المحتوى
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف خلق الله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات مع برنامجكم الأسبوعي: "أسس التربية" من قناتكم قناة "زاد" العلمية الفضائية، فحياكم الله وبارك فيكم.
لقد بدأنا في اللقاء الماضي الحديث حول ما يتعلق بالتربية النبوية، وكنا قد ابتدأنا في السابق الحديث حول مصادر التربية الإسلامية، وذكرنا مصدر الوحي: الكتاب والسنة، وأخذنا شوطًا مع كتاب الله ، هذا المعين الذي لا ينضب، ولكنها عبارةٌ عن وقفاتٍ وإشاراتٍ، ولنا عودةٌ في لقاءاتٍ، بإذن الله .
ثم بدأنا في اللقاء الماضي الحديث حول مواقف النبي ، وكيف نستفيد من هذه المواقف في تربيتنا لأنفسنا، ولأُسرنا، ولأهلينا، ولأبنائنا، ولطلابنا، وللمجتمع عمومًا؟
وكنا قد تحدثنا حول حديث النبي مع الفضل بن عباس، وذكرنا هذه المنهجية العظيمة في الوقاية فيما يتعلق بالشهوات.
وتكلمنا عن موقف النبي مع عمر بن الخطاب، وعن المنهجية العظيمة في الوقاية من قضية الشبهات.
وهذان الأمران كما يقول ابن القيم: "وهو أن مدخل الشيطان إلى الإنسان مبنيٌّ على الشبهات والشهوات"[1]"الوابل الصيب" لابن القيم (26)..
والشبهات -كما أشرنا- مُرتبطةٌ بالأفكار والمبادئ والمُعتقدات، فتحتاج إلى علمٍ؛ ولذلك لا يمكن للعلم أن يُؤخذ من خلال مصادر مُتضادةٍ، فلا بد إذن من توحيد المنبع والمصدر.
ولذلك ألزم النبي عمر ومَن بعد عمر رضي الله عنه وأرضاه بالأخذ من المعين الصافي: لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ولو كان موسى حيًّا لما وسعه إلا اتِّباعي[2]أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (175)..
وعندها يستطيع الإنسان أن يُوطن نفسه على الحقِّ، فلا يكون مثل الإسفنجة يتقبل الشبهات أيًّا كانت، وإنما يكون مثل الزجاج، حيث ينفذ الضوء منه ولا يتأثر.
وهكذا بالنسبة للجانب الوقائي المتعلق بقضية الشهوات، وهو المنفذ الآخر للشيطان على النفس البشرية، وهو ما يتعلق بقضية الإيمان، ومراقبة الله ، وعون المُربي للمُتربي، كما فعل النبي ﷺ مع الفضل بن عباس رضي الله عنه وأرضاه حينما وضع يده على وجهه[3]مسلم (1218)..
أهمية المنهج الوقائي
أيها الإخوة، نحن في أمس الحاجة إلى أن ننتبه لمثل هذه الأمور، ولقد أتتني رسالةٌ بعد حلقة اللقاء الماضي وفيها الثناء على ما يرتبط بقضية إظهار المنهج الوقائي الذي بيَّنه النبي في أمر الشبهات، وأمر الشهوات.
نحن بحقٍّ نعاني معاناةً كبيرةً جدًّا في عدم اهتمامنا بالمنهج الوقائي.
كثيرٌ منا ربما يمارس المنهج العلاجي، وقد ينجح، وقد لا ينجح، وقد يُخطئ، وقد يُصيب، وقد يُفسد، وقد يُصلح.
والأفضل هو المنهج الوقائي؛ حتى لا يقع الإنسان في المشكلة.
لكن يحصل هنا شيءٌ من الغفلة التي تقع عند الكثيرين؛ فلا ننتبه لأبنائنا قبل أن تقع المشكلة، وإنما نقف معهم حينما تقع المشكلة، وربما نكون نحن سببًا في زيادة هذه المشكلة.
فقضية المنهج الوقائي مهمةٌ جدًّا، والإنسان -كما قلنا- مرتبطٌ بقضيتين أساسيتين، وهما مدخل الشيطان على نفسه، فأنا، وأنت، وهم، وأبناؤنا، وطلابنا، وكل فردٍ في المجتمع، وكل إنسانٍ يجب أن يستخدم المنهج الوقائي في قضيتي الشبهات والشهوات.
لذلك نحن في أمس الحاجة إلى مثل هذا المنهج الوقائي، والنبي أعطانا البيان الواضح حول هذه القضية وما يتعلق بها.
وتتمثل قضية الشهوات في قصة الرجل الذي استأذن النبي في الزنا، وكذلك ما ورد من توجيهاته حيث قال: إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يُصدِّق ذلك كله ويُكذِّبه[4]البخاري (6243)، ومسلم (2657)..
وكذلك الأحكام الشرعية المُترتبة على قضية الخلوة وتحريم الخلوة، ولا تُسافر المرأة إلا مع ذي محرمٍ[5]البخاري (1862)، ومسلم (1341).، وقضية الاختلاط، وكل القضايا المرتبطة بهذا الجانب الذي هو جانب الشهوات، وخاصةً ما يتعلق بقضية المرأة، وكما قال النبي : ما تركتُ فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء[6]البخاري (5096)، ومسلم (2740).، ففتنة أمة محمدٍ في النساء، وهذه القضية تحتاج إلى انتباهٍ، وإلى عنايةٍ.
ولنا هنا أن نتساءل: أين المنهج الوقائي في بيوتنا من قضية الشهوات؟! أين هذا المنهج في قضية الحوار والنقاش؟! في قضية إقناع مَن ابتُلي بتلكم الشهوات: أتُحبه لأمك؟، أتُحبه لأختك؟، أتُحبه لعمتك؟، أتُحبه لخالتك؟، وهو يُفكر، لا يمكن أن يرضاه بحالٍ من الأحوال، قال: لا، فداك أبي وأمي. قال: وهكذا الناس لا يُحبونه لأمهاتهم، لا يُحبونه لأخواتهم، لا يُحبونه لعمَّاتهم، لا يُحبونه لخالاتهم[7]أحمد في "مسنده" (22211)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ..
هذا منهجٌ عظيمٌ، وفيه علاجٌ عقليٌّ، وعلاجٌ وجدانيٌّ، ثم يضع النبي يده على صدر هذا الشاب ويدعو له؛ فيذهب وليس في نفسه حاجةٌ.
أين هذه الأساليب؟! أين هذه الرعاية؟! أين هذا الاهتمام؟! بل أين هذا الموقف من الشاب حينما يأتي هو بنفسه ويذهب ليسأل النبي ؟ هل أبناؤنا يأتون إلينا؟ هل بناتنا يأتين إلى أمهاتهم؟ هل طلابنا يأتون إلينا؟
هذا مُؤشرٌ عظيمٌ للنجاح التربوي حقيقةً، خاصةً في مثل هذه القضايا المتعلقة بالشبهات أو المتعلقة بالشهوات، ونحن نحتاج إلى هذا؛ لأنه قد تكون هناك مُقدّمات إذا لم ننتبه لها ولم يأتوا ويُحدِّثونا عنها -وربما كان أمرهم في سترٍ- ربما تضاعفت دون أن نشعر بها.
نحن في أمس الحاجة إلى مثل هذا المنهج، والذين يُريدون أن يكسروا مثل هذه القضايا المتعلقة بالمنهج الوقائي، ويحاولون قدر ما يستطيعون ضرب المثال، وإسقاط قاعدة سد الذرائع في الشريعة، نقول لهم: القضية ليست مما يُحمد عقباه بحالٍ من الأحوال، ناهيك عن هذا الأمر، فهذا أمرٌ ربانيٌّ يجب علينا ألا نتدخل فيه، كما قال الله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
الصبر على الأذى
معنا الأخ محمد من ليبيا، حياك الله يا أخ محمد.
المتصل: السلام عليكم يا شيخ.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: والله إني أحبك في الله يا شيخ.
المحاور: أحبك الله الذي أحببتنا فيه، وجزاك الله خيرًا، وبارك الله فيك، ونحن نحبك في الله.
المتصل: الصبر على أذى الجيران، هل يُؤجر الإنسان إذا صبر على أذى الجيران؟
المحاور: سؤالك شرعي -بارك الله فيك- يحتاج إلى فتوى، وهذا البرنامج تربويٌّ نفسيٌّ أُسريٌّ، فلن أُجيب، لستُ أهلًا لهذا الأمر، يُحال إلى البرامج الخاصة بهذه القضية -وفقك الله-، ويمكن أن تُرسل سؤالك هذا على (الواتس آب) للبرنامج، وهم يُحيلونه إلى الشيخ: محمد المنجد أو غيره من أهل الفتوى، بارك الله فيك أخي محمد.
أما ما يتعلق بالصبر عمومًا، إذا كنا نتكلم عن الصبر فيما يتعلق بجانب السلوك فيُمكن أن نستفيد من تربية النبي لما كان جاره يهوديًّا، وكان يُؤذي النبي ، وذات مرةٍ ما وجد النبي الأذى عند باب بيته؛ فأدرك أن اليهودي ربما أصابه شيءٌ، فزاره النبي ، وبسبب زيارته دخل اليهودي في الإسلام.
فنحن نحتاج أن نصبر، ليس من أجل الصبر، وإنما من أجل أن نقوم بحقوق الجار، ومن ذلك: إقامة أمر الله ، والتأثير فيه: إن كان كافرًا أن يكون مسلمًا، وإن كان مسلمًا عاصيًا أن يتقي الله ، وإن كان مُخطئًا أن يعدل من خطئه.
وحقوق الجار معروفةٌ، فالإنسان أُوصي بحق الجار في الشريعة الإسلامية بشكلٍ كبيرٍ.
الرد على شبهةٍ حول الخلوة بالمرأة الأجنبية
يمكن أن يأتي شخصٌ ويقول: أنا يمكن أن أخلو بامرأةٍ ولا يحصل شيءٌ، ويمكن أن أمسَّ امرأةً ولا يحصل شيءٌ.
وتقول المرأة: أنا يمكن أن أُسافر من غير محرمٍ ولا يحصل شيءٌ.
فتكسر الأحكام الشرعية التي جاءت لحماية العِرض ولحماية الأخلاق بسبب موقفٍ افتراضيٍّ قد يحصل من بعض الأشخاص، لكن الإنسان قد يضعف، والشريعة جاءت لحفظ هذه القضايا وما يتعلق بها.
ولنا -إن شاء الله تعالى- عنايةٌ بهذه القضية في وقتٍ آخر، لكن من باب التأكيد على ما ذكرناه فيما يرتبط بقضية الشهوات والمنهج الوقائي المرتبط بالشهوات من موقف النبي مع الفضل بن عباس، ومع عمر بن الخطاب، كما أشرنا في قضية جانب الشبهات.
وكم نحن في أمس الحاجة إلى هذا الأمر؛ حتى نستطيع أن نُواجه المشكلة قبل أن تقع، وإذا وقعت وكانت في بداياتها استطعنا أن نتخلص منها إن كانت مُرتبطةً بأفكارٍ مُنحرفةٍ، ومبادئ منحرفةٍ، وعقائد منحرفةٍ، كم نحن في أمس الحاجة إلى مثل تلك الأشياء، ومثل هذه المناهج.
وصية النبي بالنساء، ودعوى المساواة
ومن توجيهات النبي التي نستفيد منها في قضية التربية: عندما يقول عليه الصلاة والسلام: استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خُلقن من ضلعٍ، وإن أعوج شيءٍ في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تُقيمه كسرتَه[8]أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذُريته، برقم (3331)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب … Continue reading، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وخاصةً في موضوع الصراع الشديد بين التيارات المتعلقة بأصحاب المنهج الإسلامي والتيارات المعارضة له فيما يرتبط بقضية المرأة للأسف الشديد.
ومن القضايا المشكلة في هذا: ممارسات بعض المسلمين، ممارسات بعض الأزواج، ممارسات بعض الآباء، ممارسات بعض المُربين أو المُربيات فيما يتعلق بالعلاقة بهذا الجنس، وهو ما يتعلق بقضية المرأة.
استوصوا بالنساء خيرًا فلا بد أن نفهم أن المرأة ضعيفةٌ، فعندما نفهم أنها ضعيفةٌ، وأنها ناقصة عقلٍ ودينٍ، وبالتالي تحتاج إلى أن تشهد مع أختٍ أخرى مقابل شهادة الرجل، ونقص الدين فيما يذهب منها في قضية حيضها ونفاسها من صلاةٍ وصيامٍ، وما شابه ذلك.
فنحن نحتاج أن نعرف هذا الضعف، فإذا عرفنا هذا الضعف أدركنا أن دعوى المساواة بين المرأة والرجل دعوى غير ممكنةٍ بحالٍ من الأحوال، بل عبر التاريخ كله، حتى الدعوى التي رفعها دعاة التحرر في قضية المساواة بين الرجال والنساء لم نجد هذه القضية موجودةً حتى عندهم، تجد برلماناتهم، وتجد رئاسات الجمهورية، والدول لما تقوم بإحصاء العدد لا تجد إلا النادر من النساء مثلًا أصبحت رئيسةً، القليل من النساء، أو نسبة لا تُقارن بنسبة الرجال في البرلمانات، أو ما شابه ذلك.
فأين المساواة إذن؟!
حتى إن أحدهم -من قضية الحجة العقلية- يقول بالمساواة، طيب، لماذا لا تكون هناك مساواةٌ في دورات المياه، فلا حاجة للفصل فيها بين الرجال والنساء؟!
فحتى في الغرب الذي يشهد أوج قضية الدعوى إلى المساواة، وقضية الاختلاط، وقضية العُري والتفسخ وعدم تقدير ورعاية المرأة حقَّ رعايتها، لماذا تجد هذه القضية موجودةً؟!
ولذلك حين تعود الفطرة إليهم يبدأون بالمطالبة -العُقلاء منهم- بباصات أو أتوبيسات خاصة بالنساء، وأماكن خاصة بالنساء، وجامعات خاصة بالنساء، وما شابه ذلك.
ومَن أراد أن يعرف ما يتعلق بهذا الجانب فعليه أن يقرأ كتاب "الاختلاط في التعليم" للأستاذ إبراهيم الأزرق، وهو كتابٌ رائعٌ قام بإصداره مركز "باحثات لدراسات المرأة"، وقد استقرأ دراساتٍ عديدةً من المجتمع الأمريكي، والمجتمع الكندي، والمجتمع الأوروبي، والمجتمع الشرقي غير المسلم فيما يتعلق بقضية الإحصاءات التي تُشير في مراحل عمريةٍ مختلفةٍ من مراحل التعليم إلى خطورة الاختلاط، حتى أصبحت هناك مُطالباتٌ في قضية الدراسات غير المُختلطة.
فحينما نأتي لمثل هذا الموقف: استوصوا بالنساء خيرًا، فنحن عندما نحافظ على هذا العرض، ونستوصي بهنَّ خيرًا، لم نكسر الضلع؛ لأن الجانب العاطفي لديهنَّ كبيرٌ، ولذلك ينبغي أن نتعامل معهنَّ كما تعامل النبي مع زوجاته، وكما تعامل النبي مع ابنته فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها، وقبَّلها، وأجلسها في مجلسه[9]أخرجه النسائي في "سننه" (5217)، وقال محققه: إسناده صحيحٌ..
ويتعامل مع خديجة ومع عائشة ومع زوجاته بهذا الصفاء، وبهذا المعين، وبهذا الوعاء المُمتلئ من الود.
حينما يأتي إلى خديجة ويقول لها: زمِّلوني، زمِّلوني[10]البخاري (4953)، ومسلم (160).، فهي تكون المحضن له، هو يحتاج إلى خديجة .
من الكتب المُفيدة في التربية
س: يقول الأخ المهدي من سويسرا: ما الكتب التي تُفيد في التربية وتوجيه الطفل؟
ج: الكتب في هذا كثيرةٌ، يمكن أن يُستفاد منها فيما يتعلق بقضية التربية، ومنها كتاب: "منهج التربية الإسلامية" للأستاذ محمد قطب رحمه الله في جزئيه: الأول في النظرية، والثاني في التطبيق، وقد تحدث أيضًا فيما يتعلق بالطفولة حديثًا جميلًا في هذا الموضوع.
ومنها: كتاب لحنان الجهني عن "دور الوالدين في تربية الفتاة المسلمة"، وتكلمت فيها عن مرحلة الطفولة، وكذلك مرحلة المراهقة.
ومنها: كتاب لمحمد سويد عن قضية "تربية الطفل في الإسلام"، مفيدٌ ونافعٌ في هذا الجانب.
ومنها: "تربية الأولاد في الإسلام" لعبدالله ناصح العلوان، رحمه الله.
وهناك سلسلة "التربية الرشيدة" للأستاذ الدكتور عبدالكريم بكار، وهي سلسلةٌ رائعةٌ جدًّا، وهي سلسلةٌ مُتقدمةٌ، الرقم تلو الآخر، ولا أعلم أين وصلت حتى الآن؟ لكنها بأعدادٍ متتاليةٍ -ما شاء الله-، تحدث في كل عددٍ ورقمٍ عن موضوعٍ مُخصصٍ، مثل: "مبادئ في توجيه الأسرة" في الجزء الأول، و"التواصل الأسري"، و"المراهق"، و"الطفل"، هذا أيضًا من الكتب المفيدة.
وكذلك كتب الدكتور مصطفى أبو سعد مفيدةٌ ونافعةٌ في موضوع التربية، وفي توجيه الأطفال، وهو من العمالقة في هذا الجانب، وفَّقه الله.
الاهتمام بالمرأة ومراعاة طبيعتها
عودًا إلى قضية: استوصوا بالنساء خيرًا أقول: مهمٌّ جدًّا أن يأخذ المُربون في اهتماماتهم قضية المرأة وطبيعتها، فلا تكسر هذه الفطرة أو هذه الطبيعة في المرأة، ولا تُزاد هذه الفطرة أو هذه الطبيعة في المرأة، يعني: نكون متوسطين، نتعامل بتوسط؛ لأن البعض يتجه اتجاه الظلم والعنف والإيذاء، وهذا خطيرٌ جدًّا، وهناك مَن يتجه اتجاه الدلال والدلع؛ نظرًا لطبيعة المرأة، وما شابه ذلك، فالقضية تكون في الوسط، ما بين ودٍّ، وما بين حزمٍ.
يذكر لي أحد الفضلاء عن مناسبةٍ حصلت بينه وبين إحدى بناته، مع كثرة انشغاله، فهو يعمل بوظيفةٍ مُشغلةٍ ومُضنيةٍ جدًّا في الوقت اليومي.
يقول: ذات مرةٍ احتجت أن أُغير الجو مع ابنتي، فذهبت معها إلى مطعمٍ للعشاء، ووجدتُ نفسي مُقصرًا في حق أبنائي فعلًا.
يقول: فأخذت أتبادل معها أطراف الحديث، وأنا شخصٌ مُلتزمٌ بدين الله ، وهي في هذه البيئة كذلك، وأمها كذلك.
يقول: وإذا بي أتفاجأ أن ابنتي تحمل أفكارًا ما كنت أتوقعها.
يقول: فرحتُ من جهةٍ، وحزنت من جهةٍ؛ فرحت أنني اكتشفت شيئًا ما كنت أعرفه عند ابنتي، وكنت أتوقع أنها لا تحمل تلكم الأفكار المنحرفة، وتضايقت أن ابنتي كانت بهذه الصورة، وأنني بعيدٌ عن ابنتي.
فنحن نحتاج حقيقةً -أيها الإخوة- إلى العناية بموضوع المرأة ورعايتها، ومحاولة كسب المرأة قدر المستطاع، وأن نراجع أنفسنا في مثل هذا الأمر، فنحن نتعامل مع طبيعةٍ غير طبيعة الرجل، وهذه الطبيعة إذا فقدت الجانب العاطفي والوجداني، أو شعرت بقصورٍ في هذا الجانب؛ بحثت عنه في اتجاهاتٍ أخرى.
ولذلك أصبحت قضية المرأة من القضايا الخطيرة المتعلقة بالانحراف الأخلاقي، والمرتبطة بجانب الشهوات.
وفي الغالب تجد أن الاستجابة التي تحصل من المرأة هي بسبب ضعفٍ في إشباع الجانب العاطفي، ولا شك أن المرأة التي تُشبع جانبها العاطفي من خلال تربيتها الإيمانية، وهي تُراقب الله ، وتُحبّه حبًّا يفوق شهواتها ورغباتها، لا شك أن هذه ممتلئةٌ في هذا الجانب.
وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا في أهمية التربية الإيمانية، لكن أيضًا أتحدث فيما يتعلق بالعلاقة، أتحدث عن العلاقة بين الآباء والأبناء، وبين المعلمين والطلاب -ذكورًا وإناثًا-، وبين المسؤول ومَن تحته، هل أشبعنا الجانب العاطفي؟
لقد ذكر الدكتور عبدالكريم بكار في كتابه "التواصل الأسري" -إن لم تخني الذاكرة- فقال: إن الدراسات دلَّت على أن الانحراف الذي يحصل في استخدام التقنية هو بسبب ضعف إشباع الجانب العاطفي، فحينما لا يُشبع الجانب العاطفي لدى الأبناء والبنات في البيت يتجهون إلى قضية الإشباع من خلال العلاقات عبر التواصل الاجتماعي؛ لذلك نحن في أمسِّ الحاجة إلى الانتباه لمثل هذه القضايا.
هذه إشارةٌ بسيطةٌ، وربما تكون لنا عودةٌ حول قضية تربية المرأة وما يتعلق بها لاحقًا، بإذن الله .
التربية في بلاد الغرب
س: يذكر لي الإخوة حسبما يردهم في (الواتس آب) حول قضية التربية في بلاد الغرب وما يتعلق بها، فما الحل؟
ج: أنا أقول: مَن يستطيع أن يترك تلكم البلاد ويكون في محضنٍ إسلاميٍّ -ولو كان المحضن ضعيفًا في البلاد الإسلامية- فإن ذلك أهون من تلكم الديار بلا شكٍّ، فمهما وجد من انحرافاتٍ في البلاد الإسلامية فإن الأمر ليس كذلك في البلاد الغربية، فمَن استطاع أن يترك تلكم البلاد فهذا مهمٌّ جدًّا.
مثلًا: بعض العقلاء من الذين يُبتعثون للخارج وهم من بلادٍ إسلاميةٍ ينصحون، وأنا كنت قد تلقيتُ هذه النصيحة من أحد الدكاترة الفضلاء، ولعله يكون لنا ضيفًا في إحدى الحلقات القادمة في هذه السلسلة المباركة -إن شاء الله-، فكان يقول: ما دام أبناؤك قد شارفوا على سنِّ المراهقة فلا أنصح بذهابهم إلى هناك، وكذلك مرحلة الطفولة؛ لأنهم يتلقون أشياء، لكن قد يكون أمر الطفولة أهون من أمر المراهقة، فإذا أمكن ترك الديار فهذا طيبٌ.
طيب، إذا بقينا في هذه الديار فلا بد من تعويض النقص الذي يحصل في الجانب الفكري والعقدي، وفي الجانب الأخلاقي، فالإخوان هناك يحتاجون إلى مزيدٍ من الترابط الأسري، ويحتاجون إلى مزيدٍ من البرامج التربوية الأسرية في داخل أُسرهم، أو المرادفة من خلال المراكز الإسلامية، أو ما شابه ذلك.
وقد سمعت بعض المواقف في تلكم البلاد، حيث يقوم البعض بتجميع الأبناء الصغار في غير وقت الدراسة الرسمية: كإجازة يوم السبت أو الأحد، ويقومون بتدريسهم في الجوانب الدينية والشرعية، وفي الجوانب اللغوية، وما شابه ذلك؛ حتى يُعوِّضوا النقص الذي يحصل لهم، ويحاول مَن يقوم بتربية هؤلاء الأجيال من الأطفال ومن المُراهقين أن يُحاور ويُناقش؛ لأن هؤلاء يتلقون من مدارس ليست إسلاميةً، بل ربما تُناكف الإسلام والدين.
إذن لا بد من محضنٍ تربويٍّ داخل الأسرة يُعوِّض هؤلاء، لا بد من المحاضن المُرادفة والمُساندة في هذا الموضوع، وعلى المسلم أن يتقي الله ما استطاع، وأن يلجأ إليه، ويدعو لنفسه ولأهله ولأبنائه.
وكما أشرنا لا بد من قضية الترابط والعلاقة الحميمية، حتى يأوي الأبناء إلينا؛ لأن المجتمع هناك مُنفتحٌ جدًّا، فيجدون فرصًا قد لا تكون موجودةً هناك، لكن إذا وجدوا الأمن النفسي والراحة والإشباع العاطفي في الأسرة التجأوا إلى تلكم الأسرة.
ونؤكد أيضًا بشكلٍ كبيرٍ على قضية الزواج، والحرص على أن يعفّ الذكور والإناث، وأن يتعلموا إزالة العقبات، وهذا من باب أولى.
معالجة مشكلة السرقة عند الأطفال
س: هذا أيضًا سؤالٌ ورد في (الواتس آب)، تقول: ابنتي عمرها تسع سنوات تسرق النقود، وعندما تُواجه هذه البنت حتى تُرجع النقود تتعصب وتبكي، وتحلف وتقول: والله لن أسرق مرةً أخرى. حتى لو كُلِّمت بطريقةٍ لينةٍ تقول: لن أسرق مرةً أخرى، لن أُعيدها. ثم تعود مرةً أخرى. تقول الأم: ما العمل مع مثل هذه البنت ذات التسع سنوات؟
ج: في هذه الحالات وأمثالها لا بد من تشخيص الحالة أولًا، لا بد من معرفة سبب السرقة، وأذكر موقفًا من المواقف العجيبة جدًّا التي مرت عليَّ، وهذا الموقف يُعطيكم أهمية معرفة السبب، سمعتُ هذه القصة: أن طالبةً كانت تأتي إلى أمها بهدايا وتقول: إني قد كُوفئتُ من المدرسة بهذه الهدايا. وهذا ليس صحيحًا، هي تكذب، والهدايا هذه مسروقةٌ من المدرسة.
ما الذي جعل هذه البنت تُمارس هذا الدور؟ هذه القضية التي أريد أن ألفت النظر إليها، فانتبهوا.
المدرسة اشتكت أن البنت تقوم بالسرقة باستمرارٍ، فوفِّقت هذه إلى مُرشدةٍ طلابيةٍ جيدةٍ قامت بدراسة الحالة.
انظروا لهذه القضية، كانت البنت دائمًا إذا رجعت إلى أمها من المدرسة تقول لها الأم: ما أعطوكِ جائزةً؟! إذن أنت فاشلةٌ! زميلاتك كلهن يأخذن جوائز. فتعبت البنت وهي صغيرةٌ من كثرة هذا العتاب واللوم وتكرار هذا الكلام، ولا يلزم البنت أن تأتي بتلكم الجوائز، فيمكن أن نحثها بطريقٍ غير هذا الطريق، فأرادت البنت أن تهرب من هذا الموقف المزعج الذي تسمعه كل يومٍ، فكانت تسرق وتأتي بهذه الهدايا للأم حتى تسكت، فتفكير الطفل تفكيرٌ بريءٌ، وينبغي أن ننتبه له.
كيف يُربي المرء نفسه ويُربي غيره في بلاد الغرب تربيةً إسلاميةً؟
معنا الأخت بسمة من فرنسا، ونعود إلى السؤال -إن شاء الله- بعد قليلٍ.
المتصلة: السلام عليكم يا شيخ.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصلة: والله يا شيخ أنت على حقٍّ، فالتربية هنا في فرنسا صعبةٌ، أنا لم أُولد هنا، ولقد تعلمتُ القرآن والعربية في بلدي في المغرب، وأحمد الله على ذلك، فأفكارهم هنا غير أفكارنا، وعندما أذهب إلى المدرسة للدراسة أحسّ أني غريبةٌ بينهم بأفكارهم.
المحاور: صحيحٌ، أنتم تُؤكدون أن البرامج المُرادفة التي أخذتم فيها القرآن، وأخذتم فيها العلم مهمةٌ؟
المتصلة: أكيد.
المحاور: نفعتكم كثيرًا؟
المتصلة: أكيد يا شيخ، نحن سنتفرج على "اقرأ" وعلى "زاد" طول اليوم.
المحاور: بارك الله فيكم، شكرًا لكِ يا أخت بسمة.
المتصلة: بارك الله فيك يا شيخ.
المحاور: مداخلة تؤكد ما ذكرناه فيما يتعلق بقضية المعاناة التي يُعاني منها الإخوة والأخوات الذين يعيشون في بلاد الغُربة وبلاد الكفر، وكيف يُربون أنفسهم ويُربون غيرهم التربية الإسلامية؟
الحرص الزائد يجعل الأبناء يكذبون
نعود إلى سؤالنا حول السرقة، فأقول لكم: كان السبب أن الأم تؤكد دائمًا على ابنتها، فأرادت البنت أن تُسكت أمها بهذه الصورة؛ فسرقت.
ولذلك أنا أؤكد جدًّا -أيتها الأخوات، وبالذات الأمهات- على أننا في الاختبارات لا ينبغي أن نضغط كثيرًا على الأبناء حينما يعودون إلى البيت بعد الاختبار، ونحن مُقبلون على اختباراتٍ وغيرها، فماذا يحصل؟
للأسف في بعض الأحيان من زيادة الحرص تسأل الأم ابنها أو ابنتها: هل أخطأت في سؤالٍ؟ هل نقص منك شيءٌ؟ فيُصبح هذا عبارةً عن سلوكٍ معتادٍ: البنت والابن.
أنا حقيقةً لو كنت في مكان البنت أو الابن لا أتحمل سماع هذا السؤال، ويُكرر عليَّ باستمرارٍ، لا أتحمل، فماذا سأفعل؟ سأُعطي صورةً ليست صحيحةً حتى أسلم من هذا الموقف، وانتهينا، سيكذب الابن.
بل أعرف حالاتٍ حصل فيها أن بعض الآباء لا يعرفون أن أبناءهم انقطعوا عن الدراسة وجلسوا فترةً من الزمن لا يدرسون، ويظنون أن أبناءهم يدرسون، وأبناؤهم يكذبون عليهم، وذلك بسبب هذه المواقف وما يتعلق بها.
فأقول فيما يتعلق بسؤال الأخت الكريمة عن ابنتها ذات التسع سنوات: من المهم معرفة سبب السرقة، هذه النقطة رقم واحد.
النقطة رقم اثنين: لا بد من تعزيز السلوك المضاد، خاصةً أن الطفل والطفلة في مثل هذا السن من السهولة بمكانٍ أن يُحمس ويُشجع: يا ابنتي، إذا لم يحصل منك هذا الشيء -إن شاء الله تعالى- سنُكافئك. وتكون المُكافأة من الأشياء التي تُحبها، وما شابه ذلك، فيُكافأ على السلوك المضاد مباشرةً، وتكون للمكافأة قيمتها وقدرها عند الطفل؛ حتى يتشرب هذا السلوك الإيجابي، ويبتعد عن السلوك السلبي.
وأيضًا العقوبة المناسبة من الحرمان إذا ما نفعت قضية التعزيز، وبقيت قضية السرقة؛ فينبغي البحث عن أمرٍ تُحبّه ابنتك، وجديرٌ منكِ أن تقومي بحرمانها منه؛ حتى تشعر بشيءٍ من الضيق في هذا الأمر، أو بالحرمان من شيءٍ هي ترغبه، فلعلها أن تعود، بإذن الله .
وهذه وسائل على أية حالٍ قد تُصيب، وقد لا تُصيب.
أيها الإخوة والأخوات، نعود إلى منهج النبي فيما يتعلق بموضوع التربية، فنستفيد من التربية النبوية، على صاحبها الصلاة والسلام.
شمول عملية التربية للمراحل العمرية المختلفة
يقول النبي : ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا، ويُوقِّر كبيرنا[11]أخرجه الترمذي في "سننه" (1919)، وصححه الألباني في "الجامع الصغير" (5445).، وذكرنا قبل قليلٍ حديث النبي : استوصوا بالنساء خيرًا[12]أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذُريته، برقم (3331)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب … Continue reading، فهناك اهتمَّ بفئة النساء، وهنا اهتمَّ بفئة الصغار، واهتمَّ كذلك بفئة الكبار.
وهكذا التربية ينبغي أن تكون شاملةً للمراحل العُمرية وللفئات المختلفة، ما في أحدٍ وصل إلى مُنتهاه في التربية، ينبغي أن ننتبه لهذه القضية.
وبعض كبار السن أو كبيرات السن بسبب طبيعتهم قد يقولون في بعض الأحيان: الحمد لله، ما نحتاج أن نتعلم، تعلمنا أشياء كثيرةً من قبل.
والحقيقة أن هذه المقولة ليست صوابًا، هم لا يقصدونها، ولكنها تأتي من خلال امتداد العمر، وما شابه ذلك.
نعم، هم أصحاب خبرةٍ، ولديهم من العمر ما يكفيهم في قضية التعلم في أشياء سبقت، ولكن ما زالوا يحتاجون للتعليم إلى آخر رمقٍ، بل إن الإنسان يحتاج إلى أن يُلقن ويُذكر بـ"لا إله إلا الله" عند وفاته.
الطفل يحتاج إلى الرحمة
ومن القضايا المتعلقة بالتربية: ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا هذا التعامل مع الصغير، فالصغير يحتاج إلى رحمةٍ، أيها الإخوة.
يقولون عندنا في التخصص: الفهم مع المُسترشد، مع مَن تتعامل معه، كيف تتعامل مع فهمه؟ يعني: هو فهمه، لكن كيف الفهم مع المسترشد؟ تضع نفسك في مكانه، وهذا طريقٌ لفهمه، فالطفل ماذا يحتاج؟ الطفل يحتاج إلى مَن يرحمه؛ لأنه صغيرٌ لم ينضج بعد في هذه الحياة.
ويُوقِّر كبيرنا الكبير أصبح مُمتدًّا في العمر، ويحتاج إلى مَن يحترمه ويُوقِّره، فهو صاحب خبرةٍ، وصاحب اهتمامٍ وعنايةٍ، أين نحن من هذه الأخلاقيات؟ في تعاملنا مع الصغار رحمةٌ، وفي تعاملنا مع الكبار توقيرٌ.
أذكر موقفًا لا أنساه، وقد نزلتُ (سوبر ماركت) وإذا بي أرى رجلًا من مكان القيادة في السيارة ينزل إلى المكان الآخر، وإذا بالمكان الآخر طفلٌ له، فيجره ويضربه ضربًا أمام الناس في الشارع على الرصيف، فماذا يمكن أن نقول؟! مَن السبب في هذه الحالة وهذا الموقف؟!
فمهما قلنا: إن الطفل قد آذى والده في السيارة، أو تكلم كلامًا سيئًا، أو سبَّ والده، أو تكلم عليه، أو آذاه، أو فعل ما فعل، فهو طفلٌ.
فلو تصورنا هذه الاحتمالات هل هذا يستدعي أن يحصل هذا الإيذاء وهذا العنف بهذه الطريقة؟!
مَن يأخذ من منهج النبي وهو: ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يتعامل معه بهذه الطريقة.
وأذكر أن أحد المُتدربين كان لدينا في "كلية التربية"، فذهب للتدريب في المستوى الثامن -والحمد لله عددٌ من المُتدربين أمورهم إيجابيةٌ، لكن سأذكر الجانب السلبي- فلم يتحمل طفلًا في سن الرابعة ابتدائي -يعني: عمره عشر سنوات- يتحدث مع زميله هنا وهنا: اسكت، اسكت، ما سكت! انفعل المعلم، حاول يمينًا وشمالًا، طيب، هو في النهاية طفلٌ، ومن الطبيعي أن يتحرك يمنةً ويسرةً، فقام هذا المعلم وأخذ الكرسي وضرب به الطفل.
أين الرحمة؟! إذا كان الكبار يحتاجون إلى الرحمة، فما بالك بالصِّغار؟
فكم نحن بحاجةٍ أيها الإخوة إلى هذه القضية المتعلقة بالتعامل مع الصغار حتى نكسبهم؟
لقد كان عليه الصلاة والسلام يمر -بأبي هو وأمي- على الصبيان ويُمازحهم ، وينظر إلى أبي عُمير وعنده نُغَيرٌ، طائرٌ كان يُلاعبه، لاحظوا: الطفل عندما تكون معه لعبةٌ فتنكسر يحزن، فما بالكم عندما يكون معه طائرٌ حقيقيٌّ، ثم يموت فيحزن، فيسأل النبي عن حزنه، فيقول: إنه بسبب هذا النُّغير، فيقول له: يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَير[13]أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس، برقم (6129).، ينزل النبي إلى مستواه، هذا الفهم مع المُسترشد.
لا بد أن نُدرك حاجات الطفل، ومن الخطأ أن نقول العكس: نحن نريد من الأطفال أن يُدركوا حاجاتنا! فالطفل لم ينضج بعد.
فنحن في أمس الحاجة إلى أن ننزل إليهم، وأن نُفكر، وأن ننظر كيف يُفكرون؟ وكيف يشعرون؟ هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
وكذلك الكبير الذي أصابه المرض، أو تقدم به العمر، كم يفرح وكم يسعد حينما يجد مَن يحترمه، ويجد مَن يُوقِّره ويُقدّره ويُقبّل رأسه؟
استخدام التعزيز في تربية الأبناء
معنا الأخ المهدي من سويسرا.
المتصل: نعم.
المحاور: تفضل أخي الكريم، السلام عليكم.
المتصل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، يا شيخ، أريد أن أسألك: عندي طفلٌ عنده إحدى عشرة سنةً، وعنده فتورٌ في تعلم اللغة العربية والقرآن، حاولتُ معه باللين لمدةٍ طويلةٍ ولكن لم ينفع، ثم اتجهتُ إلى الصرامة فلم تنفع، فلاحظتُ أنه يبتعد، فأريد أن تنصحني، جزاك الله خيرًا.
المحاور: طيب، أخي المهدي، ماذا فعلتَ في اللين؟
المتصل: حاولت تحفيزه بإعطائه جوائز، أو بالقول: أن له الجنة إن حفظ القرآن، وأن له بكل كلمةٍ أو بكل حرفٍ عشر حسنات، وبأحاديث النبي وتفسيرها له.
المحاور: عفوًا أخي، هل كانت الحوافز المادية والدنيوية أكثر، أو الحوافز الأُخروية أكثر؟
المتصل: حاولتُ أن يكون الاثنان سواءً.
المحاور: وكانت أشياء يُحبُّها الطفل؟
المتصل: نعم.
المحاور: وكم جلست على هذا المشوار؟
المتصل: تقريبًا سنة.
المحاور: وما نفع؟!
المتصل: المشكلة أنني استخدمتُ معه الصرامة، فلاحظت أنه يبتعد أكثر.
المحاور: أنا لست معك في استخدام الشدة في مثل هذه القضية، استخدم معه أسلوب التعزيز، فهو مهمٌّ جدًّا، أنا أرى أنك تستمر، لكن أخي الكريم أنت تحتاج إلى إعادة النظر في الأشياء التي تُكافئه بها، لا بد أن تكون أشياء محبوبةً لديه، ولها قيمةٌ عنده، استخدم معه أسلوب النجوم، وكلما أنجز شيئًا ضع له نجمةً أو نجمتين أو ثلاثًا أو أربعًا، حاول أن تُغير نمط الهدايا، اجعل الهدية مثلًا رحلة ذهابٍ إلى شيءٍ يُحبه، فلا يمكن أبدًا لطفلٍ بهذا العمر ألا تكون عنده رغباتٌ معينةٌ، وسيتأثر بقضية التعزيز بلا شكٍّ.
الذي أخشاه أخي الكريم أن يكون برنامجكم المتعلق بقضية اللغة والقرآن قاسيًا، أو يكون مثاليًّا، أو يكون كثيرًا، ولقد مرَّت عليَّ حالاتٌ كثيرةٌ من هذا النوع، حتى إن بعض الإخوة والأخوات في ديار الغربة كانوا يُعانون من مثل هذه القضية في تعليم أبنائهم، يريدون أن يُعوِّضوا فتكون الجرعة كبيرةً ومثاليةً، ليست واقعيةً، فينفر الولد أو البنت من مثل هذا المستوى.
القضية تحتاج إلى التنبه، وفقك الله أخي، واسأل الله، واستعن بالله ، وادعُ الله ، وحاول أيضًا أن تجعل معه أشخاصًا آخرين من أقرانه يُحمسونه، هذا سيُساعده، بإذن الله .
ولا بد أن يكون المعلم معلمًا محبوبًا، له خصائص جميلةٌ في العلاقات مع مثل هذا الابن، وفقكم الله.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزءٌ من المنهج الوقائي
طيب، أيها الإخوة، نعود إلى ما ذكرنا في حديث النبي : ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا، ويُوقِّر كبيرنا[14]أخرجه الترمذي في "سننه" (1919)، وصححه الألباني في "الجامع الصغير" (5445)..
ومما يُستفاد من هذا أن الشخصية المسلمة المُتربية حريصةٌ على أن تكون آمرةً بالمعروف كما يُحبه الله ، ناهيةً عن المنكر الذي لا يُحبه الله ، والذي نهى عنه النبي .
يعني: عندما تأتي الأسرة وتقول: نحن لا نستطيع أن نمنع القنوات الفضائية، فهذه التقنية جاءتنا، وأصبح التيار جارفًا، ولا يمكن أن نمنع، ولا يمكن أن نفعل شيئًا. هذا استسلامٌ.
وليس معنى كلامي هذا أننا نمنع كل شيءٍ، لكن نحن نستطيع -لو أردنا- أن نمنع شيئًا دنيويًّا، فنستطيع أن نمنع ابننا من الأكل بسبب أنه يُؤثر عليه صحيًّا، أليس كذلك؟ ونستطيع أن نمنع أبناءنا من أشياء يُحبونها حتى يُهيئوا أنفسهم للاختبارات، ألا نستطيع أن نمنع؟
عندنا قُدرة على المنع، وهذا جزءٌ من المنهج الوقائي، لكننا -للأسف الشديد- استسلمنا؛ لذلك ينبغي أن يكون الإنسان في أسرته آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، ينبغي أن يكون الإنسان في مدرسته، وفي بيئته الوظيفية، وفي مجتمعه آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، كما كان النبي ، وكما قال الله : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
خَيْرَ أُمَّةٍ حينما يكون عندنا هذا الحس؛ ولذلك تجد في بعض البيئات الذي ولي أمرها أبٌ أو أمٌّ، وفي بعض البيئات التعليمية المعلم أو المعلمة، وفي بعض البيئات الوظيفية المسؤول .. إلى آخره، حينما يكون عنده هذا الحس تجد أنه يُعطى وسام شرفٍ في المحافظة على القيم، وزراعة القيم، والابتعاد عن الأخلاق والسلوكيات السيئة من خلال رعايتهم لمثل هذا الشيء.
لا يقبل الخبث، لا يمكن أن يقبل الأب أو الأم الخبث في أبنائهم، وفي أسرهم، كيف يمكن أن يقبل ذلك؟! كيف يقبل الزوج أو الزوجة الخبث؟!
اليوم أتاني اتصالٌ غريبٌ في الهاتف الاستشاري ما بين العصر والمغرب، يقول المتصل: إن زوجته -أسأل الله أن يُصلح حالها ويهديها- على علاقةٍ برجلٍ آخر، وهذا المتصل متزوجٌ، وأظن أن له سنتين أو سنوات، المقصود أنه اكتشف قبل فترةٍ أنَّ لها علاقةً برجلٍ آخر -والعياذ بالله-، فلما نصحها انقطع الاتصال والتواصل من خلال جهاز الجوال؛ لأنها أعطت جهاز الجوال لزوجها، لكن يقول: بقيتُ أراها تُرسل رسائل وتكتب كتابات بيدها .. إلى آخره حبًّا في هذا الرجل، فما زالت مُتعلقةً به، هذا مسلكٌ!
المسلك الثاني: أنها ألحت على زوجها -وزوجها مستقيمٌ، وهذا مما استغربته- أن تأتي بالقنوات الفلانية، وسمَّى لي هذه القنوات، وهي من القنوات المشهورة بالانحلال الخلقي والفكري، فيقول: أردتُ أن أُرضيها فرضختُ لها. فقلت له: أين القوامة؟ أين قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]؟
فلا بد أن نكون آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، نعم سيكون هناك تعبٌ، لكن -كما قلت- هذا مستحيلٌ، سنتعب في أمور دنيانا حتى لو خالفنا أبناؤنا وزوجاتنا .. إلى آخره، سنتعب، سنقول لهم في بعض الأمور التي يُريدونها: لا.
وهكذا بالنسبة لأي بيئةٍ تربويةٍ نحن فيها، نحتاج إلى هذا المَعْلَم المهم، ألا وهو ما يتعلق بقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها الإخوة والأخوات، التربية من خلال منهج النبي أمرٌ عظيمٌ جدًّا نحتاجه أيما حاجةٍ، فينبغي أن تكون هناك دراسةٌ لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ينبغي أن تدرس الأسرة وتقرأ في كتاب "الرحيق المختوم"، أو تقرأ في أي كتابٍ في السيرة، وترجع هذه الأسرة نفسها إلى المحضن التربوي العظيم الذي كان في عهد النبي ؛ ولهذا المَعِين الذي لا ينضب، نحن في أمسِّ الحاجة إلى ذلك.
لو أن الأسرة تقرأ مثلًا في كتاب "رياض الصالحين" للإمام النووي -رحمه الله-، وهو كتابٌ مشهورٌ، أو تقرأ في الرقائق، أو في كتاب "الأدب" للإمام البخاري، أو كتاب "البر والصلة" للإمام مسلم، لو يقرأون فقط قراءةً.
والحمد لله معاني آيات الله وسنة النبي واضحةٌ في الأغلب الأعم، ونحن سنستفيد من ذلك فائدةً عظيمةً جدًّا، والله تعالى أعلم.
فندعو الأسرة لإجراء لقاءٍ أسريٍّ أسبوعيٍّ على أقل تقديرٍ، تكون مادته متعلقةً بمثل هذا المَعِين الذي لا ينضب، على صاحبه الصلاة والسلام.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "الوابل الصيب" لابن القيم (26). |
---|---|
↑2 | أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (175). |
↑3 | مسلم (1218). |
↑4 | البخاري (6243)، ومسلم (2657). |
↑5 | البخاري (1862)، ومسلم (1341). |
↑6 | البخاري (5096)، ومسلم (2740). |
↑7 | أحمد في "مسنده" (22211)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ. |
↑8 | أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذُريته، برقم (3331)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، برقم (1468). |
↑9 | أخرجه النسائي في "سننه" (5217)، وقال محققه: إسناده صحيحٌ. |
↑10 | البخاري (4953)، ومسلم (160). |
↑11 | أخرجه الترمذي في "سننه" (1919)، وصححه الألباني في "الجامع الصغير" (5445). |
↑12 | أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذُريته، برقم (3331)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، برقم (1468). |
↑13 | أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس، برقم (6129). |
↑14 | أخرجه الترمذي في "سننه" (1919)، وصححه الألباني في "الجامع الصغير" (5445). |