المحتوى
مقدمة:
الحمد لله، ونُصلي ونُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات مع حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي المباشر "أسس التربية" من قناتكم قناة "زاد" العلمية.
عنوان الحلقة وسبب اختياره
عنوان حلقتنا لهذه الليلة هو "حاجات الأسرة بين الفرص والتحديات"، ونحن بحاجةٍ إلى أن نعود إلى قضية الأسرة لأمورٍ:
أولًا: لا شك أننا حينما نتحدث عن الأسرة فنحن نتحدث عن أول محضنٍ تربويٍّ يعيشه الإنسان، وهذا المحضن التربوي الأول حينما تكون هناك عنايةٌ به واهتمامٌ ورعايةٌ وبناءٌ ووقايةٌ وعلاجٌ لمشكلاته، لا شك أنه أهم من غيره؛ لكونه أول محضنٍ تربويٍّ.
ثانيًا: أنه إذا حصل تقصيرٌ في هذا المحضن التربوي الأول سيُؤثر كثيرًا على المحاضن الأخرى، فتنشأ الأطفال والأجيال في بيئة الأسرة فقط بين الوالدين، ثم يبدؤون في الاحتكاك بالمجتمع حينما يكبرون شيئًا فشيئًا، فيدخلون المدرسة، وهكذا، وينتقلون من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المُراهقة.
فقضية المحضن التربوي الأول أيها الإخوة لا شك أنها قضية القضايا؛ ولذلك نحن نهتم بحاجات الأسرة، وهناك فرصٌ، وهناك تحدياتٌ ومخاطر تُواجهها الأسرة.
فكلٌّ منا قد تخرج من هذا المحضن إلا مَن فقد هذا المحضن، فقد يكون هناك أناسٌ استثناهم الله أو قدَّر عليهم بأن كان لهم وضعٌ خاصٌّ؛ ولذلك مثل هؤلاء يحتاجون إلى رعايةٍ خاصةٍ جدًّا، وتجدون مثل هذه الفئة تفتقد إلى إشباع الجانب العاطفي، وجانب الشعور بالحاجة للوالدين، وما شابه ذلك.
ولذلك مَن وُفِّق إلى مثل هذا الأمر أيها الإخوة لا شك أنه يحمد الله عليه: أنه نشأ في أسرةٍ، وما زال في أسرةٍ، وسيبقى في أسرةٍ إلى أن يموت.
وهذا أيضًا يُعطي دلالةً على حاجتنا إلى العناية بموضوعٍ يتعلق بالأسرة، ألا وهو: ما يتعلق بالرابطة بين الدنيا والآخرة فيما يتعلق بالأسرة، فهي المحضن الأول، والكل تخرَّج منها، إلا مَن فقدها، كما قال الله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
ولاحظوا أيها الأفاضل قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ فهنا دلالةٌ واضحةٌ جدًّا على أن الأسرة الناجحة هي التي يكون معيار نجاحها هو المعيار الرباني، وليس المعيار الدنيوي الذي تتخبط فيه الكثير من الأمم، وقد يتخبط فيه بعض المسلمين، للأسف الشديد.
وَالَّذِينَ آمَنُوا الوالدان آمنا بالله وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ وأثَّروا في ذُريتهم، فكافأهم الله يوم القيامة بأن جمعهم مع بعضهم البعض: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ جمع الله بين الآباء والأبناء، وهذه جائزةٌ خاصةٌ، ومكافأةٌ مخصوصةٌ لهؤلاء، فأي نعيمٍ عظيمٍ ينتظر الذين وُفِّقوا إلى القيام بواجب تلبية حاجات الأسرة على مراد الله ، ومراد النبي ؟!
أيها الأحبة، لا بد أن يُعيننا هذا الأمر على الاهتمام بموضوع الأسرة، والعناية بحاجاتها، والنظر إلى فرصها، والاهتمام بالتحديات التي تُواجه هذه الأسرة من مخاطر وغيرها، فنحن بأمس الحاجة إلى مثل ذلك.
مسؤولية الأسرة تجاه أبنائها
أيضًا تجدون المسؤولية قضيةٌ من القضايا الواضحة جدًّا والجلية في المنهج الإسلامي: القرآني والنبوي، فالله عندما يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لاحظ: هنا مسؤوليةٌ مثل المسؤولية التي ذكرناها قبل قليلٍ، وهي: تربية الأبناء والأجيال على الإيمان؛ حتى يُلحق الله الأبناء بالآباء يوم القيامة في الجنان، كما كانوا مع بعضهم في الدنيا على خيرٍ.
إذن نحن نحتاج إلى رعاية الأبناء، وقد ظهر ذلك جليًّا في قول النبي : كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها، ومسؤولةٌ عن رعيتها[1]أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829)..
فنحن نحتاج إلى الاهتمام بالأسرة وبهذا المحضن التربوي الأول الذي لا مُنافس له، وإن نافسته محاضن أخرى فإن ذلك يُزلزل ويُخلخل معالم التربية وتحصل المشاكل.
وقد أدخلنا الجانب الإعلامي في بيوتنا من غير ضوابط، فأثَّر ذلك على هذا المحضن الأول الذي ينبغي أن نعتني به؛ لكوننا نتخرج جميعًا منه، فلا نشعر بقيمة المسؤولية تجاه هذه الأسرة، وكذلك لم تكن العلاقة واضحة الترابط بين الدنيا والآخرة، وإنما هي عبارةٌ عن إشباعٍ للجوانب العضوية والأُنْس والراحة، وإشباعٍ لقضية الوقت وإمضائه، دون تمييزٍ بين الصواب والخطأ، وبين الحقِّ والباطل، وبين الخير والشر، وبين المُفيد والضَّار.
أيها الإخوة والأخوات، أُسرنا تنتظر منا الشعور فعلًا بالمسؤولية، فحينما نشعر ابتداءً بالمسؤولية بناءً على هذه المُعطيات التي أشرنا إليها قبل قليلٍ، وهي أهمية هذا المحضن مقابل المحاضن الأخرى، وارتباط جميع البشر به، مع أن هناك محاضن أخرى قد لا نجد فيها هذا الارتباط من جميع أبناء البشر، أو البشر عمومًا، ثم قضية الترابط بين الدنيا والآخرة.
وهناك فرصٌ نحتاج أن نقف معها، ونستثمرها، ونعتني بها؛ حتى تُساعدنا في تحقيق تربية الأسرة، والعناية بتلبية حاجات الأسرة الحقيقية التي يُريدها الله ورسوله في المنهج الإسلامي.
الفرص في تربية الأسرة
فمن أوائل هذه الفرص: وجود الأبناء في الأسرة، فالجيل موجودٌ في هذه الأسرة، ويحتاج إليها مهما كانت الخلافات، فهي مأواه في النهاية، وهو يحتاج أن يأوي إليها.
نعم، الأسرة المُتماسكة، وقليلة المشكلات، والحريصة على العلاقات الإيجابية لا شك أن هذه هي الصورة الرائعة والمفيدة والنافعة التي تجذب الأجيال إلى المكوث أكثر في البيت، وخدمة البيت أكثر، بينما الصور الأخرى تُقلل هذه القضية؛ فقد يكون البيت مثل الفندق من أجل النوم والأكل والشرب، وأخطر من ذلك حينما تكون القضية مُرتبطةً بعنصر النساء، حينما يكون هناك -كما يُقال- هروب النساء، وما يتعلق بهذه القضية.
أيها الإخوة، ما دام أبناؤنا بين أيدينا فلنستثمر وجودهم قبل أن يدخل الأطفال المدارس، فالعناية ابتداءً باختيار المرأة الصالحة، واختيار الرجل الصالح، والعناية في هذه المرحلة بما تلزم العناية به في قضايا طبيةٍ وصحيةٍ وغذائيةٍ، وما شابه ذلك.
وقد دلَّت بعض الدراسات على أن غير الجوانب المادية والصحية لها أثرٌ أيضًا، حتى وهو في بطن أمه، وما شابه ذلك، ثم بعد ذلك حينما يُقْدِم على هذه الحياة ويخرج من بطن أمه تأتي مرحلة الرضاع والحضانة، ومرحلة التمييز بعد ذلك، وما شابه ذلك، فهذه المرحلة من المراحل المهمة جدًّا.
فنحن نختلف مع نظرية (فرويد) في التحليل النفسي وما فيها من خُزعبلات، بل إن أحد تلامذة (فرويد) -وهو (إيدلر)- كان أيضًا يرد عليه في أمورٍ عديدةٍ جدًّا، ناهيك عن النظريات الأخرى التي جاءت ترد على هذه النظرية وما يتعلق بها.
ولا أريد أن أُدخلكم في هذه التُّرهات، كمثل هذه النظرية، وما شابه ذلك، لكن كانت هناك إشارةٌ يذكرها فيما يتعلق بأهمية السنوات الخمس الأولى للطفولة، وكان يتحدث عن أن بناء الشخصية يكون في السنوات الخمس الأولى، فهي مرحلة بناء الشخصية وتكوينها، وهذه -على أيَّة حالٍ- إشارةٌ إلى هذا المعنى، بغض النظر عن المُبالغة الشديدة جدًّا في عبارته، وعدم واقعيتها، لكن فيها جانبٌ من الصحة فيما يتعلق بقضية أن هذه المرحلة ينبغي ألا نغفل عنها، ونهتم بها.
فالرعاية منذ نعومة الأظفار ستُؤثر جدًّا، وبخاصةٍ إذا أدركنا -كما يُقال- المُميزات التي تتميز بها هذه المرحلة، من: سرعة القابلية للتشكيل لدى الأبناء وتقبلهم، وقوة التقليد والمحاكاة لدى هؤلاء الأبناء.
إذن هنا نقول لأنفسنا وللجميع: الأبناء والجيل هم موجودون، فلنحرص على استثمار ذلك، ولنُعطهم من أوقاتنا، فهل هناك دوراتٌ تدريبيةٌ نحضرها؟ ومُتابعة بعض هذه الدورات عبر (اليوتيوب) مثلًا، وكذلك التسجيل في الأكاديميات التربوية في تربية الأبناء، وقراءة بعض الكتب، والتشاور بين الوالدين في مثل هذه الأمور المتعلقة بهذه المرحلة التي قد يغفل عنها كثيرٌ منا، فلا يتنبه لها، أو يهتم بها كثيرًا.
ويقول البعض: إنها مرحلة براءة وبكاء ولعب وحركة وتعب. وعندئذٍ يتعاملون معهم بتعامل الضبط أو الانزعاج، أو ما شابه ذلك، وقد يدخل الإعلام مساعدًا فيتخذونه وسيلةً لضبط الأبناء، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا: حينما تكون القضية مُفرغةً من دورنا نحن في تربية مثل هذا الجيل.
فوجودهم معنا في هذه المرحلة، بل حتى في المراحل الأخرى، فالأبناء حتى بعد أن يكبروا ويتزوجوا سيعودون إلى أُسرهم ووالديهم، وإلى هذا البيت، وسيبقى أيضًا هناك جزءٌ من الوجود، ولو لم يكن كاملًا.
إذن هذه فرصةٌ ثمينةٌ، فيا أيها الأب، أبناؤك بين يديك، ويا أيها المعلم، طلابك موجودون بين يديك في المدرسة، فلا تبخل عليهم في تربيتهم، ولا تبخل عليهم في التأثير عليهم، وكما نقول للخطيب: المُصلون موجودون أمامك في خطبة الجمعة، فلا تبخل عليهم بالتأثير فيهم، وتوجيههم، ورعايتهم، فهذه فرصةٌ ثمينةٌ جدًّا.
أيها الإخوة والأخوات، تظهر على الشاشة أرقام التواصل والمُراسلة فيما يتعلق بموضوعنا أو غيره في المجالات التربوية والنفسية والأُسرية، وتُسعدنا مُشاركتكم، بارك الله فيكم.
الوقاية خيرٌ من العلاج
الجانب الآخر فيما يتعلق بقضية الفرص: الوقاية خيرٌ من العلاج، بمعنى: أن هذه العناية بالحاجات التي نريد أن نهتم بها ونُشبعها في الأسرة لا بد أولًا من العناية بالوقاية؛ حتى لا يقعوا في المشكلة، من خلال إشباع الحاجات، والاهتمام بألا يقعوا في مزالق الانحرافات الفكرية والسلوكية، أو كلاهما، فلا شك أن الوقاية خيرٌ من العلاج.
وهذه فرصةٌ ثمينةٌ جدًّا؛ فهم بين أيدينا، وعندنا مجالٌ أن نحميهم من أن يقعوا إذا وُجدت البرامج والاهتمامات التربوية داخل الأسرة.
هذا ما يتعلق بالوقاية، والوقاية خيرٌ من العلاج، وذكرنا هذا قبل قليلٍ في قول الله : قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، فما بالكم بالبناء؟! هذا من باب أولى.
ونتعرض في الاستشارات، أو في بعض الوقائع التي تمر علينا من خلال اللقاءات المباشرة، أو الاستشارات الهاتفية، أو (الواتساب) إلى مُعاناة الوالدين مع أبنائهما حينما يصلون إلى مرحلة المُراهقة والتعب في العناية بهم، أو تربيتهم، خاصةً مع وجود مشكلاتٍ.
فالفرصة مُواتيةٌ، والتي كانت قبل ذلك موجودةً في مرحلة الطفولة، فينبغي أن نستثمرها.
وقد أكَّد المُربون وأهل الاختصاص وبعض علماء المسلمين -كابن القيم رحمه الله- على أن العناية بمرحلة الطفولة ووجود الاستقرار في هذه المرحلة يُساعد على الدخول في مرحلة المُراهقة بشكلٍ إيجابيٍّ.
فنحن بأمس الحاجة أيها الإخوة الأكارم إلى الاهتمام بذلك، ورعاية هذه الفرص، وسنُكمل -بإذن الله - باقي هذه الفرص بعد أن نسعد بمُداخلة الأستاذ طلال أبي ذراع، عضو الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية، والمستشار الأُسري، فحيَّاك الله أستاذ طلال.
المتصل: حيَّاكم الله، أُمسِّي عليك، وعلى المُشاهدين والمُشاهدات الكرام، وحيَّاكم الله.
المحاور: يا مرحبًا، تفضل، الله يحفظك، ونحن في حلقةٍ بعنوان: "حاجات الأسرة بين الفرص والتحديات".
سُبل مواجهة الموجة الفكرية المعاصرة
المتصل: حقيقةً حاجة الأسرة الآن هي: كيف نقي أولادنا من هذا السَّيل العارم من الموجة الفكرية التي دخلت علينا في بيوتنا بلا استئذانٍ؟
وأنا أُلخصها في ثلاثة تطعيماتٍ جميلةٍ وخفيفةٍ ولطيفةٍ للأُسر، وهذه التطعيمات -بإذن الله تعالى- حينما يستخدمها أرباب الأُسر من الأمهات والآباء والمُربين والمُربيات بكلماتٍ سلسةٍ ولطيفةٍ وفيها عمقٌ؛ بحول الله تعالى سوف تكون -إن شاء الله- هي الجدار الناري والحماية الربانية -بحول الله تعالى- من هذه المخاوف والتحديات العصرية التي نخشاها جميعنا على أبنائنا وأبناء الجيل، وهي:
1- افهم ابنك أو ابنتك.
2- تَفَهَّم.
3- تفاهم.
الجدار التربوي الناري الأول: "افهم"، فمن الضروري جدًّا أن يفهم كل مُرَبٍّ -كل أمٍّ وكل أبٍ- خصائص المرحلة، وخصائص النمو، والاحتياجات النفسية والجسدية والروحية لهذا الشاب وهذه الفتاة.
فحينما نفهم هذه الخصائص، ونفهم أن هذه الفتاة تُحب أن تسمع: أنت جميلةٌ ورائعةٌ، ونحن نُحبكِ ونُحيطكِ. وأن تجد حضنًا دافئًا من والدتها، وأن تجد قبلةً دافئةً من والدها على جبينها كما كان يفعل المصطفى حينما يُقابل ابنته وحبيبته فاطمة رضي الله عنها.
وهذا الشاب الذي بين يديك يريد أن يسمع منك: بطلٌ، وشجاعٌ. ويريد أن يسمع منك تحفيزًا إذا أدَّى عملًا جيدًا، وأن يسمع إطراءً وفخرًا، وحينما تُقابل أساتذته لا تُبكته، ولا تكسر نفسيته، وإنما تمدحه وتُثني عليه، وتقول: هذا ابني -ما شاء الله- رجلٌ، تبارك الله، ينفع أمه، وينفع إخوته، وهكذا.
فيا مَن تستمع إلينا من أمٍّ وأبٍ ومُرَبٍّ، افهم خصائص المرحلة، واعمل بها، وتحسس هذه الاحتياجات.
الجدار التربوي الناري الثاني: "تفهم"، تفهم حينما يغلط الابن أو الابنة أن كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون[2]أخرجه ابن ماجه (4251)، والترمذي (2499)، وحسنه الألباني.، فحينما سرق الفضل بن عباس النظر إلى تلك الفتاة في الحج لم يفضحه النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يُشنع عليه، وإنما علَّمه بألطف إشارةٍ، وبأخصر عبارةٍ، وردَّ طرفه وعينه عن النظر إلى تلك الفتاة بسترٍ.
وبعض الآباء والأمهات تفضح: وجدتُ ابنتي تُشاهد بعض الأشياء التي لا تليق، أو ابني يفعل العادات التي لا تليق. فتفضحه أمام خالاته، أو عمَّاته، أو أساتذته، والدين النَّصيحة، وليس الدين الفضيحة، فيجب أن نفهمهم، ثم نتفهم هذه المرحلة.
المحاور: عفوًا أستاذ طلال، سنستمع ونستمر في السماع لهذا الكلام الجميل، لكن هل تقصد في تفهمه ما يذكره ربما أهل الاختصاص بما يُسمَّى: بالتقبل، يعني: نتقبله على حاله، بغض النظر عن قضية: هل هو صحٌّ أو خطأٌ؟ لأن التقبل غير القبول، هكذا تقصد؟
المتصل: صحيحٌ، نتقبل ولا نقبل الخطأ، ولكن نُوجه بألطف عبارةٍ، وأخصر عبارةٍ، والتلميح أحيانًا يُغني عن التصريح، هذا هو التَّفهم: أن أتفهم أننا كلنا مررنا بهذه المرحلة العمرية، سواء مرحلة المُراهقة، وما قبلها، وما بعدها.
والنبي عليه الصلاة والسلام كيف تعامل مع ذلك الشاب الذي طلب فعل الكبيرة؟
دعا له النبي وقال: أتُحبه لأمك؟ ولأختك؟ وعدَّد له، واستخدم معه أسلوب تبادل الأدوار، والشاب نفع معه هذا، وقال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لأمهاتهم[3]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (22211)، وقال مُحققو "المسند": إسناده صحيحٌ..
الجدار التربوي الناري الثالث: "تفاهم"، بالتفاهم، وليس العنف والجلد والضرب والهجر، هكذا من غير ضوابط، فبعض الآباء حينما تقع عينه مثلًا على ابنه وهو يقع منه شيءٌ أو مخالفةٌ مباشرةٌ يتبرأ منه: وما أنت ابني، وأنا لستُ أباك. أو بعض الفتيات حينما تقع في بعض الأغلاط تُسلمها أمها لقمةً سائغةً سهلةً بسيطةً لأهل الشرور، فحينما تقول لها: ما أنت بنتي، وأنا مُتبرئةٌ منك، واخرجي من بيتي. وهكذا، ثم تُقاطعها وتجلدها: تجلد ذاتها ونفسها وروحها، وكأن هذه الأم مُقدَّسةٌ! وكأنها بريئةٌ من الأغلاط والهنَّات!
أقول: إن التفاهم هو الوسيلة الوحيدة لمعالجة الأغلاط مع الأبناء، وهو الوسيلة الناجعة.
المحاور: تقصد الحوار يا أستاذ طلال؟
المتصل: نعم، هو الحوار، كما قال الله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فهنا خاطب المشاعر والمنطق فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ، والحكمة المقصود بها: الكلام السديد، والموقف السديد في المكان الصحيح، والفعل الصحيح في المكان الصحيح والوقت الصحيح.
قال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ، ثم قال: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وهنا خطاب المشاعر، ثم قال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وهنا الجدال بالمنطق والعلم.
أسأل الله أن يحمي فلذات أكبادنا وشبابنا وبناتنا وفتياتنا من هذه التحديات، وأن يحميهم ويقيهم.
وأخيرًا نُذكر بهذه الثلاثية الجميلة الذهبية: افهموا خصائص أبنائكم، وخصائص أعمارهم، وتفهَّموهم، وتفاهموا معهم.
المحاور: ما شاء الله! جزاك الله خيرًا أستاذ طلال، الحقيقة رائعةٌ وجميلةٌ، وليتك تجعلها جدرانًا، لكن لا تكن ناريةً، بارك الله فيك.
المتصل: نارية بوجه الأعداء، وهي ماءٌ سلسبيل في وجه الأصدقاء.
المحاور: أحسنتَ، بارك الله فيك، وشكرًا لك أستاذ طلال، وفتح الله عليك حبيبنا.
المتصل: حيَّاك الله.
المحاور: شكرًا، كان معنا الأستاذ طلال أبو ذراع، عضو الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية، والمستشار الأُسري، شكرًا له على هذه الإطلالة الجميلة، ولعلنا نُعلق على بعض ما ذُكر بعد الفاصل.
أيها الإخوة، كونوا معنا، ننتظركم، بإذن الله.
الفاصل:
يحرص كثيرٌ من الآباء والأمهات على تعليم أبنائهم شتى العلوم، ويبذلون في ذلك الغالي والنفيس من أوقاتهم وأموالهم، وهذا مما يُؤجَرون عليه من الله تعالى، ولكن هل اعتنوا مع ذلك بتعليمهم أدب العلم وسمته؟ فهو الذي يُهذِّب أخلاقهم، ويُحسن طباعهم، فحاجة الأطفال إلى الأدب وحُسن الخلق أشد من حاجتهم إلى كثيرٍ من العلم.
لهذا كان السلف يحرصون على تعليم أبنائهم الأدب قبل العلم:
قال سفيان الثوري: "كان الرجل لا يطلب الحديث حتى يتعبد قبل ذلك عشرين سنةً"[4]"حلية الأولياء" (6/ 361)..
وقال عبدالله بن المبارك: "طلبتُ الأدب 30 سنةً، وطلبتُ العلم 20 سنةً"[5]"غاية النهاية في طبقات القراء" لابن الجزري (1/ 446)..
وهذا ما جعل الآباء والأمهات قديمًا يدفعون أولادهم إلى المُؤدبين والعلماء؛ حتى يقتبسوا من أخلاقهم وآدابهم قبل علومهم، قال الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-: "كانت أمي تُعممني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعَلَّم من أدبه قبل علمه"[6]"ترتيب المدارك" للقاضي عياض (1/ 119)..
وذلك أن العلم لا يُنتفع به إلا بطهارة القلب عن مساوئ الأخلاق، ولعل هذا الأمر هو ما دفع العلماء إلى اشتراط أن يتتلمذ طالب العلم للعلماء، لا للكتب فحسب؛ وذلك حتى يتأكَّدوا من تخَلُّقِه بأخلاق العلماء، وتحليه بأدبهم، ويظهر عليه سَمت العلم وأدبه ونوره.
قال عبدالله بن وهب: "ما نقلناه من أدب مالك أكثر مما تعلمناه من علمه"[7]"سير أعلام النبلاء" ط. الرسالة (8/ 113)..
ومما يدلك على منزلة الأدب والأخلاق: أن النبي قد جمع بين العلم والأخلاق والأدب، ولما أثنى عليه ربه أثنى عليه بالأخلاق والأدب فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
الشيخ: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، وعودًا حميدًا مع هذه الحلقة، بعد أن استمعنا للمُداخلة الطيبة للأستاذ طلال -جزاه الله خيرًا-، وقدَّم لنا هذه الجدران الثلاثة النارية -ما دامت على الأعداء فهي ناريةٌ بلا شكٍّ- وهي: الفهم، والتفهم، والتفاهم.
وإدراك خصائص المرحلة لأبنائنا وأجيالنا، وتقَبُّل هؤلاء الأجيال على ما هم عليه، وليس قبول خطئهم، بل توجيههم، لكن ابتداءً بالتَّقبل، كما فعل الرسول في قصة الشاب، وكذلك التفاهم والحوار؛ لا شك أن هذه من الحمايات الرائعة جدًّا، وهي من المنهج الوقائي، بل من البناء من باب أولى، فلا شك أنه منهجٌ بنائيٌّ حينما نقوم بمثل هذه الإجراءات، وأيُّ منهجٍ بنائيٍّ أيها الإخوة يتضمن منهجًا وقائيًّا؛ حتى لا يقع هؤلاء الأجيال في المشكلات.
شكرًا لك أستاذ طلال.
نقاطٌ مهمةٌ لا بد أن تُركز عليها الأسرة
دعونا أيضًا مع مُداخلةٍ كريمةٍ مع الأستاذ محمد عبدالقادر، أمين عام جمعية "وئام" للتنمية الأسرية والرعاية الأسرية بالمنطقة الشرقية.
مرحبًا بك أستاذ محمد.
المتصل: حيَّاك الله دكتور خالد، أهلًا وسهلًا بك، وبالسادة المُستمعين، حيَّاكم الله.
المحاور: حيَّاكم الله، وسُعداء بك وبالأخ طلال قبلك، فمرحبًا بكم جميعًا.
المتصل: الله يحفظك.
المحاور: جزاك الله خيرًا.
المتصل: ويُبارك فيك يا دكتور خالد.
المحاور: "حاجات الأسرة بين الفرص والتحديات"، وأنتم في نموذجكم التطبيقي والواقعي والعملي من خلال هذه الجمعية التي تهتم بقضية الرعاية الأسرية، حدِّثنا من خلال ما عشتُموه، جزاكم الله خيرًا.
المتصل: وإياكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكرًا لكم على هذه الفرصة يا دكتور خالد، والحقيقة نحن نستمتع دائمًا ببرنامجكم القيم، زادكم الله من فضله.
في الحقيقة الأسرة في هذه الأيام احتياجاتها كثيرةٌ، ولكن نذكر بعض الإشارات والهمسات التي رأيتُ أنها قد تكون مناسبةً في هذا المضمار.
فالأسرة في هذه الأيام دكتورنا الفاضل تحتاج حقيقةً إلى تعميق التربية الإيمانية، والعناية بها، وتربية الوالدين لبعضهما البعض، وتربية الأبناء -ذكورًا وإناثًا- من مختلف الأعمار.
وكما تفضل أخونا الكريم الأستاذ طلال قبل قليلٍ، وكما قلتم أنتم كذلك في برنامجكم المبارك: أن التركيز على الأطفال والنشء منذ نعومة الأظافر هي مظنة النجاح -بإذن الله-، ومظنة الثمرة الطيبة المباركة أن تنشأ الأجيال مُرتبطةً بالله .
النقطة الثانية التي أراها مهمةً في هذه الأيام من خلال ما يردنا من استشاراتٍ ومشاكل زوجيةٍ وأُسريةٍ -وبين أفراد الأسرة عمومًا- هي: تعزيز الارتباط بالله ، وتعظيم الآخرة، فالدنيا أصبحت تجتال الناس في هذه الأيام، وأصبحت بمختلف أشكالها وألوانها تُبهر الرجال والنساء على حدٍّ سواء: مطاعم، ومقاهي، وسيارات، وصنوفٌ كثيرةٌ لا تخفى على أمثالكم؛ لذلك مهمٌّ جدًّا في نظري أن تعتني الأسرة بتعزيز الارتباط بالله .
ونؤكد على قضية الإنصات والفهم والحوار، والحقيقة هناك أزمةٌ حقيقيةٌ موجودةٌ وقائمةٌ ومُتشعبةٌ ومُتناميةٌ في نظري المتواضع بين الآباء والأمهات من طرفٍ وأبنائهم، وكذلك بين الإخوة والأخوات.
فالإنصات والفهم والحوار هذا قليلٌ -للأسف- في هذه الأيام، والعجلة في الحكم على تصرفات الأبناء هذه من الأمور المُدمرة التي نلمس لها آثارًا كبيرةً جدًّا في تفريق شمل الأسرة وذَهاب ريحها.
ومن النقاط المهمة التي أظن أنه يجب على الأسرة في هذه الأيام التركيز عليها: إعادة ترتيب الأولويات، فهناك خللٌ في الأولويات في حياة الوالدين، فينبغي التركيز على تربية الأبناء التربية الإيمانية، العقلية، الجسدية، النفسية، لا على التربية المادية البحتة، والناس بين طرفي نقيضٍ، ولكن نُؤمل أن يهدي الله المجتمع إلى الرشاد، وأن يكونوا في وسط الأمور.
المحاور: عفوًا أستاذ محمد -جزاك الله خيرًا- حديثك عن قضية الإنصات والحوار والفهم وما يرتبط بقضية الاستعجال في الحكم، هل لاحظتم هذه القضية من خلال أرض الميدان والواقع، ومن خلال الاستشارات التي تأتيكم؟
المتصل: نعم، كثيرًا، سواء بين الزوجين، وللأسف حتى بين حديثي الزواج، يعني: تصور يا دكتور خالد أن تقول فتاةٌ -مثلًا- في وقت العقد والمِلْكَة، الوقت الذي يُظن فيه أن الرجل والشاب يكون في قمة المجاملة والشوق إلى لقاء الطرف الآخر، إلا أنه تصدر من بعض الشباب والفتيات تصرفاتٌ وسلوكياتٌ تدل على ضعفٍ في هذه المهارة المهمة جدًّا في فهم الطرف الآخر في الإنصات، والتفهم، وحُسن الظن، وأدب الحوار.
هذه -حقيقةً- مهاراتٌ يا دكتور بحاجةٍ إلى أن تُقدم فيها برامج جيدةٌ، حتى من المرحلة المتوسطة؛ حتى ينمو الشاب والفتاة وتُصبح عندهم هذه المَلَكة التي تُؤدي -بإذن الله- إلى استقرارٍ نفسيٍّ وأُسريٍّ.
المحاور: جميلٌ، هل جمعيتكم -كمثالٍ ونموذجٍ- تُمارس شيئًا من هذا القبيل، وأدَّى -فعلًا- إلى تخفيف المشكلات في هذا الجانب أستاذ محمد؟
المتصل: نحن في جمعية "وئام" نُقدم برامج للزوجين حول الحوار الأُسري والزوجي، ونلمس له أثرًا وقتيًّا من خلال قياس الأثر مع المُستفيدين، لكن من خلال الاستشارات وما يطلبه المُستفيدون من الجمعية نجد أن هناك تعاظُمًا في هذا الطلب، وهو: الدورات التدريبية القصيرة أو الطويلة التي تُعنى بهذا الجانب.
المحاور: وأنا أذكر لكم تجربةً كانت رائعةً في إحدى السنوات السابقة -أو شيء من هذا القبيل- في رعاية حديثي الزواج من خلال الدورات ومُتابعتهم، حتى قلَّت نسبة الطلاق لديهم فيما أذكر.
المتصل: نعم، بفضل الله، الجمعية قبل أسبوعٍ عقدت البرنامج رقم (300) وقدَّمته للشباب والفتيات المُقدمين على الزواج، واستفاد منه أكثر من ثلاثة آلاف شاب وفتاة.
طبعًا في هذا البرنامج تُقدَّم بعض الأُسس التي يُوصى بها الشاب والفتاة في بداية الحياة، أو حتى في منتصف الحياة الزوجية.
المحاور: يعني: أستاذنا الكريم، مثل هذه البرامج هي فرصةٌ في إشباع الحاجات لهذه الأسرة من خلال توعيتهم في هذه القضايا التي ستُساعدهم في حياتهم الزوجية؟
المتصل: لا شك، فنحن من خلال المُتابعة اللاحقة وجدنا من فضل الله أن نسبة الطلاق بين المُستفيدين الذين حضروا هذه البرامج لم تصل إلى 4%، فهي تنخفض إلى 3%، 4%، وهذه النِّسب تُعتبر رائعةً جدًّا قياسًا على النسب الموجودة في عموم الناس؛ لأنها تصل إلى 30% أو 33%.
المحاور: رائعةٌ جدًّا هذه النسبة، طيب، بقي شيءٌ عندكم فيما يتعلق بالحاجات؟
المتصل: نعم، بقيت نقطتان سريعتان، الله يحفظك.
النقطة الخامسة: في نظري الوعي بالمخاطر الناعمة والسَّامة التي اقتربت من نُخاع الأسرة ولُبِّها، وهي: مواقع التواصل الاجتماعي دكتور خالد.
ولا يخفى على السادة الكرام المستمعين والمستمعات أن مواقع التواصل الآن تسربت إلى داخل البيوت بلا استئذانٍ، وأصبح الأب يرى المفاهيم المُنقلبة في أبنائه وبناته وهو لا يشعر.
فلا يشعر الوالدان بهذا الأمر إلا بعد فوات الأوان؛ ولذلك نحن نؤكد على أن الأسرة بحاجةٍ إلى الوعي والانتباه والالتفات والمتابعة الرشيدة، وليس التجسس، ولا التحسس، وإنما المتابعة والالتفات والعناية.
وكما لا يخفى على الجميع: الإشباع العاطفي والنفسي، ووجود القنوات الآمنة بين الوالدين والأبناء، هذه من الأمور المهمة التي يستطيع الآباء من خلالها أن يفهموا ماذا حصل من تغيرٍ في توجهات الأبناء؟ وماذا لديهم من أفكارٍ جديدةٍ: مُنحرفةٍ، صائبةٍ، خطيرةٍ، مُدمرةٍ، هدَّامةٍ؟ حتى يستطيع الأب أو الأم -بإذن الله وتوفيقه- أن يُعالجها.
أخيرًا دكتور أخذتُ من وقتك الكثير.
المحاور: لا، تفضل، سُعداء بك.
المتصل: الله يحفظك.
أقول: أُوصي الأسرة في هذه الأيام بالحرص والاهتمام ببناء العقل في الحكم على الأشياء المُستجدة في العصر، فالعقل الآن أصبح -في نظري- شبه مُعطَّلٍ في كثيرٍ من الأُسر، وإن أردنا التفاؤل فإنه مُعطَّلٌ في بعض الأُسر، وهو مصدر خطرٍ حقيقةً، فكيف يسوغ أن يرى الأب والأم بعض التَّصرفات التي لا يقبلها عقلٌ، ولا يقبلها منطقٌ سليمٌ، ومع ذلك الأبناء لا يُدركون أنها خطأٌ؟! فهناك مشكلةٌ لدى الابن.
ابني في ثالثة ابتدائي، أو ابنتي في ثاني متوسط، عندما أُوجه له أو لها سؤالًا في سلوكٍ معينٍ في الشارع، أو سلوكٍ معينٍ في مطعمٍ، أو سلوكٍ في (مول)، ثم لا يستطيع الابن أن يقول: هذا خطأٌ، فهذا يؤكد أن هناك إشكالًا في العقول، فإنها أصبحت لا تُميز.
المحاور: إشكالٌ في منهجية التفكير أستاذنا الكريم حقيقةً؛ ولذلك نحتاج إلى إعادةٍ في هذا الباب.
المتصل: إيقاظ الحس النقدي المبني على الكتاب والسُّنة وأصول الدين، أو على القيم والمبادئ، أعتقد -والله أعلم- أنه سياجٌ -بإذن الله- لحماية الأسرة.
المحاور: شاكرًا لك أستاذي الكريم أستاذ محمد، وسُعداء والله بك، الله يحفظك، أسعدتنا، بارك الله فيك.
المتصل: شكرًا لكم، وحيَّاكم الله، وبارك الله فيكم.
تعليقٌ على ما جاء في كلام الأستاذ محمد عبدالقادر
المحاور: كان معنا الأستاذ محمد عبدالقادر، أمين عام جمعية "وئام" للرعاية الأسرية بالمنطقة الشرقية، وقد حلَّق بنا مشكورًا حول تعميق التربية الإيمانية وتعزيز الارتباط بالآخرة، وهي معانٍ مهمةٌ جدًّا، وهي التي ستقي الجيل من الشهوات وتبنيه إيمانيًّا، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ [الطور:21]، وكذلك سيحل لنا مُشكلات.
ولدينا في جانب الاستشارات الأسرية وقائع مُتعلقة بهذا الجانب، وقد نغفل عن العلاجات والتوجيهات الوعظية والإيمانية والارتباط بالآخرة، وأظن أن هذه من القضايا التي يقول عنها البعض -للأسف- أنها قضايا تقليدية، وهو لا يقصد قدحًا بها، ولكنه يقصد أنها لا تُناسب الجيل، وهي تُناسب الجيل والفطرة والقلوب.
ولذلك هذا الجانب الذي ذكره الأستاذ محمد مهمٌّ جدًّا، والنقطتان الأولى والثانية -وهما: الإنصات والحوار والفهم- تتوافقان جدًّا مع كلام الأستاذ الكريم طلال، وأيضًا إعادة ترتيب الأولويات من القضايا المهمة جدًّا بين الدنيا والآخرة، والجانب المادي، والمعنوي، والعقلي، والجسمي، والنفسي، والاجتماعي.
والوعي والإدراك والمتابعة فيما يتعلق بالمخاطر أيضًا قضيةٌ مهمةٌ.
ثم ختم بما يرتبط بمنهجية التفكير، وهي النقطة الجديرة بالوقوف معها، وتستغرب جدًّا حينما تسمع كلامًا من القصص الهشَّة الضعيفة التي هي دليلٌ على ضعف الجانب الفكري والعلمي والمعرفي، وتُسبب هذه الهشاشة كثيرًا من الانحرافات الفكرية، وتشرب الأفكار المُنحرفة ذات اليمين وذات الشمال قوةً وضعفًا.
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من علماء الأمة، ومن علماء التربية، حينما تحدث عن مثل هذه المعاني ذكر أن الإنسان يحتاج إلى أن يكون كالزجاج، ولا يكون كالإسفنجة؛ لأن الشبهات خطَّافةٌ، ووسائل الشبهات اليوم كثرت كما أشار أستاذنا الكريم الأستاذ محمد قبل قليلٍ، وقبله أيضًا الأستاذ طلال فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي.
وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي التي تُساعد على سرعة تحميل الوعاء للأجيال فكريًّا، وانحرافهم في هذا الجانب، وكذلك سرعة انتقالهم وهروبهم من بلادهم كما نسمع هنا وهناك.
فنحتاج أن نُربي الأجيال على أن يكونوا كالزجاجة؛ حينما يأتيها الضوء لا يُؤثر فيها، بل ينفذ ويبقى الزجاج كما هو، بينما الإسفنج يتشرب كل شيءٍ، ويتشرب الأوساخ والقاذورات، كما يتشرب الصالح، والله المستعان.
وهذه القضية من القضايا المهمة جدًّا، بل علماء الأمة وفلاسفة الأمة الذين كانوا من أذكياء العالم آخر حياتهم -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه في كتابه "الفتوى الحموية الكبرى" مثل: الشهرستاني، والباقلاني، وأبو المعالي الجويني، وغيرهم- تراجعوا عن هذه القضايا المتعلقة بمثل هذه الأمور، وذكروا أنهم لم يستفيدوا إلا قيلًا وقال.
فكم نحن بأمس الحاجة إلى العودة إلى الفكر الصحيح، وأن يكون لدينا -كما قال الأخ الأستاذ محمد جزاه الله خيرًا- التفكير الناقد؛ حتى نعرف الصواب من الخطأ، فالتمييز مطلوبٌ في مرحلة الطفولة والمرحلة المتوسطة، لكن وُجِدَ كبارٌ لا يُميزون للأسف الشديد! فنحتاج إلى التربية على مثل هذه المعاني.
أيها الإخوة والأخوات، فاصلٌ قصيرٌ ونعود إليكم، بارك الله في الجميع.
الفاصل:
قال تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
ثواب الإصلاح بين الناس عظيمٌ، قال النبي : ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: صلاح ذات البين[8]أخرجه الترمذي (2509)، وصححه الألباني..
والإصلاح بين الناس هو وظيفة الأنبياء، وقد كان النبي يذهب بنفسه للإصلاح بين الناس، ولو بَعُدَت المسافة، فقد بلغه أن بعض الناس اقتتلوا، فقال لأصحابه: اذهبوا بنا نُصلح بينهم[9]أخرجه البخاري (2693)..
وينبغي أن يتحلى المسلم بالعقل والحكمة والفِطنة، فمَن تدخل في الصلح بغير هذه الصِّفات أفسد أكثر مما يُصلح.
ولأهمية الإصلاح بين الناس وعِظم ثمرته أباح الشرع الكذبَ لأجله، قال النبي : ليس الكذَّاب الذي يُصلح بين الناس فيُنْمِي خيرًا، أو يقول خيرًا[10]أخرجه البخاري (2692)..
ومن أعظم أبواب الإصلاح: الإصلاح بين الزوجين، فشأنه عظيمٌ؛ لما فيه من محافظةٍ على الأسرة والأولاد.
وفي الإصلاح حقنٌ للدماء، وإبقاءٌ للأخوة الإيمانية، وسببٌ لنزول الرحمة من الله سبحانه، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
خصالٌ يتصف صاحبها بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، واستحبها لهم ليكونوا على أجمل هيئةٍ، وأكمل صورةٍ، قال عليه الصلاة والسلام: خمسٌ من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب[11]أخرجه البخاري (5889)، ومسلم (257)..
فخصال الفطرة هي:
الاستحداد: وهو حلق العانة، سُمِّي بذلك لاستعمال الحديدة فيه، وهي شفرة الحلاقة، أو المُوسَى، ويمكن إزالته بغير الحلق؛ كإزالته بالمُزيلات المُصنعة.
الختان: وهو واجبٌ في حق الرجال، ويُستحب أن يكون في اليوم السابع للمولود؛ لأنه أسرع للبُرْء؛ ولينشأ الصغير على أكمل حالٍ.
قص الشارب وإحفاؤه: والإحفاء هو المُبالغة في القص؛ لما في ذلك من التَّجمل والنظافة، ومخالفة الكفار.
تقليم الأظافر وقصها: وهو يُجملها ويُزيل الأقذار المُتراكمة تحتها.
نتف الإبط: وهو إزالة الشعر النابت فيه، وتُسن إزالته بالنتف، أو الحلق، أو غيرهما؛ لما في إزالته من النظافة وقطع الروائح الكريهة.
ويُضاف إلى هذه الخصال الخمس: إعفاء اللحية.
الإجابة عن السؤال التفاعلي
المحاور: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، وفي نهاية هذه الحلقة دعونا ننظر إلى إجاباتكم الكريمة عن السؤال التفاعلي، وهو: ما هي -في وجهة نظرك- أهم حاجات الأسرة في الوقت المعاصر؟
أم الحارث تقول: ما تحتاجه الأسرة في يومنا هذا هو تبادل الآراء، والمشورة الحسنة، والتوجيه الصحيح من الآباء للأبناء، فكثيرٌ من الأُسر اليوم مُشتتون، ضائعون، أو بالأحرى: غارقون بأجهزة التواصل الاجتماعي، ولا يعرفون أبًا، ولا أمًّا، ولربما الأب والأم لا يعرفان أن لهم أبناء يجب عليهما رعايتهم الرعاية الصحيحة على منهج السلف الصالح، وقد قال رسول الله : كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[12]أخرجه البخاري (5200)، ومسلم (1829).، فأصبحت الأسرة لا تعرف معروفًا، ولا تُنكر منكرًا، والعياذ بالله.
على أيَّة حالٍ أنا أقرأ كما تردني؛ لأن هذا انطباعٌ من المجتمع، ويُعطي دلالةً معينةً، بغض النظر عن نسبتها قوةً وضعفًا، وأيضًا قد تختلف مناطق عن مناطق، وبلدان عن بلدان، وأُسر عن أُسر، وأيضًا من شخصٍ إلى شخصٍ، فهذه أيضًا لها إشاراتٌ مهمةٌ جدًّا لا بد أن نقف معها، ونأخذها كمُؤشراتٍ، ولا يلزم أن تكون هي الحقيقة التي قد تنطبق عليَّ أو عليك، أو تنطبق بشكلٍ عامٍّ على الأغلبية، أو ما شابه ذلك.
وكل الدراسات التي اطلعتُ عليها عن وسائل التواصل الاجتماعي تدل على أنها هي سببٌ لعدم التواصل الأُسري، يعني: هي عكس اسمها؛ فهي تواصلٌ اجتماعيٌّ، وضعفٌ للتواصل الأُسري! وننتبه لمثل هذه القضية.
أم أشرف تقول: اللمسة الأُسرية، والوُدّ، ووجود الأب وسط أبنائه، وتعليمهم العلم الشرعي، وخاصَّةً التوحيد، كلٌّ بقدر استطاعته، أو بالاجتماع على درسٍ علميٍّ، ولو كل أسبوعٍ.
وهذه أيضًا إشارةٌ جيدةٌ فيما يتعلق بقضية التواصل بين الأسرة من خلال علاقة الود، ووجود رعايةٍ أسبوعيةٍ من خلال درسٍ يستفيدون منه في القصص، أو التفسير، أو علامات الساعة.
وأنا أعرف عددًا من الأُسر كانت تُجري مثل هذه الأشياء، وكان لها أثرٌ كبيرٌ على توعية أبنائها.
الأخ محمد بدر يقول: الأخلاق.
والأخت رحمة محمد تقول: تُستبدل كلمة "عيب" بكلمة "حرام"، ويسمعوا لبعضهم أكثر. يعني هي تقول: لماذا نقول: عيب؟! لنقل: "إنه حرامٌ" إذا كان حرامًا فعلًا، يعني: لا إشكالَ في ذلك، لكن إن كان ليس حرامًا، وإنما فيه شيءٌ أقلّ من ذلك، وهو مما يُعاب، فيُقال: عيب، وكذلك لا شك أن السَّماع فيما بينهم مهمٌّ جدًّا.
وإخلاص رضا تقول -وأظنها امرأةً-: الأسرة اليوم تحتاج إلى التواصل بين أفرادها؛ لأن الناس اليوم أصبحوا يعيشون تحت سقفٍ واحدٍ، لكن كل واحدٍ مُنفردٌ بذاته، بالتواصل تنقص الصِّدامات وسوء الفهم، ثم بعد ذلك الحب والاحتواء من قِبَل الوالدين لأولادهم؛ لأن غالب الانحرافات تقع بسبب عدم احتواء الأسرة لمشاكل الأولاد وحاجاتهم العاطفية.
ولا شك أن هذه النقطة مهمةٌ، ونحن نحتاجها، وهي ختام المسك لهذه الحلقة.
هناك مُشاركاتٌ أخرى، ونعدكم -إن شاء الله تعالى- باستكمالها وغيرها -بإذن الله- مع النقاط المُتبقية في الحلقة القادمة.
أيها الإخوة، لقاؤنا يتجدد في الأسبوع القادم، أسأل الله أن يُوفقنا وإياكم للإفادة من هذه الأُطروحات، وأن يُعيننا وإياكم على قضية تلبية حاجيات أُسرنا بما يريده الله ويُحبه، وما يُريده النبي ؛ حتى نسعد في الدنيا والآخرة: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829). |
---|---|
↑2 | أخرجه ابن ماجه (4251)، والترمذي (2499)، وحسنه الألباني. |
↑3 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (22211)، وقال مُحققو "المسند": إسناده صحيحٌ. |
↑4 | "حلية الأولياء" (6/ 361). |
↑5 | "غاية النهاية في طبقات القراء" لابن الجزري (1/ 446). |
↑6 | "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (1/ 119). |
↑7 | "سير أعلام النبلاء" ط. الرسالة (8/ 113). |
↑8 | أخرجه الترمذي (2509)، وصححه الألباني. |
↑9 | أخرجه البخاري (2693). |
↑10 | أخرجه البخاري (2692). |
↑11 | أخرجه البخاري (5889)، ومسلم (257). |
↑12 | أخرجه البخاري (5200)، ومسلم (1829). |