المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا وسهلًا بالأحبة جميعًا، وأسأل الله كما جمعنا في هذا اللقاء المبارك أن يجمعنا في مُستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة، أجمل ما في هذا اللقاء أنه يحتاجه الجميع: الأب، والابن، والصغير، والكبير، والأسرة الصغيرة والكبيرة.
ومقدمنا لهذا اللقاء له باعٌ كبيرٌ في مجال التربية وعلم النفس، وقد وجدنا -ولله الحمد- لكلامه ولقاءاته أثرًا كبيرًا على كثيرٍ من الأفراد والأُسَر، فهنيئًا لنا به فضيلة الدكتور: خالد بن أحمد السعدي المُختص في المجالات النفسية والتربوية.
فحيَّاك الله يا دكتور خالد، و(المايك) معك، تفضل مشكورًا مأجورًا.
الضيف: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: هل الصوت والصورة واضحان؟
المقدم: نعم واضحان يا دكتور.
الضيف: طيب، جزاك الله خيرًا، وجزى الله خيرًا الإخوة في مركز "صناعة القيم"، وإن كنتُ أتمنى أن نبتعد عن مثل هذه المُقدمات، فالإنسان مهما كان يبقى مُقَصِّرًا وضعيفًا، وأحيانًا يكون غيره أفضل منه بكثيرٍ، وهو -في الحقيقة- ليس عنده شيءٌ يُذْكَر.
على أية حالٍ، نسأل الله أن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ.
وهذا اللقاء -كما وصفه الأخ الكريم- الجميع بأَمَسِّ الحاجة إليه، والإنسان مُكوَّنٌ من مجموعة مُكونات: العقلي، والوجداني، والجسدي، والانفعالي داخلٌ في المُكون الوجداني.
أهمية النظرة الإيجابية إلى الذات
تأملوا هذه الدراسة التي أمامكم على الشاشة، فهذه الدراسة لها علاقةٌ كبيرةٌ بما نتكلم عنه من الانفعال الذاتي، فنريد من الشخص المُنفعل سلبيًّا أن يضبط هذا الانفعال، وهو ما يُعرف بالتغيير الذاتي لنفسه من خلال ما يقوم به من عملية الضبط لهذا الانفعال.
ونُلاحظ من هذه الدراسة أن 66% لديهم تقييمٌ مُنخفضٌ لذواتهم، فيرون أنهم لا يستطيعون ضبط أنفسهم، فالشخص الغَضُوب -مثلًا- يبقى في هذه الدائرة، ولا يستطيع أن يُغير فيه هذه الصفة، والسبب أن تقييمه لنفسه مُنخفضٌ.
فتجد أفكار هذا الشخص سلبيةً، وغير بنَّاءةٍ، فهو يُعطي لنفسه رسائل سلبيةً: أنه غير قادرٍ على التغيير، وفي الحقيقة لديه القُدرة والاستطاعة على الضبط، ولكن مشكلته في الرسائل السلبية والنظرة السلبية تجاه نفسه.
في حين أن 10% لا يستخدم إلا 10% من إجمالي طاقاته وإمكاناته.
بمعنى آخر: لدينا مخزونٌ وإمكاناتٌ، وهذه الإمكانات تحتاج إلى تفعيلٍ؛ ولذلك هذا الكلام سيُعزز النظرة الإيجابية للذات، فالإنسان يحتاج إلى أن يشعر بأنه قادرٌ على التغيير بعون الله ، فنظرته إلى نفسه: أن عنده استطاعةً وقُدرةً على أن ينتقل من وضعٍ سلبيٍّ إلى وضعٍ إيجابيٍّ، ومن وضعٍ إيجابيٍّ مُنخفضٍ إلى وضعٍ إيجابيٍّ مُرتفعٍ، وهكذا، كل هذا يُعزز القُدرة على التغيير نحو الأفضل.
مفهوم الانفعالات
ننتقل إلى ما بعده، وهو ما يتعلق بمفهوم الانفعال، فنحن عندما نتحدث عن ضبط الانفعال لا بد أن نُدرك -كما قلنا- أنه مُكوَّنٌ من مُكونات النفس البشرية، لكن هذا الانفعال هو -في الحقيقة- حالةٌ جسميةٌ نفسيةٌ يُصاحبها توترٌ شديدٌ، مع اضطراباتٍ عضويةٍ في أجهزة الإنسان الدموية والتنفسية والعضلية والغُدَدية والهضمية، ومع كيانه العصبي عمومًا.
ويُعرفونه أكاديميًّا بأنه عبارةٌ عن أزمةٍ نفسيةٍ طارئةٍ ومُفاجئةٍ لم يستطع صاحبها التَّكيف السريع معها.
ويمكن أن نقول: إنها حالةٌ نفسيةٌ يمر بها الإنسان، وهذه الحالة النفسية يمكن أن يكون لها أثرٌ على الجوانب العقلية والنفسية والحركية، وما شابه ذلك.
مكونات الانفعال
- المُثير: عندما نريد أن نفهم هذا الانفعال -بغض النظر عن التعريفات- نفهمه بهذا السياق، فهو عبارةٌ عن شعورٍ وجدانيٍّ له مُثيرٌ، فالمُكون الأول في الانفعال هو المُثير، فلا نتصور انفعالًا بدون مُثيرٍ، فهناك شيءٌ أثار هذا الانفعال، أو هذا الغضب، أو الفرح، أو الحزن، أو الحب، أو البُغْض ... إلى آخره، فإذن هناك مُثيرٌ، وهذا مُكونٌ مهمٌّ جدًّا.
- الشعور الداخلي: الجانب الآخر من مُكونات الانفعال هو وجود الشعور الداخلي الذي يحصل فيه الاضطراب، فلما يأتي المُثير: كأن يكون رأى -مثلًا- أسدًا أو ثُعبانًا أمامه، فهنا حصل مُثيرٌ، فحصل انفعالٌ وهو الخوف، وهذا الشعور الداخلي عبارةٌ عن اضطرابٍ.
- السلوك الخارجي: المُكون الثالث بعد هذا الشعور الداخلي هو: السلوك الخارجي، وهو عبارةٌ عن حركةٍ كاملةٍ للجسم: كالهروب، والسقوط ... إلى آخره، وكذلك يصحبه سلوكٌ داخليٌّ يرتبط بالهرمونات، والغُدد، والدم، والضغط ... إلى آخره، وهي القضايا اللاإرادية داخل هذا الإنسان.
إذن إدراك مفهوم الانفعال مهمٌّ جدًّا، وأنه من الأمور المُعقدة في هذه النفس البشرية، وهو حالةٌ يمر بها كل إنسانٍ، يعني: يستحيل أن نتصور إنسانًا ليس عنده انفعالٌ، ومَن يقول ذلك فهو يُغالط، أو لم يفهم حقيقة النفس البشرية.
إذن كل إنسانٍ عنده حالة انفعالٍ، وحالة الانفعال هذه -كما قلنا- عبارةٌ عن مُثيرٍ، ثم يترتب على هذا المُثير شعورٌ داخليٌّ من الاضطراب، ثم يترتب عليه سلوكٌ خارجيٌّ وسلوكٌ داخليٌّ، بل قد تصير عنده قرحةٌ في المعدة، أو قولونٌ عصبيٌّ، أو شيءٌ من هذا القبيل.
إذن هذا الانفعال مُؤثرٌ على الجسم بارتفاع ضغط الدم، واحمرار حَدَقَة العين، واضطراب النوم ... إلى آخره، فهو مُؤثرٌ في الجانب الجسدي والحركي، ويظهر ذلك -كما قلنا- في الهروب والهجوم والغضب.
ومُؤثرٌ في جانب التفكير، فالإنسان -مثلًا- مأمورٌ بأنه إذا حضر العَشاء أن يُقدمه على الصلاة كما في الحديث: إذا أُقيمت الصلاة وحضر العَشاء فابدؤوا بالعَشاء[1]أخرجه البخاري (5465)، ومسلم (558).، لماذا؟
لأن التفكير بهذا الدافع سيُؤثر في جانب التفكير، وعندئذٍ لا يمكن أن يخشع أو يحصل الانتباه لما يقرأ؛ لذهاب العقل في التفكير بهذا الطعام.
وهذا ينسحب في كل القضايا، وإنما ذكرنا الأكل؛ لأن الانفعال به أكثر تأكيدًا.
الاعتدال في الانفعالات
لو نأخذ -مثلًا- قضية الحب، فقد يكون عند الإنسان تَبَلُّدٌ في هذا الجانب، فليست عنده علاقةٌ طيبةٌ تَنُمُّ عن محبته للآخرين، أو تجد أن عنده طغيانًا شديدًا في الحب، والنبي يقول: أَحْبِبْ حبيبك هَوْنًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأَبْغِضْ بغيضك هَوْنًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما[2]أخرجه الترمذي (1997)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3395)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (178)..
إذن لا بد من التوسط، فإذا كان عندي طرفان مُتعارضان في انفعالٍ ما، وكلاهما سلبيٌّ، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلا بد من الاعتدال في ذلك، وهو الوسط، ولكي أصل للوسط الذي هو الطريقة السليمة أحتاج لعملية الضبط.
وهنا يظهر الفارق بين الإنسان والحيوان؛ فالحيوان يمشي مع انفعالاته، وليست عنده قُدرةٌ على الضبط، وأما الإنسان فعنده قُدرةٌ على الضبط؛ لأن الإنسان مُيِّزَ عن الحيوان بالعقل؛ ولذلك فإن الذين وصلوا إلى مستوى أنهم لا يضبطون انفعالاتهم -وربما تجاوزوا في ذلك الحدود- وصفهم الله بقوله: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44].
فنحتاج إلى أن نتنبه لهذه الحقيقة المهمة التي ينبغي التوسط فيها، فلا يكون فيها برودٌ، ولا عدم مُبالاةٍ، فلا يكون الإنسان في الانفعال مُتَبَلِّد الحِسِّ، فلا يغضب -مثلًا- عندما يكون هناك شيءٌ يستحق الغضب، بل يجب فيه الغضب، أو يغضب ولا يملك انفعاله، فهذه مشكلةٌ أخرى، وكلا الطرفين إشكاليةٌ، والمطلوب أن يضبط انفعاله، والنبي يقول في الصبر: ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[3]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).، فالمطلوب هنا أن أملك نفسي عند الغضب.
ولما جاء رجلٌ إلى النبي فقال له: أوصني يا رسول الله. قال: لا تغضب، فردد مرارًا قال: لا تغضب[4]أخرجه البخاري (6116).، وليس معناه: أن الإنسان لا يغضب، وإنما إذا غضب وملك نفسه فهو شخصٌ طبيعيٌّ.
ومعنى لا تغضب أنك تضبط غضبك؛ لأن الإنسان بطبعه أنه يغضب، وبطبعه أن عنده انفعالًا، ولكن المطلوب هو: كيف يتعامل مع هذا الانفعال بطريقةٍ سليمةٍ؟ وذلك من خلال الضبط الذي نُناقشه في لقائنا هذا.
ولذلك نحتاج إلى أن نُدرك أن العملية هنا عمليةٌ تربويةٌ منذ نعومة الأظفار؛ ولذا نجد الأُسَر التي تُربي أبناءها على ضبط الانفعال تكون عندهم القُدرة على الضبط، وأما الآباء الذين لديهم التَّخبط في ضبط الانفعالات، فيكون أحدهم غَضُوبًا؛ يكون الأبناء كذلك، فغضب الأبناء من غضب الآباء في الغالب، فهذا الابن لم يجد مَن يُربي فيه غير ذلك.
وكذلك عدم ضبط الكُرْه، والبُغْض، والحب، والفرح، والحزن، ستجده بسبب عدم تأسيس التربية منذ نعومة الأظفار، وعدم وجود قُدواتٍ في هذا الجانب للأجيال، وهذا سيترتب عليه اضطرابٌ في انفعال الحزن، فتجده مُتَبَلِّدًا في الحزن، فتجده في المقبرة يتكلم في العقار، والميت من أقرب الناس إليه، أو يتكلم في السفر والسياحة ... إلى آخره، وهذا يعني أنه ليس ضابطًا للانفعال، والنبي يقول: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون[5]أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315)..
أو تجده مُفرطًا في الحزن، فيَصِل الحزن عنده لمستوى من الاكتئاب الخفيف، ثم المتوسط، ثم الشديد، وهكذا قُلْ في الفرح؛ فالإنسان الذي يجد شيئًا يسُرُّه ولا يفرح فهو مُتَبَلِّدٌ، وهذا تفريطٌ، وهذا لا يُعدّ من ضبط الانفعالات، وإنما هو لا مُبالاة، وضمورٌ في الانفعال، وقد تكون هناك أسبابٌ أخرى تحتاج إلى أن تُحلَّل وتُشخَّص.
وقد يكون هناك فرحٌ مُفرطٌ، فتجده يفرح وينسى نفسه، ويكسر الأشياء التي أمامه، وتجده ربما يتعدى على حقوق الآخرين بسبب الفرح، وما شابه ذلك.
والمطلوب من الإنسان عند الفرح أن يشكر الله ويحمده، ويسجد سجود الشكر، ويفرح مع أهله، ويُقيم حفلةً ... إلى آخره، فهذا هو الفرح الصحيح الذي نريد أن نصل إليه.
استحضار النية عند ضبط الانفعال
هذا الضبط يحتاج إلى استحضار النية، فنحن عندما نضبط انفعالاتنا لا بد أن نعرف لماذا نضبط انفعالاتنا؟ حتى يرضى الله عنا، وتكون علاقتنا بالناس طيبةً، ونُحافظ على حقوق الآخرين.
فقد تجد الإنسان ينوي أن يفعل خيرًا لنفسه ولغيره، ويكسب أجرًا، ثم يتعرض لمُثيرٍ سلبيٍّ فينفعل فيترك هذا الخير، ولو احتسب الأجر عند الله، واستحضر النية؛ فإنه سوف يضبط هذا الانفعال، ولن يقطع العمل الذي عزم عليه.
فعدم ضبط الانفعال مُضِرٌّ ومُشْكِلٌ، وقد يكون في وقتٍ ومكانٍ غير مُناسبٍ.
ويُحدثني اليوم أحد الأشخاص فيقول: قبل صلاة العصر، وفي المسجد حصل خلافٌ بين اثنين، وزاد الشِّجار حتى صار غير طبيعيٍّ، وكل ذلك بسبب عدم ضبط النفس وضبط الانفعال، وهو الغضب، وربما ذهبت العقول أو شيءٌ منها.
ولهذا يذكرون أن من مُعالجات الغضب: أن الإنسان يُصوِّر نفسه وهو في حالة الغضب؛ ليرى نفسه بعد ذلك، فإذا رأى نفسه بـ(الفيديو) لاستغرب من منظره وحاله، وما شابه ذلك.
فالحاصل أن هذا الغضب والشِّجار الذي حصل في المسجد فيه خطورةٌ، وتسبَّب في تأخر الناس عن الصلاة، وصار هناك سَبٌّ وشتمٌ، فهذه كلها تُعكر مزاج الأشخاص، ناهيك عن العبادة، حتى قام بعد الصلاة واحدٌ من الفضلاء ووجهاء المسجد يُذكرهم بلطافةٍ وحكمةٍ.
فنحن نحتاج إلى أن نشعر بأن من مصلحتنا أن نضبط انفعالاتنا؛ ولذلك لا بد أن ننوي في ضبط الانفعال أن نرفع الإشكال عن أنفسنا وغيرنا؛ لأن الانفعال هنا مُرتبطٌ بالإنسان، وهو حالةٌ نفسيةٌ داخليةٌ موجودةٌ عند الجميع.
فلو ضبط هذا الأخ في القصة السابقة انفعاله؛ فترك الصُّراخ و(الهواش) أمام أناسٍ فضلاء وأخيار وطيبين، وأتوا للصلاة، ويقرؤون القرآن، والسبب أن واحدًا من الحاضرين أقام الصلاة، والمُفترض أن الذي يُؤذن هو الذي يُقيم، وأيضًا كان الوقت المُتبقي على الإقامة دقيقتين، فصار هذا الشِّجار بسبب عدم وجود ضبط الانفعال، ولو تمَّ ضبط الانفعال لارتاحوا وصلوا بهدوءٍ وخشوعٍ، وبعد ذلك يأتي الشخص ويقول: يا أخي الكريم، أنا الذي أذَّنْتُ، والمُفترض أنني أنا الذي أُقيم، ثم أنت أقمتَ قبل دقيقتين، وهذا لا ينبغي، وهكذا تنتهي القضية بسلامٍ.
فلا بد من ضبط هذه المُكونات الأربع: المُثير، ثم الشعور الداخلي، ثم السلوك الخارجي، ثم السلوك الداخلي، وإذا لم نضبطها ستكون هناك آثارٌ سلبيةٌ جسميةٌ وعقليةٌ على النفس وعلى الآخرين.
أهمية القدوة في ضبط الانفعال
القدوة مهمةٌ، فهي تُساعد في ضبط الانفعالات، وباختصارٍ -أيها الأحبة الأكارم- إذا أردنا أن نتربى ونُربي أجيالنا على ضبط الانفعال؛ لنجعلهم ضمن دائرة الذين يضبطون انفعالاتهم، أما أن يعيشوا مع نماذج لا يضبطون انفعالاتهم فستكون القضية هنا مُؤثرةً بسبب عامل القُدوة.
ولهذا إذا وجد الإنسان قُدواتٍ غير ضابطةٍ لانفعالاتها في الألعاب الإلكترونية، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الصداقات الافتراضية والعلاقة المباشرة والأُسرية، وما شابه ذلك، أو في الأستاذ، أو في إمام المسجد، أو الجار، أو القريب؛ فإنه لن يستطيع أن يضبط انفعالاته، وستجده ذات اليمين وذات الشمال.
أهمية التَّحفيز في ضبط الانفعال
كلما كان هناك تحفيزٌ لمَن يستطيع أن يضبط انفعاله من الأسرة والأبناء والآخرين كان ذلك مُساعدًا في الضبط، وكذا نحتاج إلى بيئةٍ تفاعليةٍ تُساعد في تخفيف حِدَّة الانفعال؛ لأن البيئة غير المُتفاعلة -في الغالب- تُسبب حالات الارتباك الذي تتولد منه المُثيرات السلبية التي تُؤدي إلى الانفعال وعدم ضبطه.
وكذلك الإنسان مفطورٌ على الجوانب الإيجابية وما ينبع منها، وعلى رأسها التوحيد، وما شابه ذلك، فالمُفترض أن الإنسان يُحافظ على هذه الفطرة، والنبي يقول: ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه[6]أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).، فما بالكم بقضايا الانفعالات والأخلاق، وما شابه ذلك؟ فنحتاج إلى أن نُراعي فينا الفطرة.
كيف نضبط انفعالاتنا؟
من القضايا المهمة أيضًا التي نحتاج إلى أن نفهمها ونُدركها: كيف نضبط انفعالاتنا؟ بعد أن فهمنا مفهوم الانفعال، وما أثبتته الدراسات في قُدرة الإنسان على تفعيل طاقته الذاتية، وأن هذه الانفعالات قابلةٌ للتعديل، كما يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، فنجد أنَّ الله تعالى ربط في هذه الآية التغيير المجتمعي بالتغيير الفردي؛ ولذلك يقول الرسول : إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[7]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2328)..
وقول الإنسان: لا أستطيع، أو هذا مستحيلٌ، أو صعبٌ. هذه كلها عبارةٌ عن ادعاءاتٍ تتولد من نظرة الإنسان عن نفسه القاصرة، أو من البيئة غير المُحفِّزة، وما شابه ذلك.
فسلوك الإنسان قابلٌ للتعديل، ومن ذلك: السلوك المُتعلق بالجانب الوجداني والانفعالي.
والإنسان لو استقرأ وضعه لوجد أن هناك أشياء كثيرةً خفَّتْ عنده، وأشياء زادتْ، فإذا أتت الإرادة الذاتية لاستطعنا أن نُغير، وهذا هو المطلوب، كما قال الله تعالى: حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
مراعاة الفروق الفردية عند ضبط الانفعالات
المُنطلق الآخر: مراعاة الفروق الفردية، فلا تَقِسْ نفسك بشخصٍ هو أصلًا من فطرته أنه رجلٌ حليمٌ -مثلًا-، فهذا له علاقةٌ بالفطرة والجِبِلة، فهذا من جِبِلته أنه رجلٌ حليمٌ؛ ولذا لما قال النبي لأشَجِّ عبدالقيس: إن فيك خلَّتين يُحبهما الله: الحلم والأناة، قال: يا رسول الله، أنا أتخلَّق بهما أم الله جَبَلَني عليهما؟ قال: بل الله جَبَلَك عليهما، قال: الحمد لله الذي جَبَلَني على خلَّتين يُحبهما الله ورسوله[8]أخرجه أبو داود (5225)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5313)، وحسنه الألباني..
فالحاصل أن هناك أناسًا جَبَلَهم الله على الحلم، وآخرين عندهم غضبٌ، فلا يمكن أن الغَضُوب يحتج بالحليم الذي من فِطْرته وجِبلته أنه حليمٌ، ويقول: لا، والله أنا حاولتُ وما استطعتُ.
فالغَضُوب لو تحسَّن 10% أو 20% بعدما كان مقياس الغضب عنده -مثلًا- 70% فصار 60% فهذه نعمةٌ؛ ولذلك لا بد أن نُراعي الأحوال والظروف.
وهذه الانفعالات غير المُنضبطة من غضب الزوج على زوجته أو العكس، أو الأب على الأبناء أو العكس مُؤثرةٌ على العلاقات.
والذي يخاف من الاجتماعات -مثلًا- فإن هذا الخوف هو انفعالٌ، ويبدأ عنده القلق والتوتر، وهي الحالة النفسية الداخلية، وربما تولد من ذلك أن يهرب من هذا الاجتماع، وربما وصل به الأمر إلى ما يُسمى بالخجل الاجتماعي، وربما يزداد إلى مستوى الرّهاب الاجتماعي، وعندئذٍ يحتاج إلى التَّدخل الدَّوائي.
والإنسان -كما قلنا- فيه مُكوناتٌ عقليةٌ ووجدانيةٌ، ومنها الجانب الانفعالي، فلا بد أن ننظر إلى الشخص على أنه شموليٌّ، فينبغي أن تكون هذه الشمولية حاضرةً في أذهاننا، وعدم ضبط الانفعال سيُؤثر في عدم انضباط التفكير والصحة الجسمية، وتأثر القولون العصبي والقرحة ... إلى آخره.
ومع هذا الضبط أستطيع أن أكون شخصيةً مُتَّزنةً، وتكون هناك خطةٌ في التوسط في هذه الأمور: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، وبهذا نكون مُتوازنين فعلًا.
استقبال المُشاركات والرد على الاستفسارات
قبل أن ندخل في الاستراتيجيات -وهي آخر مرحلةٍ لنا في هذا اللقاء- نقف الآن لنسمع منكم المُداخلات والتعليقات، أو الاستدراكات، أو الأسئلة؛ حتى نُغير ونُجدد، ولا يكون الكلام من طرفٍ واحدٍ، وتكون المُشاركة منكم مُشافهةً بالصوت، أو بالكتابة عبر المُحادثة والشَّات، فتفضلوا.
المقدم: أيها الأحبة، مَن كانت لديه مُشاركةٌ يرفع يده في الشَّات ونسمع منه، وبالترتيب.
أحدهم كتب يطلب مُلخصًا بسيطًا للمحاور السابقة، مشكورين.
الضيف: تحدثنا عن مفهوم ضبط الانفعالات، وذكرنا بعض الدراسات في ذلك، ونظرة الإنسان إلى نفسه، وقلنا: ينبغي أن تكون نظراتنا لذواتنا جيدةً، ورسائلنا إيجابيةً؛ حتى نُفعل الطاقة الكامنة.
وتحدثنا عن مُكونات الانفعال، وآثاره، ومُنطلقاته، وذكرنا عشرة مُنطلقاتٍ، وهي هذه التي أمامكم.
تفضلوا.
أظن أن هناك مَن كتب يا شيخ.
المقدم: فليتقدم الأخ خالد.
الضيف: تفضل يا أخ خالد.
المقدم: أو الأخ الذي رمز لاسمه (w) فليتفضل بفتح (المايك).
المُشارك: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الضيف: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المشارك: بارك الله فيك يا دكتور خالد، وما قصَّرتَ، ما شاء الله! تبارك الله! رفع الله قدرك وقدر الجميع.
الضيف: رفع الله قدر الجميع، وحفظك الله.
كيف نربط بين قوة الإنسان الذاتية وسماته الشخصية؟
المشارك: عندي سؤالان، أو سؤالٌ من شِقين يا دكتور، الله يحفظكم.
السؤال الأول: كيف نربط بين قوة الإنسان في ضبط انفعالاته وسماته الشخصية؟
السؤال الثاني: ما الأشياء الاستباقية التي يمكن للإنسان أن يتَّخذها قبل أن يدخل في أي موقفٍ حتى لا ينفعل؟
الضيف: هناك تشويشٌ، لكن واضحٌ.
أما الأشياء الاستباقية فستأتي معنا في الاستراتيجيات إن شاء الله.
وأما كيف نربط بين قوة الإنسان الذاتية وسماته الشخصية؟ فقد أكَّدنا من خلال المُنطلقات على أن كل سلوكٍ قابلٌ للتعديل، وأكَّدنا أيضًا على أن هناك فروقًا فرديةً، بمعنى: أن السمات الشخصية قد تُساعد هذا الشخص في ضبط الانفعال، وقد لا تُساعد الآخر بشكلٍ أكبر، لكن ليس معنى هذا أنني لا أحاول أن أضبط انفعالي، فالمطلوب مني أن أُجاهد نفسي، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
ولذلك لا نَتَّكئ على السمات الشخصية ونقول: إنها تقف عائقًا في طريق ضبط الانفعالات.
نعم يُوسَم الإنسان على الوضع الذي هو عليه، وعلى ما يتَّصف به، لكن ليس معنى ذلك أنه باقٍ على حاله، ولا يمكن أن يتغير، حتى الميول تتغير كما تتغير القُدرات، لكن -كما قلتُ- هناك فرقٌ بين الذي عنده هذا الأمر جِبِليٌّ، ومَن يكون عنده مُكْتَسَبًا، ومَن تكون هذه السمة مُتأصلةً ومُتجذِّرةً بسبب عوامل مُرتبطةٍ به شخصيًّا، أو ببيئته، أو كلاهما، وشخص آخر ليس كذلك، وعنده هذه السمة أقلّ في التأثير والبيئة، لكن الكلَّ مطلوبٌ منه أن يضبط انفعالاته؛ ولذلك يُطلب من الإنسان التعاطي مع آليات واستراتيجيات ضبط الانفعال، وأن يضع نفسه في بيئةٍ تُساعده على هذا، ويتَّخذ قراراتٍ وتدريباتٍ، وما شابه ذلك.
المهم ألا نعتمد على السمة الشخصية ونستسلم؛ لأن الاستسلام معناه: أنني باقٍ على حالي، ولن أتغير؛ ولذلك -يا إخوة- فإن المُجاهدة في الشرع مهمةٌ جدًّا، يقول الله في سورة العنكبوت: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:1- 3] ... إلى آخره، ثم بيَّن ما تعرض له الأنبياء في رسالاتهم مع أقوامهم من الابتلاءات والفتن والمحن، ثم ختم السورة بقوله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
فلا بد أن نفهم المَغْزَى من خَلْقِنا؛ فالأصل أن الله خلقنا لعبادته، وهذه لا بد لها من ابتلاءاتٍ ومِحَنٍ وفتنٍ؛ ولذلك في قول الله في سورة الحجرات: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3] جاء في "تفسير ابن كثير" عن مجاهدٍ قال: كُتِبَ إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجلٌ لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل أم رجلٌ يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟
فكتب عمر : "إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ"[9]"تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (7/ 368)..
فالذين كانوا يفعلون المعصية وتركوها، ونفوسهم تتوق إلى أن تعود، لكنهم يُحجمون؛ هؤلاء هم الذين ابتلى الله قلوبهم للتقوى، فأجرهم أعظم من الذي لم يفعل المعصية؛ لأنه ليست عنده رغبةٌ، أو ما عنده هذا المُثير القوي، وهو: أن نفسه تُحدثه أن تعود، وقد كان فترة من الزمن على هذه الحال.
وهذا المعنى نحتاجه في قضايا التغيير، وإلا سنُصبح مثل الجبرية، أو مثل الذين يُبَررون لأنفسهم ما هم عليه من المعاصي، فالله جعل الابتلاء ليميز الخبيث من الطيب؛ ولذلك يقول: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].
وأنا أعلم أن السمات الشخصية لها دورٌ في التغيير، وقد يكون التغيير بالنسبة لهذا الإنسان أثقل من غيره، وهذه هي الفروق الفردية التي ذكرناها قبل ذلك، لكن أريد ألا نُبرر لأنفسنا، فهذا خطيرٌ جدًّا.
فهناك فرقٌ بين التفسير -أيها الإخوة- والتَّبرير؛ أما التفسير فهو دراسة وضع الشخص: لماذا تعثر هذا الشخص؟ لأن عنده مشكلاتٍ، وعنده كذا، وتربى على هذا، وعنده سماتٌ شخصيةٌ معينةٌ، وهذا أقلّ منه، فهذا تفسيرٌ، وليس تبريرًا.
وأما التَّبرير فلا ينبغي أن نُعطي تبريراتٍ لأشياء ينبغي أن يقوم بها الإنسان ويعملها، أو يبتعد عنها، وهذا هو دور النفس البشرية: أن تقوم وتُمارس ما هو مطلوبٌ منها، وهو معنى قول الله تعالى: حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، والله أعلم.
كيف أتعامل مع مَن لا يريد التغيير؟
المقدم: دكتور، أحدهم يسأل: كيف أتعامل مع مَن لا يريد أن يتغير؟
الضيف: على أية حالٍ أنت إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى:48]، والتأثير في هذا البلاغ، لكنه إذا أصرَّ فليس عليك هدايته.
وتمرُّ علينا حالاتٌ كثيرةٌ مثل هذا، وأذكر حالةً واحدةً: وهو مُدخنٌ في إحدى المدارس كنتُ أُطبق فيها، وحاولتُ مع هذه الحالة، وأنا لستُ أستاذًا في هذه المدرسة، ولكن حاولتُ، ووجدتُ أنه يُدخن في دورة المياه، أكرمكم الله.
ولَفَتَ نظري أن هذا الطالب جيدٌ دراسيًّا، لكنه تورط في التدخين، وأيضًا هذا الطالب عقليته جيدةٌ ومُؤدَّبٌ، وربما يكون ذلك بحكم أنني لستُ أستاذًا في المدرسة، فلا أعرفه، ولا يعرفني، وربما أيضًا أنه لم يأتِ إلى المدرسة برغبته، وإنما أتى بالإلزام.
المقصود أنني استخدمتُ معه جلساتٍ إرشاديةً عديدةً، وفي الأخير رفعتُ راية الاستسلام؛ لأنه لم يكن يُتابع، ولم يكن يحلّ التكاليف والواجبات، ولم يكن يتحدث، بل يلزم الصمت، فقلتُ له في الأخير: عندنا في أبجديات الإرشاد أن نُغلق الملف في مثل حالتك. فأغلقتُ فعلًا ملفه عندما وجدتُ نفسي لا أستطيع التأثير عليه، وليس معنى ذلك أنني مبسوطٌ من هذا، بل بالعكس، فأنا -والله- أريد له الخير، ولا بد أن يبذل الجهد في ترك هذه العادة.
صحيحٌ أن هذا قليلٌ -والحمد لله- في مقابل مَن يستجيب، لكن أيضًا أقول: هذا قد يُوجد؛ ولذلك فإن هذا من الفروق الفردية، ولن يستقيم الناس على ما تريد أنت تمامًا، حتى في كورونا وفي الوضع الذي نحن فيه تجد أناسًا عندهم قناعاتٌ تستغرب منها، وربما لا يُقدِّرون رأيك ولا تَحَرُّزاتك، فالنفوس البشرية فيها هذه الأخلاط العجيبة.
ولذلك أقول: يقوم الإنسان بما هو مقدورٌ عليه، والله يقول لنبيه : إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، ويقول: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
طيب، ما المطلوب؟
أن أُوصل الرسالة، وهناك أناسٌ أذكياء يستطيعون أن يُشَخِّصوا عدم الاستجابة بشكلٍ صحيحٍ، ويعرفوا مشكلته بالضبط، فقد تكون مشكلته أنه يتعامل معي أنا؛ فأُحيله في هذه الحالة إلى غيري، وقد تكون المشكلة أنني لا أستطيع، وهناك مَن هو أحسن مني؛ فأُحيله إليه، وقد يحتاج إلى أساليب غير مباشرةٍ ... إلى آخره.
وقد يكون السبب مهارات الإنسان في التَّحمل والصبر والثقافة والمعرفة التي لديه، فيجتهد الإنسان ويعمل قدر ما يستطيع، ويُحاول أن تكون عنده ثقافةٌ، ويبذل الجهد ولا ييأس.
وقد يحاول الإنسان مع أحد أبنائه، ويسعى في ذلك ويجتهد، ويعمل المطلوب منه، لكنه لا يجد نتيجةً؛ لأن الله تعالى لم يُرد هدايته.
وقد حاول بعض الأنبياء مع أبنائهم، وظلُّوا على كُفرهم، وهذه تسليةٌ من جهةٍ، والله يقول: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والعلماء عندما تكلموا عن هذه الآية قال بعضهم: هذه فيها تسليةٌ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا يعني: إذا قمتَ بواجبك فإن الله لا يُكلفك فوق الطاقة؛ لأنه قال: إِلَّا وُسْعَهَا، لكن لا بد أن تستفرغ وسعك، وتبذل جهدك، ولا تقل: هذه تسليةٌ. وتترك الواجب، فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ؛ ولذلك فإن الجمع بين هذه الأمور يجعل الإنسان يستمر في العمل، حتى هذا الشخص نفرض أنه بذل جهده في دعوة هذا، فلا نقل: انتهى الأمر، وإنما يبقى الدعاء له بظهر الغيب، ويمكن أن أبحث عن أناسٍ يُؤثرون عليه من هنا وهناك، وأحاول قدر المُستطاع، وما شابه ذلك.
وفرقٌ بين شخصٍ يريد فعلًا التأثير في غيره، وشخصٍ آخر ليس كذلك، وإنما يريد السلامة السلبية التي يرى أنه لا يعدلها شيءٌ، لكن -مع الأسف الشديد- تضيع عليه أشياء كثيرةٌ.
طيب، هل هناك شيءٌ يا شيخ؟
المقدم: نعم يا دكتور، عندنا قرابة ثلاثة أسئلة.
الضيف: سريعًا.
المقدم: وصلني سؤالان: إحداهن تسأل وتقول: أنا لا أستطيع ضبط انفعالي في أول خمس دقائق، أو في فوران الغضب، لكن بعد خمس إلى عشر دقائق أستطيع السيطرة.
الضيف: على أية حال، نُؤجل الإجابة عن هذا إلى الكلام عن الاستراتيجيات.
ذكرني بهذا السؤال، حفظك الله.
المقدم: أَبْشِر.
الضيف: غيره.
قُدوات عصرنا
المقدم: إحداهن تسأل فتقول: إن قُدوتنا الرسول والصحابة، ولكن هل هناك قُدواتٌ في يومنا الحالي؟
الضيف: نعم هناك قدواتٌ جزمًا، وهم الذين اقتدوا بالنبي والصحابة، هم قدواتٌ لنا.
هناك قدواتٌ حاضرةٌ وموجودةٌ، ونستطيع أن نصل إليها، ولو كانت جزئيةً، ولا يلزم أن تكون القدوة كاملةً، بمعنى: أنك ستجد شخصًا تأخذ منه هذا الجانب، وشخصًا آخر تأخذ منه جانبًا آخر، وأشخاص يملكون قدوةً بنسبة 40% وآخرون 60%؛ ولذلك نقول: إن إبراز القدوات الإيجابية مهمٌّ جدًّا.
وأنا أخشى أن هذا السؤال هو من قبيل الدراسة التي ذكرناها في بداية اللقاء، وهو النظر المُنخفض تجاه الذات، وهنا النظر مُنخفضٌ تجاه المجتمع، وهذه مشكلةٌ؛ ولذلك ينبغي تجنب النظرة السلبية، والالتزام عمومًا بالتَّوسط في كل شيءٍ؛ ولذلك نقول: نعم توجد قُدواتٌ، وهذا من عدل الله .
المقصود بالغضب
المقدم: نختم يا دكتور بسؤالٍ لأحدهم يقول فيه: كيف أُحدد الغضب السلبي، وأحيانًا أجد الناس تُؤيدني في هذا الغضب في هذا الموقف مثلًا؟
الضيف: على أية حالٍ، هنا نحتاج إلى أن نفهم ما المقصود بالغضب؟
ونحن قد جمعنا بين حديث: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[10]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).، وحديث: أوصني يا رسول الله. قال: لا تغضب[11]أخرجه البخاري (6116).، وقلنا: إن الغضب موجودٌ، وهو من الانفعالات التي يتعرض لها الإنسان، ولقاؤنا اليوم في ضبط الانفعالات، والغضب ما هو إلا جزءٌ من هذه الانفعالات، فلا ينبغي أن يكون الإنسان مُتبلدًا أو مُتهورًا، وإنما الوسط، فإذا كان الإنسان لا يتأثر بما يراه مما لا يُرضي الله فهذا غير صحيحٍ، لكن لا يصيح وتصدر منه أعمالٌ غير مُنضبطةٍ في حركاته وأفعاله، فهذا خطأٌ.
إذن فالقضية تحتاج إلى ضبطٍ، لكن لو قال واحدٌ: يا أخي، دعها، ما عليك من هذه الأمور.
نقول: هذا مُتبلدٌ، فضبط الانفعال مهمٌّ جدًّا.
ولذلك تنبغي القراءة في هذا الجانب، ومُحاكاة القُدوات الإيجابية في هذا الأمر، وأيضًا تعزيز وتشجيع النفس على أن يكون لها رصيدٌ في هذا الموضوع الإيجابي، والرسول كان يغضب إذا انتُهكت محارم الله[12]أخرج الحميدي في "مسنده" (260) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيتُ رسول الله مُنتصرًا من مظلمةٍ ظُلمها قط ما … Continue reading، فنحن لا بد أن نقتدي به، فلا يأتي شخصٌ ويقول: ماذا أفعل؟ وماذا ينفع الغضب؟ لا أقدر على أن أُغير شيئًا، فأبي أو أخي حاولتُ معه ولم ينفع.
فليس المقصود من غضبك أن يأتي بالنتيجة الإيجابية، وإنما يكون عندك انفعالٌ وكُرْهٌ لهذا الأمر، كالذي لا يستطيع أن يُغير بيده ولا بلسانه، ولكنه يُغير بقلبه كما جاء في الحديث[13]أخرج مسلم (49) من حديث أبي سعيدٍ الخدري : أن النبي قال: مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع … Continue reading، فهذا التغيير بالقلب هو انفعالٌ؛ فيكره هذا الشيء، لكن الشخص الثاني تعود على هذا؛ فصار مُتبلدًا، فليس عنده انفعالٌ أصلًا.
وتجد الشخص ربما تذهب أخلاقه عند الغضب: كالشخص الذي تشاجر في المسجد -وقد ذكرتُه لكم- حتى استغرب الناس فقالوا: هل يُعقل أن يتكلم هذا الشخص بهذه الطريقة ويرفع صوته ويصرخ ... إلى آخره؟!
وأنا استغربتُ؛ لأنني أعرف هذا الشخص، وما كنتُ أتوقع أن يصدر منه هذا الفعل، لكن الغضب إذا جاء ولم يُضبط ولم يُتعامل معه كغيره من الانفعالات تحصل إشكالاتٌ؛ ولذلك فإن مُراجعة النفس وتوطينها في هذا الجانب أمرٌ مهمٌّ.
استراتيجية ضبط الانفعال
طيب، دعونا ندخل في استراتيجية ضبط الانفعال بشكلٍ سريعٍ جدًّا حتى لا نُطيل عليكم.
هذه الاستراتيجية تشمل خمس نقاطٍ:
الأولى: معرفة النفس
وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وإلا فكيف يضبط الشخص انفعاله وهو لا يرى أن عنده هذا الانفعال السلبي؟! فلا يرى نفسه غَضُوبًا، وإنما يرى نفسه طبيعيًّا، وبالعكس هذا الذي يفعله هو الصحيح.
إذن لا بد ابتداءً أن تكون هناك معرفةٌ بهذه النفس، بحيث تتولد منها القناعة؛ لأن الشخص غير المُقتنع سيصير مثل طالب الثانوية المُدخن الذي ذكرتُه لكم، فليست عنده قناعةٌ بأنه مُخطئٌ بشُرْبِه الدخان.
طيب، كيف أعرف نفسي؟
تستطيع أن تعرف نفسك بأنك -مثلًا- شخصٌ اجتماعيٌّ أو لا عن طريق سؤال الناس الذين يعرفونك، فتقول -مثلًا-: هل أنا غَضُوبٌ؟ وهل ردَّة فعلي في حالة الغضب صحيحةٌ أم خاطئةٌ؟
فيُقال لك: لا، والله أنت ما شاء الله عليك! تملك نفسك، صحيحٌ أنك تتكلم، لكن تتكلم بانضباطٍ.
ويأتي آخر ويقول لك نفس الكلام تقريبًا؛ فتعرف أن عندك مستوًى جيدًا من الضبط.
وإذا قيل لك: لا، والله أنت تنسى نفسك عند الغضب. فمن الواضح عندئذٍ أنك تحتاج إلى مزيدٍ من الضبط لهذا الانفعال وما يتعلق بذلك.
أو يُقال لك -مثلًا-: يا أخي، أنت إذا سمعتَ قصةً فإنك مباشرةً تخاف وتقلق، فهذا يعني: أن عندك إشكاليةً؛ ولذلك تجد بعض الناس إذا أراد أن يتَّخذ قرارًا يتوتر، أو يتأخر، أو يتردد بسبب أن عنده مشكلة الخوف: هل قراره سيكون صحيحًا أم خطأً؟
طيب، لنفرض أنه خطأٌ لنتعلم من الخطأ، ما المشكلة؟
مثل: الأب الذي لا يُحمّل ابنه المسؤولية، ويخاف أن يغلط أو يعجز، وتحميله المسؤولية المُفترض أن يكون بندًا من بنود التربية الأُسرية، فلماذا لا يُكلَّف؟ يقول: لأني أخاف أن يغلط. إذن متى سيتعلم؟!
ولذلك هناك نظريةٌ كاملةٌ اسمها: نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ، ونحن نحتاجها هنا.
وباختصارٍ شديدٍ جدًّا لا بد أن نعرف أنفسنا ابتداءً.
ولا شكَّ أن اللبيب المُتابع، المُهتم بنفسه، الصادق مع ذاته سيعرف نفسه من خلال الناس الذين معه: كالزوجة، والأبناء، والأصدقاء، ومن خلال المُقارنات بينه وبين غيره، ومن خلال القدوات.
فالإنسان يحتاج إلى أن يعرف نفسه، فهذه أول قضيةٍ، وهي مهمةٌ جدًّا؛ لأنه لا بد ابتداءً أن نُحرر محل النزاع، فإذا لم تكن مؤمنًا بأنك غير مُنضبطٍ، بل ترى نفسك مُنضبطًا، ووضعك طبيعيًّا، وردَّة فعلك طبيعيةً؛ فلن تتغير، إذن لا بد من معرفة النفس، وهذه -بلا شكٍّ- تأتي من خلال الاحتكاك بالآخرين.
ولذلك يُعجبني بعض الأشخاص الذين يقول أحدهم: أريدك أن تُتابعني وتُعطيني وجهة نظرك.
وهذا يجعل الإنسان على الأقلّ يُراجع نفسه، وقد تكون عنده نسبةٌ معينةٌ من الانفعال السلبي، فالقضية ليست 0% أو 100%، وإنما فيها تفاوتٌ.
وأذكر مرةً من المرات كنا في مجلسٍ، وكانت هناك نقاشاتٌ حاميةٌ وجميلةٌ، وهناك أطرافٌ تُثير مشكلةً معينةً، فعلَّقْتُ بانفعالٍ، فقال لي شخصٌ بعد اللقاء: يا أخي، ألا ترى أنك كنتَ مُنفعلًا عندما تكلم فلانٌ؟ قلتُ: والله أنا أجد أن هذا الانفعال صحيحٌ، وأنا فعلًا عندي شيءٌ من عدم ضبط الانفعال أحيانًا، لكن في هذا الموطن تعمدتُ وكنتُ قاصدًا أن يكون أسلوبي مع الأخ الكريم بهذه الطريقة؛ ولذلك وجدتُ عددًا من الإخوة يشكر انفعالي هذا في الردِّ على هذا الأخ، وما شابه ذلك.
فنرجع بعض الأحيان إلى تقييم الذوات، وهو يختلف؛ ولذلك أنا أقول في الأخير: الإنسان يحتاج إلى أن يعرف نفسه، ويستحيل أن يراك المُقربون منك غَضُوبًا أو حليمًا وأنت غير ذلك، يعني: يستحيل أن تأتي مجموعةٌ وتقول لك: أنت غَضوبٌ. ومجموعةٌ تقول: أنت حليمٌ.
ونحن لا نتكلم عن الذي رآك مرةً واحدةً، وإنما نتكلم عن الذي يعرفك فعلًا.
الثانية: ضبط المُثير
وقد اتفقنا على أن أول مُكونٍ للانفعال هو وجود المُثير، وهذا موجودٌ في كل أنواع الانفعالات، سواءٌ كانت خوفًا، أو غضبًا، أو حبًّا، في الأشياء الإيجابية التي يُحبها الله، والسلبية التي فيها انحرافٌ فكريٌّ أو أخلاقيٌّ.
وتأملوا -مثلًا- انفعال الحب والكُرْه، وارتباطهما بالولاء والبراء في العقيدة، وارتباطهما بالعلاقات الإيجابية الصحيحة التي هي قائمةٌ على التربية بالحب بطريقةٍ سليمةٍ، أو الانحراف في هذا الجانب القائم على العلاقات المُحرمة، وما شابه ذلك، فكلها إشباعٌ للجانب الوجداني المُتعلق بانفعال الحب ... إلى آخره.
إذن أنا أحتاج هنا إلى أن أعرف أين المُثير؟
وأنا أتكلم الآن عن الشخص الذي عنده إشكاليةٌ في الانفعال، واتركوا الشخص الذي أعطاه الله انضباطًا في الانفعال، فهذا نقول عنه: هنيئًا له، لكن نقصد الشخص الذي عنده مشكلةٌ في الانفعال -أيًّا كان هذا الانفعال- ونحتاج إلى أن نُساعده، أو يُساعد نفسه في ضبط هذا الانفعال (self-control) فكيف يضبط؟
وأجمل ما في هذه القضية: أن الإنسان يُعالج نفسه بنفسه، وقد يحتاج إلى مساعدةٍ -لكن في الأخير سيبقى أنه ضبطٌ ذاتيٌّ- فيمكن أن يسمع خطبةً، أو يقرأ كتابًا، أو يحضر دورةً، أو يحضر مثل هذا اللقاء، لكن بعد ذلك لا يقدر أبدًا أن يضبط نفسه، وقد يكون العكس: يتعرض للمُثيرات المُسببة للخوف عنده، أو المُسببة لعدم ضبط الحزن.
ويُعجبني الشخص الذي يقول: أنا سأبتعد عن التعرض لهذه المُثيرات؛ نظرًا لما يحصل لي من الانفعال السلبي.
وهذا يُعَدُّ من ضبط المُثير، فإذا كنت تعرف أن الذهاب للقاء هذا الشخص المُعين، أو الذي سيُسبب لك مُثيرًا للغضب، وأنت تعرف أنك تشتكي من الغضب، وهذا يُثير عندك الغضب، فنقول: من العلاج ألا تذهب، وهذا من ضبط المُثير.
وقد يقول لك شخصٌ: من الطبيعي أن يكون الإنسان مدنيًّا واجتماعيًّا.
نقول: نعم، لكن هذا الآن في حالة علاجٍ، ثم هو نفسه يجتمع مع أناسٍ آخرين، لكن لأن المُثير هنا سلبيٌّ يجعله لا يستقيم ولا يضبط نفسه، إلا إذا كنا نقول: نريد أن يتعود هذا الشخص بالتدريب -الذي سنأتي إليه بعد قليلٍ- على أن يُواجه هذا الشخص المُثير؛ حتى يتعود على ضبط انفعاله.
والأصل الابتعاد عن المُثيرات السلبية التي تُسبب الانفعالات السلبية، حتى الأصدقاء إذا كانوا لا يُساعدونك على ضبط الانفعالات، وإنما هم بالعكس نماذج من نماذج التَّهور، فيُشجع الشخص فريقًا معينًا، وهم يُشجعون فريقًا آخر، وأنت معهم، فإذا فاز فريقهم فرحوا فرحًا غير مُنضبطٍ؛ فيحدث ما لا تُحمد عُقباه، وإذا هُزم فريقهم حدث لهم من الحزن والبُغْض ما لا يُرضى ولا يُعْقَل!
فعليك أن تخرج من هؤلاء، فهذا علاجٌ في ضبط المُثير، وحتى لو حدث المُثير بشكلٍ مُفاجئٍ نقول: تنسحب، فإذا عرف الإنسان أنه سيتعرض للمُثير السلبي يتَّخذ قرار الابتعاد، وهذا ليس من الضعف، وإنما هذا من القوة؛ لأننا نريد أن نُساعد أنفسنا على ضبط الانفعال.
فإذا حضرتَ مجلسًا، وإذا بهذا الشخص يدخل، فهذا يُسمونه: حصول المُثير المُفاجئ، فعليك بالانسحاب، وليس من الصواب أن تبقى أو تُناقش وتُجادل، وإنما تنسحب، فهذا يُدخلونه أيضًا في ضبط المُثير.
الثالثة: تحديد المعايير الذاتية
ومنها في حالة الغضب أن يقول الإنسان: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وقد يقول الشخص: أنا أعرف هذه الكلمة، لكن مشكلتي أنني أنسى أن أقولها في وقتها.
نقول: حاول، التعلم بالمحاولة والخطأ.
ولا بد أن أضع معايير ذاتيةً، ومنها: أنني إذا رأيتُ فلانًا أنسحب، وإذا غضبتُ وأنا واقفٌ أجلس، وأن أقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وأقوم أتوضأ وأُصلي، وأُصلح نفسي بطريقةٍ معينةٍ، فأُمسك -مثلًا- بورقةٍ وقلمٍ ... إلى آخره.
وإذا رأيتُ شيئًا يُحزنني، فمن خلال الذين يعرفونني أعرف أن عندي مستوًى من الحزن زائدًا، فمن المعايير: أن أقوم وأتسلى بشيءٍ أُحبه، فأُعطي نفسي معايير ذاتيةً، ويمكن أن نسترشد بغيرنا، لكن كل واحدٍ أدرى بنفسه في هذه المعايير الذاتية.
وقد يقول شخصٌ: طيب، كيف أُطبق هذه المعايير؟
فنقول: تغيير الذات عبارةٌ عن مرضٍ نريد أن نُغيره من السلبي إلى الإيجابي، فلا يكون العلاج أن نأخذ كبسولاتٍ علاجيةً وانتهى الأمر، فكبسولاتنا هنا كبسولاتٌ معنويةٌ ومعرفيةٌ وسلوكيةٌ، وليست كبسولاتٍ طبيةً.
والله لو أن هناك كبسولاتٍ طبيةً تُخفف أو تضبط الغضب والخوف لتناولناها كلنا؛ ولذلك من حكمة الله أن جعل العالم المُرتبط بالجانب النفسي غير العالم المُرتبط بالجانب الجسمي والعضوي، مع أن الجسمي والعضوي فيه عالمٌ فسيحٌ؛ ولذلك لا بد أن نُحدد هذه المعايير الذاتية.
الرابعة: تحديد التعليمات الذاتية
ونعني بها هنا الرسائل الإيجابية، فأقول لنفسي: أنا قادرٌ على ضبط نفسي بإذن الله .
وهذه الرسالة أُكررها، وأكتبها، وأقرأها، فهذه تعتبر إيحاءاتٍ إيجابيةً تدفع الحالة السلبية التي ذكرناها في بداية الحلقة.
ومشكلة الناس هي الضعف، وكما قلنا: 77% نظرتهم ورسائلهم سلبيةٌ، فيحتاجون إلى الرسائل الإيجابية، مع معرفتهم بأنفسهم، وإرادة التغيير، والقناعة بالتغيير، وضبط المُثير والابتعاد عنه، وتحديد المعايير المُتعلقة بالواجبات والتكاليف التي ينبغي أن يقوموا بها، وأن يجعلوا لأنفسهم تعليماتٍ من خلال الرسائل الإيجابية، وكل هذا الأصل أنه سيأتي بنتيجةٍ بإذن الله .
الخامسة: التَّسجيل والتَّقييم الذاتي
فالشخص الذي يُمارس الرياضة والمشي يَخِفُّ وزنه، أو يُمارس عادات الأكل السليمة يَخِفُّ وزنه، وهذا سجَّل وقوَّم ذاته ونجح.
لكن يأتي شخصٌ ويقول: والله مارستُ ذلك وما وجدتُ فرقًا.
نقول: حاول وكرر، ونُراجع أنفسنا، فقد يكون التغيير طفيفًا، أو لا يكاد يكون هناك تغييرٌ.
فنقول: قد يكون السبب أنه ما زال في نفس المُثير، فما زال يجتمع بالشباب العصبيين، أو الشباب الذين يُثيرونه، فهذه مشكلةٌ عنده في ضبط المُثير، أو تكون المشكلة عنده في القناعة، وعندئذٍ يحتاج -في الأغلب- إلى تدخلٍ خارجيٍّ بجلساتٍ إرشاديةٍ ومُتابعةٍ، أو تكون المشكلة في أن المعايير التي حددها لم يُطبقها.
وأنا أذكر أننا كنا في اجتماعٍ مرةً من المرات، وكان عبارةً عن نقاشٍ في موضوعٍ إداريٍّ معينٍ، وكانت للموجودين علاقةٌ بهذا الموضوع، وحدث خلافٌ في الرأي، والشخصيات هنا تختلف من حيث الفروق الفردية بين المُتعصب لرأيه الذي ربما يردّ بطريقةٍ غير مُناسبةٍ، فصار هناك لجاجٌ حادٌّ، وهناك واحدٌ رفع يده، وهو من النوع الحسَّاس، لكن عنده قُدرةٌ على ضبط الانفعال، وقد يكون من أصحاب الميل كما في نظرية (هولاند)؛ فأصحاب الميل التقليدي الضبطي عندهم قُدرةٌ جيدةٌ على ضبط الانفعال، وهذا منهم.
فحين تكلم لم يبدأ بأي كلمةٍ، وإنما قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، فأسمعنا هذه الكلمة، وكأنه يقول: لا تنسوا أن تستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، فهي التي تُبرد النقاش الحاد.
والله كأنه رمانا بماءٍ باردٍ يُبرد حرارتنا مما نحن فيه من غضبٍ، وكلٌّ أدرى بنفسه في تلك اللحظة.
ثم بدأ يتحدث بما في نفسه.
وأنا أعرف أن هذا الشخص يحترق من الداخل ربما أكثر من البعض، لكن عنده قُدرةٌ على الضبط أكثر من غيره، فنحتاج إلى أن نكون كذلك في مثل هذه القضايا وما يتعلق بها.
فإذا أنجزنا -فالحمد لله- نُكمل المشوار، وإذا لم نُنجز نُراجع أنفسنا فيما يتعلق بالواجبات والتكاليف والرسائل الإيجابية، وما شابه ذلك، أو المُثير، أو المجتمع، أو البيئة، أو الاندماج بالمجموعة التي تُساعد على ذلك؛ ولذلك يأتي ما يُسمى بالعلاج الجمعي أو الجماعي؛ بأن يكون في مجموعةٍ مُتجانسةٍ يُشجع بعضهم بعضًا، وبعضهم يرى أن يكونوا مُتجانسين فيما هم فيه من الانفعال، وبعضهم يقول: يكونون مُتفاوتين؛ حتى يكون هناك أثرٌ لبعضهم على بعضٍ.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمنَّا ومن الشيطان.
أهمية التَّدرج في هذه الاستراتيجيات
نقول أخيرًا: خذوا هذه الاستراتيجيات وطبِّقوها، ومثل: صاحب السيجارة، فلو أراد أن يترك السيجارة فمن الطبيعي أن يكون هناك تدرجٌ، حتى إن أهل العلم والفتوى يتحدثون عن التَّدرج؛ نظرًا لوجود مادة (النيكوتين) في الجسم، وما يتعلق بذلك، ولا يكون شيئًا مُفاجئًا؛ فتحصل ردَّة فعلٍ وانسحابٌ في الموضوع؛ فيرجع مرةً أخرى، فيكون بالتَّدرج.
ولذلك هناك دراسةٌ عُملت في الأردن -واطلعتُ عليها- تتعلق بأسلوب الضبط الذاتي (self-control) كوسيلةٍ لترك التدخين، ونحن تكلمنا قبل قليلٍ عن الضبط الذاتي كوسيلةٍ لضبط الانفعال.
وهذا التَّدرج جرَّبتُه حقيقةً مع أحد المُدخنين، فبدل شُربه الحبَّة كلها صار يشرب ثلاثة أرباعها، ثم نصفها ويرميها، وبدل شُربه في اليوم -مثلًا- أربعين سيجارةً صار يشرب تسعةً وثلاثين، ثم ثمانية وثلاثين، وهكذا بالتَّدرج.
فنفس الكلام نقوله هنا لصاحبة السؤال السابق: لا تتصورين يا أختي أن هذا الداء الذي أنتِ فيه ستتركينه مرةً واحدةً مثل فلانة، وإنما لا بد من إنجازٍ إيجابيٍّ بالتَّدريج، وهذا الإنجاز الإيجابي يتطلب صبرًا وتحمُّلًا وخطواتٍ.
وليست هذه كل الاستراتيجيات المتعلقة بضبط الانفعال، وإنما هذه استراتيجيات من الاستراتيجيات، وأنا تعمدتُ أن آخذ استراتيجية الضبط الذاتي؛ لأنها من أنفس التجارب والاستراتيجيات التي أراها فاعلةً؛ لأن فيها تفعيلًا للقُدرة وطاقة الإنسان الكامنة؛ لأن مشكلتنا أننا اعتماديون، وإذا كان الذي نعتمد عليه غير موجودٍ أو سافر رجعتْ حليمة إلى عادتها القديمة! وهذه مشكلةٌ، فنحتاج إلى أن نُراجع أنفسنا.
هذا والله تعالى أعلم.
والحمد لله ربِّ العالمين.
الاستماع إلى الأسئلة والرد عليها
الآن يا إخوة سوف أستمع منكم، وستجدون الحسابات في المُحادثة في الشَّات في أول رسالةٍ.
المقدم: نعم موجودةٌ يا دكتور الحسابات.
الضيف: فيمكن للإخوة والأخوات أن يأخذوها عن طريق النَّسخ واللصق، ويستفيدوا منها -إن شاء الله-، تفضل يا أخي.
المقدم: شكر الله لك دكتور خالد.
إثارة غضب مَن أراد إثارة غضبي
أحدهم يسأل: إذا استطاع الشخص أن يضبط انفعاله، فهل من حقِّه أن يُثير مَن أراد إغضابه ويردّ له الصَّاع؟
الضيف: إذا كان الموضوع يتعلق بحقٍّ لك فكما قال الله : لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، وهذا في حالاتٍ معينةٍ من باب أخذ الحقِّ ودون تجاوزٍ؛ لأن تأكيد الذات يتطلب مُراعاة هذا الجانب.
وليس المعنى: أنك ضعيفٌ، ولا تُطالب بحقِّك، وإنما نحن نريد هنا: كيف تستطيع أن تكون قادرًا على ضبط الانفعال؛ حتى لا يُسبب لك مشكلةً، أو يُسبب لغيرك مشكلةً؛ فتتعقد القضية؟
وكل واحدٍ منا عنده نماذج من الغضب وغيره، ونحن نُمثل بالغضب؛ لأنه نموذجٌ واضحٌ، فلحظة الغضب أنت تندم عليها.
وليس معنى أنه يندم عليها ألا يغضب، فلا بد من الغضب، لكن المطلوب ضبط الغضب.
وكنتُ مرةً من المرات في سفينةٍ على البحر، وكانت توجد مجموعةٌ من الناس المُختصين، وبينهم خلافٌ، يعني: كان هناك أناسٌ نفسيون وشرعيون، واثنان منهم -واحدٌ شرعيٌّ والآخر نفسيٌّ- هما اللذان يقودان الخلاف والنقاش، وكلاهما دكتور في التَّخصص، وقد تعوَّدا على الحوارات والنِّقاشات.
ومع شدة الحوار والاعتراض بينهما إلا أن أحدهما كان يتكلم، والآخر كان صامتًا ويشتعل، وكان قادرًا على ضبط انفعاله، فماذا فعل؟
أخرج القلم من جيبه، ولم تكن معه أوراقٌ، فأخذ منديلًا من الطاولة، وقلب المنديل وبدأ يكتب عليه، فأعجبني هذا التصرف، ولا أنساه، ولا أنسى الشخص، ولا أنسى الشخص الآخر، ولا أنسى المكان؛ لأنها مواقف كبيرةٌ حصل فيها ضبط الانفعال بشكلٍ جيدٍ، وهي مهاراتٌ تحتاج فقط إلى تحديد المعايير الذاتية.
وبعض الناس يقول: لا أريد الحوار مع زوجتي، أو أولادي؛ لأنه في الغالب يشتعل الموقف.
فنقول: لا بد أن نتعود على مهارات الحوار، ومن ذلك: خُذْ ورقةً وقلمًا، ومهما سمعتَ من كلامٍ لا ترضاه سجِّله، وهذا تفريغٌ للشحنات المعنوية، ويمكن أيضًا أن تتفرغ مباشرةً في هذه الورقة، ثم بعد ذلك تكون عنده إجادةٌ في الكلام.
ولا بد ألا ننسى ذكر الإيجابيات، والرسول يقول: لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخر أو قال: غيره[14]أخرجه مسلم (1469).، فانظر منها إلى خُلُقٍ آخر، ففيها الكثير من الأخلاق الحسنة.
وهذا الجو هو الذي يمكن من خلاله ضبط الانفعال، وعندئذٍ نستطيع أن نتعامل مع الخلافات بطريقةٍ صحيحةٍ، وليست القضية مَن المُنتصر؟ والتَّمحور حول الذات، وكل واحدٍ يقول: أنا، فالذي يعترف بأنه المُخطئ والمُقصر -حتى لو كان مُنفعلًا- هو القادر على أن يتعدل ويتغير؛ لأنه هو الصريح مع نفسه، فهؤلاء هم الإيجابيون، وهم الذين سيتقدمون بإذن الله .
المقدم: إحداهن تقول: لممارسة هذا الموضوع من المهم عدم الدخول في جدالٍ عقيمٍ، وهذه من أهم الاستراتيجيات التي نفعتْ معي.
الضيف: جميلٌ يا أخت سارة.
أثر كتم الغضب على النفس
المقدم: الأخت هاجر تسأل: هل كتم الغضب له أثرٌ على النفس؟
الضيف: لا شكَّ، فهذه النفس الطرية يحصل لها أثرٌ في هذا الجانب، لكن هذه القضايا تراكُميةٌ، فقد يقول شخصٌ: أنا عندما أُفرغ غضبي أحسُّ بالراحة والهدوء.
طيب، نحن نقول: افعل شيئًا، خُذ الورقة والقلم وتشاغل وستهدأ.
وأذكر أنني كنتُ ذات مرةٍ في السيارة عند إشارة سكة حديد، وحصل معي هجومٌ قويٌّ لأفكار سبّبت لدي انفعالًا وضيقًا، ووجدتُ أن مزاجي تغير، وأنا وحدي في السيارة، فماذا فعلتُ؟
أخذتُ ورقةً من اللاصق الأصفر الذي كان موجودًا في السيارة، وفرغتُ ما في ذهني، وجعلتُه في الورقة، وكأني أخرجتُ حملًا ثقيلًا وجبلًا شامخًا كان فوق رأسي في هذه الورقة، وجلستُ بعد ذلك ساعةً ونصفًا، ولم أَعُدْ للموضوع، وكأن الشخصية التي كانت قبل قليلٍ أو النفسية صارت شيئًا آخر.
فلا بد من التَّمرس على مثل هذه المهارات حتى يستطيع الإنسان أن يُفرغ هذه الطاقة والجُهْد؛ ولذلك قلتُ قبل قليلٍ: لا بد من الذهاب إلى شيءٍ يُحبه، وكان النبي إذا حزبه أمرٌ صلى[15]أخرجه أحمد (23299)، وأبو داود (1319)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703)..
فمَن منا يُطبق هذا الكلام فيفزع إلى الصلاة، ويقوم ويتوضأ ويُصلي؟
قد يقول أحدٌ: أنا أريد ذلك لكنها ثقيلةٌ.
مَن قال لك: إنها ثقيلةٌ؟
السبب فقط أنك غير مُتعودٍ عليها، وكل شيءٍ غير متعودٍ عليه ثقيلٌ، حتى السيارة، فكل واحدٍ منا يقود سيارةً، ويعرف أنه لم يكن كذلك في البداية، فقد كان الأمر ثقيلًا جدًّا، وكان خائفًا، فذهب الخوف والهيبة والتوتر، وأصبح الأمر عاديًّا، فالأمر بالدُّرْبَة.
يقول ابن خلدون في "مقدمته": "والمَلَكَة صفةٌ راسخةٌ تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرةً بعد أخرى حتى ترسخ صورته، وعلى نسبة الأصل تكون المَلَكَة، ونقل المُعاينة أَوْعَب وأتمُّ من نقل الخبر والعلم، فالمَلَكَة الحاصلة عنه أكمل وأرسخ من المَلَكَة الحاصلة عن الخبر"[16]"مقدمة ابن خلدون" (2/ 90).، يعني: أن الممارسة هي التي توجد المَلَكَة، ويُصبح الإنسان عنده قُدرةٌ ومَلَكَةٌ في هذا الأمر.
والذين يُحققون لأنفسهم مَلَكَات من خلال الاكتساب هؤلاء هم الأبطال الذين فعلًا أنجزوا في هذه الحياة، وأما الذي يريدها مُقشرةً وجاهزةً، ويظن نفسه أنه يُحْسِن صنعًا، فلن يستطيع أن يُحقق الذي يريد.
المُثير لا يمكن تغييره فما العمل؟
المقدم: دكتور، إحداهن تسأل: إذا كان المُثير لا يمكن تغييره فما العمل؟
وذكرتْ مثالًا: أن ردَّة فعل الناس بطريقةٍ ما تُثير الغضب عندي، فكيف أُغير هذا خاصةً مع المُقربين، سواءٌ كان الزوج، أو الوالدين، أو غيرهم؟
الضيف: على أية حالٍ، ليس الابتعاد عن المُثير شرطًا في الحلِّ، ففي بعض الحالات قد يكون الأمر صعبًا، لكن يبتعد ويُقلل من الاحتكاك قدر المُستطاع، ويدخل الإنسان أيضًا في جانبٍ تطويريٍّ لقضية التَّحمل، ومحاولة استعمال المعايير الذاتية، وإشغال النفس، وما شابه ذلك؛ لأن عندنا هامشًا فيما نقوم به، ونحن في الإنجاز أو في العلاجات الإيجابية نأتي بالأشياء المُعقدة جدًّا، والله يقول: وَقُلِ اعْمَلُوا [التوبة:105]، فعلينا العمل والبذل فقط، وفي الحديث: فليَسْتَعِذْ بالله وليَنْتَهِ[17]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، فيتعوذ بالله وينتهي من هذه القضايا التي تُعيقه؛ ولذلك يقول الرسول : اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجُبن، وضلع الدين وغلبة الرجال[18]أخرجه البخاري (2893)..
فهذه كلها مع أنها غير مستويةٍ، فليس العجز والكسل مثل بعضٍ؛ فالعاجز معذورٌ شرعًا، ومع ذلك الرسول جعله مع الكسل بالنظر للمآلات؛ لأنه يحجب عما يُراد فعله؛ ولذلك يقول الرسول : احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز[19]أخرجه مسلم (2664).، فلكي يكون عندك إنتاجٌ في اللحظة الحاضرة لا بد أن تستثمر هذه اللحظة الحاضرة.
وأما مَن يظل في الهمِّ من المستقبل، والحزن على الماضي، وتضيع اللحظة الحاضرة؛ فليس هذا شخصيةً إيجابيةً.
والبعض يقول: أنا لا أقدر على ضبط المُثير، وهو موجودٌ أمامي.
طيب، ما الحل؟
هل يبقى الإنسان على حالته السلبية؟
المطلوب أن يُوطن الإنسان نفسه؛ ولذلك في الحياة أيضًا حتى نعيش حياةً سليمةً يقولون: لا بد أن تفترض أسوأ الاحتمالات، وهو: أن هذا الذي أمامك لن يتعدل، لكن -كما قلتُ- مع بذل الجهد: إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وهذا من بذل الوسع، وغالبًا نحن لا نبذل الوسع، وتكون عندنا هوامش لم نفعلها، وطاقات لم نَقُم بها.
أُعطيكم مثالًا: من الناس -وهم ليسوا قليلين- مَن لا يُحبون القراءة، ولا يستثمرون أوقاتهم في القراءة، أو يقول أحدهم: القراءة عندي ذات جهدٍ ومُتعبةٌ، فلا تقل لي: مسابقة، أو قراءة كتابٍ ... إلى آخره، ما تربينا على ذلك.
وهذا إذا كان عنده اختبارٌ لأجل الوظيفة، أو اختبارٌ في الجامعة، أو أي مكانٍ.
المقصود أن عنده محكًّا مُعينًا يلزم منه قراءة ثلاثمئة صفحة، سيقرأها.
وهذا الذي قلناه قبل قليلٍ وهو الطاقة الكامنة الموجودة، فقط جاء المُثير، وهنا المُثير إلزاميٌّ، وليس اختياريًّا، ونحن نريد أن نجعل القضية اختياريةً وعادةً وسلوكًا.
ولذلك أقول: لا تضعوا عقباتٍ أبدًا، وإنما تكيَّفوا مع القضية، فلا تأتي امرأةٌ وتقول: أنا أطلب الخلع. أو الزوج يقول: أنا سأُطلق. والسبب أنهم لا يمكن أن ينسجموا.
يا أخي، لا يمكن أن تنسجموا 100%، يكفي 80% أو 60%، والرسول قال: لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً[20]سبق تخريجه.، وهذا الكلام ليس فقط للرجل، حتى المرأة، وليس فقط للزوجين، وإنما أيضًا في العلاقات الإنسانية كما قال شُراح الحديث، وذكر هذا الشيخ السعدي في شرحه لهذا الحديث حيث قال: إن من فوائد الحديث: "الإرشاد إلى مُعاملة الزوجة والقريب والصاحب والمُعامل، وكل مَن بينك وبينه علاقةٌ واتصالٌ، وأنه ينبغي أن تُوطن نفسك على أنه لا بد أن يكون فيه عيبٌ أو نقصٌ أو أمرٌ تكرهه، فإذا وجدتَ ذلك فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك أو ينبغي لك من قوة الاتصال والإبقاء على المحبة بتذكر ما فيه من المحاسن والمقاصد الخاصة والعامة، وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن تدوم الصُّحبة والاتصال، وتتم الراحة وتحصل لك"[21]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" لعبدالرحمن بن ناصر السعدي (ص28)..
وهذا معناه: أنه لا بد من التَّكيف وتوطين النفس على هذه القضية، لا الاستسلام، ولا المثالية غير الواقعية، والله تعالى أعلم.
المقصود بالرسائل الإيجابية
المقدم: أحدهم يسأل عن الرسائل الإيجابية التي ذكرتَها في العرض، ما المقصود بها؟
الضيف: أن أضع رسالةً إيجابيةً لتُساعدني في ضبط الانفعال؛ لأن الإيحاءات النفسية السلبية -التي منها: أنا لا أستطيع أن أُغير، أنا غَضُوبٌ- مؤثرةٌ جدًّا، فأقول: أنا قادرٌ على أن أضبط غضبي وأكون حليمًا بعونٍ من الله.
ولو تُكتب وتُوضع على سطح الجوال أو سطح (الكمبيوتر)، أو عند السرير، ويُكررها ويكتبها؛ سيكون لها أثرها.
ونحن جرَّبنا هذا الكلام، وهذا جزءٌ من العلاج في بعض المدارس النفسية، وهو مُفيدٌ ونافعٌ، والله تعالى أعلم.
وأذكر واحدًا كان عنده خجلٌ اجتماعيٌّ، ووصل إلى مستوى أكبر من الخجل الاجتماعي، ربما دخل في الرهاب، وأعطيتُه مجموعةً من التكاليف أو الأساليب العلاجية من خلال الجلسات الإرشادية، وكان طالبًا عندنا في الكلية.
الحاصل أنه قال: أفضل علاجٍ رأيتُه أثَّر فيَّ هو الرسائل الإيجابية؛ لأنه كان يشعر أنه رجلٌ خجولٌ، ولا يستطيع المُواجهة.
وأذكر أنني قلتُ له: أريد العبارات التي كتبتَها. فأحضر أوراقًا، وبدأ يُلقي أمامي ما فيها، وكنتُ معه في المكتب، وهذا الخجل له علاقةٌ بالانفعال.
فالمقصود أنه أول ما دخل لاحظتُ عليه الخجل وضربات القلب والانتفاضة، وهذا طبيعيٌّ جدًّا من آثار الخجل أو الرهاب، فقلتُ له بعد أن قرأ عليَّ ما بين يديه: أحسنتَ، ما شاء الله عليك! قال: أنت تُجاملني. قلتُ له: كيف أُجاملك؟ قال: أنت لم تفهمني. قلتُ: أنا أعرف بنفسي، والله أنا فهمتُك، والله إني أقول الحقَّ.
فكانت الرسائل السلبية عنده تجعله يرى أن الناس ينظرون إليه سلبيًّا، وأنهم لم يفهموه، فأعطيناه عبارةً عكس هذه الإيحاءات السلبية، فمشى عليها، وكان يُكررها في اليوم ثلاثين مرةً أو أربعين، ويكتبها، ويعيش معها، فكان يقول لي: هذه من أقوى الأشياء التي خَفَّفتْ عندي الخجل الاجتماعي، والله أعلم.
المقدم: هذه أبرز الأسئلة التي طُرحتْ.
الضيف: كتب الله أجرك يا أخي، وبارك الله فيك، وشكر الله لك ولمَن معك، وسعيدٌ بك وبجميع الحضور، وأسأل الله أن يُلهمنا رُشْدنا، ويقينا شرَّ أنفسنا، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والشكر لله أولًا، ثم لكم.
وأسأل الله أن يُوفقنا وإياكم لمرضاته، وجزاكم الله خيرًا جميعًا.
المقدم: وإياك يا دكتور.
ونحن في مركز "صناعة القيم" نشكر فضيلة الشيخ الدكتور: خالد بن أحمد السعدي على طرحه المُتميز الذي يُفيد الأُسَر والبيوت في التغير للأفضل والأصلح بإذن الله تعالى.
وشكرًا من القلب للحضور الكرام على التفاعل الفعَّال والمُشاركة معنا في برامجنا، ونراكم -بإذن الله- في لقاءاتٍ قادمةٍ مُنوعةٍ ومُميزةٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه البخاري (5465)، ومسلم (558). |
---|---|
↑2 | أخرجه الترمذي (1997)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3395)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (178). |
↑3 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |
↑4 | أخرجه البخاري (6116). |
↑5 | أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315). |
↑6 | أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658). |
↑7 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2328). |
↑8 | أخرجه أبو داود (5225)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5313)، وحسنه الألباني. |
↑9 | "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (7/ 368). |
↑10 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |
↑11 | أخرجه البخاري (6116). |
↑12 | أخرج الحميدي في "مسنده" (260) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيتُ رسول الله مُنتصرًا من مظلمةٍ ظُلمها قط ما لم تُنْتَهك محارم الله، فإذا انتُهك من محارم الله شيءٌ كان أشدَّهم في ذلك غضبًا"، والحديث في الصحيحين بنحو هذا اللفظ: أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2328). |
↑13 | أخرج مسلم (49) من حديث أبي سعيدٍ الخدري : أن النبي قال: مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. |
↑14 | أخرجه مسلم (1469). |
↑15 | أخرجه أحمد (23299)، وأبو داود (1319)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703). |
↑16 | "مقدمة ابن خلدون" (2/ 90). |
↑17 | أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134). |
↑18 | أخرجه البخاري (2893). |
↑19 | أخرجه مسلم (2664). |
↑20 | سبق تخريجه. |
↑21 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" لعبدالرحمن بن ناصر السعدي (ص28). |