألا يحرمكم الأجر، وأن يجعل هذه الكلمات نافعةً، وفي ميزان حسناتكم، اللهم آمين.
الإخوة الأكارم، إن كان لديكم سؤالٌ أو ملاحظةٌ أو مُداخلةٌ فتفضلوا بها مشكورين.
الضيف: بارك الله فيك وفيهم، نعم تفضلوا، حفظ الله الجميع، أو يُرسلون عبر (الشات).
المقدم: نعم بالإمكان إرسال رسائل.
المُداخل: السلام عليكم.
الضيف: وعليكم السلام، تفضل يا أخي.
المُداخل: حيَّاكم الله، وبارك الله فيكم، وجزاكم الله خيرًا، وزادكم الله علمًا وحرصًا.
الضيف: وإياك، من أي البلاد أنت يا أخي الكريم؟
المُداخل: من السودان.
الضيف: مرحبًا، تُحضر دكتوراه؟ وفي أي تخصصٍ؟
المُداخل: في التربية.
الضيف: ما شاء الله!
المُداخل: أنا حضرتُ الدكتوراه في التربية.
الضيف: أنت الآن دكتور؟
المداخل: نعم، إن شاء الله.
الضيف: أو أنك لم تُناقش بعد؟
المداخل: ناقشتُ وسلمتُ التعديلات، ويتبقى استلام الشهادة.
الضيف: ما شاء الله! وفي الجامعة الإسلامية؟
المداخل: نعم.
الضيف: في أي مسارات التربية: أصول تربية، أو تربية إسلامية؟
المداخل: في أصول التربية، ورسالتي في الهوية الإسلامية.
الضيف: يا سلام! ما عنوانها بالضبط؟
المداخل: دور كليات التربية في الجامعات السودانية في تعديل الهوية الإسلامية.
الضيف: جميلٌ، الهوية الإسلامية، رائعٌ، وفَّقك الله.
تفضل يا أخي، حفظك الله، سعيدٌ بك، ما الاسم الكريم؟
المداخل: عثمان محمود محمد.
الضيف: تفضل يا أخي.
المداخل: الله يحفظكم ويُبارك فيكم.
تفوق الابن على الأب في التقنية
تُعتبر التقنية بالنسبة للمُربين نوعًا من التحدي، ونوعًا من الفرص التي يمكن أن نستثمرها في تربية الأبناء، لكن قد يكون الابن يعرف التقنية أكثر من الأب، فكيف يتعامل الوالد مع هذه الحالة؟ هل عليه -مثلًا- أن يُطور نفسه حتى يكون في مقابل ابنه في المعلومات والمهارة التي عند ابنه، أم أنه -مثلًا- يتعلم من ابنه؟
الضيف: لا، هل كنتَ معنا في اللقاء كاملًا أو بعضه؟
المداخل: نعم، كنتُ معكم.
الضيف: في اللقاء كاملًا؟
المداخل: نعم.
الضيف: قد تحدثنا يا شيخ عن هذه النقطة في الثقافة التقنية بوضوحٍ، وذكرنا أن الأب يحتاج إلى أن يُقلِّل هذه الهُوة؛ حتى يكون له دورٌ في تعليم أبنائه، فيجد الأبناء أنهم بحاجةٍ إلى أبيهم، وذكرنا هذا الكلام.
والأمر الثاني: إذا كانت العلاقة إيجابيةً وحميميةً، وهناك تماسكٌ أُسريٌّ، فلا عيبَ أبدًا أن يكون الابن أعلم من الأب في التقنية، بالعكس يمكن أن يستفيد الآباء من الأبناء في التقنية، وهذا أمرٌ موجودٌ ومُشاعٌ، وهو جانبٌ استثماريٌّ جيدٌ، وفيه إشغالٌ لأوقاتهم، فتكون لهم مسؤولياتٌ في التقنية، ويهتمون بهذه الجوانب لأجل خدمة أعمال البيت وترتيبات القضايا المتعلقة ببعض الأشياء: كاللقاءات الأُسرية ... إلى آخره.
فهذه كلها يمكن أن تدخل في الاستثمار، وإشغال أوقات الفراغ، والتفاعل بين أفراد الأسرة، والله أعلم.
المداخل: بارك الله فيكم، والله يحفظكم.
الضيف: وفيكم يا أخي بارك الله، ونسمع عنك أخبارًا طيبةً -بإذن الله-، ومُوفَّقٌ، والله يحفظك، وعنوان بحثك رائعٌ، الله يُوفقنا وإياك.
طيب، غيره أيها الأحبة.
شيخنا المُنسق، هل نختم؟
المقدم: نشكر فضيلة الدكتور على هذا اللقاء المُتميز، ونسأل الله أن يجزيك خير الجزاء، وأن يُبارك فيك، وهنا المجموعات يشكرونك أيضًا.
الضيف: شكرًا لكم جميعًا، وبارك الله فيكم، وحفظكم الله.
المقدم: نشكر الشيخ خالد بن أحمد السعدي وجميع المُشاركين.
الضيف: شكرًا لكم، وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه أحمد (15156)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1589). |
---|---|
↑2 | أخرجه أحمد (17634)، والحاكم (245)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3887). |
↑3 | "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 110). |
↑4 | أخرجه الترمذي (2007). |
↑5 | أخرج أحمد (22211) عن أبي أمامة قال: إن فتًى شابًّا أتى النبي فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه! مه! فقال: ادْنُهْ، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أتُحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لأمهاتهم، قال: أفتُحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لبناتهم، قال: أفتُحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لأخواتهم، قال: أفتُحبه لعمَّتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لعمَّاتهم، قال: أفتُحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيءٍ. وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (7679)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (370). |
↑6 | أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (36560) عن جابر بن عبدالله قال: اجتمعتْ قريشٌ يومًا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأتِ هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وعاب ديننا، فليُكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال: يا محمد، أنت خيرٌ أم عبدالله؟ فسكت رسول الله ، ثم قال: أنت خيرٌ أم عبدالمطلب؟ فسكت رسول الله ، فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرٌ منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَها، وإن كنت تزعم أنك خيرٌ منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنَّا والله ما رأينا سَخْلَةً قطّ أشأم على قومه منك؛ فرَّقْتَ جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وعِبْتَ ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريشٍ ساحرًا، وأن في قريشٍ كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحُبْلَى أن يقول بعضنا لبعضٍ بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل، إن كان إنما بك الباءة فاخْتَرْ أي نساء قريشٍ ونُزوجك عشرًا، وإن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريشٍ رجلًا واحدًا. فقال رسول الله : أفرغتَ؟ قال: نعم. فقرأ رسول الله : بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حتى بلغ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:1- 13]، فقال عتبة: حسبك، حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إلى قريشٍ فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركتُ شيئًا أرى أنكم تُكلمونه به إلا وقد كلمتُه به. فقالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم. قال: لا والذي نَصَبَها بينةً ما فهمتُ شيئًا مما قال غير أنه أنذركم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود. قالوا: ويلك! يُكلمك رجلٌ بالعربية لا تدري ما قال! قال: لا والله ما فهمتُ شيئًا مما قال غير ذكر الصَّاعقة. |
↑7 | أخرجه أحمد (8028)، وأبو داود (4833)، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (927). |
↑8 | "المدهش" لابن الجوزي (ص225). |
↑9 | البيت لأبي العتاهية. ينظر: "لباب الآداب" للثعالبي (ص172). |
↑10 | أخرجه أحمد (13049)، والترمذي (2499)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4515). |
↑11 | أخرجه مسلم (1469). |
↑12 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص26). |
↑13 | أخرج البخاري (1121)، ومسلم (2479) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال -واللفظ لمسلمٍ-: كان الرجل في حياة رسول الله إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول الله ، فتمنيتُ أن أرى رؤيا أقصُّها على النبي ، قال: وكنتُ غلامًا شابًّا عَزَبًا، وكنتُ أنام في المسجد على عهد رسول الله ، فرأيتُ في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطويةٌ كطَيِّ البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها ناسٌ قد عرفتهم، فجعلتُ أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار. قال: فلقيهما مَلَكٌ فقال لي: لم تُرَعْ. فقصصتُها على حفصة، فقصَّتها حفصة على رسول الله ، فقال النبي : نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل، قال سالم: فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلًا. |
↑14 | أخرج البخاري (783) عن أبي بكرة : أنه انتهى إلى النبي وهو راكعٌ، فركع قبل أن يصل إلى الصفِّ، فذكر ذلك للنبي فقال: زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ. |
↑15 | سبق تخريجه. |
↑16 | أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334). |
↑17 | أخرجه أحمد (564)، والترمذي (885)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3467). |