ذكر ابن الجوزي، رحمه الله، صاحب المُؤلفات العظيمة، والعالم المُربي، في كتابه الرائع "صيد الخاطر" كلامًا يقول فيه: "ولقيتُ عبدالوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف، لم تُسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى واتَّصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد، وكان على سَمْت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل... -ثم يقول- ولقيتُ الشيخ أبا منصور الجَوَالِيقي، فكان كثير الصَّمْت، شديد التَّحري فيما يقول، مُتْقِنًا، مُحقِّقًا، وربما سُئل المسألة الظاهرة التي يُبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت؛ فانتفعتُ برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمتُ من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول. ورأيتُ مشايخ كانت لهم خلواتٌ في انبساطٍ ومزاحٍ، فراحوا عن القلوب، وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم، فَقَلَّ الانتفاع بهم في حياتهم، ونُسُوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحدٌ أن يلتفت إلى مُصنفاتهم! فالله الله في العلم بالعمل، فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين مَن ضاع عمره في علمٍ لم يعمل به؛ ففاتته لذَّات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مُفْلِسًا مع قوة الحُجَّة عليه"[1]"صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص147، 148)..
فابن الجوزي يذكر كيف كان لهؤلاء العلماء أثرٌ عليه، وكيف أن هذا الأثر بقي عنده إلى أن كَبُر؛ وهذا بسبب أنهم كانوا قدوات حقيقية! فالقدوة ليست محاضراتٍ ومدخلاتٍ ونظرياتٍ فقط، وليست توجيهاتٍ وأقوالًا، وإنما القدوة رصيدٌ من العمل والتطبيق.
ونحن بأَمَسِّ الحاجة إلى ذلك في علاقتنا مع الله، ومع الناس، ومع المجتمع، فأين هذه القدوة في بيوتنا؟ وأين هي في إعلامنا؟ وأين هي في مدارسنا وتعليمنا؟ وأين هي في مساجدنا؟ وأين هذه القدوة في المجتمع والشارع وغير ذلك؟
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "إن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول"، وهذا هو معنى التربية بالقدوة![2]التربية بالقدوة (حائل)..
↑1 | "صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص147، 148). |
---|---|
↑2 | التربية بالقدوة (حائل). |