المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي "أسس التربية" في قناتكم قناة "زاد" العلمية.
وسنتحدث اليوم معكم عن موضوع أهمية التربية للمجتمع، مع استضافاتٍ كريمةٍ من بعض الأساتذة الفُضلاء، ولكن قبل ذلك نُكمل ما يتعلق بأهمية التربية للأسرة.
تتمة موضوع أهمية التربية للأسرة
ففيما يتعلق بالموضوع السابق وهو: "أهمية التربية للأسرة" وقعت بين يدي مجموعةٌ من القصص القريبة التي تُؤكد قضية التربية، وبخاصةٍ في مُحيط الأسرة، فقد جاءني اتِّصالٌ فيه شكوى من عدم استثمار التقنية، أو الوقوع في انحرافٍ لا أخلاقيٍّ من خلال التقنية، وكان المُتصل أحد أولياء أمور بنت استخدمت التقنية في أمورٍ ليست إيجابيةً، ومع الأخذ والحوار تبيَّنت لنا قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وهي: أثر بُعْد أولياء الأمور عن أبنائهم، فكانت هذه البنت تقول لأمها: أبي ليس قريبًا مني، ولا أسمع منه الكلمات الجميلة.
ولا شك أن ضعف إشباع الجانب العاطفي هو سببٌ، وليس مُبررًا للبنت أنها تُمارس الانحرافات اللاأخلاقية، ولكن كانت سببًا وتفسيرًا لقضية انجرافها مع اتِّجاهاتٍ سلبيةٍ في إشباع الجانب العاطفي من خلال العلاقات مع شبابٍ، وما شابه ذلك عبر التقنية؛ ولذلك نُؤكد على هذا الموضوع بدرجةٍ كبيرةٍ.
وقصةٌ أخرى علمتُ بها من أحد القريبين عن طفلٍ عمره تقريبًا ثلاث سنوات ونيف، فالمعلمة أثناء تعليمها هؤلاء الأطفال أرادت أن تستخدم أسلوبًا من الأساليب التربوية الرائعة التي فكَّرت بها المعلمة في هذا المحضن التربوي لهؤلاء الأبناء الصِّغار قبل المدرسة؛ وهو تقديم هؤلاء الأبناء لآبائهم هديةً، وكانت عبارةً عن سبحةٍ وُضعت في إطارٍ مناسبٍ، بحيث يقوم الطفل الصغير حينما يعود إلى البيت بتقديمها لأبيه، فالغريب أن هذا الابن قال للمعلمة: لا، أنا أريد أن أكتب على هذا الغلاف شيئًا لوالدي أنصحه به، فرسم هذا الابن الذي عمره ثلاث سنوات رسمةً عبارةً عن مربعٍ كبيرٍ أو مُستطيلٍ، وداخله مستطيلٌ أسود، وفيه بصمةٌ باللون الأحمر، ووضع علامة "صح" فوقه في نفس الإطار والبصمة الحمراء، لكن الإطار الداخلي الصغير ليس أسودًا، وإنما كان مفتوحًا، وفيه أشكالٌ، ومكتوبٌ: خطأ، وكان الشكل الذي في الأسفل يُعبر عن الجوال حينما يضغطه الإنسان وإذا به مُغلق، فيقول: يا أبتِ، كن كذلك حينما تكون معنا. وفوق يحكي واقع أبيه، وأنه مشغولٌ عنهم.
فكانت بالنسبة للأب درسًا تربويًّا قويًّا، وتأثر من موقف هذا الابن ذي الثلاث سنوات، وكأنه يقول له: لا تشغلك يا أبتِ التقنية أو الجوال عنا.
فتصور ثلاث سنوات يفعل هذا! فهذه قضيةٌ لا بد أن نتنبه لها، فكيف بمَن هو أكبر من هذا السن في مرحلة المدرسة الابتدائية، أو حتى مرحلة المُراهقة؟!
فالأب أدرك أن ابنه الصغير فعلًا قدَّم له نصيحةً مُؤثرةً عميقةً، وهي كذلك في مكانها الصحيح، وأراد أن يُكافئ هذا الابن؛ فاشترى له هديةً مُكافأةً له.
وفي هذا اليوم الذي نحن فيه كنتُ أيضًا في مناسبةٍ، وسمعتُ قصةً شبيهةً بهذه القصة، لكن من وجهٍ آخر، فهذه بنتٌ كانت صغيرةً في وقت القصة والحدث، وأبوها كانت له علاقةٌ بشخصٍ آخر في أعمالٍ خيريةٍ للمجتمع، فكان ينشغل كثيرًا مع هذا الشخص الذي هو صديقه، فكانت البنت من شدة انشغال الأب عنها ترسم رسمةً، وما زالت مُحتفظةً بهذه الرسمة، تقول: أمريكا خطر. وذكرت أشياء من خلال ما تسمع، وذكرت أن فلانًا خطرٌ. يعني: الذي هو مع أبيها، وهو صديقه وعزيزه، يعني: كأنها تقول: أَخَذَنا منك هذا الشخص، وأصبح هذا الشخص يمضي معك أوقاتًا، ونحن بأمس الحاجة إليك.
فهذه القصص الثلاث أيها الإخوة والأخوات تُؤكد لنا تأكيدًا مُلحًّا جدًّا أهمية التربية في الأسرة التي تناقشنا فيها في الحلقتين السابقتين -وهي ما قبل الحلقة الماضية الاستثنائية-، وتؤكد حاجتنا إلى أن نكون قريبين من أبنائنا، وأن نُعطيهم من أوقاتنا، ونسمع لهم.
ففي القصة الأولى التي فيها انحراف البنت التي هي في مرحلة المُراهقة، والقصة التي في مرحلة ما قبل المدرسة -وهي الطفولة المُبكرة-، والقصة التي في المرحلة الابتدائية، ففي كل هذه المراحل اشتركوا بشكايتهم من بُعْد أولياء أمورهم عنهم؛ ولذلك ينبغي أن نكون قريبين ودودين رحيمين بأبنائنا أيها الإخوة، ونُعطيهم من أوقاتنا.
ويُعجبني -والله- الأب الذي يُلزم نفسه بوقتٍ لأبنائه، وكم نحن مُقصِّرون جدًّا في هذه القضية، فنحتاج إلى مثل هذا الأمر.
وأذكر أنني كنتُ أُقدم دورةً من الدورات -وهذا كان درسًا لي أنا حقيقةً- وكانت الدورة بعنوان: "ما بين الآباء والأبناء"، وحضر بعض الآباء والأبناء، ودار جانبٌ حواريٌّ بين الطرفين والجيلين، فأعطانا أحد الآباء الموجودين درسًا رائعًا جدًّا، وهو شخصٌ مشغولٌ جدًّا في وظيفته، ولا يخرج إلا قبيل المغرب، أو بعد العصر، ومع ذلك فهو مُلزمٌ نفسه بساعةٍ يوميةٍ يكون فيها قريبًا من أبنائه، ويُغذيهم بأمورٍ إيجابيةٍ من خلال اللقاءات الجماعية أو الفردية.
فحقيقةً كان نموذجًا رائعًا من النماذج التي نحن بأمس الحاجة إليها، وتُعطي دلالةً كبيرةً جدًّا عن حاجتنا إلى التربية الأسرية، وأثرها وأهميتها للأسرة.
التربية للمجتمع
أما عن موضوعنا اليوم، وهو ما يتعلق بأهمية التربية للمجتمع، فإذا أكَّدنا في الحلقات السابقة على أهمية التربية للفرد والأسرة، فسنقول: إن أهمية التربية للمجتمع مهمةٌ جدًّا بكل المُعطيات السابقة تمامًا، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
فنحن إذا اجتهدنا وأصبنا في التربية الفردية المُتعلقة بالجانب الفردي، وأيضًا المُتعلقة بالجانب الاجتماعي الصغير وهو: الأسرة؛ فلا شك أن التربية المُجتمعية ستكون على صورةٍ أفضل، وإذا قصَّرنا في تربية الفرد وتربية الأسرة؛ فسيكون التقصير حاصلًا في تربية المجتمع.
وتبرز بعض القضايا المتعلقة بالمجتمع، وأثر وأهمية التربية فيه من خلال بعض الأمور:
الأمن الاجتماعي
فالأمن الاجتماعي قضيةٌ من القضايا الجديرة بالعناية والاهتمام، وبخاصةٍ في ظل اضطرابات المُجتمعات اليوم، ووجود المُؤثرات السلبية الشديدة، وتقارب هذه المُؤثرات على المُجتمعات، وما تُعانيه في حياتها في مجتمعاتها.
نُكمل -إن شاء الله تعالى- بعد أن نستمع لسؤال الأخ: أبي حفصة من المغرب.
مشكلة الاختلاط في مراحل التعليم
حيَّاك الله أخ أبو حفصة.
المتصل: حيَّاكم الله، السلام عليكم ورحمة الله.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك.
المتصل: أهلًا وسهلًا يا شيخنا، كيف حالكم؟
المحاور: الحمد لله، تفضل بما عندك.
المتصل: كيف نُربي أبناءنا، ولا سيما فيما يُعرف بالتعليم العمومي؟ عندنا في المغرب اختلاطٌ، ولا سيما في المدرسة من الابتدائي إلى الثانوي وإلى ما بعد الثانوي.
المحاور: واضحٌ، أعانكم الله.
المتصل: في البيت ممكنٌ، أما خارج البيت كيف نتعامل معهم؟
المحاور: هل عندكم بدائل؟
المتصل: لا، بالنسبة للمدرسة العمومية أو الخصوصية ليس عندنا بدائل، يوجد بعض المدارس التي تُقرئ القرآن، أما المدارس الابتدائية والثانوية ما عندنا بديلٌ عنها.
المحاور: هذا السؤال من الأسئلة الشائكة جدًّا، وأنا لا أريد أن أتحدث بما لا يخصني؛ لأن هذه القضايا يُحتاج فيها لسؤال أهل الذكر من أهل الشريعة؛ حتى يطمئن الإنسان من الناحية الشرعية، فأنا لا أتفوَّه هنا بشيءٍ ليس من مجال تخصصي، ولكن أتكلم من الناحية التربوية.
أنا أتمنى من أخي أبي حفصة وغيره ممن هو في المجتمعات التي ابتُليت بالاختلاط من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الجامعية، وهناك في بعض الدول الإسلامية الدراسة في الابتدائية والمتوسطة والثانوية لا يوجد فيها اختلاطٌ، ولكن في الجامعة يكون الاختلاط، وهذه مشكلةٌ أيضًا، لكنها أخفُّ من المشكلة الأولى التي هي من بداية المراحل إلى نهايتها، ولا توجد لهم بدائل.
فالمقصود أنهم يسألون المُختصين في الجانب الشرعي، والجانب الآخر: الاطلاع على بعض الدراسات المهمة، فهناك دراسةٌ للأستاذ: إبراهيم الأزرق، نشرها مركز "باحثات لدراسات المرأة"، وهو من المراكز المهمة جدًّا في قضايا دراسات المرأة، بعنوان: "الاختلاط في التعليم"، وهو كتابٌ مهمٌّ جدًّا، وتحدث عن البيئات الأوروبية والكندية والأمريكية والشرقية غير المسلمة، وتكلم عن مُحاربتهم للاختلاط في التعليم، والدراسات التي دلَّت على ذلك في البيئات الإقليمية والعالمية، وخطورة هذه القضية، حتى أصبحت هناك مُناداةٌ للفصل بين الجنسين.
أنا أتمنى من هذه المُجتمعات أن تضغط على أصحاب الرأي والعقلاء ليُوجِدوا على أقلّ تقديرٍ بيئاتٍ تعليميةً ليست مُختلطةً.
لنا استكمالٌ في هذا الموضوع، لكن بعد هذا الاتصال من أخينا أبي محمد من قطر.
توزيع الأبناء على الغُرف في البيت
حيَّاك الله يا أبا محمد.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليك السلام ورحمة الله.
المتصل: الله يُحييك ويُبارك فيك.
المحاور: مرحبًا بك يا أخي.
المتصل: سؤالي: هل هناك آثارٌ سلبيةٌ أم إيجابيةٌ في التفريق بين الأبناء على عددٍ من الغُرف؟
ولا يخفى عليكم أن الأبناء في القديم كانوا مُجتمعين، أما في هذا الزمن فقد وُزِّع الأبناء في الغُرف، فما تعليقك، بارك الله فيك؟
المحاور: الغُرف تقصد في البيت الواحد؟
المتصل: نعم، الله يُسلمك.
المحاور: وهم إخوةٌ؟
المتصل: نعم.
المحاور: أم تقصد المُتزوجين؟
المتصل: لا، هم أطفالٌ.
المحاور: يعني: أبناء الأسرة؟
المتصل: نعم، الله يُسلمك، هل هناك أثرٌ سلبيٌّ أم إيجابيٌّ؟
المحاور: طيب، خيرٌ إن شاء الله، بإذن الله نُحاول الإجابة، شكرًا لك.
معنا مُداخلةٌ كريمةٌ في موضوع حلقتنا اليوم مع أخينا الدكتور: ممدوح مسعد هلالي، الأستاذ المُساعد بكلية التربية بجامعة الإمام عبدالرحمن الفيصل بالدمام، جامعة الدمام سابقًا.
مرحبًا بك يا دكتور ممدوح.
المتصل: مرحبًا أستاذنا الدكتور خالد، أهلًا وسهلًا بحضرتك، ومشكورٌ على جهودك في هذا البرنامج الرائع.
المحاور: يُعطيك العافية.
المتصل: ونفع الله بعلمكم.
المحاور: وبكم يا شيخنا، وأنا سعيدٌ بكم حقيقةً يا دكتور ممدوح.
نحن موضوعنا حول أهمية التربية للمجتمع، لو أعطيتنا رؤيتك حول هذا الموضوع، تفضل، حفظك الله.
ما المقصود بالتربية؟
المتصل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعدُ: كثيرٌ من الناس يسألون: ما المقصود بالتربية؟
فالتربية هي: عمليةٌ اجتماعيةٌ نشأت مع الإنسان منذ نشأته، أو منذ وجود الإنسان، بمعنى أدق: التربية عمليةُ تكيُّف الفرد مع المجتمع الذي يعيش فيه، أو يسير وفق قواعد وأُسسٍ وبرامج المجتمع الذي يعيش فيه.
علاقة الثقافة بالتربية
وهنا سؤالٌ: هل التربية تابعةٌ للثقافة، أو الثقافة تابعةٌ للتربية؟ أو: ما علاقة التربية بالثقافة؟
فأهم عنصرٍ في التربية أنها تابعةٌ للثقافة، فالثقافة هي الأساس الذي تقوم التربية على نشره وتطويره وتطهيره بين أفراد المجتمع من بعض الشوائب أو العوالق التي تعلق به من الثقافات الأخرى.
ونحن نعيش الآن في جوِّ سماواتٍ مفتوحةٍ، أو في الفضائيات المفتوحة التي يمكن أن تنقل ثقافاتٍ مُختلفةً من مكانٍ إلى آخر.
فيمكن القول: إن التربية يختلف تعريفها من مجتمعٍ إلى آخر بناءً على الثقافة التي يعتنقها المجتمع، فالتربية لا يمكن لها أن تُستورد أو تُباع أو تُشترى من مكانٍ إلى آخر، فكل ثقافةٍ لها تربيتها الخاصة بها، فالتربية هي التي تعمل على تثبيت الثقافة في المجتمع.
المحاور: إذن هناك تلازمٌ كبيرٌ بين التربية وآلياتها وبين ثقافة المجتمع؟
المتصل: ممتازٌ، صحيحٌ فعلًا، فالثقافة هي الأصل، والتربية هي التابع، حتى لا يفهم الكثيرون خطأً أننا نُغير ثقافتنا بناءً على التربية، بالعكس: التربية تابعةٌ للثقافة، والثقافة هي الأصل.
المحاور: إذن المجتمع يا دكتور ممدوح حينما يتعاطى أنماطًا للتربية مُخالفةً لثقافته يكون مجتمعًا ليس إيجابيًّا، ولا مُتماسكًا، وليس صاحب هويةٍ؟
المتصل: صحيحٌ.
المحاور: جميلٌ.
المتصل: فنحن نقول في أحد تعريفات التربية: أن يسير المرءُ وفق أعراف المجتمع وقِيَمه وثقافته، هذا من ضمن تعريفات التربية.
مع ملاحظة: أن بعض الأفراد في الوقت الحاضر قد يعيشون في مجتمعاتٍ أخرى غير مجتمعاتهم -كالمُغتربين مثلًا- فهل عليهم أن يسيروا وَفْقَ أعراف المجتمع الغريب الذي ديانته وعقيدته مُختلفةٌ؟ لا، وإنما يرجع لأصله؛ لأن من أهم عناصر الثقافة: الدين، واللغة، والعُرف، والعادات والتقاليد، فلا بد أن تكون التربية تابعةً لمثل هذه الثقافة.
المحاور: يعني: حتى الذين في بلاد الاغتراب لا بد أن يُحافظوا على التربية التي هي من ضمن ثقافتنا.
المتصل: الأصلية التابعة للعُرف، والدين، واللغة، والعادات والتقاليد.
المحاور: والمُحافظة على الهوية.
المتصل: نعم، حتى لو تغير مكانك لمكانٍ مُؤقَّتٍ من دولةٍ إلى أخرى، أو من مكانٍ لآخر، فلا تَسِرْ وَفْق أعراف هذا المجتمع وتقول: والله أنا مُتَرَبٍّ وَفْقَ أعرافه! فهنا يختلف الموقف، ولا بد أن ترجع للأصل بالنسبة للثقافة وأعرافها.
المحاور: جميلٌ، يُعطيك العافية يا دكتور ممدوح، أحسنتَ، وبارك الله فيك.
المتصل: جزاكم الله خيرًا.
المحاور: الحقيقة نقطتك الأخيرة من النقاط المهمة، والتي أتعرَّض لها بشكلٍ كبيرٍ في هذا البرنامج دائمًا؛ لأن أعدادًا من المُتصلين والمُشاركين من بلادٍ ليست إسلاميةً، وهم أصلًا مسلمون، إما أنهم من أهل تلك البلاد، لكنهم تغيَّرت ديانتهم، أو أنهم أصبحوا مسلمين، أو أنهم مسلمون عاشوا في تلك الديار لسببٍ أو لآخر، وهي: أهمية المُحافظة على التربية الإسلامية في المجتمعات غير المسلمة.
شكرًا لك، إشارةٌ مهمةٌ جدًّا حول التربية وأهمية توافقها مع الثقافة التي ينتمي إليها المجتمع، وهذا مُؤشرٌ قويٌّ على نجاح المجتمع حينما تكون أنماط التربية التي يتعاطاها تتوافق مع ثقافة المجتمع.
شكرًا لك يا دكتور ممدوح.
المتصل: جزاكم الله خيرًا، وأشكرك كثيرًا.
المحاور: يُعطيك العافية، وسُعداء بمُشاركتك.
كان معنا الدكتور ممدوح هلالي، أستاذ مساعد بقسم التربية بجامعة الإمام عبدالرحمن الفيصل بالدمام.
البحث عن بدائل للتعليم المُختلط
عودًا إلى سؤال أخينا أبي حفصة، وقد ذكرتُ أنه لا بد من الضغط المجتمعي على أصحاب القرار حتى يُنشئوا بدائل من التعليم غير المُختلط، أو يُقللوا من هذه المفاسد الخطيرة جدًّا التي أثبتت خطورتها الدراسات والإحصائيات، كما في الكتاب الذي ذكرناه: "الاختلاط في التعليم" للأستاذ إبراهيم الأزرق، واستوعب دراساتٍ أجنبيةً وعالميةً كثيرةً جدًّا، ولكم أن ترجعوا إليها، فمهمٌّ جدًّا الضغط حتى يُقللوا من هذه المفاسد، ويُراعوا هذه القضية، أو على أقل تقديرٍ أن تُفتح هناك بدائل أخرى رسمية تُؤمن للراغبين في المُحافظة على ثقافتهم وهُويتهم، وخاصةً في البلاد الإسلامية.
الجانب الآخر المهم أيضًا: البحث عن بدائل من خلال المجتمعات المدنية من خلال أهل المال والجمعيات الخيرية، ولا نستنقص من هذه القضية، وستبقى هنا مشكلةٌ، وهي: الرغبة في الحصول على الشهادة، فلا بد أن تُوضع هذه القضية أيضًا في البال.
وأنا أعرف أن عددًا من الأشخاص في بلاد المغرب لا يُكملون دراسة بناتهم في مراحل مُتقدمةٍ، فلو أنهم يدرسون دراساتٍ خاصةً، ويحتسبون الأجر؛ ابتعادًا عن المظاهر السيئة الموجودة والخادشة للقيم والأخلاق.
والأبناء عمومًا يحتاجون عندئذٍ إلى رافدٍ إيمانيٍّ وأخلاقيٍّ وقِيَميٍّ قويٍّ يجعلهم على الأقل يُنكرون هذه القضايا في قلوبهم، ويبتعدون عن هذه المُثيرات قدر ما يستطيعون، وإن كان البلاء شديدًا جدًّا.
انفراد الأبناء في غُرَفٍ مُستقلةٍ
أما سؤال الأخ أبي محمد من قطر: فمن وجهة نظري لا أرى إشكاليةً في أن يكون لكل ابنٍ غرفةٌ خاصةٌ إذا كانت تجمعهم لقاءاتٌ: كوقت الغداء -مثلًا- والوجبات الأخرى، ولهم لقاءاتٌ يستفيدون منها، ولهم أُنْسٌ فيما بينهم وتشاورٌ وحواراتٌ ولقاءاتٌ ... إلى آخره، وإنما تلكم الغُرف للنوم والمُذاكرة، فلا أرى في ذلك بأسًا، لكن يُنتبه لهم خاصةً مع هذه التقنية التي بين أيديهم في كل وقتٍ، وبشرط ألا يختلي الابن دائمًا في هذه الغرفة.
وأنا أذكر أن أحد الآباء قال لي: والله ولدي لا أراه! فقلت له: أين هو؟ قال: في الغرفة أربعٌ وعشرون ساعةً مع الجوال وغيره! فهذه القضية خطيرةٌ جدًّا.
فإذا كان النَّمط التربوي داخل الأسرة إيجابيًّا، وإنما الأمر فقط توزيعٌ للأماكن، وما شابه ذلك؛ فلا مانع، وقد يكون فيها -بالعكس- شيءٌ إيجابيٌّ، وهو: تحمل المسؤولية، وما شابه ذلك، ولكن لا يُوضع في غرفةٍ فردًا واحدًا، بل الأحسن أن يكون هناك أكثر من شخصٍ، والذكور في مكانٍ، والإناث في مكانٍ آخر، فلا أرى في ذلك إشكاليةً إذا كانت الأسرة ناجحةً في التواصل الأُسري فيما بينها.
ارتباط الجانب التربوي بالجانب الثقافي
عودًا إلى قضية أهمية التربية للمجتمع، وقد أكَّد الدكتور ممدوح هلالي على ارتباط الجانب التربوي بالجانب الثقافي، وهذا الذي يُحقق الأمن الاجتماعي المُرتبط بقضية إدراك الحقوق والواجبات، فالنفس إذا ارتاحت وعرفت ما لها وما عليها مع الأطراف الأخرى حصل الأمن الاجتماعي والشعور بالاستقرار، وهذا يزيد في الإنتاجية في المجتمعات.
وأنا أذكر هذه القضية من خلال محورين أساسيين:
الأول: المُتعلق بالأفكار والمُعتقدات والآراء، وفي مقابل ذلك الأشياء المُتعلقة بالقيم والأخلاق، وما يرتبط بهذا الجانب، وهي ما تُسمَّى عند ابن القيم الجوزية -رحمه الله-: بالشبهات والشهوات.
فالأمن الاجتماعي قائمٌ على الأمن الأُسري الذي هو قائمٌ على الأمن الفردي، فلا بد من رعاية أفراد المجتمع وحفظهم مما يُؤثر في أفكارهم سلبًا تجاه ثقافتهم ودينهم ولغتهم، كما ذكر أخونا الدكتور ممدوح، وكذلك ما يتعلق بجانب الأخلاق والقيم؛ ولذلك تجد أن الأمن الاجتماعي سدٌّ منيعٌ للمجتمع فيما يتعلق بالشبهات والشهوات.
دعونا نأخذ مثالًا فيما يتعلق بالشبهات: فلا أظن أن أحدًا اليوم في عصرنا الحاضر يرضى أن يكون ابنه أو أي فردٍ من أفراد أسرته يحمل فكرًا داعشيًّا، أو تكفيريًّا، أو تفجيريًّا، أو ما شابه ذلك في حالٍ من الأحوال؛ لذلك فحماية المجتمع من هذه الشُّبَه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وتُحقق الأمن الاجتماعي؛ ولذلك لا بد على المجتمع أن يحمي أفراده من هذه الأفكار، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالتربية الإسلامية الصحيحة، وأيضًا الاتجاه الآخر المُعاكس، وهو ما يتعلق بقضية الليبرالية والتغريب والعلمانية، فهذه قضيةٌ أيضًا خلاف ثقافة المجتمع الإسلامي، وخلاف دينه ومُعتقداته وقِيَمه؛ فلذلك لا بد أيضًا من حماية المجتمع منها.
وسأذكر لكم قصتين لشابين، حصلت القصتان معي مُباشرةً: فقبل سنوات في وقت شدة أحداث العراق، ولما حدثت التفجيرات هنا في المملكة، كنتُ في مناسبةٍ شبابيةٍ دُعيتُ إليها: كتوجيهٍ نفسيٍّ وتربويٍّ لهم، وأنا لا أعرفهم، إلا أنَّ أحد الأشخاص دعاني لمثل هذه المناسبة، فأحد الشباب قام بعد اللقاء وقال: أريدك على انفرادٍ. فقلتُ: تفضل أخي الكريم. فقال لي: أنا كنتُ أرى أن هذه التفجيرات صحيحةٌ. فقلتُ له: والآن؟ قال: الحمد لله، أدركتُ أن هذا خطأٌ، وأن هذا منكرٌ لا يجوز. فقلتُ: الحمد لله، إذن ما سؤالك أخي الكريم؟ قال: لكن أرى أن الذهاب إلى العراق والجهاد هناك فرض عينٍ. وهذا الشاب في ريعان شبابه، ولم يأخذ العلم الشرعي ويتمكن منه، وليس له في التدين إلا تقريبًا ثلاث سنواتٍ حسبما بلغني، فقلتُ له: يا أخي، ماذا تقصد بفرض عينٍ؟ هل تعرف ماذا يعني: فرض عينٍ؟ قال لي: يعني: كلنا لا بد أن نذهب. قلتُ: مَن كلنا؟ قال: كل المسلمين! قلتُ: يعني: الذي في الدمام، والسعودية، والخليج العربي، والعالم الإسلامي، وأبي وأبوك، وأعمامي وأعمامك، كلهم يذهبون للعراق للجهاد! هل تقصد هذا؟ وهل العقل يقول هذا ويُوافق عليه أخي الكريم؟ فبدأ يشعر بشيءٍ من الاهتزاز، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، وهذا يُبين أهمية الحوار أيها الإخوة.
وأنا أدعو إلى الحوار حتى في القضايا الصعبة والشائكة؛ حتى نستطيع أن نصل إلى قلوبهم من خلال التربية الحوارية، وهذه مهمةٌ جدًّا في المجتمعات؛ ولذلك المجتمعات التي فيها الحوار الإيجابي مُجتمعاتٌ ناجحةٌ في مثل هذه القضايا المتعلقة بالأمن الاجتماعي.
فقلتُ له: يا أخي، قل: إنه فرض كفايةٍ كما قال العلماء في قضية الجهاد، ولكنه في بعض أحواله فرض عينٍ.
ثم قلتُ له: من أين لك هذا الكلام؟ قال لي: أنا أقرأ في المُنتديات. وكانت المُنتديات في ذلك الوقت أشد شيءٍ، ولها ضجَّةٌ قبل الإعلام الجديد الموجود الآن.
ثم قلتُ له: كم تجلس على المُنتديات؟ قال: من ستِّ ساعاتٍ إلى سبعٍ. وقلت له أيضًا: هذا الكلام الذي قلته أخذتَه من المُنتديات؟ قال: نعم. قلتُ: هل تعرف مَن الذي تكلم به؟ قال: لا، لكن كلامهم جميلٌ؛ قال الله، وقال رسوله . قلتُ: ممتازٌ، فمَن تعرف من مشايخ المنطقة التي نحن فيها؟ قال: فلانًا وفلانًا. وذكر أربعةً من المشايخ، قلتُ: هؤلاء طلبة علمٍ؟ قال: نعم. قلتُ: تعرف مساجدهم؟ قال: نعم. قلتُ: هل ذهبتَ لأحدهم وسألتَه عن مسألتك؟ قال: لا. قلتُ: طيب، هم عندهم قال الله وقال رسوله ، وأنت أخذتَ قال الله وقال رسوله من أناسٍ غير معروفين! وقد يكونون جُهلاء، وقبلتَ ذلك! طيب، هؤلاء تعرفهم، وهم طلبة علمٍ، ولم تذهب إليهم! هل تريد أن أُخبرك لماذا لم تذهب إليهم؟ قال: لماذا؟ قلتُ: لأنك لا تريد لهم أن يقولوا لك: لا تذهب إلى العراق. صحيحٌ أم لا؟ فهزَّ رأسه بنعم، لكن بدأ عنده شيءٌ من التراجع بسبب الحوار.
فنحن نحتاج إلى الأمن الاجتماعي حتى لا يحصل لدينا مثل هذا التطرف والغلو.
في المقابل يتصل بي أحد الإخوة ويقول لي: أخو زوجتي أو قريب زوجتي شابٌّ لا يُؤمن بوجود الله البتة، والعياذ بالله. فقلتُ له: ما السبب؟ قال لي: يدخل على المواقع الإلحادية، وأصبح شخصًا مُلحدًا، فماذا نفعل معه؟ فأحلته إلى شخصٍ له مُناقشاتٌ وحواراتٌ مع الذين يحملون أفكارًا إلحاديةً، وما شابه ذلك.
فالحاصل: نحن نحتاج إلى حماية المجتمع، وإيجاد الأمن الاجتماعي خلال التربية العلمية والفكرية السليمة؛ حتى لا يقع الأبناء في الشبهات المُنحرفة.
مقطع مسجل بعنوان: الأُسر المُحفِّزة
أثبتت الدراسات العلمية أن الأُسر المُشجعة والمُحفزة لأبنائها الطلاب وفتياتها الطالبات تُنتج شخصياتٍ ناجحةً ومُبدعةً ومُتألقةً في المجال التعليمي الأكاديمي، وأيضًا في مجالات الحياة والعلاقات الاجتماعية، وتجدهم أيضًا أبعد عن الانحرافات السلوكية والأخطاء والاضطرابات النفسية؛ لذلك كونوا مُشجعين لأبنائكم وفتياتكم، وأثنوا عليهم خيرًا، تحصدوا خيرًا.
تعليقٌ على المقطع
تعليقًا على هذا المقطع نُؤكد على أهمية إيجاد البيئة المُحفِّزة والمُشجِّعة، فللأسف الشديد تأتيني استشاراتٌ عديدةٌ نكتشف منها أن هذا التحفيز ضعيفٌ عند بعض الأُسر والمجتمعات، فلما تحصل مشكلةٌ تقوم القيامة، بينما لو أبدع أو أجاد قد لا يجد الكلام المُحفز والمُشجع له أيًّا كان: موظفًا، أو طالبًا، أو ابنًا، وما شابه ذلك.
فالمجتمع بأمس الحاجة إلى التحفيز، فهذا يجعله مُستقرًّا نفسيًّا، وناجحًا في حياته، ومُنتجًا في هذا المجتمع، وهذا لا شكَّ أن له علاقةً وطيدةً بشكلٍ كبيرٍ بقضية الأمن الاجتماعي، والشعور بالراحة والطمأنينة؛ لأن المجتمع يكسبه ويحتضنه من خلال الرسائل الإيجابية، ومنهج النبي حتى في حالة تعديل السلوك كان يُشير إلى هذا الجانب التحفيزي، فيقول النبي : نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل[1]أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2478).، ولما أتى أبو بكرة رضي الله عنه وأرضاه وركع وهو لم يُتمَّ الصفَّ مع المُصلين قال له : زادك الله حرصًا ولا تعد[2]أخرجه البخاري (783).، فذكر النبي شيئًا إيجابيًّا، وقد سبقت الإشارة إلى هذه القضية وأهميتها، فنحتاج إلى مثل هذه القضايا في بيئاتنا المجتمعية أيها الإخوة والأخوات.
فالأمن الاجتماعي يتعلق بحماية المجتمع في القضايا الفكرية، والعقدية، والشبهات الخطَّافة التي تخطف الإنسان، ويكون بعض أبنائنا وأجيالنا كالإسفنجة تشرب الماء النَّظيف وغير النَّظيف، فهكذا تكون الشبهات عندما يكون الشخص ضعيفًا، مثل صاحبنا الأول الذي اتَّجه إلى التطرف والغلو، وليس عنده علمٌ، فكان يرى هذه القضايا إيجابيةً فترك بعضها، لكن ما زال يرى الأشياء بالصورة الخاطئة من الناحية الشرعية، والصورة الثانية المُتعلقة بالإلحاد، وما شابه ذلك، فنحتاج إلى أمنٍ اجتماعيٍّ من خلال سدِّ باب الشبهات.
وقد وقع بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام في لقاءاتٍ وحواراتٍ ما هو أشد من هذه الأمور، فقد أتى إليه عتبة بن ربيعة يُناقشه ويُساومه في قضية النبوة والدعوة، ويقول: اترك هذه القضية ونحن نُعطيك ونُعطيك. والرسول كان مُستمعًا -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام-، حتى قال: أفرغتَ يا أبا الوليد؟[3]"الاعتقاد" للبيهقي (ص267)، و"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (7/ 163).، يعني: هل عندك شيءٌ آخر؟ ثم بدأ النبي يتحدث معه، فرجع الرجل بغير الوجه الذي ذهب به؛ لأنه شعر بالأمن النفسي من خلال بيئة الحوار والنقاش وإعطاء الفرصة لإبداء الرأي، ثم تصحيح هذه القضية.
فنحن نحتاج إلى الحوار مع أصحاب الاتجاه الأول والاتجاه الثاني المُنحرف حتى يكونوا في اعتدالٍ، وإلا فأنا أقول لكم: هنا في السعودية، أو في مشارق الأرض ومغاربها إذا لم نُتح لأبنائنا وطلابنا وأفراد المجتمع في الشركات التجارية والمحاضن التعليمية والأُسرية والخيرية بيئاتٍ حواريةً ناضجةً سنتفاجأ بأشياء لم نحسب لها حسابًا.
وهذه القضية أنا أُفسر بها كثيرًا من الأحداث المُفجعة التي حصلت الآن من قضايا الإلحاد، والفكر الداعشي، والعلمانية، وغيرها من القضايا التي فيها تُبنى أفكارٌ مُنحرفةٌ وأشياء غير طبيعيةٍ، وبناتٌ يتمردنَ على أُسرهن ومُجتمعاتهنَّ، فيُسافِرْنَ بأنفسهن، ويَخْرُجْنَ من البلد، ويَعِشْنَ في الغرب.
وقد حدَّثني أحد الدكاترة عن واحدةٍ اتَّصلت به، وتقول له: شهورٌ طِوالٌ جالسةٌ في شقةٍ مع زميلاتها، هاربةٌ من أسرتها، وما شابه ذلك، وكان ذلك بسبب التمرد لديها، ... إلى آخر ذلك.
فكثيرٌ هم الذين هربوا من بلدانهم من باب أنهم يذهبون ويتبنون أفكار تلك البلاد هنا وهناك، فأصبحنا نحتاج إلى أن نكون قريبين من هؤلاء؛ حتى يشعروا بالأمن الاجتماعي، فأفراد المجتمع إذا لم يشعروا بالأمن الاجتماعي سنتفاجأ بويلاتٍ من بعضهم، وهذا أقوله من الناحية الاجتماعية والنفسية والتربوية، فمهمٌّ جدًّا أن ننتبه لهذه القضية.
وإذا أمَّنَّا لهم اجتماعيًّا إطارًا للحوار والنقاش حتى لو اختلفنا معهم في الآراء، سواءٌ كانوا أبناء، أو زوجات، أو طلابًا، أو مُوظفين، فإننا نستطيع -بإذن الله - أن نُحاورهم ونُناقشهم بطريقةٍ إيجابيةٍ، بإذن الله .
فهذه قضيةٌ أنا أُوصي بها، وهذا يُسمى "الاستقلال الفكري".
وقد كنا في ندوةٍ من الندوات، وكان أحد المسؤولين في جامعة الأمير نايف الأمنية قدَّم ورقةً أمنيةً فيما يتعلق بوسائل الاتصال، وما يرتبط بهذه التقنيات الحديثة، فكنتُ أتناقش معه بعد اللقاء لكونه شخصًا يُمثل جهةً أمنيةً، وكذلك ورقته كانت أمنيةً، فقلتُ له: ما تفسير هذه الأشياء الجديدة التي بدأ المجتمع الإسلامي يسمع بها: فهذا يقتل أباه وأمه، وهذا يرى أنه يتقرب إلى الله بقطع الرؤوس، ويُكفِّر ويُفجِّر، وما شابه ذلك؟
وهذا الرجل الذي يتحدث معي ليس مُتدينًا من حيث الهيئة والشكل، فقال لي: القضية ليست مُرتبطةً بمُتدينين أو غير مُتدينين، ولا بأغنياء أو فُقراء، ولا بأناسٍ في تحفيظ القرآن، أو ليسوا في تحفيظ القرآن، ولا بأناسٍ مُتعلمين أو غير مُتعلمين، فكل هذه الأشياء موجودةٌ. فقلتُ: طيب، ما تفسير هذه القضية؟
قال: أُفسرها بقضية ضعف الاستقلال الفكري. قلتُ: ماذا تقصد بضعف الاستقلال الفكري؟ قال: بيئاتنا الأُسرية ومُجتمعاتنا وبيئاتنا التعليمية غالبًا لا تُربي على قضية الشعور بالأمن الاجتماعي من خلال الحوار والنقاش، فليس للمرء مجالٌ أن يُبدي رأيه في كثيرٍ من هذه البيئات، وعندئذٍ فحبس هذه القضية لديه وعنده شُبهاتٌ، ويتلقف اليوم من خلال أذرع التقنية والإعلام الجديد، ووجود مَن يحتضنه في سماع الرأي والشبهات، فأصبحت هذه الخطَّافة فرصةً كي تدخل في عقله فيتبناها، وجاءت المُفاجآت، فالبعض تفاجأ بأبنائه أو بأشخاصٍ ما كان يتوقع منهم مثل هذه القضايا.
فهذه قضيةٌ نحتاج أن نتنبه لها، وأنا أرى أن هذا الموضوع من الموضوعات الشائكة اليوم، فينبغي أن نُوجد الأمن الاجتماعي والحماية من الفكر المُنحرف أيًّا كان اتِّجاهه: ذات اليمين، أو ذات الشمال.
ولو دخلتم على (اليوتيوب)، وبحثتم عن فيلمٍ اسمه "أجندة"، وهو مما نزل قريبًا، يتحدث عن الليبرالية والداعشية، وهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، وهو فيلمٌ قصيرٌ في خمس دقائق، وهو فعلًا يُعطي تصورًا مُعينًا حول ما أشرنا إليه، وكذلك أرى أن أجيالنا من المهم أن يروا مثل هذه الأشياء؛ حتى تحفظهم وتقيهم فعلًا، وتُشعرهم بحاجتهم للانتماء إلى هويتهم الحقيقية؛ حتى لا ينجرفوا ذات اليمين، أو ذات الشمال.
فكون الشاب أو الابن أو البنت تتلقفه أفكارٌ مُنحرفةٌ هذا أصبح اليوم أمرًا طبيعيًّا، ووسائله سهلةً، ولا يمكن أن تمنعه أن يسمع آراء مُنحرفةً عبر أجهزة الإعلام، أو الإعلام الجديد، أو الأصدقاء، أو المدرسة، أو الشارع، أو غير ذلك، فأصبحت هذه القضية مُتاحةً بشكلٍ كبيرٍ، لكن القضية ليست هذه، وإنما القضية هي: هل عنده قُدرةٌ على أن يُغربل ويُميز، فيقول: هذا صحيحٌ، وهذا خطأٌ؟ هذا رقم واحدٍ.
وإذا لم تكن عنده قُدرةٌ، هل لديه قُدرةٌ أن يتَّجه ويسأل مَن يستطيع أن يُساعده على القضية؟
فالأولى: لن تكون إلا بالعلم الصحيح، والثانية: لن تكون إلا بالشعور بالأمن النفسي.
فالشاب الذي جاء يستأذن النبي في الزنا وهو يعرف أن الزنا حرامٌ، وكان بعض الصحابة موجودين، فالذي جعله يأتي النبي هو شعوره بالأمن النفسي والاجتماعي، ولم يكن يتصور أن قضيته ستُصبح إجرامًا، وإنما هي فقط تعبيرٌ عن رأيٍ وفكرةٍ خاطئةٍ مُنحرفةٍ، ولكنه وجد مَن يُؤثر فيها، مع أن الصحابة نهروه، لكن النبي قال له: ادْنُهْ، فدنا منه قريبًا، فقال له: أتُحبُّهُ لأمِّك؟ قال: لا والله، جعلني اللهُ فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لأمهاتهم، قال: أفتُحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لبناتهم، قال: أفتُحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لأخواتهم، قال: أفتُحبه لعمَّتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لعمَّاتهم، قال: أفتُحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيءٍ[4]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (22211)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح"..
ما الذي جاء بهذا الشاب للنبي ؟ وما الذي جاء أيضًا بهذا الرجل الذي قال: "إني أُحدِّث نفسي بالشيء لأن أَخِرَّ من السماء أحب إليَّ من أن أتكلم به"؟ وهي قضيةٌ مُتعلقةٌ بجوانب عقديةٍ، وما شابه ذلك، فقال له النبي : الحمد لله الذي ردَّ كيده -أي: الشيطان- إلى الوسوسة[5]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (2097)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين".، وفي روايةٍ صحيحةٍ: ذاك صريح الإيمان[6]أخرجه مسلمٌ (132)..
فالحوار نحتاجه جدًّا في بيئاتنا الاجتماعية؛ ولذلك أنا أرى أن عقد الديوانيات واللِّقاءات الحوارية يحمي قِيَمنا، ويكون مرجعيةً دينيةً، حتى لو صار خطأٌ في بعض الأمور يكون عندنا مَن يُساعدنا على التصحيح والتَّوجيه، وحتى لو أبدى البعض شيئًا من الأفكار التي قد يكون فيها جانبٌ من الانحراف، لكن إظهاره في مثل هذه المُناسبات يجد مَن يُعينه على الردِّ، كما في البيئة التعليمية والأُسرية والثقافية، وما شابه ذلك، فلا شك أن هذا أمرٌ مطلوبٌ، وهو مما يُوجد الأمن النفسي والاجتماعي في المُجتمعات، ويحمي المجتمعات من قضية الشُّبهات.
وأنا قد ركَّزتُ كثيرًا على الشبهات، وهي -في الحقيقة- تحتاج إلى شيءٍ أكثر من هذا، وسنتحدث عن باقي هذا الموضوع في اللقاء القادم، بإذن الله .
النبي يُوجِّه عمر ومَن بعده بغلق باب الشبهات
عمر بن الخطاب كانت له مكانةٌ عظيمةٌ في الإسلام، فلو وُزن إيمان عمر في كِفَّةٍ، ووُزن إيمان الأمة في كِفَّةٍ أخرى ليس فيها أبو بكر لرجحت كِفَّة عمر، فهو الرجل الثاني بعد أبي بكر، هذا الرجل الذي قال النبي فيه: وأشدهم في أمر الله عمر[7]أخرجه الترمذي ت: شاكر (3790)، وابن ماجه (154)، والنسائي في "الكبرى" (8185)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1224).، وقال: إيهًا يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجِّك[8]أخرجه البخاري (3683)، ومسلم (2396)..
أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله، إنا نقرأ في التوراة أحاديث تُعجبنا. يعني: اطَّلع عمر بن الخطاب على أحاديث في التوراة أعجبته، وأنا أجزم -والله تعالى أعلم- أن الذي أعجبه شيءٌ يتوافق مع ما تعلمه عمر بن الخطاب، ومع الجانب الثقافي والشرعي الذي يعرفه، فقال له الرسول : أَمُتَهَوِّكون أنتم كما تَهَوَّكَتِ اليهودُ والنصارى؟! أي: أشكَّاكون مُتحيرون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيةً[9]أخرجه البيهقي في "الشعب" (178).، فالنبي أراد أن يقطع على عمر ومَن بعد عمر أي وسائل يمكن أن تُؤثر سلبًا بسبب التلقي منها، مما يُشوش التلقي من النَّبع الصافي.
ونحن تربينا على النَّبع الصافي والعقيدة الصافية، فلماذا أذهب وأقرأ في غيرها؟! مثل: الشخص الذي جلس سبعة أشهر يقرأ في مواقع الإلحاد حتى أصبح مُلحدًا -والعياذ بالله-، وهذا يقرأ في مواقع المُفجِّرين التكفيرين حتى أصبح كذلك، فلماذا نفتح على أنفسنا هذا الأمر؟!
ولا أحد يمكن أن يقول: أنا مجتهدٌ، وعندي قُدرةٌ على التمييز! فهذه القضية ليست اجتهادًا وقوةً وشجاعةً ورجولةً، فالنبي يقول لعمر بن الخطاب وهو مَن هو في قوة العلم والعقيدة: لا تفعل هذا الفعل، واستَقِ من المنبع الصافي.
فالإنسان إذا رزقه الله منبعًا صافيًا يتلقَّى منه العقيدة الصافية والفكر الصافي لا يذهب إلى الاتجاهات الأخرى، ولا يقرأ في العقائد والديانات المُنحرفة، ولا يطَّلع على الحوارات والنِّقاشات المتعلقة بالأفكار المُتطرفة ذات اليمين وذات الشمال إلا إذا كان مُتسلِّحًا، وكان لديه هدفٌ واضحٌ وشريفٌ؛ لأجل أن يردَّ وعنده هذا السلاح، وهو: العلم والمعرفة بالعقيدة الصحيحة.
وهؤلاء الذين يستطيعون ذلك هم أناسٌ محدودون، يلزمهم مثل هذه القضايا، ولا بد للأمة من مثل هذه القضية، وهي من فروض الكفايات التي لا بد أن تُغطَّى حقيقةً، لكن أنا وأنت، وأبناؤنا وأبناؤك يتلقون من العقيدة الصافية، ويقفون، ولا يُعرِّضون أنفسهم للشبهات.
يُذْكَر عن ابن تيمية -رحمه الله- أنه كان يقول هذا لتلميذه ابن القيم في مجلس العلم، فكان ابن القيم يُورد عليه أشياء معينةً من الإيرادات والشُّبَه، كالأسئلة، فهو يريد أن يسأل، لكن فيها شيءٌ من الشُّبَه، فكان شيخه ابن تيمية يقول له: كفاك إيرادات. يعني: لا يحتاج الأمر أن تُورد إيرادات.
وهكذا كان العلماء حينما يُسألون أسئلةً فيها إشكاليةٌ، أو في قضايا لم تحصل بعد، أو ما شابه ذلك؛ يقطعون الطريق.
والشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمة الله عليه- طُلب في مُحاجَّةٍ عبر الإعلام مع بعض أهل البدع فرفض، وليس ذلك لضعفه، فهو معروفٌ بقوة علمه، ورحابة صدره، ولكنه لم يُرد أن تُغذَّى وتُنشر تلك الشُّبَه من خلال أجهزة الإعلام، وهذا كان اجتهادًا منه -رحمه الله-، والناس -الحمد لله- على الفطرة والدعوة السلفية المحمدية، وقد وصلت لمختلف الأرجاء، حتى مع وجود ما يُنَغِّصها.
فلا بد أيها الإخوة لحصول الأمن الاجتماعي من رعايةٍ للفكر والمُعتقدات والآراء السليمة؛ ولذلك فأنا أدعو الذين يحملون أفكارًا مُنحرفةً -أيًّا كانت: بدعًا، أو شركيات، أو عقائد دياناتٍ مُنحرفة- أن يُعاودوا النظر في طريقة تفكيرهم، ومصدر التلقي بالنسبة لهم، وينظروا إلى المصادر الأخرى حتى يصلوا للحقيقة كما وصل إليها سلمان الفارسي الذي كان يبحث عن الحقيقة حتى وصل إليها، وكما وصل إليها الذين يدخلون في دين الله أفواجًا؛ لأنهم قد قرأوا وعلموا الأمر، وآمنوا به حقَّ الإيمان، ووجدوا نصاعة الدين بأفكاره ومُعتقداته.
أما الذين لا يُمثلون الدين، أو يقعون في أخطاء، ويُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46]، فهؤلاء يُمثلون أنفسهم، ولا يُمثلون هذا الدين العظيم الذي نحن بأمس الحاجة لحمايته ورعايته، وإيجاد الأمن الاجتماعي بالاعتزاز بمثل هذه القيم والدين العظيم.
أيها الإخوة والأخوات، وصلنا إلى نهاية المطاف في هذه الحلقة حول أهمية التربية للمجتمع، ولا بد لنا من عودةٍ أخرى في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله- لإكمال ما تبقى من هذا الموضوع.
أسأل الله أن يحمي مجتمعاتنا من كل ما يُنَغِّصها من شبهاتٍ وشهواتٍ مما لا يرضاه الله ، وأن يُوفِّق هذه المُجتمعات إلى أن تكون قريبةً إلى الله ، ويُعين أفراد هذه المُجتمعات على القيام بالواجب الذي عليهم في التربية لأجيالهم.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2478). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (783). |
↑3 | "الاعتقاد" للبيهقي (ص267)، و"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (7/ 163). |
↑4 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (22211)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح". |
↑5 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (2097)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين". |
↑6 | أخرجه مسلمٌ (132). |
↑7 | أخرجه الترمذي ت: شاكر (3790)، وابن ماجه (154)، والنسائي في "الكبرى" (8185)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1224). |
↑8 | أخرجه البخاري (3683)، ومسلم (2396). |
↑9 | أخرجه البيهقي في "الشعب" (178). |