المحتوى
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي المباشر "أسس التربية"، ومن قناتكم قناة "زاد" العلمية.
في هذا اللقاء نطرح موضوعًا مهمًّا، وأظنه سيكون محل اهتمام الجميع وعنايتهم، كما وردنا من خلال الإعلان له والتسويق قبل ذلك، وهو "التربية في ظل التحديات المُعاصرة".
معنا في هذا اللقاء سعادة الدكتور: سعد بن عبدالكريم الشدوخي، عضو هيئة التدريس بقسم التربية بجامعة الإمام سابقًا.
المحاور: حياكم الله يا دكتور سعد.
الضيف: حيَّاك الله، وحيَّا الله المستمعين والمشاهدين والمشاهدات.
المحاور: جزاك الله خيرًا، وبارك فيك.
موضوعنا اليوم لا شك أنه موضوعٌ مهمٌّ جدًّا، فلا توجد أسرةٌ ولا فردٌ إلا ويتساءل: كيف نستطيع أن نتربى أو نُربي في ظل هذه التحديات المعاصرة المختلفة؟
ومفهوم التربية أظنه مدخلًا مهمًّا جدًّا، لعلكم يا دكتور سعد تتفضلون بالتعريف بها.
الضيف: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فكما تفضلتم مثل هذا الموضوع -وخاصةً في مثل هذا الوقت- على درجةٍ كبيرةٍ جدًّا من الأهمية، وأيضًا -كما تفضلتم- يُشكل الحديث عن مفهوم التربية مدخلًا مهمًّا جدًّا لفهم الموضوع وإدراك حجم التحديات التي يمكن أن تُحيط بالتربية، وكيف يمكن أن يُتعامَل معها؟
لهذا سآخذ بعض الوقت في الحديث عن معنى التربية، وكيف تحدث؟ لأننا إذا تصورناها بشكلٍ جيدٍ نستطيع أن نتصور أي تحدياتٍ تُواجه التربية، سواء التحديات التي نُواجهها في هذا الزمان، أو أية تحدياتٍ أخرى يمكن أن نُواجهها في أي زمانٍ وأي مكانٍ؛ لذلك سأُلقي بعض الضوء على ذلك، وسأحاول قدر المُستطاع أن أبسط الموضوع بحيث يكون مُدْرَكًا للجميع قدر الإمكان.
مفهوم التربية
التربية: عمليةٌ ننقل بها الشخص الذي يتلقى التربية من الحالة التي هو عليها والوضع الذي هو عليه، سواء في تفكيره، أو سلوكه وعلمه، أو معرفته ومواقفه واتجاهاته إلى الوضع الذي ينبغي أن يكون عليه.
وهذا الوضع الذي ينبغي أن يكون عليه يختلف في تحديده من مجتمعٍ إلى مجتمعٍ، ومن أمةٍ إلى أمةٍ، فكل أمةٍ من الأمم عندها صورةٌ ترى أنها التي ينبغي أن يكون عليها الفرد أو مُتلقي التربية في صورته المُثلى.
والمسلمون لهم أيضًا نظرتهم لما ينبغي أن يكون عليه الشخص المسلم في صورته المُثلى من جميع جوانب شخصيته، سواء في طريقة تفكيره، أو مهارات اتصاله وعلاقاته الاجتماعية.
المحاور: جوانب الشخصية ككلٍّ.
الضيف: نعم، جوانب الشخصية ككلٍّ، فهي عملية تغييرٍ، وهذا التغيير تغييرٌ هادفٌ، فنحن نريد أن ننقله من الوضع الذي هو فيه إلى وضعٍ مُحددٍ سلفًا، ويُمثل صورةً أمثل وأفضل في ترقي الشخص، وفيما ينبغي أن يكون عليه، فهي عمليةٌ تهدف إلى الارتقاء بالشخص مما هو عليه إلى الوضع الأمثل شيئًا فشيئًا حتى يبلغ تمامه.
المحاور: وتمامه هنا -كما يقول بعضهم- إلى حدِّ كماله.
الضيف: نعم.
المحاور: إلى كمال الشخص نفسه.
الضيف: طبعًا الذي يمكن أن نقدر عليه.
المحاور: المقدور عليه.
الضيف: نعم، المقدور عليه، سواء ما يتعلق بقُدرات الشخص، فالناس بينهم فوارقُ شخصيةٌ، أو ما يتعلق بالمُعطيات والأشياء المُحيطة بالإنسان.
فهي عملية تغييرٍ، وهذا التغيير يتم من خلال معرفةٍ، وهذه المعارف يتلقاها من مصادر متعددةٍ.
والإنسان دائمًا تتغير شخصيته وتتكون من خلال تراكم هذه المعارف؛ ولذلك يمكن القول: إن الإنسان هو منتجٌ معرفيٌّ في الأخير.
ولما تنظر في توأمين مُتماثلين -على سبيل المثال- عاشوا في ظروفٍ مختلفةٍ، ودرسوا تخصصاتٍ مختلفةً، وتلقوا معارف مختلفةً؛ سيكون بينهم اختلافٌ بمقدار تأثير هذه المعارف التي كوَّنت شخصياتهم.
فهم يتلقون هذه المعارف بالدراسة والتدريب والتفاعل الاجتماعي مع الناس، فمن خلال الحياة يكتسب الإنسان الكثير جدًّا من المعارف التي تُشكل شخصيته.
المحاور: يعني: يتلقى هذه المعارف من خلال وسائط التربية التي يتعرض لها الإنسان.
الضيف: يتلقاها من خلال وسائط التربية المختلفة، ومن خلال تفاعله مع الحياة بكل ما فيها من أشياء وأحياء.
المحاور: وخبرات وغيرها.
الضيف: نعم، فكل تجاربه ومسيرته في هذه الحياة تتحول إلى تراكمٍ معرفيٍّ، وهي التي تُحدد كيف يُفكر؟ ومن ثم كيف يسلك؟ أيًّا كان هذا المجال، سواء كان في كمِّ معلوماته أو نوعها، أو مهاراته المختلفة: مهارات اجتماعية، أو مهارات التفكير، وكذلك قيمه واتجاهاته، وما يميل إليه، وينفر منه، وما يُحبّ أو يكره، ورؤيته للأشياء والأحياء والاتجاهات، وما إلى ذلك.
فهذه التوجهات كلها نكسبها بهذا الشكل التراكمي من الجانب المعرفي.
فهكذا يحدث هذا التغيير الذي ينتج عنه في الأخير التربية، فالإنسان أصلًا له طبيعةٌ وخصائص وسماتٌ معينةٌ تجعله بهذا النحو الذي يمكن القول فيه: إنه منتجٌ معرفيٌّ، والخصائص كثيرةٌ، لكن من أهمها الآن في حديثي: أنه كائنٌ متأثرٌ بالبيئة والمُحيط.
المحاور: لكونه شخصًا مدنيًّا، هو خلقته اجتماعيةٌ.
الضيف: نعم، خلقه الله وجعله بهذه الخاصية؛ لتتحقق الغاية من الحياة، والغاية من وجود الإنسان؛ لذلك خلقه الله وفطره على هذه الفطرة التي منها أنه مُتأثرٌ بالبيئة والمُحيط.
كيف تحدث التربية؟
ذكرتُ مفهوم التربية، وأنها عملية تغييرٍ يتمثل بنوع هذه المدخلات المعرفية وكميتها والتي ينتج عنها في الأخير تشكيل شخصية الإنسان في جوانبها المختلفة.
وأما كيف يحدث هذا التغيير؟ فهو من خلال تلقي المعرفة بالتعليم والتدريب والتفاعل مع المُحيط، ويكون بتنظيم إعطاء الإنسان للمعرفة: ماذا نُعطيه؟ وكيف نُعطيه؟ ومتى نُعطيه؟ وأين نُعطيه؟ ومَن يُعطيه؟
فلو أخذنا التربية التي تتم في المدارس على سبيل المثال، فهي تربيةٌ منظمةٌ بشكلٍ يُحقق هذه الأشياء التي ذكرناها، وكذلك في الأسرة، وفي أي مجالٍ آخر.
وكلما كان التحكم بهذه الأشياء التي ذكرتها من قبل ممكنًا -وهي: ماذا نُعطيه؟ وكيف نُعطيه؟ ومتى نُعطيه؟- سهلت عملية التربية، وكلما كان التحكم بها أصعب كانت التربية أصعب.
ومن هنا تأتي التحديات، فلما كانت التربية ممكنةً، وكنا نستطيع أن نُسيطر على بيئة التربية؛ كانت التربية سهلةً ومصونةً.
المحاور: ما كانت هناك مُؤثراتٌ وتحدياتٌ كبيرةٌ.
الضيف: التحديات كانت أقلّ وأسهل، لكننا الآن في عصرٍ يختلف من هذه الناحية اختلافًا كبيرًا، نستطيع أن نقول: لقد تغير كل شيءٍ، فلم يعد التحكم في بيئة التربية والعناصر المُكونة لها من السهولة بمكانٍ، بل يكاد يكون التحكم بهذه الأشياء في حكم المستحيل.
المحاور: المعذرة يا دكتور سعد، جزاك الله خيرًا، وبارك الله فيك.
التعامل الإيجابي مع التقنية الحديثة
معنا مداخلةٌ كريمةٌ من أستاذنا الدكتور: عبدالله بن ناصر الصبيح، أستاذ علم النفس الاجتماعي، والأستاذ المُشارك بالشؤون الاجتماعية في جامعة الإمام.
حياكم الله يا دكتور عبدالله.
المتصل: أهلًا وسهلًا، وحياكم الله.
المحاور: يا مرحبًا، وجزاكم الله خيرًا على مُشاركتك، ونحن سعداء بكم في موضوع التربية في ظل التحديات المُعاصرة، فتفضل بما لديك يا دكتور عبدالله، بارك الله فيك.
المتصل: أُحييك، وأُحيي ضيفنا الأستاذ سعد الشدوخي، حيَّاه الله ورعاه، حقيقةً ليس عندي ما أُضيفه، لكن يمكن أن أُذكّر ببعض القضايا.
أولًا: لا يمكن النظر إلى ما يحدث من تقنيةٍ ومُستجداتٍ في الحياة نظرةً سلبيةً.
أنا أتحدث ولم أكن مُتابعًا لكم، فليس هذا تعليقًا على ما قاله الدكتور سعد؛ لأنني ربما أكون مُوافقًا في البعض، ومُخالفًا في البعض.
المحاور: أنت في الاتجاه السليم يا دكتور عبدالله، جزاك الله خيرًا.
المتصل: حتى لا يُظنّ أنني أُعلق على ما قاله الدكتور سعد بالنقد.
الضيف: حتى الآن لم أقل شيئًا يا دكتور في هذا الموضوع، فخُذْ راحتك.
المتصل: التقنية الحديثة وما يستجد في الحياة ليس بالضرورة أن يكون شرًّا، والبعض ينظر إليها مُتوجسًا وخائفًا؛ فينكمش وينزوي، ولا ينبغي ذلك، فما يُحْدِث الله من تقدُّمٍ للبشرية إلا ويُعطيهم أيضًا ما يُكافئه مما يُعينهم على تطويعه واستخدامه، فعليهم أن يبذلوا جهدهم لتطويع ما يجد من تقنيةٍ وأحداثٍ وقضايا، وهناك وعد الله بانتصار الخير وانتشار الدين.
المحاور: يعني: ضرورة استثمار هذه التحديات.
المتصل: نعم، لكن هذا الاستثمار يحتاج إلى عملٍ؛ فلذلك التفاؤل ضروريٌّ جدًّا.
المحاور: نريد من الإخوة في (الكنترول) أن يرفعوا لنا الصوت، الله يُعطيكم العافية.
المتصل: الذين يعملون هم الذين يتفاءلون، وأما مَن ينظر نظرةً سلبيةً مُتوجسةً خائفةً، فهؤلاء ينكمشون وينزوون، ويُهمِّشون أنفسهم، والحياة تتقدم.
المحاور: هما نقطتان:
النقطة الأولى: عدم النظرة السلبية لموضوع التحديات.
والنقطة الثانية: أهمية الاستثمار والعمل.
المتصل: نعم، والنقطة الثانية نأخذها من حديث الرسول : بلِّغوا عني ولو آية[1]أخرجه البخاري برقم (3461)..
فأنا أقول للشاب والمُربي -بل لكل مسلمٍ ومسلمةٍ-: إذا كان الله أعطاك شيئًا من التقنيات الحديثة كـ(الإنترنت) ووسائل التواصل: كـ(الواتس آب) و(التويتر) و(الفيس بوك)، وغيرها، فبَلِّغ ولو آية، أو شيئًا مما تحمله من الخير والفضيلة، فربما تنشر كلمةً أو مقطعًا لعالِمٍ أو واعظٍ أو مُفْتٍ أو مُفَكِّرٍ ينفع الله به.
وكثيرون استفادوا من المقاطع التي تُنشر، وكثيرون أيضًا ممن لهم علاقة بالتقنية؛ ليس عالِمًا ولا مُفكرًا ولا مُفْتيًا، ولكنه يُتقن استخدام التقنية، فيأخذ من أقوال العلماء والمُفكرين وأحاديثهم، وما يُستحسن من نصٍّ أو قولٍ أو مشهدٍ، فينشره فينفع الله به.
وكم استفدت أنا وغيري مما يُنشر في هذه الوسائل، وكم تعلمنا مما يُنشر، ولو كان مقطعًا قصيرًا عبارةً عن نصف دقيقةٍ، أو دقيقةٍ، أو دقيقتين، فلا تتوان في النشر، ولا تحتقر من عملك الخيري شيئًا، فالرسول قال: بلِّغوا عني ولو آية.
النقطة الثانية: ابحث عمَّن لديهم نفس الاهتمامات وتواصل معهم، فالعالَم الآن أصبح قريةً، وكما يتواصل أصحاب الشر ينبغي أن يتواصل أصحاب الخير، وهذا العالم الافتراضي الذي يشغله البعض بالشر اشغله أنت بالخير، وتواصل مع أخيك الذي بينك وبينه آلاف الكيلومترات، ولم تره، ولم يَرَك، ولكن عندك نفس الاهتمام الذي عنده، فتعاون أنت وهو في عملٍ مشتركٍ، وتواصل معه، وأوصل له الخير، وهو يُوصل إليك الخير، أوصل له فكرةً، وهو يُوصل إليك فكرةً.
القضية الرابعة: لا بد من التوازن بين العالَم الواقعي والافتراضي، فهذا العالم الافتراضي كبيرٌ جدًّا، وكل بدائل السلوك والفكر والمشاعر والمجتمع متاحةٌ في هذا العالم الافتراضي، إن أردت فكرةً فموجودةٌ، وإن أردت أصدقاء فموجودون، وإن أردت حنانًا أو سلوكًا فموجودٌ، فكل ما تُريده ويخطر على بالك تقريبًا موجودٌ في هذا العالم الافتراضي من خيرٍ أو شرٍّ، فعليك أن تبحث في الخير، وأن تُحقق التوازن بين العالم الافتراضي والواقعي.
فـ(الواتس) الذي عندك في البيت مع الأصدقاء عليك أن تُحافظ عليه وتُنميه، ولا تتركه يقع فريسةً للعالم الافتراضي، والأسرة ينبغي أن تنشط في بعض الأعمال التي تُشجع هذا العالم الافتراضي، من ذلك مثلًا: على ربِّ الأسرة (الأب)، أو على الابن الأكبر، أو حتى بعض الأخوات -الآن بعض البنات أو الأخوات يقمن بما يعجز عن القيام به الرجال- عليهم أن يُخططوا للأعمال المُشتركة داخل الأسرة الصغيرة.
المحاور: بارك الله فيك.
المتصل: وتوجد أعمالٌ مشتركةٌ فيها خيرٌ ونفعٌ داخل الأُسَر ذات القرابة، فيلتقون مع بعضٍ، ويأنس بعضهم ببعضٍ، ويُفيد بعضهم بعضًا، ويُقوِّي بعضهم إيمانَ بعضٍ، وتزيد صِلتهم بعضهم ببعضٍ.
وأشكركم، وصلى الله على نبينا محمدٍ.
المحاور: جزاك الله خيرًا دكتور عبدالله، لقد أتحفتنا بهذه الروح الإيجابية والتفاؤلية، ومجال الاستثمار الإيجابي والعمل، فكم نحن بأمس الحاجة إلى التعامل بهذا النَّفَس في ظل التحديات؛ لأن التحديات ليست كلها مخاطر، فبعضها تكون فُرَصًا.
شكرًا لك يا دكتور عبدالله، وبارك الله فيك.
المتصل: وأنا أشكرك.
الضيف: شكرًا يا دكتور.
المحاور: حيَّاكم الله، وجزاكم الله خيرًا.
كان معنا الدكتور عبدالله الصبيح، أستاذ علم النفس الاجتماعي المُشارك بجامعة الإمام.
أهم التحديات المعاصرة التي تُواجه التربية
ما زلنا في التربية في ظل التحديات المُعاصرة، ومع أستاذنا الدكتور سعد بن عبدالكريم الشدوخي.
دكتورنا الكريم، ننتقل معكم إلى أهم هذه التحديات التي تُمثل خصائص وسمات هذا العصر الذي نعيشه، بارك الله فيكم.
الضيف: كنت تحدثت قبل قليلٍ عن التربية، وكيف تحدث التربية؟ وركزتُ على أهمية المعرفة في تشكيل شخصية الإنسان، وهذا سأعود إليه فيما بعد عندما أتحدث عن هذه التحديات.
التحديات التي تُواجه التربية:
طبعًا هناك تحدياتٌ كثيرةٌ، وقد لا يتَّسع الوقت للحديث عنها كلها.
المحاور: حتى على شكل نقاطٍ.
الضيف: نعم، كعددٍ.
التحدي المُرتبط بالتقنية
على سبيل المثال هناك تحدٍّ يحس به كل أحدٍ، ويُواجهه كل أحدٍ، وهو التحدي المُرتبط بالتقنية، وهو أكثر هذه التحديات إسهامًا في التأثير على المعرفة التي ذكرناها من قبل، وأشرنا إلى أهميتها في التربية، وسأعود إلى هذا.
التحديات السياسية
ثم هناك التحديات السياسية المرتبطة بكوننا نعيش الآن في عالمٍ صار كقريةٍ صغيرةٍ، وأي حدثٍ في أي مكانٍ يُؤثر تقريبًا في العالم ككلٍّ، فكأنَّ ما كان يُقال عن العالم من أنه قريةٌ واحدةٌ صار الجميع الآن يُدرك ذلك ويحسّه ويعيشه.
المحاور: دكتور سعد، معنا إخوةٌ كرامٌ يتصلون بنا، وهذا من الجزائر، ومن الصعب أن نُؤخرهم، فمعذرةً سنأخذ واحدًا منهم دكتور سعد، بارك الله فيك.
معنا الأخ عبدالحليم من الجزائر.
حيَّاك الله يا أخ عبدالحليم.
المتصل: السلام عليكم.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله.
المتصل: كيف حالك يا دكتور؟ حياكم الله.
المحاور: أهلًا وسهلًا، لو تُعجل بسؤالك، الله يُبارك فيك.
المتصل: نعم، فضيلة الدكتور، عندي سؤالٌ، سألتك الأسبوع الماضي عن الرهاب الاجتماعي، وأريد رقمك الخاص.
المحاور: الإخوة في (الكنترول) سوف يُعطونك، إن شاء الله.
أنت الذي سألت في الحلقة السابقة يا أستاذ عبدالحليم؟
المتصل: نعم، يا دكتور.
المحاور: طيب، جزاك الله خيرًا، أبشر بإذن الله، سنُجيبك -إن شاء الله- في الأسبوع القادم، بإذن الله.
وأيضًا الإخوة في (الكنترول) سيُعطونك رقم الهاتف الاستشاري الخاص: (الواتس آب)، حتى نتواصل مع الأخ عبدالحليم، فيبدو أن قضيته تستدعي جانبًا من التواصل المباشر.
شكرًا لك يا أخ عبدالحليم، وأسأل الله أن يرفع عنا وعنك، اللهم آمين.
عودًا إليك يا دكتور سعد، بارك الله فيك.
الضيف: كنتُ تحدثتُ عن التحديات، وقلتُ: إن من التحديات: التحدي السياسي، وهو: أن العالم صار قريةً صغيرةً، وصرنا نحسّ ذلك ونعيشه ونُدركه، ولم يعد مجرد تنظيرٍ وكلامٍ، فما يحدث في جزءٍ منه يُؤثر على بقية الأجزاء الأخرى، فنحن نعيش في عالمٍ مُضطربٍ سياسيًّا، وهذا يُمثل تحديًا بالنسبة للتربية؛ لأن الأحداث السياسية بحدِّ ذاتها كثيرٌ منها يمسّ حياة الجميع بصورةٍ أو بأخرى، والتفاعل معها، والتأثر بها، وما إلى ذلك يتفاوت عند الناس، لكنه تحدٍّ يُواجه التربية.
وكذلك التحديات الاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك من التحديات، فالتحديات تكون أحيانًا على مستوى البلد الواحد، وتقتضي أن تتعامل معها التربية بمُؤسساتها، وهناك تحدياتٌ يتعامل معها الفرد.
وقد لا يتسع الوقت للحديث عن الجانب المتصل بدور المؤسسات التربوية، وإنما سينصب حديثنا على الفرد من حيث إنه موضوعٌ للتربية، والتحديات التي تُواجهه في محاضن التربية المختلفة: أسرة، ومدرسة، وما إلى ذلك.
المحاور: وهو الذي سيكون بالنسبة لنا الشق الأخير في هذه الحلقة، بإذن الله.
الضيف: نعم، طيب، سأعود إلى التحدي التقني إذا سمحت، وتأتي أهميته -كما أشرت- من حيث إنه العامل الأكثر تأثيرًا على المعرفة التي تُشكل المدخل الرئيس للتربية.
المحاور: ما يُسمّى بنقل المعرفة يا دكتور.
الإنسان مُنتجٌ معرفيٌّ
الضيف: نحن قلنا عن المعرفة: إن الإنسان منتجٌ معرفيٌّ، وأزيد إيضاح الفكرة: خذ على سبيل المثال الشخص غير المسلم حينما يعتنق الإسلام، طبعًا اعتناقه للإسلام وإعلانه الشهادتين -أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله- هو تتويجٌ لمرحلةٍ سابقةٍ، إذا صحَّ التعبير: الصدمة المعرفية التي وصلت إليها قناعاته، فهزَّت قناعاته السابقة التي لم يكن الإسلام جزءًا منها، فقد يكون مُلحدًا، ثم عرف أن هناك إلهًا، وأنه لا إله إلا الله ، وقد يكون مُنكرًا لنبوة محمدٍ ، أو جاهلًا بها، أو نحو ذلك، فعلم بها، فأيقن، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فدخلت هذه المعرفة المهمة في حياته، وأعادت تشكيله، فبمجرد أن يقتنع ويعتنق الإسلام يُعيد تركيب حياته كلها، وهذا أشبه ما يكون بالشاشات القديمة التي كانت في المطارات، ماذا نُسميها؟
المحاور: الرحلات.
الضيف: نعم، التي فيها جداول الرحلات، تُدْخَل فيها مُدخلاتٌ معرفيةٌ عن الرحلات، فأنت تراها بشكلٍ، وهي بشكلٍ آخر، وهي نفس الصورة.
وهكذا بالنسبة للإنسان ودور المعارف التي تدخل في شخصيته، فإن فيها أشياء قيمةً، وأشياء لا قيمةَ لها، تأتي وتذهب، ولا تُلامس موقعًا مُهمًّا، ولا تُحدث صدماتٍ معرفيةً، فتُعيد بقدر تأثيرها تكوين شخصية الإنسان وتشكيلها.
لذلك نحن نقول: إن الإنسان منتجٌ معرفيٌّ لما يتلقاه من معارف ومصادر مختلفةٍ، سواء ما كان من خلال دراسةٍ وتعليمٍ، أو تعايُشٍ مع ناسٍ وتفاعلٍ، وهي عبارةٌ عما انتهى إليه من قناعاتٍ ورؤيةٍ للأشياء والأحياء.
المحاور: أنت يا دكتور سعد واضحٌ من كلامك أنك تُركز على أن الجانب الوجداني والمهاري لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال المدخل المعرفي ابتداءً.
الضيف: المدخل المعرفي أهم المداخل.
المحاور: أهم المداخل؟
الضيف: المدخل الرئيس.
المحاور: ولذلك يُعتبر الصراع في الجانب المعرفي والثقافي، وفي الهوية الثقافية شيءٌ كبيرٌ جدًّا.
الضيف: نعم، الأشياء التي تُشكل معارف، ويتلقاها الناس، ويمكن أن تأخذ مواقع في نظامهم المعرفي، وتُؤثر في تكوينهم وشخصيتهم حسب موقعها الذي تأخذه، فقد تأخذ موقعًا مهمًّا كانت تحتله فكرةٌ سابقةٌ، وقد تأخذ موقعًا ثانويًّا.
المحاور: سنضطر أن نُقاطعك يا دكتور سعد -والوقت يمضي سريعًا جدًّا- فمعنا مُداخلةٌ أخرى كريمةٌ مع الأخ الأستاذ سليمان الخضير الخبير في تقنية الاتصالات والمعلومات في التربية.
التربية في ظل وسائل التواصل الاجتماعي
حياكم الله يا أستاذ سليمان.
المتصل: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم.
المحاور: أهلًا وسهلًا بك، وجزاك الله خيرًا على استجابتك ومُشاركتك معنا، بارك الله فيكم.
المتصل: الله يُكرمك، والشكر موصولٌ للدكتور سعد، نفع الله به.
الضيف: الله يُسلمك، حيَّاك الله يا أستاذ سليمان.
المحاور: لو أبحرتم بنا في دقائق معدودةٍ -إذا أمكن الاختصار- فيما يتعلق بالتربية من خلال تحدي وسائل التواصل الاجتماعي؛ لاهتمامكم بهذا الجانب، تفضلوا، بارك الله فيكم.
المتصل: الله يُعطيك العافية، فعلًا تحدي وسائل التواصل الاجتماعي ظهر مع قرينتين أُخريين: ما يتعلق بـ(الإنترنت) بشكلٍ عامٍّ، وهذا الذي ولَّد مصطلحًا خاصًّا به يُسمّى: الجيل الجديد، أو جيل (الإنترنت)، وأصبح إلى فترةٍ قريبةٍ يُسمّى: جيل (جوجل) نتيجة هيمنة هذه الخدمة الشبكية، وكلها نتاجٌ للنسخة الجديدة من (الإنترنت)، فأصبح (الإنترنت) عندنا قاعدةً أساسيةً، وظهرت بناءً على نسخته الجديدة وسائل التواصل، وصاحبها ما يُسمّى بـ(الأبليكيشن) أو التطبيقات.
هذه كلها أعطت عددًا من المُؤشرات تتقاطع فيما بينها، لكن من المهم استحضار هذا الأمر عند التحدث عن مفهوم التربية.
والدكتور سعد لا يُتحدث بين يديه في هذا الموضوع؛ لأننا حينما نتحدث عن التربية في ظل تحدي الوسائل فنحن نتحدث عن تزكية النفوس والأخلاق والقِيَم وحضورها، وهو المفهوم الأساسي للتربية، لكن هذا يُوازي فكرة التعليم، سواء التعلم الذاتي، أو التعليم بشكلٍ عامٍّ، فالتربية بمفهومها الشامل: تحسين السلوك، وبناء العادات الإيجابية، وخفض العادات والسلوكيات السلبية.
وقد ظهرت إشكالات وسائل التواصل في صورة وَلَع الناس بها، فالصغار والكبار أصبحوا مأسورين (للإنترنت) أكثر من أي وقتٍ مضى؛ لأن ارتباطه بالتواصل مع الآخرين مُستمرٌّ، والأجهزة الحالية صارت بأيدي الناس لا تكاد تنفك، يمكن أن يستغني عن أشياء كثيرةٍ، لكن يصعب عليه أن يفقد هذه الأجهزة التي تُتيح له التواصل مع الآخرين، فقد أثَّرت عليهم كثيرًا.
ولذلك أثَّرت في تغيير الأولويات، فلم تعد الأولويات الآن هي الأولويات القديمة، فالأولوية الآن لمتابعة الخبر و(التغريدة) وتحديث البيانات والصورة والمتابعة.
فأصبح الناس يقضون الساعات الطويلة على وسائل التواصل، واليوم في المطاعم -على سبيل المثال- عادات المُستهلكين تغيَّرت، فكان مَن يرتاد المطاعم يمكن أن يقضي خمسةً وعشرين دقيقةً ليتناول وجبةً، أما اليوم فأصبحت تصل إلى الساعة؛ تقلّ قليلًا، أو تزيد قليلًا، وهذا نتيجة أنه لم يكترث الآن بالوجبة.
المحاور: أستاذ سليمان، جزاكم الله خيرًا، يعني: هذا الوصف والتشخيص لا شك أن أمره مهمٌّ، وكذلك يُشعرنا بالتحدي فعلًا، والذي يُقرّه الجميع.
في ختام كلمتكم المباركة لو تُبيّن لنا الدور التربوي المطلوب فيما يتعلق بهذا التحدي، وكيفية التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، سريعًا، بارك الله فيكم.
المتصل: في التعامل مع هذه الوسائل لا بد من قوة الإرادة التي تجعل الشخص يقف مع نفسه لتقديم الأولويات، والذهاب للصلاة والتبكير إليها، والتوقف والذهاب للنوم احتسابًا؛ لأن وراء الإنسان مُتطلبات أخرى.
فاليوم أمام الناس كمٌّ هائلٌ من الرسائل التي تأتي على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، فيتحتم عليه أن يكون دقيقًا وحازمًا مع نفسه في قبول المعلومات والأخبار، وقد انتشرت بين الناس الإشاعة أيضًا أكثر من أي وقتٍ مضى؛ ولذلك من المهم التربية بالموثوقية.
وكذلك الصبر والجلد وطول النفس في الوصول للمعلومة؛ لأن التقنية أصبحت سريعةً، فالكثير يتوقف عند أول ما يظهر له في البحث على سبيل المثال؛ ولذلك بعض الناس يقول: إذا أردت أن تدعو على شخصٍ فادعُ عليه أن يُصبح في الصفحة الثانية من (جوجل)؛ لأنه لا أحد سيلتفت له، فنحن فقط نريد النتائج التي تظهر لنا في الصفحة الأولى.
ومن الأشياء التربوية التي يمكن أن نستثمرها في وسائل التواصل: موضوع التأثير في الآخرين، فاليوم أصبح العالم بين يديك، فأثِّر فيه، وانشر دعوتك وقِيَمك وأفكارك، ولا تنظر إليها على أنها فقط محدودةٌ بين زملائك.
المحاور: كما قال الدكتور عبدالله الصبيح قبل قليلٍ: بلِّغوا عني ولو آية، واستثمار التقنية من خلال هذا النص النبوي.
المتصل: بالضبط، وعندنا أيضًا فرصة العمل، فالكثير الآن يعملون أحرارًا مُستقلين، ليس موظفًا لأحدٍ، إنما يتلقى الطلبات من العالم ويعمل بها وهو في مكانه، فتزيد فرص الدخل، ويزيد التأثير في الآخرين.
ومن الأشياء التي فيها تحدٍّ: أن الوصول إلى الإنسان أصبح اليوم سهلًا، وبالتالي يحتاج أن يكون حذرًا للغاية؛ بألا يكون فريسةً للخداع، فلا تخدع في أفكارك ونفسك وقِيَمك ونقاط القوة في بلدك.
وهناك أشياء متعددةٌ يمكن استثمارها من خلال وسائل التواصل، المهم ألا يكون الإنسان مُستهلكًا فقط، وألا يكون على هامش الحياة، مُتأثرًا غير مُؤثِّرٍ.
المحاور: جزاك الله خيرًا يا أستاذ سليمان، وبارك الله فيك، وإطلالتك جميلةٌ، نفع الله بك، وبيَّض الله وجهك.
المتصل: شكرًا لك.
المحاور: شكرًا لك يا أستاذ سليمان.
كان معنا الأستاذ سليمان الخضير، الخبير في تقنية المعلومات، شكرًا لك على هذه الإطلالة وهذا التشخيص، وبيان ما يتعلق بالدور التربوي تجاه التعامل مع هذا التحدي الكبير، وهو: وسائل التواصل الاجتماعي.
أثر التحكم في عملية التربية
دكتور سعد، بقي معنا تقريبًا ثلاثة عشر دقيقةً أو أقلّ، ونتمنى أن نختم معكم، وقد تكون هناك مداخلةٌ ثالثةٌ كريمةٌ من الدكتور محمد الدويش، لكن ربما لا تتيسر، فبين أيديكم ما تبقى من الوقت، بارك الله فيكم.
الضيف: أولًا: شكرًا للأستاذ سليمان الخضير على هذه الإضافة الثَّرية، وقد تناول جوانب مهمةً ذات علاقةٍ بالتحدي التقني الذي كنتُ تحدثتُ عنه، وكنا أشرنا إلى: ماذا يتلقَّى؟ وماذا يمكن أن نُعطي مُتلقي التربية؟ فالمُربي كان يتحكم في هذا، والآن لم يعد قادرًا على التحكم فيه، فعندنا هذا المُستودع الضخم من المعارف، وهذا الناقل الضخم لها، والذي يمكن -كما أشار الأخ سليمان قبل قليلٍ- الوصول إليه بسرعةٍ وسهولةٍ.
المحاور: قبل هذا يا دكتور سعد كان الابن ينتظر من أبيه مثل هذه الأخبار والمعلومات الجديدة، وكان الطالب ينتظر من أستاذه كذلك، فأما الآن فقد أصبح الطالب والابن سابقًا لأبيه ولأستاذه في ذلك.
الضيف: نعم، بالضبط، فهذه الوسائل تضخّ كمًّا هائلًا ومتنوعًا ومُتناقضًا من المعلومات والمعارف التي لها أولٌ وليس لها آخر.
والنقطة الأخرى: متى يتلقى؟
وأنا قلت: إن التربية عبارةٌ عن ترتيب الوصول للمعرفة وتقديمها في سياقٍ تربويٍّ، فنحن نُنظم وصولها لمُتلقي التربية، فنُعطيه في الوقت المُناسب قدر ما يحتاجه.
والآن الأمر ليس كذلك، فقد انتهى هذا التنظيم بالنظر إلى ما تُقدمه هذه الوسائل أو التقنية الحديثة، أو وسائل التواصل، أو (الإنترنت)، أو غيرها من هذه الأشياء، فأي معلومةٍ تصل لأي أحدٍ، فقد تكون المعلومة بطبيعتها لا تتناسب مع سنِّ هذا الشخص، لكن يمكن أن تصل إليه، وهي لا تتناسب مع معارفه السابقة وقُدراته وإدراكه وما لديه، ولكنها يمكن أن تصل إليه، فالتحدي الآن في أن هذه المعرفة تصل في أي لحظةٍ، وفي أي وقتٍ، ولأي أحدٍ.
أولويات عملية التربية
المحاور: لو سمحت يا دكتور سعد، ما تبقى معنا إلا القليل من الوقت.
الآن نرجع ونعود لنفس السؤال: علامَ نُركز يا دكتور سعد في الأولويات في قضية التربية؟
فالآباء والمعلمون والمُربون والمجتمع والمُصلحون عمومًا يُعانون، فلا نجلس في لقاءٍ ولا تأتي استشاراتٌ إلا ويكون موضوع التحدي في قضايا التحديات المُعاصرة والتقنية هو أول سؤالٍ يحضر في المناقشات والحوارات.
الضيف: طيب، جيدٌ، أول شيءٍ طبعًا: لا بد من إدراك أن التربية مسؤولية المُربي، فالوالدان -على سبيل المثال- مسؤوليتهم التربوية من اليوم الأول لولادة الطفل، ولا تُؤجل إلى أن ينصبغ ببصمة المُؤثرات الأخرى؛ لذلك من المهم في البداية أن نعرف أن التحكم ببيئة التربية ومُدخلاتها في مرحلة الطفولة يكون كبيرًا، والتحدي قليلٌ، ثم كلما كبر قلَّ التحكم، وزاد التحدي؛ فلذلك من بداية هرم التحكم في السن الصغيرة للطفل والتحديات قليلةٌ ينبغي أن يكون الدور كبيرًا للمُربي، فيُركز فيه على غرس المفاهيم.
المحاور: لأنها أرضٌ خصبةٌ.
الضيف: ليس هذا فقط، ولكن لأن التحكم ببيئة التربية في سن الطفولة كبيرٌ بسبب قلة المُدخلات المعرفية.
المحاور: باقٍ معنا خمس دقائق يا دكتور.
الضيف: فيكون التحكم فيها أسهل، فتستطيع أن تُدخل المعارف التي ترى أنها مُفيدةٌ، وتستبعد غيرها، وتتحكم بما يدخل.
المحاور: ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: "فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سُدًى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا"[2]"تحفة المودود بأحكام المولود" دار الكتب العلمية (5/ 17)..
الضيف: سواء بسبب ما زرعوه فيهم، أو قصَّروا في زراعته.
المحاور: طيب، هذا موضوع التحكم، نقطةٌ أخرى يا دكتور.
الضيف: التحكم من حيث الحديث عنه فرصةٌ، لكن غرس المعايير هو الموضوع، فغرس المعايير على ضوئها يستطيع أن يُقيم ما يُواجهه من معارف ومفاهيم، وما إلى ذلك، فحينما يقلّ التحكم في البداية سيقلّ التحكم في مراحل مُتقدمةٍ من عمره، ولكن إذا غرست المعايير بشكلٍ صحيحٍ سيكون لها أثرها في اختيار الشخص لما يُصلحه، وتركه لما لا يُصلحه.
غرس الهوية في نفوس النَّشْء
من الأشياء التي ينبغي أن تُغرس: غرس الهُوية -الانتماء- بحيث إنه عندما يكبُر، يكبُر وهو يعرف مَن هو؟
وهناك عبارةٌ كنتُ ذكرتُها في مناسباتٍ مختلفةٍ، وهي: "ما لم تعرف مَن أنت؟ فإنك لن تعرف مَن ليس أنت"، بمعنى: إذا لم تُحدد هُويتك فإنه سيدخل في تكوينك أشياء تنتمي إلى غير هُويتك، ولا تستطيع أن تُميز، فتقول: هذه تصلح لي أو لا تصلح، أو تنتمي إلى هُويتي أو لا تنتمي، فكونك لم تُحدد مَن أنت؟ سيصبّ فيك كل أحدٍ، وكل مذهبٍ وفكرٍ.
المحاور: ما يرد للأجيال المُتقدمة من الشبهات والأمور التي تتعارض مع الهوية الثقافية، ... إلى آخره، هي مبنيةٌ على أساس هذه النقطة: الفراغ الذي حصل في غرس الهوية من وقتٍ مُبكرٍ.
الضيف: بالضبط، نعم؛ ولذلك يكون هذا التحكم في سنِّ الطفولة.
التربية على مهارات التفكير
الأمر الآخر: لا بد من التربية على مهارات التفكير المختلفة، لكن بصورةٍ خاصةٍ نُركز على التفكير الناقد، بحيث لا يكون الإنسان أذنًا يسمع كل شيءٍ، وعقله في أذنيه، وكل ما جاءه صدَّقه.
المحاور: وليست أذنه في عقله.
الضيف: نعم، يعني: في (الواتس آب) -على سبيل المثال- ربما تبدأ الرسالة صحيحةً، ثم يأتي واحدٌ في الطريق أحيانًا ويُضيف لها حرفًا: لا، أو: في، أو: على؛ فيتغير معناها كله، ومتى لم يكن الإنسانُ قادرًا على النقد والتحليل وما إلى ذلك فإنه سيكون وعاءً للمُتناقضات.
المحاور: ونحن في ختام هذه الحلقة يا دكتور، هناك ما يتعلق بقضية التحدي المُرتبط بجوانب الانحرافات الفكرية في التكفير والتفجير والإلحاد، ... إلى آخره، فإذا لم تكن هذه القيم والمعايير والهوية مغروسةً، وأيضًا وجود هذا التفكير الناقد، سيُصبح الشخص فعلًا مثل الإسفنجة يتلقف كل شيءٍ، سواء كان إيجابيًّا أو سلبيًّا، وعندئذٍ تجده يُفاجئك باتجاهه ذات اليمين وذات الشمال، فلو نختم بآخر دقيقةٍ يا دكتور، جزاك الله خيرًا.
دور الإقناع في عملية التربية
الضيف: أيضًا في الأساليب لا بد أن يُمارَس معه الإقناع كأسلوبٍ.
المحاور: والإقناع يلزم منه الحوار يا دكتور.
الضيف: طبعًا، أداته الحوار، فأنت حينما تُقْنِع فأنت تعمل في الواقع في سياق مشاركةٍ، وليس مثل إلقاء المدرس الدرسَ وبعضهم نائمٌ، أو مشغولٌ بجوَّاله تحت الطاولة، أو غافلٌ.
أما في الحوار والإقناع فإن المُتعلم يتأمل ما تقول، وينتبه، ويردّ، فأنت تعلم بالحوار أشياء كثيرةً: المعلومات المُتضمنة بهذا الحوار، وكذلك الآلية والأسلوب؛ فلذلك حينما تُمارسه بشكلٍ مبكرٍ، وتصير جزءًا من الأداة السائدة في التواصل فيما بين الناس عمومًا، وفيما بين المُربي ومُتلقي التربية؛ فإن ذلك يجعله يستطيع أن يتعامل فيما بعد مع المُتغيرات التي تُواجهه بشكلٍ صحيحٍ.
المحاور: دكتور سعد، نقاطكم الأخيرة هي نقاطٌ مباركةٌ جدًّا، يعني: في الصميم، والإخوة قد أعطونا إشارةً بانتهاء الوقت، لكن لو يُعطونا ثوانٍ معدودةً تذكر لنا فيها ما تبقى في نقاطٍ سريعةٍ، ولو نصف دقيقةٍ، جزاكم الله خيرًا.
الضيف: نعم، يمكن أن نذكر بعض الرسائل للمُربين في نقاطٍ:
أولًا: لا تتنازل عن دورك كمُرَبٍّ، والتنازل عن دورك كمُرَبٍّ يكون بانشغال الأب والأم والمعلم بوسائل الاتِّصال الاجتماعي، وهذا النوع أنا أُسميه: تنازل عن دور الشخص كمُربٍّ، فلا تتنازل عن دورك كمُربٍّ برغم هذه التحديات، وما إلى ذلك.
ثانيًا: لا تتنازل عن مكانة الأسرة كمحضنٍ تربويٍّ.
المحاور: يقولون: المدرسة هي التي تُربي يا دكتور.
الضيف: حتى المدرسة صارت سيئةً الآن، لكن دعنا نرى دور الأسرة، فاجتماعات الأسرة -كالاجتماع على الشاي والقهوة وما إلى ذلك- ينبغي أن يُحرص عليها في التربية، ويُؤكد عليها، ولا يتنازل عن مكانة الأسرة.
المحاور: يعني: أنا أعرف أحد الأشخاص يا دكتور يوميًّا يُفطر مع أبنائه قبل أن يذهبوا إلى المدرسة لسنواتٍ، إلى الآن وهو على هذا الإجراء.
الضيف: مثل هذا ممتازٌ، فهذا يجمع الأسرة، ويجعل دورها مُستمرًّا، ولا يتفتت.
المحاور: شكر الله لكم يا دكتور سعد، وبارك الله فيكم، لم نُرد أن نُقاطعكم، ولكن انتهى الوقت للأسف.
الضيف: ولكن لم تَنْتَهِ النقاط، هناك جوانب كثيرةٌ.
المحاور: إن شاء الله تعالى نتمنى إذا أذنتم لنا أن يكون بيننا تواصلٌ عبر الهاتف في الأسبوع القادم في نفس وقت هذه الحلقة، أو في وقتٍ آخر من أسبوعٍ آخر في لقاءاتٍ لهذا البرنامج: "أسس التربية".
الضيف: على خيرٍ بإذن الله.
المحاور: شكر الله لكم يا دكتور سعد.
كنا معكم مع الدكتور سعد بن عبدالكريم الشدوخي، أستاذ التربية، وفَّقه الله.
أسأل الله أن يُعيننا وإياكم، وأن يُبلغنا وإياكم كل خيرٍ.
أيها الإخوة والأخوات، انتهى الوقت، ونلتقي بكم على خيرٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.