المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في حلقة جديدة من برنامجكم الأسبوعي المباشر: "أسس التربية".
التربية الإسلامية نظام متكامل
وما زلنا في مقدمات فيما يتعلق بموضوع التربية، وسبقت الإشارة في الحلقة السابقة إلى أن التربية الإسلامية كمفهوم هو عبارة عن نظام، وهو ليس مقررًا دراسيًّا وإن كان مهمًّا أن يكون هناك مقرر دراسي، وليس تاريخًا وإن كان مهم أن يكون تاريخًا، وليس فكرًا فقط، وإن كان لا بد أن يكون دراسة لفكر العلماء المتعلقة بالتربية الإسلامية.
لكنه نظام حياة وأسرة فهو مهم جدًّا؛ لذلك ينبغي أن نبحث عن هذا النظام: هل هو موجود في مجتمعاتنا؟ وهل هو موجود في التعليم؟ في نظام التعليم؟ وهل هو موجود في نظام التربية الأسرية؟ وهل هو موجود في نظام العلاقات؟ هذه قضية مهمة جدًّا فينبغي العناية بها.
لذلك هو نظام تربوي جاء به الإسلام، يحمل هذا النظام تغييرًا ثقافيًّا واجتماعيًّا ليس فقط للمسلمين بل لكافة البشرية، يريد هذا النظام التربوي أن يعيد صياغة الإنسان.
فلو أخذنا مثالًا: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كيف كان في الجاهلية، ثم كيف أصبح في الإسلام؟! وقد قال النبي : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا [1]أخرجه البخاري (3383)، ومسلم (2378)..
فالإنسان نفس الإنسان، عمر رضي الله عنه وأرضاه، عمر في الجاهلية هو نفس عمر في الإسلام من حيث الاسم والكيان الجسدي، ولكن تغيرات ذرات النفس البشرية، تركيبة النفس البشرية، بسبب دخوله في الإسلام من خلال منظومة القيم والمبادئ، وجود هذا النظام والكيان الذي يجعل هذه الشخصية متربية في المنظومة الإسلامية.
فالتربية الإسلامية والنظام الإسلامي تربية شاملة قائمة في كل جانب من جوانب الحياة، ومنبثقة من الإسلام، هذا باختصار شديد جدًّا.
ولهذا أمثلة كثيرة جدًّا، ذكرت عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان واضحًا أمره في الجاهلية وشدته على الإسلام في الجاهلية، ثم كيف أصبح بعد ذلك؟! وإلا ففي كل حياتنا نماذج كثيرة، فننظر مثلًا في قضية الذين كانوا في ضلالة من المسلمين، ثم أصبحوا في هداية، والكفار الذين كانوا على ضلالهم في الكفر ثم أصبحوا مسلمين بدخولهم للإسلام، الذي تغير معه نظام حياتهم، وتغير نظام التفكير، ونظام المشاعر، وتغيرت أنظمة السلوكيات في هذه الحياة.
فيجب العناية بهذا النظام التربوي المتكامل، ونسأل أنفسنا: هل هذه الأنظمة الموجودة التربوية هي واحدة؟ وتطرقنا لهذه القضية في المقارنات، كنظام تربوي متكامل لا نجده إلا في نظام رب العالمين سبحانه ، النظام التربوي الإسلامي، الأنظمة الأخرى تصيب وتخطئ، تقترب وتبتعد، عندها إيجابيات وعندها ضلالات؛ لأنها بشرية، أما المنهج الإسلامي التربوي فهو نظام رباني: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، لذلك كانت تربية النبي لأصحابه قائمة على هذا الأساس وهذا النظام.
وهذا مصعب بن عمير كان في عيشة مترفة، ثم كان على حالة من الفقر وترك الترف بعد الإسلام، وحين وداعه في الحياة بالصورة التي حزن عليه النبي حين كان يكفنه فإن غطى رأسه بدت رجلاه وإن غطى رجلاه بدا رأسه[2]أخرجه البخاري (1275 و 1276 و4045 و4047)، ومسلم (940).، فحزن النبي لهذا وإن كان على جهاد وشهادة في سبيل الله .
فما الذي غير مصعب ؟
الاهتمامات التي كانت موجودة من قبل ومرتبطة بالقضايا الدنيوية ومتع الحياة والملاذ والأكل والعطر والنساء وما شابه ذلك، أصبحت قضية أخرى بعد ذلك، بسبب ذلك النظام الذي اختلج في القلوب، ذلك الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب.
وهرقل في النقاش الذي حصل بينه وبين أبي سفيان (قبل إسلامه) فيما يتعلق بموقف النبي وأين موقعه منهم ولما سأل: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ قالوا: لا، وأكثر الذين يتبعونه الضعفاء، ليسوا الأغنياء المترفين، فقال: "ذاك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب"[3]أخرجه البخاري (4553)، ومسلم (1773)..
فحينما تخالط بشاشةُ الإيمانِ القلوبَ تتغير هذه الشخصية؛ لأنه يصبح هناك أولويات واهتمامات أهم مما كان عليه الإنسان في جاهليته أو في ضلالاته، كان في دائرة الدنيا، أصبح الآن في دائرة أعظم من ذلك ألا وهي دائرة الآخرة، كان في نظام دنيوي قائم على متع الحياة أيًّا كانت حلالًا أو حرامًا، فأصبح في نظام أخروي: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].
إذن الهدف الأساسي هو الدار الآخرة، والدنيا نأخذ منها ما نحتاج إليه؛ فهي مزرعة الآخرة، ولذلك هنا الفرق بين الأنظمة البشرية المادية وبين النظام الإسلامي التربوي، فالدنيا مزرعة الآخرة، والأساس هو العمل للآخرة، الأنظمة البشرية هو العمل لأجل الدنيا.
فنحن في أمس الحاجة أن تسلك هذه المسالك التربوية كما كان النبي يربي أصحابه عليه الصلاة والسلام في مجالات حياتهم، لا من حيث الاهتمامات، التفكير يصبح مرتبطًا بما يحبه الله، لا بما تحبه النفس: من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله -حتى ولو كان غنيًّا- ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له [4]أخرجه الترمذي (2465)، وابن ماجه (4105)، وأحمد في المسند (21590)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة … Continue reading.
لأن التفكير هنا اختلف، الإطار اختلف بسبب وجود هذا النظام، إما نظام إسلامي متكامل، أو نظام بشري ملخبط مضطرب أيًّا كان، أو ديني منحرف شهواني، وما شابه ذلك، فنحن في أمس الحاجة إلى إدراك مثل هذه القضايا، المشاعر والاتجاهات والقيم وكما قلنا: فرق بين القيم النسبية والقيم الثابتة، النظام الإسلامي يدعو إلى القيم الثابتة، بينما الأنظمة الأخرى لديها قيم نسبية، وإن كان قد يحصل في بعض الأحيان أن تكون هناك بعض الأخلاقيات يتفق عليها العقلاء حتى من غير المسلمين على هذه القضايا.
وهناك الحركة التي جاءت في منظومة المنهج التربوي الغربي في الدعوة إلى قضية الأخلاق، كما أتى بها جون ديوي وإن كان من العدل أن نقول في حق علمائنا المسلمين: إن جون ديوي تأثر بالحضارة الإسلامية من خلال أطروحات ابن خلدون في "مقدمته"، ومن خلال تلاقح الثقافات يستفيد الأعداء من المسلمين، وكذلك حينما يكون العقل موجودًا فربما تكون الفائدة أكبر وأكبر، وهكذا المسلمون يستفيدون في بعض الإجراءات والوسائل من غير المسلمين.
إذن أصبحت القضية المتعلقة بالتربية الإسلامية ليست مرتبطة بقضية بحث ودراسة، وتاريخ، وفكر، ومقرر دراسي، وإنما هي نظام تربوي ينبثق من الكتاب والسنة، له هدف سامٍ في تنشئة هذا الإنسان وتوجيهه ورعاية نموه على ما يحبه الله وبناء سلوكه وإعداده لحياتي الدنيا والآخرة.
وهذه القضية التي يفترض أو نفترض نحن أو يفترض المربون قبل ذلك ما أوجبه الله ، الدور المطلوب من الآباء، الدور الواجب عليهم في مسؤوليتهم أمام أبنائهم، وكذلك المجتمع، في مسؤوليتهم أمام الأجيال فيما يرتبط بمثل هذا النظام.
في حياتنا قانون
دعونا نتكلم على قضية في هذه الحياة الدنيا، فيها أنظمة مدنية، وفيها أنظمة مرتبطة بأنظمة المرور، بأنظمة الحياة المجتمعية، إلى آخره، فيها مصالح أقرتها الشريعة، ولكن أين مثل هذه الأنظمة بالذات في البيئات غير المقصودة كما يقال في التربية! بمعنى آخر ليست بيئات تعليمية في المدارس ولا في الجامعات، وإنما بيئات نشأ فيها الإنسان في الأسرة والوظائف في الشارع، إلى آخره.
أين هذا النظام في الإعلام؟ أين هذا النظام التربوي في مثل هذه المحاضن؟ بل أين النظام التربوي في المحاضن التعليمية؟ سؤال كبير، هل القضية موجودة أو ليست موجودة؟ هل هي قوية أم ضعيفة؟ سؤال لا بد منه.
وأعجبني الدكتور خالد المنيف في مقالة له جميلة أدعو لقراءتها والاهتمام والعناية بها وهي بعنوان: "في بيتنا قانون"، فهو يتكلم أن الحضارة، واقعنا المعيشي والمدني اليوم، فيه أنظمة، لا يمكن أن تسلك الحياة إلا بهذه الأنظمة، هل بيوتنا فيها نظام؟ وحتى بعض البيئات غير المسلمة تضع في بالها نظامًا؛ يسلك الإنسان في هذه الحياة مسلكًا إيجابيًّا، يحققون شيئًا إيجابيًّا حتى في هدفهم الدنيوي، فما بالك حينما نأخذ القضية -كما قلنا- بنظام متكامل شامل كما أتى به الإسلام لخيري الدنيا والآخرة، فلا بد لنا من نظام وقوانين في بيوتنا، وإلا ستسير الأمور على غير ما نريد.
وتأتينا أسئلة واستفسارات كثيرة جدًّا عن قضية التقنية مثلًا، وهذه القضية سيكون لها مجال آخر في وقت من أوقات هذه السلسلة؛ نظرًا لعدم وجود نظام مبكر في الأسرة، يكون هذا النظام هو موجه إيجابي للجيل داخل الأسرة، ستصبح القضية صعبة جدًّا؛ فينبغي العلاج.
إذن لا بد لنا من نظام، فلو كان فيه نظام نشأ عليه الطفل في التعامل مع التقنية، سيكون هذا النظام مساعدًا، والنظام الذي نحن نقصده هو نظام منبثق من الإسلام؛ لأن الإسلام يحفظ المصالح، الشيء الإيجابي عند الغرب الأصل أن الإسلام يدعو إليه؛ لأن الإسلام جاء لتحقيق المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، تحقيق المصالح أو تكثيرها إذا كان لا يمكن أن تحقق كلها، ودرء المفاسد أو تقليلها إذا كان لا نستطيع أن ندرأ المفاسد كلها، فنحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه الأنظمة.
معنا الأخت أم عبدالرحمن من المغرب.
المتصلة: السلام عليكم.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصلة: الله يجزيكم الخير، أنا عندي سؤال: الحمد لله في أيام المراهقة وفي الأول استقمت وارتديت النقاب والخمار، لكن الآن حصلت لي انتكاسة في الدين، ونفسي ما أحس أني مرتاحة، دائمًا أحس بضغوطات يعني ممكن حتى الصلاة، يعني إذا ما صليت الصبح ما أحب أصلي الصلوات كلها، فكيف أربي نفسي على العبادة؟
كيف أجعل نفسي في الصلاة وأحبها؟ والفتور: لا يوجد حل لهذه المشكلة، حتى مرات أصلي وأقول: يا رب أنت ما تقبلت مني...
الشيخ: طيب.. كيف نربي أنفسنا على العبادة؟
***
ضيفنا الكريم في هذه الحلقة أستاذنا الأستاذ الدكتور: سعد الشدوخي، لعله جزاه الله خيرًا يشاركنا، وهو أستاذ في أصول التربية، جامعة الإمام سابقًا، وتتلمذنا على يده.
أهلا بك يا دكتور سعد ومرحبًا بك الله يحفظك
المتصل: حياك الله يا دكتور أهلًا وسهلًا، الله يحييك ويبارك فيك.
الشيخ: يا مرحبًا، جزاك الله خيرًا.
ونحن في بدايات السلسلة حول: "أسس التربية" نناقش المصطلح والمفهوم وبعض القضايا فلعلنا نستفيد منكم حول سؤالين: السؤال الأول حول رؤية الدكتور سعد الشدوخي وما يتعلق بمفهوم التربية بارك الله فيك؟
المتصل: الله يسلمك، التربية أولًا في معناها اللغوي تأخذ من المعاني جذورها اللغوية فهي تتضمن معاني النمو والزيادة، ولو تأملنا في آيات كثيرة في القرآن الكريم ورد فيها ذكر الكلمات ذات علاقة بالتربية مثل: ربى، ويربو، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على معاني النمو والزيادة.
وكذلك في معناها الاصطلاحي تتضمن معنى النمو والزيادة.
ويمكن تعريف التربية: بأنها عملية يحصل بها الانتقال بالفرد أو المجتمع من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه.
الشيخ: المثل الأعلى يا دكتور سعد ممكن تطبيقه؟
المتصل: مرة أخرى لو عُدت للتعريف نفسه: انتقال بالفرد من الواقع الذي هو عليه يعني الحالة التي هو عليها وقت تلقيه للتربية إلى المثل الأعلى يعني الصورة المثلى التي يراد أن يوصل به إليها، فعملية الانتقال لا تعني بالضرورة أنه يصل في كل الجوانب إلى صورة المثل الأعلى بأعلى مستوياته ولكن عملية التحول هذه في كل مراحلها: عملية التربية.
التربية هي هذه العملية التي يتم بها التحول، فكل ما يكتسبه الشخص في هذه العملية مما يقربه إلى الصورة الأمثل التي ينبغي أن يكون عليها هو المقصود، فهي عملية تحول، عملية انتقال، عملية تغيير.
الشيخ: جميل، ممكن نقول دكتور سعد: كل على حسبه، يعني أنا ما يمكن أن أصل إليه غير الأخ الذي يمكن أن يصل إليه، فكلما سعت التربية إلى أنني أحقق المستوى بالنسبة لي في جوانب عديدة، وهكذا الآخر مع التفاوت بيننا؛ تكون التربية قد حققت مرادها عندي أو في الآخر؟ هكذا؟
المتصل: مرة أخرى في التعريف الذي أشرت إليه، أشرت إلى أنها هي عملية تغير، هذا التغير يتضمن معنى القصد والهدف بمعنى أنه شيء مقصود يسعى المربي إلى تحقيقه؛ فهو يختلف عن التغييرات العفوية التي يمكن أن تحصل نتيجة لتفاعلهم مع الحياة بشكل عفوي، وإنما التربية عملية مقصودة، ثم هي تضع في الحسبان واقع الإنسان الذي هو عليه، فالواقع يختلف من شخص إلى آخر.
فمثلًا لو نظرنا لها فيما يتعلق بنمو الإنسان المعرفي: ما يمكن أن يتعلمه في سياق التربية والتعليم، واحد يعرف أشياء كثيرة، وواحد يعرف أشياء قليلة، لكن كل واحد له واقعه هو، فواقعه هو يتضمن تحديد مسافة بينه وبين الصورة المثلى التي يريد المربي أن ينقله إليها.
فبعض الناس تكون المسافة بينه وبين الصورة المثلى التي يُراد الوصول إليها أقل مما تكون المسافة بينه وبين شخص آخر، بين حال وواقع شخص آخر، والصورة المثلى التي يُراد أن يوصل به إليها، ولذلك حسب واقع الشخص وحسب موقعه من الهدف الذي يراد أن يوصل إليه من الصورة المثلى التي يراد تحقيقها فيه.
الإنسان مخلوق متغير متأثر
الشيخ: فهل ممكن دكتور سعد مع الكلام الجميل نقول: إن عدم وجود التغير وبقاء الإنسان كما هو -أو ناهيك بأن يكون الأمر عكسي- أن هذا مؤشر على أنه لم يتلق التربية، أو لم يتأثر بالتربية، أو لم يعرض نفسه على التربية؟ هل ممكن نقول: بأنه لم تكن فرصه له في الجانب التربوي؟
المتصل: أولًا: مسألة أن الإنسان يبقى على حال واحدة بشكل مستمر: هذا غير متصور، وإنما الإنسان بطبيعته كما خلقه الله وفطره وطبعه عليه هو شخص مخلوق متأثر بالبيئة والمحيط، ويتفاعل مع من حوله وما يتلقاه سواء من معارف أو معلومات اكتسبها بالتعليم، أو اكتسبها بالمعايشة، أو بغير ذلك من الجوانب.
فالإنسان بصورة عامة بطبيعته من حيث هو إنسان: مخلوق متغير متأثر بالبيئة والمحيط، لكن هذا التغير هل هو مقصود ومراد؟ وهل هو بالاتجاه الأمثل أم لا؟ فإن كان بالاتجاه الأمثل ومقصودًا ومرتبًا وغير ذلك فهذه هي التربية التي نتحدث عنها، وإن كان لا، أو لا يتم بشكل عفوي وغير مقصود وغير ذلك، إن كان حسنًا؛ فله تسميات أخرى، وإن كان غير ذلك فأيضًا هو يدخل في تصريفات أخرى.
لكن صعب تصور حالة للإنسان يكون فيها فيبقى لا يتأثر ولا يتغير ولا شيء، هو يتغير بشكل مستمر، لكن التغير هذا هل يكون باتجاه حسن أم لا؟ وهل يستفيد من وقته ومن تفاعله مع الأشياء والأحياء من حوله؟ وهل يكتسب معارف جديدة تؤثر على ترتيب شخصيته؟ سواء في جوانبه الوجدانية، أو جوانبه الفكرية والعقلية، أو في جوانبه الاجتماعية، أو في علاقته بالله أو في علاقته بالناس أو في علاقته بنفسه، أو ما إلى ذلك من الجوانب، هل يكتسب ما ينمو به ويحقق فيه النمو والزيادة المتضمنة بمعنى التربية أم لا؟
فإن كان لا يكتسب فلا شك أنه فات عليه شيء كثير.
الشيخ: جزاك الله خيرًا دكتور سعد، سؤال أخير الله يحفظك باختصار شديد، ونحن مستمتعون معك بارك الله فيك على هذه المداخلة: نظرتك يا دكتور ورؤيتك فيما يرتبط بأهمية هذه التربية في ظل المتغيرات المعاصرة؟
أهمية التربية في ظل المتغيرات المعاصرة
المتصل: لعلي أشرت قبل قليل أنه لا نتصور حالة إنسان ثابتة ولا تتغير، ثم مع استصحاب هذه الصفة التي ذكرتها قبل قليل، والتي قلت: إن الإنسان بطبيعته متفاعل مع الأحياء والأشياء من حوله وهو يؤثر ويتأثر بما حوله.
أقول: مع استصحاب هذا الجانب من طبيعة الإنسان، ومع استصحاب طبيعة العصر الذي نعيش فيه، والذي كثرت فيه العوامل المؤثرة في الإنسان من كل جانب، سواء تلك التي تؤثر في مشاعره ووجدانه، أو تلك التي تؤثر في تفكيره، أو تلك التي تؤثر في سلوكه أو غير ذلك من جوانب التأثير، سواء منها ما هو راجع لمعطيات العولمة التي نعيشها الآن بأشكالها المختلفة سواء من خلال التقنية أومن خلال التواصلات الثقافية المتعددة إلى غير ذلك من الأشياء.
فالإنسان الآن محل تأثر وتأثير كبير جدًّا في مثل هذا الظرف، هذا وإذا استصحبنا الطبيعة التي أشرت إليها من قبل أن الإنسان بطبيعته متغير ومتأثر فتكون الحاجة إلى التربية أشد منها في أي وقت مضى مع استمرار حاجتها في جميع الأوقات.
فالوقت الحاضر تزداد فيه أهمية التربية المقصودة الموجّهة التي تسعى إلى تحقيق والاقتراب بالإنسان إلى الصورة المثلى التي ينبغي أن يكون عليها مستمدة من أسسه العقدية، ومستمدة من أسسه الاجتماعية، ومن ثقافة مجتمعه، وما إلى ذلك، بحيث يكون على الصورة المثلى التي يريدها الله له، وأيضًا تعكس انتماءه إلى مجتمع مسلم قائم على أساس من الإيمان بالله تعالى والالتزام بشرائعه.
الشيخ: بارك الله فيك دكتور سعد، وسعيدين جدًّا على المشاركة، ولنا بإذن الله معك لقاءات أخرى.
المتصل: الله يوفقك، شكرًا لك.
الشيخ: شكرًا لك دكتور سعد على مشاركتك.
المتصل: حياك الله.
نشكر الدكتور سعد الشدوخي على هذه المشاركة.
نخرج بفاصل ثم نعود إليكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
كنا في مداخلة لأستاذنا الكريم الدكتور: سعد الشدوخي وفقه الله، فيما يتعلق بمفهوم التربية وأهمية التربية، وكلها تؤكد ما أكده أساتذتنا الكرام السابقين، حول هذا المفهوم المرتبط بالنمو والزيادة والارتقاء، وأكد على قضية أن الإنسان متغير ومتأثر، وكذلك الحاجة للتربية في كل وقت، فكيف في هذه الأوقات المرتبطة بالعولمة وجميع أذرعتها من التقنية وغيرها من الأمور.
التربية على العبادة
وكانت الأخت أم عبدالرحمن من المغرب سألت عن التربية على العبادة، وهذا سؤال تشكر عليه، وشعور الإنسان بأنه مقصر في حق الله ، هذا بحد ذاته بداية الطريق إلى ما يتعلق بتحسين وضع هذا الإنسان، فاتهام النفس والشعور بالنقص أمر مهم، والبعض قد يقول: لا نجلد ذواتنا، وهذه اللفظة التي قد تكون كثرت في الدورات التدريبية.
فلو المقصود بها: أننا إذا كنا نريد أن نيأس ونقنط من رحمة الله؛ فهذا الكلام غير معتبر ولا يقره المنهج الإسلامي ولا نقصده هنا، لكن محاسبة النفس والوقوف عند هذه النفس، بل حتى أنها لو عملت العمل الصالح كما يقول الله في هؤلاء الصحابة أو القوم الذين يعملون الأعمال الصالحة: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فعائشة رضي الله عنها ظنت أن هؤلاء الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون، فبين النبي أنهم ليسوا كذلك، وإنما هم الذين يقومون بالعبادات ويخشون أن الله لا يتقبل هذه العبادات منهم [5]أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (162)..
فنحن في أمس الحاجة إلى هذا الشعور المرهف فيما يتعلق بحق الله ، ولا شك أنه لو وزنت جارحة من جوارحنا كالبصر مثلًا ما نقوم به في حق الله نجد أننا لم نشكر الله في هذه النعمة، نعمة البصر، فكيف فيما يتعلق بحق الله في النعم العظيمة التي تتوالى علينا.
لذلك يجب أن نشعر بالتقصير في حق الله ، ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله في مثل هذه المواقف الشعور بالتقصير، قال: "الشهود على النفس بالتقصير"[6]انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 284).، فيشهد الإنسان على نفسه بالتقصير، كالأخت الكريمة كانت تتكلم وهي تشعر بأنها مقصرة في حق الله ، هذا أمر.
ثم الشعور بالمنة لله أن الله يوفق الإنسان: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فالعبادة موقف مهم جدًّا وتوفيق من رب العالمين ولذلك قال الله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني نحن نعبدك لا نعبد غيرك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ؛ لأن العبادة تحتاج إلى عون من الله .
وشهود المنة لله وليس للنفس، وحينما نجمع بين الأمرين لا شك يتكون الإطار التربوي للمنهج الإسلامي في العبادات، عمل واجتهاد وبذل وشهود المنة لله والشعور بالتقصير في حق الله ، خطان متوازيان؛ لأنه إذا لم يكن الأول حصل الإحباط والقنوط، وإذا لم يكن الثاني حصل الشعور بالعُجب والتكبر، فهذان الخطان لا بد منهما.
والدعوة لأجل التربية على ما يتعلق بموضوع العبادة نقول: لا بد لكِ من الممارسة العملية للعبادة:
أولًا: وما تقرب إليَّ عبدي بأحب إليَّ مما افترضته عليه »[7]أخرجه البخاري (6502).، لا بد من الفرائض كما قال الله في الحديث القدسي: وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه عندئذ المرحلة الثانية هي مرحلة المستحبات.
فانظري في حالكِ مع الواجبات، هذه أهم قضية الآن؛ لأن البعض يحرص على الطاعات المستحبة والعبادات المستحبة، خاصة عندما ينظرون إلى غيرهم ممن وُفقوا إلى ذلك فيبدأ يتحسّر ويلوم نفسه في هذا الجانب، وربما يكون مقصرًا في الفرائض، فلا بد من مراجعة الفرائض التي سنحاسب عليها أولًا.
ثم بعد ذلك المستحبات قدر ما نستطيع أن نكثر منها؛ لذلك يوم القيامة كما جاء في الحديث: أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته [8]أخرجه أبو داود (864)، والترمذي (413)، والنسائي (3991)، وابن ماجه (1425)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2020).، إن حصل نقص في هذه الصلاة نُظر إلى صلاة التطوع التي ستكون هي سبب في سد الثغرات المتعلقة بالتقصير في صلاة الفريضة.
فإذن كما قلنا: خطان متوازيان فيما يتعلق بشهود المنة لله في أي عمل نعمله من الطاعات، وشهود التقصير بأن حق الله أكثر؛ فالأول يجعلنا نستمر في العمل، والثاني يدفعنا إلى العمل أكثر.
والأمر الآخر المتعلق بالفرائض كمرتبة أولى، والمستحبات كمرتبة ثانية.
الأمر الأخير: الذي ممكن نجيب عليه في هذا السؤال: وهو ما يتعلق بالتخلية والتحلية.
العبادة هي عبارة عن شيء يحلّي الإنسان به حياته فيتقرب به إلى الله ، بأشياء يحبها الله فنحن نحلّي حياتنا بهذه العبودية وبهذه العبادة، لكن هذه التحلية لا تكون لها قيمة إذا لم تكن هنا تخلية وهو إبعاد ما يعكرها من أمور لا يرضاها الله .
والإنسان ربما ينظر إلى الحرام، وربما يتحدث بالحرام، وربما يخطو إلى الحرام، وربما يسمع الحرام، نسأل الله أن يعفو عنا وعنكم جميعًا، فتكون هذه القضية حتى لو كان هناك عبادات لا يكون مذاقها مثل أن يكون الإنسان بعيدًا عن المعاصي والذنوب.
وكما قال الله مثلًا فيما يتعلق بالتوحيد، فيما يرتبط بالأمر بين الله أن الإنسان يكون مجتنبًا للطواغيت، عابدًا لله وموحدًا؛ لأنه قد يعبد الله لكن لديه من الشرك والأمور التي تبعده عن الله وتعكّر صفو العبادة، وقد يطيع الله لكن عنده من المعاصي التي تعكّر صفو العبادة.
لذلك الناس مراتب في العبادات، ومراتب في الصلاة، كما قال ابن القيم[9]انظر: الصلاة وأحكام تاركها (ص: 119). في مراتب الصلاة: فرق بين الذي يسرح ويذهب يمنة ويسرة وبين الذي لا يستحضر أركانها وشروطها، وبين الذي يصارع ويجاهد نفسه ومشغول بالمجاهدة، وبين الذي يشعر بلذة ومتعة وبين الذي جعلت قرة عينه في الصلاة، مراتب مختلفة بسبب: مستوى القرب من الله ، ومستوى شهود المنة لله وشهود التقصير، ومستوى العمل، والحرص على الفرائض، والحرص على النوافل، ومستوى كذلك التخلية والابتعاد عن القضايا التي تعكر صفو العبادة.
هذه بعض الأمور التي تساعد في هذا الأمر، ولا بد أن تحرص الأخت الكريمة على قضيتين في هذا الموضوع وهي: عبادات السر، وأن تكون قريبة من الأخوات اللاتي يعبدن الله حق عبادته.
فعبادات السر تنمّي الإيمان بشكل قوي جدًّا، لا يعلم عنها إلا الله ، ليست بحاجة أن تقول: اليوم هي صائمة، أو قمت أمس الليل، فهذه القضايا قد تُدخل الإنسان في متاهات.
فهي تبقي بينها وبين الله أشياء خفية، أمور معينة سيكون لها أثر في حياتها، تشعر بلذة لا يعلم عنها إلا الله وهذه من أمور العبادات الرائعة حين يسلك الإنسان مسلك السر في مثل هذه العبادات.
وكذلك أن يكون أخواتها وقريباتها وصديقاتها من تتلقى منهم وتعاشرهم وتصاحبهم هن من الحريصات على العبادة والطاعة.
ولذلك كما قال الله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ هذا أمر للنبي : مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، يعني الله يأمر نبيه اصبر يا محمد: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يعني هؤلاء منهجهم العبادة بالغداة والعشي، بالنهار والليل، ولا تلتفت إلى غيرهم: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ، كن معهم وركّز عليهم، ولذلك النبي قال فيما يتعلق بالأصدقاء والصديقات: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل[10]أخرجه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3545)..
فيجب أن ننتبه إذا اضطررنا إلى علاقات لا بد منها، يعني الأخوات اضطروا إلى علاقات مع نساء أخريات بأمر مُلِح بسبب قرابة أو ما شابه ذلك؛ فليكن الأمر للحاجة ثم تنتهي هذه العلاقات؛ لأن الإنسان يتطبع ويتأثر بتلكم الصداقات: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
إذن حين نرجع إلى التربية الإسلامية سنجد أنها: تنشئة وتكوين إنسان مسلم متكامل من جميع الجوانب المختلفة، من الناحية الصحية، والعقلية، والروحية، والاعتقادية، والأخلاقية، والإبداعية، إلى آخر تلك الأمور في ضوء المبادئ التي جاء بها الإسلام.
هذه القضية لا بد أن ندركها، والبعض يفهم الإسلام أنه خاص بالجانب الروحي، والجانب الاعتقادي وهذا خطير جدًّا؛ لأن هذا الفكر الأخير هو نتاج من نتاجات العلمانية التي أثرت على المجتمعات الإسلامية بعد الاحتلالات التي حصلت في المجتمعات الإسلامية، ونمو الفكر العلماني فيها من خلال البضاعات التي قدمت للدول الإسلامية في وقت الاستعمار.
فأصبحت هذه البلدان بعض شعوبها متأثرة جدًّا في مناهجها، وفي لغتها، وفي فكرها، فيما جاءها من منهج غربي قائم على الإلحاد والمادية البحتة.
فلو نتصور -مثلًا- أن الجانب الصحي ليس مرتبطًا بالإسلام هذا خطأ كبير جدًّا، فالجانب الصحي مهم فالإنسان مهم جدًّا أن ينمي بدنه؛ لأن البدن هو عارية عند هذا الإنسان، وسيقوم بالطاعات من خلاله، فإذا لم يحرص على الصحة سيختل توازنه في الحياة.
فلو أصيب شخص منا بمرض بسيط ماذا سيحصل فيه؟ فكيف بمرض معضل أو مرضٍ مستعصٍ أو مرضٍ متعب وما شابه ذلك؟
لذلك يجب على الإنسان أن يحرص على صحته: إن لنفسك عليك حقًّا[11]أخرجه الترمذي (2413)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي البخاري (5199) بلفظ: «فإن لجسدك عليك حقًّا».، وهذا الجسد يحتاج إلى رعاية واهتمام، والعقل وما يمكن أن يتلقفه، هل هذا العقل مثل الإسفنج يتلقف أي شيء نظيف أو غير نظيف، أم أنه مثل الزجاج كما يقول مثلًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الإنسان حينما يتلقى الشبهات؟ [12]انظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (8/ 508). .
فرق بين الاسفنج وبين الزجاج الذي لا يتأثر، هذا العقل: هل هناك شيء يفلتر ما يتلقاه ويعرف الحق من الصواب؟
فالتربية الإسلامية تؤكد على هذا الأمر، فلا يكون تبعًا ولا مقلدًا ولا ما شابه ذلك.
ولذلك التعصب في الرأي وقد يكون الحق خلافًا له هذا من الأشياء التي رفضها الإسلام وأغلظ في النظر فيها.
الجانب الروحي أمره واضح كما تكلمنا في العبادة، فالجانب الاعتقادي وهو المنطلق والمبادئ التي ينطلق منها الإنسان وعقيدته في الله، وعقيدته في الدنيا، وعقيدته في الآخرة، وعقيدته في الكون، وعقيدته في الإنسان، وما يتعلق بأركان الإيمان، وأركان الإسلام، وما يتعلق بالإحسان، كل هذه المراتب المتعلقة بما يعيشه الإنسان في هذه الحياة في علاقته بالله ، هذه قضية مهمة جدًّا.
الأخلاق والقيم في المنهج الغربي -وبالذات في أواخر الدعوات الغربية- بعض النظريات المتأخرة دعوا إلى القيم والأخلاق ما نقول: لا، فهذه قضية يُعترف بها بغض النظر عن إطارها ومفرداتها، فمنهجنا الإسلامي جاء عدلًا كما في حديث النبي : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاقأ[13]خرجه البزار في مسنده (8949)، وأحمد في المسند (8952) بلفظ: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، وقال محققوه: "صحيح، وهذا … Continue reading، يعني أن في الجاهلية أخلاقًا، لكن جاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق فيثبت المكارم والأخلاق الحسنة وينمّيها ويبعد الأخلاق السيئة التي كانت، فيقول عنتر بن شداد:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي | حتى تواري جارتي مأواها[14]انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب (15/ 338)، والعقد الفريد (6/ 3). |
فعنتر جاهلي، فهذا مثال في العفة وفي الغيرة، وحفظ حق الجيران، يقول: لو مرت المرأة وليس لها حجاب فإنه يغض طرفه حتى تدخل بيتها، فهذه القيمة حفظها الإسلام ونمّاها وجعل لها إطارًا: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ... [النور:30].
فالتزكية هي أن الإنسان يغض بصره ويحفظ جوارحه من الحرام، وهكذا.
فإذا جاء المنهج الإسلامي بهذه القيم أكد الموجود منها الإيجابي ونمّاه وجعل له إطارًا في القرب من الله واحتساب الأجر فيه،، وكذلك في الابتعاد عن القيم السيئة المتعلقة بالتعصب والاعتداء والعدوان وما شابه ذلك، وهي كانت مشهورة في الجاهلية.
فنحتاج أن نصنع الحضارة في هذه الحياة، نصنع المجتمعات الإيجابية في هذه المجتمعات، نصنع الأحياء المنتجة والأسر المتربية، والأفراد الإيجابيين، كل هذه من الإبداعات المهمة جدًّا؛ لذلك من الخطأ أن يبقى الفرد أو الأسرة، أو يبقى المجتمع أو تكون الحضارة عندنا تبع.
وللأسف الشديد طه حسين -مثلًا- الذي ذهب إمامًا مع وفد من الطلاب إلى السوربون للدراسة والتعليم، ابتعث، فذهب وهو يمثل الرجل الذي سيقوم بالتوجيه الديني لهذه المجموعة، ثم يدخل في معترك الدراسة هناك والتلقي والتأثر بما لدى الغرب على مستوى التصورات والأفكار والقيم والأخلاق بمنظومة غيرت البوصلة لديه، وقد كان يسمى أديبًا، ويسمى: عميد الأدب العربي، يرجع ويقول: علينا أن نأخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها، بخيرها وشرها!
فالذي حصل انتكاسة في التربية الإسلامية؛ لأن العقل بدأ يتشرّب الشبهات والأفكار وأطلق العنان دون فلترة، وأي عاقل يقول: نأخذ الحلو ونأخذ الخير، الحمد لله ديننا لا يمنعنا من ذلك، والرسول استفاد من قصة الخندق من رأي سلمان الفارسي وهذه الفكرة من الفرس، وهكذا، أشياء كثيرة جدًّا الإسلام أثبتها.
لكنه قال: حلوها ومرها خيرها وشرها!! فلما أصبحت القضية هنا تأثرت بإطار تربوي جديد بخلاف الإطار التربوي الإسلامي تغير وألّف كتابه: "الشعر الجاهلي" الذي كان فيه إشارات حول القصص القرآني، وحول مصداقية ذلك، فثارت غيرة الأخيار في مصر آنذاك وحصل ما حصل حول تلك الشخصية والكلام عنها.
والسبب في ذلك: هي التربية، هل هي تربية إسلامية شاملة ومتكاملة، أم أنها ليست كذلك؟!
لذلك باختصار نقول:
التربية الإسلامية هي تنشئة المسلم وإعداده إعدادًا كاملًا من جميع جوانب حياته، لحياتي الدنيا والآخرة، في ضوء الإسلام.
هكذا ممكن أننا نتفق على هذا التعريف باختصار؛ حتى نستطيع بإذن الله أن نستكمل برامجنا وحلقاتنا ونحن وإياكم على خير.
فاصل ونواصل بإذن الله .
***
في الوقت المتبقي نجيب عن الأسئلة الواردة في الواتس آب:
الأطفال والأجهزة الإلكترونية
سؤال بعد الشكر عن البرنامج يقول: أستاذي الكريم سؤالي هو: كيف نربي جيلنا المتعلق بالأجهزة الإلكترونية للاستماع لنا والإصغاء واحترام الناس؟ مثلًا في الطريق أطفال يحملون التاب، تتحدث معهم لكي يفسحوا المجال لك ولا يسمعون، فقط ينظرون إليك بنظرة الغاضب، يعني: وإذا لم نعطهم مثل هذه الأجهزة سيعاندون ويبكون ولا يستمعون فكيف نتعامل مع هؤلاء؟
هذه قضية من القضايا الشائكة خاصة فيما يتعلق بالتقنية وأجهزة التقنية، وفي اليوتيوب محاولة لمحدثكم حول الأسرة والتقنية، تجدونها أوسع من هذا الكلام المختصر في هذا الحلقة حول السؤال الذي ذكره قبل قليل.
باختصار شديد جدًّا هنا أقول: نرجع للكلام الذي ذكرناه فيما يتعلق بالنظام، لا بد من وضع نظام يتفق عليه الزوج والزوجة، وهذا أمر مُدرك، يعني مثل ما يوضع نظام يتعلق بصحة الطفل، لو أصيب بشيء أو يوقى من شيء فلا بد من نظام يوضع، فعوّدوا أنفسكم، واقرأوا مقالة الدكتور خالد المنيف: "في بيتنا قانون" تجدون أهمية هذا الموضوع وأنه لا بد كما أن البيئة المدنية فيها قوانين، لا بد الأسرة تقوم على قوانين، وهذه القوانين عبارة عن مرجعية يفهم منها أن في البيت قائمين على مثل هذا الأمر.
فالطفل مثلًا: هل يحتاج أن يكون بين أيديه أجهزة ويدخل على كل شيء ويشارك في كل شيء؟ ولماذا يمتلك كل شيء؟ ويدخل على النت ومتى ما أراد وما شابه ذلك؟
مشكلة كبيرة جدًّا جدًّا، قد نكون سببًا وقوع شيء في صحته، أو في نفسيته، أو في عقله، أو في قيمه وأخلاقه.
فهذه القضية مهمة جدًّا وهو ألا نكون نحن أسرى لهذه التقنية، فعلينا أن نراعي المرحلة العمرية.
ولا تكن العاطفة هي الغالبة علينا فكونه يبكي أعطيه؟ لا؛ لأن البكاء عند الطفل من تفسيراته أنه يريد يحقق الذي في نفسه؛ فإن وجد تجاوبًا أصبح وسيلة له فيبكي حتى يُعطى.
وكثير من الآباء والأمهات لديهم ضعف في هذا الجانب، ومن الحزم في التعامل مع وجود العلاقة الطيبة: الود والحزم، فالود علاقة طيبة، والحزم أن يدرك الطفل أنه لا يُعطى شيء يضره أو يخالف النظام أو ليس من مصلحته، فلو بمجرد أن يبكي أعطيه ليس صوابًا أبدًا.
فيجب أن تكون هذه الأجهزة المتعلقة بالألعاب المنتقاة فيها الألعاب المناسبة، وهذا واجب على الآباء والأمهات؛ أن تكون محمّلة، لا تدخل النت فيكون لديه القدرة على الدخول على النت، أو يعطى الجهاز الذي بين أيدينا ويكون تحت رعايته وننظر إليه.
لكن لا نعطيه المهارات فيصبح محترفًا في هذا الجانب على أقل تقدير، ونضبط القضية بما يمكننا، ولا نقول كما يقول الكثيرون المنهزمون: إنه إذا لم يتعوّد منا سيتعوّد من غيرنا.
وبسبب ذلك سأعطيه كل شيء ويدخل على اليوتيوب بكل ارتياح، ومجرد أنه يرى أي رابط يفتحه دون أي توجيه، دون أي حماية له، دون أي نظر، ليس بحاجة إلى ذلك، ليس بحاجة إلى هذا النوع من الآيفون 5 أو 6 وما شابه ذلك؛ لأنه طفل صغير يا جماعة فلا يحتاج إلى الاتصالات وليس بحاجة إلى الآيفون أصلًا.
هو بحاجة إلى ألعاب، بحاجة إلى أشياء معينة تكسبه القيم بطريقة جاذبة له ومنتقاة، وهنا أؤكد على الألعاب الإلكترونية وأهمية الانتقاء فيها؛ لأن هناك دراسات خطيرة حول خطورة الألعاب الإلكترونية، بل هي من أخطر الأشياء على الأطفال بالذات في اختراق القيم بالنسبة لهم.
فلا بد من وضع وقت معين وبإشرافنا دون الارتباط بالنت في استخدام هذه الوسائل، وعدم الالتفات لها حتى تسمى في علم النفس من الأساليب السلوكية في تعديل السلوك، وهو ما يرتبط بالإغفال والتطنيش، يعني يُترك لا يلتفت إليه، يبكي الآن ثم يسكت، لكن لو بكى وأُعطي؛ سيبكي مرة أخرى ومرة ثالثة، فالقضية هنا مهمة جدًّا.
ثم ينبغي أن ندرك أن الطفل يتأثر في البيئة التي هو يعيشها، فإذا رأى أن غيره ممن هو أكبر منه مشغول في الجوال ومشغول في الآيباد ومشغول في الأجهزة التقنية، ولا يستمع لأمه، ولا يتحدث مع من بجواره فهو سيكون مثله.
لذلك ينبغي أيضًا من النظام الأسري أن نراعي هذه القضايا، وهناك صورة انتشرت لأم وضعت عبارة: ضعوا جوالاتكم في السلة، أمكم فلانة، فبعض الأسر تمارس هذا الدور، فهذا جزء من النظام.
يعني نحن ننام ونغلق الجوالات أو نضعها على الصامت، وممكن نحن نجلس نصف ساعة أو ساعة مع آبائنا وأمهاتنا من غير جوال، لا المشكلة في هذا، لكن عندما يصبح عرفًا وقضية سلوكية موجودة ومظهرًا؛ سيكون الأطفال مثلنا شئنا أم أبينا، لذلك جانب القدوة مهم.
وأنه يُحْرم نهائيًّا إذا فيه شيء لا يحتاج إليه، ولا حاجة إليه أصلًا، ويمكن أن نستخدم الحرمان من الشيء الذي يناسبه من أجل تعديل سلوكه، لكنه حتى يعطى الشيء المناسب غير المربوط بالنت وإنما نقوم تحميل الملفات الإيجابية فيه.
وأنا أدعو فيما يتعلق بألعاب الأطفال إلى الأبلكيشن كيدز ففيه مادة جميلة جدًّا حول الألعاب، وقد حرص بعض القائمين عليه بإيجاد ألعاب موجهة قيمية رائعة جدًّا، وأنشؤوا برامج في هذا الجانب من أجل حماية الأطفال فيما يتعلق بقضية الألعاب.
فأتمنى أن يُرجع إلى الكلام الذي ذكرناه آنفًا مع الرجوع إلى الأسرة والتقنية ففيها الأشياء التي تستفيدون منها.
لا نقول: حرمان في كل شيء، ولا فتح المجال لكل شيء، فهذه القضية مهمة جدًّا؛ فالبعض يقول: أنا أحرم إذن، والبعض يقول: أنا أترك إذن، وهذا ليس صحيحًا، والوسطية أمر مطلوب، ومراعاة ما يتعلق بالمرحلة العمرية كذلك، وكذا فيما يتعلق بقضية: هل هذا مناسب له أو غير مناسب له؟
وهذه الأسئلة إذا لم تكن موجودة وهذه التخطيطات موجودة؛ فهذا يعني أننا لا نملك نظامًا، والنظام من الحزم حتى لو كنا ودودين قريبين من أبنائنا.
سؤال: كيف نحبب أطفالنا بالصلاة؟
هذا سؤال جميل جدًّا ولا بد من التحفيزات بالنسبة للأطفال، التحفيز المادي لا بد منه، لا بد نغريهم، ونضع جدولًا فيه نجوم، كما يقال، وكلما جمع في البداية، كلما عمل الفعل الإيجابي في الصلاة؛ نعطه، ثم كلما نجمع ثلاثة أنجم، خمسة أنجم؛ نعطه، وهكذا؛ حتى لا يرتبط السلوك بالتعزيز دائمًا فنوسع الدائرة أكثر، ثم بعد ذلك يصبح صفة عنده وسلوكًا في الارتباط بالصلاة.
وأيضًا محاولة المشاركة معهم في الصلاة إذا كان في البيت؛ فيشارك أمه في الصلاة، إذا كان والده يخرج معه إلى المسجد، إذا كان يناسب عمره.
والقدوة إذا كان يرى في الصلاة موجودة حاضرة، يحرص الأب أن يصلي السنن في البيت، وما شابه ذلك.
وإذا كان يدرك في مرحلة الطفولة المتوسطة أو المتأخرة إدراك الأجر والثواب وقبل ذلك أن الله يحبك، وأن هذا شيء يجعلك سعيدًا، وأن هذا يرضي الله ، وأن الله يوفقك في حياتك الدنيا وحياتك الأخروية، على قدر فهمه.
الذي سأل عن التوأم وأن أحدهما متفوق والآخر في مستوى أقل منه تعليمًا؟
لا بد من عدم القلق في هذا الجانب، وستصبح القضية ليست مرتبطة بالتفوق، حتى في الشكل، وفي اللباس، وفي الإنتاج في هذه الحياة.
يعني الذي عنده نقص في جانب التفوق، عنده جانب إيجابي آخر فليبرز هذا الجانب الإيجابي.
ولا بد من التعود حتى لا نكون حساسين؛ لأننا قد نكون سببًا في تعامل هؤلاء التوأمين في الحياة، إن لم ينظر بعضهم إلى الآخر.
لا بد من التشابه، حتى بعض الدراسات قالت: التشابه قد يكون بـ 60% أو قريبًا من ذلك فيما يتعلق ما بين التوأمين.
وفيه اختلافات موجودة، وبعض الأحيان تكون اختلافات كبيرة؛ فينبغي أن تكون طبيعية جدًّا، وأن يكون الأمر طبيعيًّا، ويفهم بأن هناك فروقًا فردية، فهذه تفوقت ما شاء الله تبارك الله، والتوأم الآخر أيًّا كان ذكرًا أو أنثى تفوق في مجال آخر.
لذلك نبحث عن مجال التفوق إذا كان المقصود التفوق الدراسي هنا، فالآخر قد يكون عنده تفوق آخر، وهذا يشير لأهمية توسيع مفهوم التفوق في الحياة، ومهم جدًّا ألّا نحصره على الجانب الأكاديمي، وحين نعرف أن الذي عنده ضعف أقل من الآخر فننمي هذا الجانب فهذا أمر طبيعي. فأنا أرى عدم التحسس من هذا الأمر قدر المستطاع.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأسأل الله أن يكون هذا البرنامج وأمثاله عونًا لنا ولكم على الخير في الدنيا والآخرة.
ونهنئ الجميع بمثل هذه القناة الطيبة المباركة قناة "زاد العلمية"، ونسأل الله لكم السعادة في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (3383)، ومسلم (2378). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (1275 و 1276 و4045 و4047)، ومسلم (940). |
↑3 | أخرجه البخاري (4553)، ومسلم (1773). |
↑4 | أخرجه الترمذي (2465)، وابن ماجه (4105)، وأحمد في المسند (21590)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (404)، وفي صحيح الجامع (6510). |
↑5 | أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (162). |
↑6 | انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 284). |
↑7 | أخرجه البخاري (6502). |
↑8 | أخرجه أبو داود (864)، والترمذي (413)، والنسائي (3991)، وابن ماجه (1425)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2020). |
↑9 | انظر: الصلاة وأحكام تاركها (ص: 119). |
↑10 | أخرجه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3545). |
↑11 | أخرجه الترمذي (2413)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي البخاري (5199) بلفظ: «فإن لجسدك عليك حقًّا». |
↑12 | انظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (8/ 508). |
↑13 | خرجه البزار في مسنده (8949)، وأحمد في المسند (8952) بلفظ: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، وقال محققوه: "صحيح، وهذا إسناد قوي، رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عجلان، فقد روى له مسلم متابعة، وهو قوي الحديث"، والحاكم في المستدرك (4221)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2349). |
↑14 | انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب (15/ 338)، والعقد الفريد (6/ 3). |