المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات مع حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم الأسبوعي "أسس التربية" من قناتكم قناة "زاد العلمية".
أهمية موضوع الحلقة
"الطفولة مفتاح المستقبل" هو عنوان حلقتنا هذه، وسنُحلق معكم أيها الإخوة الأكارم عن الطفولة، وهي مرحلة التمييز، وسنتحدث عما بين عمر السادسة إلى الثانية عشرة التي تشمل مرحلة الطفولة المُتوسطة والطفولة المُتأخرة التي هي في المراحل الابتدائية الست.
فأسأل الله أن يُوفقنا وإياكم لمحاولة الاستفادة مما سيُطرح -بإذن الله - عن هذه المرحلة المهمة جدًّا.
هذه المرحلة -أيها الإخوة والأخوات- من حيث الكمِّ والكيف في العالم الإسلامي من المراحل الخطيرة جدًّا، وقد يزهد كثيرٌ منا بها -للأسف- في الأسرة والتعليم والمجتمع.
فنحن بأمس الحاجة إلى أن نُدرك أن نسبة المواليد في المجتمعات الإسلامية نسبةٌ عاليةٌ مُقارنةً بغيرها في مجتمعات الشيخوخة الأوروبية مثلًا، فهذا من ناحية الكمِّ.
وكذلك من ناحية الكيف فيما يتعلق بقضية الفرص التي ينبغي أن نستثمرها في الطفولة، فهي فرصٌ ثمينةٌ جدًّا، في مقابل ذلك حصل استغلالٌ لهذه الفرص من غير المسلمين إلى درجة أن أصبح هؤلاء الأطفال من المسلمين ضحايا لما يُطرح من هنا أو هناك من شُبهاتٍ أو شهواتٍ.
فتجد بعض الأُسر في بعض المجتمعات نسبة المواليد فيها تصل إلى 2,4، وهذه النسبة عاليةٌ عالميًّا.
وتجد دراساتٍ حول الألعاب الإلكترونية في بعض المجتمعات الإسلامية -إن لم يكن معظمها أو كلها- تتحدث عن أن المضامين المتعلقة بهذه الألعاب من أخطر ما يُهدد الأطفال.
ولعلنا تكون لنا حلقةٌ مستقبليةٌ حول ما يتعلق بالألعاب الإلكترونية، وسيكون معنا ضيفٌ -بإذن الواحد الأحد- حول هذا الموضوع.
بينما هناك مشاهد وحالاتٌ رائعةٌ جدًّا عن أطفالٍ يحملون في صدورهم كتاب الله منذ وقتٍ مُبكرٍ، وتجد لديهم الحافظة القوية والمهارات والمواهب الكبيرة، فهم ليسوا أسرى للاستخدامات التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي.
فهذه قضيةٌ نحتاج أن نقف معها؛ لأن الكثير من الأُسر تنهزم في ظلِّ عصر التقنية في التعامل مع أبنائها فيما يتعلق بالأجهزة الذكية، ويُمكِّنون أبناءهم وأطفالهم في مثل هذه المرحلة من تلكم الأجهزة الذكية، وهذا من أكبر الأخطاء.
وأنا وغيري من أهل الاختصاص نرى أنها جريمةٌ في حق الطفولة أن نضع هذه الأجهزة بين أيديهم، فينبغي أن نُؤجل هذه القضية حتى سنّ السادسة عشرة أو أكثر لمَن يستطيع أن يفعل ذلك، ولكن مرحلة الطفولة إلى سنِّ الثانية عشرة، فينبغي أن نُدرك أنهم لا يتعاملون مع هذه الأجهزة الذكية، وإنما نُمكِّن لهم المضامين من خلال أجهزةٍ ليست مُرتبطةً بالشبكة و(الإنترنت)، وأيضًا ننتقي بعض المواد الرائعة المتعلقة بالألعاب وغيرها من الأشياء التربوية؛ حتى يستفيدوا منها، وإلا سيكونون ضحايا.
"فليَبْكِ قبل أن نبكي عليه" فهذه عبارةٌ جاءتني في (الواتس آب)، وفيها صورةٌ لطفلٍ وجهازٍ ذكيٍّ وعليه علامة X، ويُقال: ليَبْكِ قبل أن نبكي عليه.
فأثَّرت هذه الرسالة على مَن أرسلتها إليه، فأحدهم قال لي: كنتُ أنا وزوجتي نتناقش حول: هل نُعطي ابننا الجوال وهو صغيرٌ في سنِّ السادسة أو الخامسة أو السابعة أم لا نُعطيه؟ يقول: وأنا متفقٌ مع زوجتي على ألا نُعطي أبناءنا هذه الأجهزة الذكية، لكن لما جعل يبكي بكاءً مُرًّا ويقول: إن أقاربي وزملائي في المدرسة وغيرها لديهم مثل هذه الأجهزة، فلماذا لا تُعطوني؟! فيقول: بدأ قلبنا يرقُّ له، حتى كِدنا أن نتنازل عن هذه القضية، ثم جاءت الرسالة: "ليَبْكِ قبل أن نبكي عليه"، فكانت حاسمةً في الاستمرار على قرارنا الأساسي، فجزاك الله خيرًا.
فقلتُ له: بالله عليك، إلى متى جلس الطفل يبكي؟ قال: أخذ وقتًا من الزمن، ثم بعد ذلك انتهى كل شيءٍ.
وهذا أمرٌ طبيعيُّ؛ ولذلك لا بد من الإغفال والتهميش و"التطنيش" كما يُسمَّى، وعدم الاهتمام بمثل هذا الأمر، ثم سينطفئ بنفسه؛ نظرًا لطبيعة الطفل في هذه المرحلة.
فمرحلة التمييز مرحلةٌ مهمةٌ جدًّا، وهذه المرحلة فاصلةٌ حتى عند فقهاء الأمة الذين يتحدثون عما يرفع الخلوة المُحرمة، كما جاء في حديث النبي : مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبعٍ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ[1]أخرجه أبو داود (495)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ". ... إلى آخره.
فهذه المرحلة لا بد أن نُدركها، خاصةً أن مرحلة الدراسة والمدرسة والانتقال من عالم الأسرة التي كان يعيش فيها إلى عالمٍ جديدٍ تتكون فيه علاقاتٌ وصداقاتٌ، ويكون هناك مُربون جدد لهذا الطفل.
العوامل الذاتية
فهذه المرحلة تتميز بعوامل عديدةٍ ينبغي أيها الإخوة والأخوات العناية بها، وأولى هذه العوامل: العوامل الذاتية، ذاتيةٌ فيما يتعلق بالطفل ذاته، وهو ما يُسميه بعض أهل الاختصاص: العامل الذاتي، كما ذكر ذلك الأستاذ الدكتور عبدالعزيز النغيمشي -وفَّقه الله- في كتابه الرائع "علم النفس الدعوي" في فصل "مرحلة التمييز"، وأشار إلى هذه النقاط، ونحن عالةٌ على مثل هذا العلم، وفَّقه الله.
وإنني أدعو الجميع إلى أن يستفيدوا من هذا الكتاب، وهو موجودٌ بنسخة (pdf) على الشبكة العنكبوتية.
القدرة على التمييز والمُحاكمة العقلية
فأولى هذه القضايا هي: القُدرة على التمييز والمُحاكمة العقلية من خلال الواقع، فهذه أول سمةٍ ذاتيةٍ مُرتبطةٍ بمثل هذه المرحلة: من ستِّ سنواتٍ إلى اثنتي عشرة سنة، فتُصبح لديه قدرةٌ على أن يُميز بين الصواب والخطأ، وبين الألوان: الأبيض والأسود وغيرهما، وبين الليل والنهار، وبين الضار والنافع، وغيرها من تلك الأمور.
إذن لدينا قدرةٌ ومُحاكمةٌ عقليةٌ يستطيع هذا الطفل من خلالها أن يُميز؛ ولذلك لا نستغرب أبدًا حينما يُردف النبي ابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، ويستغلّ هذا الموقف المُربي الأول، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
ونحن نُضيع فرصًا كثيرةً مع أبنائنا في السيارات، أو في غيرها، وربما لا نفعل ما فعل النبي : يا غلام، إني أُعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفَّت الصحف[2]أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني..
حينما يأتي هذا التعليم والتوجيه من النبي لمثل هذا الغلام، وهو -كما يذكر أهل اللغة- دون التاسعة، ولا شكَّ أن عنده القُدرة على التمييز والمُحاكمة العقلية والوعي، فينبغي أن نستثمر هذا في تعليم مثل هذه القواعد والأصول والعقائد، والارتباط بالله، والتمييز -كما قلنا- بين الضار والنافع، والحق والباطل في أمور الدين والدنيا، وكذلك في أمور السلوكيات والأخلاق، فالنبي يجلس على مائدة طعامٍ، وأمامه صَحْفَةٌ من الطعام، وإذا بعمر بن أبي سلمة -وكان غلامًا دون التاسعة- تطيش يده في الصَّحْفَة، فيذهب بها هنا وهنا، فيقول النبي : يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك[3]أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022)..
فهذا يدل على أن هذا الغلام لديه قُدرةٌ على التمييز والمُحاكمة العقلية، وأنه يعرف الصواب والخطأ، فيتعلم أن هذا خطأٌ فيبتعد عنه، وأن هذا صوابٌ فيأتي به، وهكذا.
إذن نحن لدينا هذه القُدرة، فينبغي أن نستثمرها، وينبغي أن نقوم بإثرائها من خلال الأسئلة والمُسابقات والألغاز بما يتناسب مع الحوار، وأن يُعبر عن بعض الأشياء التي لديه، وألا يكون إمَّعةً، أو مجرد مُستقبِلٍ؛ ولذلك فالذين يُعرَّضون من الأطفال لهذه الأجهزة والإعلام والقنوات والألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل في هذه المرحلة نحن نُدمرهم فعلًا ولو في الجانب العقلي وجانب القُدرة على التمييز، فما بالكم بالجوانب الأخرى المتعلقة بالمبادئ والقيم والأخلاق، وما شابه ذلك من تلك الأمور؟!
إذن هذه القدرة الأولى، وهي جزءٌ من المراد فيما يرتبط بالعامل الذاتي، ألا وهو: الاستعدادات الخاصة بمرحلة التمييز، فالطفل لديه القُدرة على التمييز والمُحاكمة العقلية، ويتفاعل مع الواقع بشكلٍ إيجابيٍّ مُقارنةً بالمرحلة التي قبلها، وهي مرحلة الطفولة المُبكرة.
القدرة على الحفظ
والقدرة الثانية هي: القدرة على الحفظ، فهذه مرحلةٌ فاصلةٌ في موضوع الحفظ، ويحفظ حتى ولو لم يَعِي المعنى كما يَعِيه في المراحل الأخرى التي تليها، لكن في المراحل الأخرى بعد هذه الطفولة المُتأخرة والمُتوسطة بعد مرحلة التمييز تضعف القدرة على الحفظ.
إذن نحن حينما نُفرط في هذه المرحلة التي تُعتبر من أقوى المراحل في قضية الحفظ سنُعرِّضه بعد ذلك حينما يحتاج إلى أن يحفظ وهو في مرحلة المُراهقة المُبكرة أو المتوسطة أو المُتأخرة أو ما بعد ذلك سيجد صعوبةً، ويكون من الصعب عليه أن يحفظ؛ لأنه لم يستثمر حفظه في المراحل الأساسية للحفظ مثل مرحلة التمييز، فتنبغي العناية بهذه المرحلة ليحفظ ما أمكنه.
نعم يحتاج إلى آلياتٍ في قضية الحفظ وبرنامج تحفيزٍ وتشجيعٍ، ومُراعاة الفروق الفردية بينهم.
وأنا أذكر أن أحد الأشخاص أدخل أبناءه كلهم في مدارس التحفيظ إلا بنتًا واحدةً أدخلها لكنها عانت، ثم اتَّخذ قرارًا وجعلها في مدرسةٍ أخرى ليست في تحفيظ القرآن؛ لأن عندها مشكلةً في الاستعداد في هذا الجانب، فهذه من الاستثناءات الموجودة التي يمكن أن نجدها في حياتنا، لكن معظم الأطفال في هذه المرحلة لديهم القدرة على الحفظ؛ لذلك لا بد أن نستثمرها؛ لأنه عبارةٌ عن إنسانٍ خالي الوِفاض، ليس لديه ما يشغل ذهنه وقُدراته العقلية حتى بمستوياتٍ دُنيا كالحفظ وما شابه ذلك، فعنده القدرة الكبيرة، فيحتاج أن يستثمرها قبل أن يرتقي في العمر، ثم تُصبح بعد ذلك قضية الحفظ صعبةً.
إذن لا بد من استثمارٍ، ومن أنفس الفرص في الحفظ هذه المرحلة؛ لذلك لا بد من الاعتناء بحفظ كتاب الله .
القدرة على التقليد واكتساب العادات
القُدرة الثالثة المتعلقة بالجانب الذاتي هي: القدرة على التقليد واكتساب العادات، فالطفل لديه قوةٌ على التقليد والمُحاكاة، فيُمكن أن يكون نسخةً في التقليد، فهذه المرحلة من أقوى المراحل في قضية التقليد والمُحاكاة، وكذلك المرحلة التي قبلها، وهي تفوق المرحلة التي بعدها، فالتقليد موجودٌ في مرحلة ما بعد الطفولة، لكنه أقلّ، بينما التمييز في مرحلة ما بعد الطفولة أكثر.
فلاحظوا هذا حتى نستطيع أن نُدرك الفرق بين مرحلة ما قبل التمييز -وهي الطفولة المُبكرة- ومرحلة ما بعد التمييز -وهي المُراهقة-، فنحن في فرصٍ ثمينةٍ جدًّا نحتاج أن نستثمرها ونُبَيِّنها.
إذن لديه قضية التقليد والقُدرة على اكتساب العادات؛ لأنه حينما يُقلد سيكتسب عاداتٍ في الأكل، واللباس، والحركات، والكلام، ولعب الكرة، والمُذاكرة، والصلاة، والتواصل مع الناس ... إلى آخره؛ لأنه يرى النماذج أمامه، فيرى أباه وأخاه الكبير وأستاذه، وترى أمها وأختها الكبيرة ... إلى آخره.
فهذه النماذج إن كانت إيجابيةً سليمةً سيكتسب تلكم العادات الحسنة، حتى في المظهر الخارجي وطريقة الكلام والحركات، فما بالكم بالقيم والأخلاق وغيرها من تلكم الأمور؟
والصورة العكسية حينما يُقلد الجوانب السلبية فيكتسب العادات السلبية: كأن يرى شخصًا في رسومٍ مُتحركةٍ يأكل باليسار، فهو سيُقلد.
وذات مرةٍ حدثني أحد الأشخاص أن ابنته الصغيرة في مرحلة التمييز -ست سنواتٍ أو قريبًا منها- استغربتْ من طفلٍ صغيرٍ من أقاربهم يفعل شيئًا لا أخلاقيًّا، يقول: فاستغربت ابنتي وأتت إليَّ. وانظر إلى الفرق بين الطفلين: فالتي استغربتْ تربَّت في بيئةٍ مُحافظةٍ، فأتت لأبيها وتكلمتْ، وهذه بيئةٌ ناجحةٌ.
والإشكال في الطفلة الأخرى أنها ترى أن هذا الأمر عاديٌّ جدًّا، فلما بحثنا في الموضوع إذا بهذه الصورة التي حكتها هذه البنت وهي: أنها ترى أن ما فعله الطفل الذكر الآخر من أقاربها هو عبارةٌ عن شيءٍ تراه في أجهزة الإعلام في بيتها، وإذا عُرف السبب بطل العجب.
ولذلك نحن نُجرم إجرامًا كبيرًا في حق الطفولة حينما نُقدم لهم هذه الوسائل التي تُقرب إليهم القدوات السيئة، ولا تستغرب من فتاةٍ ترى قدواتٍ سيئةً من عدم الالتزام بالحِشمة والحجاب ... إلى آخره، ترى هذا بشكلٍ مُستمرٍّ ويوميٍّ؛ فتتمرد على الحجاب، وتكون لها علاقاتٌ، وهذا الطفل تجد كلامه ليس سليمًا: يشتم ويسُبّ.
وحدثني مرةً أحد الأشخاص قائلًا: سمعتُ من طفلٍ وهو يأتي بالهدف (الجول) في كرة القدم يقول: واللاتِ والعُزَّى (لأجيب) الهدف! يقول: لما بحثنا وجدنا أن هذه العبارة أخذها من رسومٍ مُتحركةٍ وألعابٍ إلكترونيةٍ، وما شابه ذلك.
وأنا رأيتُ طفلًا صغيرًا أتى بهدفٍ وبدأ ينتفض كالموجات من أعلى رأسه إلى أَخْمُص قدميه أمام الحاضرين، وأنا كنتُ في السيارة أسير في الحي الذي كنتُ أسكن فيه، فاستغربتُ هذه الحركة، وتناقشتُ مع هذا الطفل بودٍّ ومحبةٍ، وأبعدتُه عن زملائه حتى لا يتحرج، وما شابه ذلك، وتبين بعد ذلك أن اللاعب الذي يُتابعه -وهو مشهورٌ بالتهديف في ذلك الفريق العالمي المعين- إذا أتى بهدفٍ قام بنفس هذه الحركة، فقلَّده تمامًا:
فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا | وكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح[4]البيت في "حياة الحيوان الكبرى" (1/ 192) بلا نسبةٍ لقائلٍ. |
أيها الإخوة والأخوات، لعلنا نأخذ فاصلًا ونُواصل معكم حول هذا العالم المهم الذي نحن بأمس الحاجة إلى إدراك خصائصه وسماته وما يتميز به، لعل الله يُعيننا على تربية هذا الجيل الصاعد، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.
الفاصل:
كيف تُحفِّظ طفلك القرآن؟
القرآن كلام الله تعالى، وخير زادٍ يُقدمه الوالد لولده، فإنه سبيل الهداية والاستقامة.
أفكارٌ ووسائل تُعين المُربي في ربط النَّشء بكتاب الله تعالى، منها:
- الإكثار من قراءة القرآن أمام الأبناء، فالقُدوة من أقوى المُحفِّزات في توجيه السلوك.
- التحفيز من خلال سرد وشرح الآيات والأحاديث في فضل قراءة القرآن وحفظه.
- إلحاقهم بحلقات تحفيظ القرآن، فهي تُدخل الطفل في تنافسٍ مع أقرانه، وتُعينه على ضبط القراءة والتجويد، وتربطه بالمسجد والبيئة الصالحة.
- قصّ ما ورد في القرآن الكريم من قصصٍ بأسلوبٍ سهلٍ ومُشوقٍ، فالحكي مُحببٌ إلى الأطفال، ويُسْهِم في تعلقهم بالقرآن، كما يُنَمِّي الرصيد اللغوي القرآني لديهم.
- أهدِ ولدك مُصحفًا، فحب التَّملك غريزةٌ يمكن استثمارها بشكلٍ إيجابيٍّ يجعله مُرتبطًا بمُصحفه الخاص: يقرأه، ويُقلبه متى شاء.
- التَّشجيع بالمُكافأة، والتحفيز على المُشاركة في المُسابقات، فقد يعجز الطفل عن الحفظ بمفرده، لكن ربما يكون مُنافسًا قويًّا وحافظًا مُتقِنًا إذا كان الأمر في شكلٍ جماعيٍّ، خاصةً إذا رُصدتْ بعض الجوائز.
- استعمال الوسائل الحديثة في الحفظ، فهي تُلبي رغبتهم في استعمال هذه التقنيات التي غالبًا ما تُوظف في أشياء أخرى، ويُستحسن أن يكون بها خاصية تسجيل القراءة والاستماع إليها، ومعرفة أخطاء القراءة.
قال رسول الله فيمَن قرأ القرآن وتعلَّمه: يُوضَع على رأسه تاج الوقار، ويُكْسى والداه حُلَّتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بِمَ كُسينا هذا؟ فيُقال: بأخذ ولدكما القرآن[5]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (22950)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ في المُتابعات والشواهد"..
الدكتور خالد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، وعودًا حميدًا مع "الطفولة مفتاح المستقبل"، وكنا قد حلَّقنا معكم حول العامل الذاتي وتلكم القدرات والاستعدادات لمرحلة التمييز، وتحدثنا عن القُدرة على التمييز والمُحاكمة العقلية، والقُدرة على الحفظ والتقليد.
سرعة القابلية والتشكيل
دعونا نُكمل هذا العامل المهم، وهو ما يتعلق أيضًا بسرعة القابلية والتَّشكيل، ففي هذه المرحلة هناك سرعةٌ في القابلية والتَّشكيل، حيث يتشكل الطفل كيفما شئنا، وهذه فرصةٌ ثمينةٌ نحتاجها، وهي موجودةٌ أيضًا في المرحلة التي قبلها، ولكن مع التمييز تظهر القضية وأهميتها؛ ولذلك فإن زرع القيم والعناية بمثل هذه القضايا، واكتسابه لقضايا المهارات، وما شابه ذلك قضايا مهمةٌ جدًّا نحتاجها.
ولذلك حينما نُقدم البرامج حتى باللعب التربوي والتعليم باللعب سيكتسب مهاراتٍ وفرصًا كبيرةً، وتُشكل شخصيته فيه، فكما أن عنده قوة التقليد والمُحاكاة عنده أيضًا سرعة القابلية والتَّشكيل بسهولةٍ، ولن تكون هذه السهولة موجودةً في مرحلة المُراهقة؛ إذ توجد في المُراهقة صعوبةٌ في قضية التَّشكيل والقابلية، فتجد أن المُراهق عنده استقلاليته من جهةٍ، وإذا قصَّرنا معه في مرحلة الطفولة سيصعب علينا أكثر حينما نريد أن نُكسبه تلك القيم ونغرس فيه المهارات؛ لأن طبيعته تختلف عن طبيعة مرحلة الطفولة.
القدرة على الحركة واللعب
أخيرًا فيما يتعلق بالعامل الذاتي: ما يرتبط بالقدرة على الحركة واللعب، لا بد أن نضع هذا الأمر بالحسبان.
والنمو الحركي في هذه المرحلة أخفُّ من المرحلة التي قبلها والمرحلة التي بعدها؛ فالتي قبلها فيها نموٌّ سريعٌ، والتي بعدها في مرحلة المُراهقة المُبكرة فيها يحصل نموٌّ سريعٌ أيضًا.
ففي هذه المرحلة هناك نموٌّ حركيٌّ، لكنه أقلّ مما قبله ومما بعده، لكن هناك التمييز الذي يُساعد في الاستفادة من هذه الألعاب؛ ولذلك يُوصى في هذه المرحلة بالتعليم باللعب والألعاب التربوية وما شابه ذلك من أمورٍ، وليس من الصواب أن يلعب فقط، لكن هناك فرصة في أن يتعلم من اللعب، وهذه قضيةٌ نؤكد عليها في موضوع القدرة على الحركة واللعب.
ونؤكد على أهمية الحركة، وأن تُتاح للطفل فرصة الحركة داخل الحصة الدراسية، وفي البيت أو فنائه، أو يُؤخذ إلى سطح البيت، أو شُرفة البيت ... إلى آخره.
ومَن كان سكنه ضيقًا جدًّا يحاول -مثلًا- أن يجعل للأطفال غرفة ألعابٍ، أو يُخرجهم إلى مكانٍ فسيحٍ حتى يتحركوا وينشطوا.
وأنا أرى كذلك أن على الأساتذة أن يُراعوا هذه القضية بالنسبة لطلابهم، فمن الطبيعي جدًّا أن يجد الطالب يقوم من كُرسيه إلى كرسي طالبٍ آخر، وليس هذا عبارةً عن تمردٍ وشقاوةٍ وما شابه ذلك، خاصةً إذا كان الأمر -كما يُقال- ليس فيه أذًى: لا على النفس، ولا على الغير، وإنما هذا جزءٌ من قضية الحركة واللعب.
وأذكر أن أحد الذين لم يُوفَّقوا في تدريسهم لهؤلاء الطلاب في هذه المرحلة، وهو يتدرب -للأسف الشديد- على التعليم في المرحلة النهائية من الدراسة التربوية، أحد الطلاب في الفصل يلعب وينظر ويتحرك، فقال له: اسكت. ووجَّهه ووبَّخه ولامه، ورجع الطالب إلى اللعب مرةً ثانيةً وثالثةً، فمن الطبيعي في هذه المرحلة أن يحصل مثل هذا الأمر، فلا نستغرب، وللأسف الشديد ما كان من المعلم غير المُربي إلا أن أخذ الكرسي وقذفه على هذا الطالب، فهل هذه تربيةٌ؟!
لا شكَّ أن الأمر كما قال الله : وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فلنُدرك خصائص وسمات ومُميزات هذه المرحلة وغيرها من المراحل حتى نستطيع أن نتعامل بطريقةٍ صحيحةٍ.
إذن هذا ما يتعلق بالعوامل الذاتية والاستعدادات والقُدرات التي تكون للطفل في مرحلة التمييز، فلا بد أن نُوظفها توظيفًا إيجابيًّا؛ ولذلك ستجدون أن التعليم في هذه المرحلة سهلٌ، فهم أطفالٌ، وعندهم براءةٌ، ومَن ينظر إلى هذه السمات والخصائص ويستثمرها سيُدرِّس لهذه المرحلة وهو مُرتاحٌ، ولن يتعب.
العامل البيئي
أيها الإخوة، بعد أن تحدثنا عن العامل الذاتي في نقاطٍ خمسٍ -كما أشرنا- نأتي الآن إلى العامل البيئي.
والعامل البيئي هو: أن يتعامل الطفل مع بيئةٍ مُنفتحةٍ غير البيت: كالمجتمع من خلال المدرسة، ويبدأ في الذهاب إلى المسجد، وإلى الأقارب، وما شابه ذلك، فأصبح هذا العامل البيئي يحتاج إلى أن نقف معه.
وهذه النقطة خاصةً هي تأكيدٌ لنقطة العامل الذاتي المُرتبطة بالقدرة على التقليد والمُحاكاة.
المبدأ الأول: أهمية مبدأ التَّطابق بين القول والعمل
إذا أردنا أن ننجح في العامل البيئي المُؤثر إيجابيًّا على الطفل لا بد من قدواتٍ إيجابيةٍ، وعلى رأسهم الأب والأم، والمعلم والمعلمة ... إلى آخره، فينبغي العناية بمبدأ تطابق القول والعمل، فلن أكون أبًا مُؤثرًا إيجابيًّا في أبنائي، وأكون فعلًا مَحْضَنًا بيئيًّا مُناسبًا له إلا إذا كنت مُستحضرًا لهذا المبدأ ومُطبقًا له، فالطفل يرى صورةً من الأوامر التوجيهية النظرية اللفظية، ولكن يرى واقعًا مُخالفًا لهذه الأوامر، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2]، فانظر للتوبيخ: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، والمَقْت هو أشد البُغض عند الله، فهذا من أشد الأشياء التي تُؤثر جدًّا في الجيل، خاصةً في هذه المرحلة التي فيها سرعة القابلية والتشكيل، وقوة التقليد والمُحاكاة كما ذكرنا، فلتُطابق أقوالنا أفعالنا.
وابن الجوزي -رحمه الله- في كتابه "صيد الخاطر" تحدث عن العلماء العاملين، وأخذ يُفرق بين علماء درس على أيديهم، وفرَّق بين هؤلاء الإيجابيين والسلبيين، فذكر من شيوخه الذين تأثر بهم تأثرًا كبيرًا: الأنماطي، حيث يقول: "كنتُ أقرأ عليه وهو يبكي، فاستفدتُ ببكائه أكثر من استفادتي بروايته، وانتفعتُ به ما لم أنتفع بغيره"[6]"صيد الخاطر" (ص12).، وغير هذا ربما كان علمه أكثر من هذا، ولكن يقول: فلما ماتوا نُسوا، ونُسي علمهم. فيقول: فأدركتُ أن الأعمال أبلغ تأثيرًا من الأقوال.
فنحن بأمس الحاجة لهذه القضية في بيوتنا:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله | عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم[7]"ديوان أبي الأسود الدؤلي" (ص404). |
فانتبهوا أيها الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات، يا مَن يقف مع الأطفال موقف التأثير والتَّوجيه، إياك أن تُخالف، لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله، إياك أن يُخالف القول العمل، فيكون هناك انفصامٌ في هذا الموضوع.
فالخطورة في أنه يدرس شيئًا صحيحًا جميلًا، وربما يُعلمه أبوه، أو تُعلمه أمه، أو تُعلمها أمها، ويجد من أمه ما يُخالف هذه القضايا التي تعلمها من خلال توجيهاتٍ إسلاميةٍ في كتاب الله وسنة النبي ، هذا من أشد ما يكون.
وقد رأيتُ شابًّا مُراهقًا -يعني- قبيل الصلاة، ولم يحضر للمسجد، وبقي في نفس مكانه مع زملائه، فأتيتُ إليهم وقلتُ لهم: يا شباب، لماذا لا تُصلون؟ فقال أحدهم -وهذا تفسيرٌ لا تبرير، وقد أصاب في تفسيره، ولكنه لا يُبرر له ذلك، خاصةً أنه مُكلَّفٌ-: كيف تريدنا أن نُحافظ على الصلاة وأنا والدي لا يُصلي في المسجد، أو حتى لا يُصلي أبدًا؟! أو شيئًا من هذا القبيل.
فلا شكَّ أن هذا من أخطر ما يكون؛ ولذلك لا بد من مبدأ تطابُق القول والعمل، وهذا أول مبدأ فيما يتعلق بالعامل البيئي.
المبدأ الثاني: عرض النموذج
فالطفل في هذه المرحلة يحتاج إلى أن يعرف نموذجًا حتى يتقمَّص العادات الحسنة والقيم والشخصية والطريقة المناسبة في التعامل من خلال هذا النموذج الذي يراه، وهذا النموذج إن كان نموذجًا حيًّا سيكون أقوى في التأثير، فالطفل يتأثر بمَن أمامه، ورقم واحد هي الأسرة من خلال الأب والأم والإخوة والأخوات الكبار؛ فلذلك تنبغي العناية بعرض النموذج، ونستشعر أننا ذلك النموذج لأبنائنا، وكذلك المعلمون مع طلابهم.
فنحن بأمس الحاجة إلى مثل هذه القضية أيها الإخوة.
ومن الصعوبة بمكانٍ أن يجد الطفل بُغيته التي تنسجم مع حاجاته بطريقةٍ سليمةٍ في المدرسة ولا يجدها في أُسرته، يجدها من خلال شخصٍ تقابل معه للحظاتٍ وتأثر به، ورأى فيه النموذج الرائع الإيجابي الذي لا يجده في بيته، أو في مدرسته، أو ما شابه ذلك.
فلنتنبه إلى ذلك الأمر أيها الإخوة والأخوات.
المبدأ الثالث هو مبدأ عرض النموذج، فنعرض له سيرة النبي والأنبياء والصالحين والعظماء الذين أنتجوا في هذه الحياة، وما شابه ذلك، ويُربط بجيل السلف الصالح وما شابه ذلك من خلال القصة، فالطفل يتأثر جدًّا بالقصة، ومن خلال السيرة والتاريخ، فما أجمل ذلك مع الأطفال في مثل هذه المرحلة! وهو قادرٌ أيضًا -كما قلنا- على أن يُميز ويُدرك الصواب من الخطأ، والخير من الشر، والصالح من الطالح، والنافع من الضَّار.
فهذه من القضايا المهمة التي تتعلق بمبدأ عرض النموذج.
المبدأ الرابع: التكرار
لا يمكن أبدًا بحالٍ من الأحوال أن نُقدم نموذجًا إيجابيًّا مُؤثرًا داخل الأسرة أو المحضن التربوي إلا إذا كان سلوكنا مُكررًا، مثلًا: أريد أن أُربي أبنائي وطلابي على الانضباط، وأنا أحيانًا أنضبط وأحيانًا لا أنضبط، فلن أكون قدوةً لهم في هذا، وإنما يكون سلوكًا مُتكررًا.
نعم قد تحصل هَفَوات أحيانًا، وهذا من طبيعة النفس البشرية، لكنه معروفٌ أنه أبٌ ومعلمٌ مُنضبطٌ.
وهكذا بالنسبة لأي سلوكٍ آخر من القيم: كالصدق، والعِفة، والحياء، والتعاون، والمُشاركة، والعبادات، وصِلة الرحم، وغيرها من الأمور، فكلما كان سلوكًا مُتكررًا تجذَّر هذا الأمر بشكلٍ إيجابيٍّ، وصار فرصةً ثمينةً لاكتساب هذا الابن لهذا السلوك من خلال القدوات التي أمامه، فيراها مُتكررةً في فعل السلوك والعادات الحسنة.
مع الانتباه إلى أن الأبناء في هذه المرحلة -كما قلنا- عندهم قوة التقليد والمُحاكاة، وسرعة القابلية والتَّشكل، وعندهم رادارات في البيت، فهم يعرفون أن هذا السلوك كذا، فيتأثرون به، وقد لا يُميزون بمستوى الكبير، لكنهم يتأثرون بشكلٍ أقوى؛ ولذلك حينما نُقدم لهم النماذج المُنسجمة المُتطابقة تربويًّا بين الأقوال والأعمال، وبين المبادئ والقيم والسلوك الصحيح؛ سنجني الثمار الإيجابية، وحينما يكون هناك فِصامٌ نَكِدٌ بين النظرية والتطبيق، وبين الأقوال والأفعال، وبين المبادئ والقيم؛ ستكون المصيبة كبيرةً جدًّا.
والله يقول عن كتابه الذي حفظه وتلاوته يُؤجر عليها: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، فتوجيهات القرآن حتى لو تلوناه حقَّ تلاوته، وتلوناه تلاوةً صحيحةً، وحفظناه، إذا لم نُطبِّقه لن ينفع؛ لأن الهدف الأساسي: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ؛ ولذلك قيل: "رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه"[8]تفسير النيسابوري = "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" (1/ 74).، كما جاء في الأثر، فلنتنبه لمثل هذه القضية.
وقبل أن ننتقل أيها الإخوة إلى العامل الغائي، ثم الحديث عن الجانب الخُلُقي في نهاية الحلقة -بإذن الله- ننتقل إلى فاصلٍ، فكونوا معنا أيها الإخوة والأخوات.
الفاصل:
بيتٌ به أطفالٌ هو بيتٌ لا يخلو من مُشاجرةٍ، والشِّجار في ذاته ليس مَدْعاةً للقلق، بل هو إحدى الوسائل لإثبات الذات، وهي من الصفات اللازمة لنجاح الإنسان في الحياة.
ومن الشِّجار بين الأبناء يتعلم الطفل أمورًا مهمةً، منها:
- اختبار قُدرته على نيل حقوقه.
- كيفية التعبير عن احتياجاته ورغباته.
- القُدرة على التَّفاوض.
- وقبول مبدأ الربح والخسارة.
- فضلًا عن تعلمه أهمية الوصول إلى حلولٍ وسطيةٍ مع الآخرين.
فلا يُعدّ الشِّجار مشكلةً إلا إذا خرج عن الحدِّ المألوف، أو تسبب في اختلاف سلوك الطفل عن سلوك ومشاعر مَن هم في سِنِّه، أو حدَّ من كفاءته الدراسية.
ودوافع الشِّجار بين الأبناء مُتعددةٌ، منها:
- الغيرة.
- الأنانية.
- التقليد.
- حب التَّملك.
- فرض السيطرة.
- الشعور بالنَّقص.
وقد يكون الدافع مَرَضِيًّا باختلالٍ في إفرازات الغُدد، أو أَرَقٍ، أو سوء تغذيةٍ.
ومن أهم ما يُعين الوالدين على احتواء الشِّجار بين الأبناء:
- شغل فراغهم بما يعود عليهم بالفائدة، فبقاؤهم دون مُمارسة أي نشاطٍ فكريٍّ أو يدويٍّ يُعطي الاختلاف في وجهات النظر فرصةً كبيرةً للظهور.
- دوام المُراقبة، فهي تُسهل السيطرة على الشِّجار قبل أن تتسع دائرته.
- عدم التَّدخل مُباشرةً لحسم الخلاف، ومنح الأبناء فرصةً لحلِّ خلافاتهم بأنفسهم.
- عدم الانحياز إلى أحد الأشقاء.
- وتجنب المُقارنة أو المُفاضلة بينهم.
- إشباع حاجات الأبناء النفسية: كالحاجة للحب، والتقدير، والثقة بالنفس، والأمان.
- مبدأ الثواب والعقاب ضرورةٌ تربويةٌ، ولا بد من استخدامها بحكمةٍ، وفي الوقت المُناسب.
- استغلال الشِّجار في تعليمهم بعض المبادئ والأساسيات المهمة في التعامل مع الطرف الآخر: كالتسامح، والمودة، فإذا كان من حزمٍ بين الأبناء فلا بد أن يكون حزمًا مقرونًا بالصفاء والتفاهم.
التربية عالمٌ من المعاني النبيلة، والقيم الأصيلة، يسعى فيها كل مُرَبٍّ لبناء شخصية أبنائه على المبادئ الإسلامية الراسخة، ويبحث عن الأفكار والحلول التي تضمن سلوكًا قويمًا لأبنائه.
الدكتور خالد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات، وعودًا حميدًا مع "الطفولة مفتاح المستقبل"، ونقف معكم في نهاية هذه الحلقة مع العامل الغائي، ثم ما يتعلق بجانب النمو الخُلُقي.
العامل الغائي
أما العامل الغائي: فلا بد من استحضار الأهداف التي نريدها في تربيتنا لأطفالنا، وأن نجعل هذه الأهداف حاضرةً لمثل هذه المرحلة المهمة التي أشرنا إلى ما يُؤكد أهميتها في الكلام السابق؛ ولذلك أمر التهديف -أن نجعل ما نريده هدفًا مُحررًا كأهدافٍ- هو أمرٌ بالغ الأهمية.
خذوا مثلًا: الغاية من وجودنا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فحينما نستحضر هذه الغاية الأساسية الأولى في وجودنا في هذه الحياة وهي: عبادة الله ، وتعبيد الأبناء لله وتعويدهم على ذلك؛ سنعرف المطلوب منا، فنربطهم بالصلاة، وتحقيق القيم والأخلاق الحسنة، وتقريب أي وسائل يمكن أن تُساعد في العبودية والقُرب من الله ، والابتعاد عن أي وسائل تُبعد عن العبودية لله وتُشوه هذا الاتجاه وما يتعلق به.
فهذا هدفٌ وغايةٌ عظيمةٌ واجبٌ علينا أن نستحضرها: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
إذن نحن نحتاج إلى استحضار هذه الغاية، وهي معيارٌ لنا فيما نفعل وما نذر، وما نترك من وسائل التواصل وأجهزة إعلامية وقنوات فضائية، واختيار أصدقاء، وإشغال أوقات الفراغ، فستكون معيارًا أساسيًّا ومهمًّا جدًّا.
ومن القضايا التي نحتاج إلى التهديف فيها: ما يتعلق بقضية السلوك الأخلاقي، فالسلوك الأخلاقي يرتبط بقضية النمو الاجتماعي والتواصل مع الآخرين بالصدق، والتعاون، والمُشاركة، والاحترام والتقدير.
وحينما نُشركهم في مجالاتنا وفُرصنا وبيئاتنا الاجتماعية سنجد مَن يتربى على استقبال الضيف والترحيب به، وخدمته، واحترامه، وضيافته، وكل هذه القضايا مهمةٌ جدًّا، فلا بد من وضع هذه القضية أيضًا في أذهاننا: هدفٌ خُلُقيٌّ وسلوكيٌّ، وما شابه ذلك.
وخذ الأهداف المتعلقة بالنواحي الدراسية والأكاديمية، والحرص على الجانب الدراسي، ومحاولة أن يسلك في دراسته بنجاحٍ؛ لأن الفشل في الدراسة في المراحل المُبكرة صعبٌ جدًّا على مستقبل الإنسان، فلا بد من العناية بذلك، وخاصةً الأُسر التي تُعاني من عدم وجود ثقافةٍ ووجود المستوى التعليمي عند الآباء والأمهات، فهم يُعانون من هذه القضية، فلا بد من بديلٍ ومعلمٍ يمارس هذه القضية ويُؤديها، وما شابه ذلك.
واختيار المدرسة المُناسبة التي فيها المعلمون الذين يُؤسسون بشكلٍ جيدٍ للقراءة والكتابة وغيرها من تلك الأمور.
فهذه من القضايا المهمة جدًّا في استحضار هذه الأهداف، فلا شكَّ أنها قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
النمو الخُلُقي
دعونا نختم هذه الحلقة بما يرتبط بالنموذج الذي قدَّمه الدكتور عبدالعزيز النغيمشي في نقاشه في مثل هذا الموضوع المتعلق بمرحلة التمييز وما يرتبط بالنمو الخُلُقي، فأشار إشارةً جميلةً جدًّا إلى ثلاث مراحل نحتاج أن نتنبه لها، وهي مُرتبطةٌ باكتساب الأخلاق والقيم ... إلى آخره:
المرحلة الأولى: المرحلة الظاهرية الانقيادية: فالطفل ينقاد ويسلك الأمر ظاهريًّا حتى لو لم يَعِ المعنى ويُدرك المُبررات ويقتنع؛ لأنه ما يحتاج إلى ذلك. وأعطاها تقريبًا سن العاشرة وما قبلها.
فمثل هذه المرحلة تتميز بسرعة القابلية والتَّشكل بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا، فغَذِّه، واغرس فيه، وأعطه؛ لأن لديه قدرةً على اكتساب الأخلاق في هذه المرحلة التي تُوصف بأنها مرحلة الظاهرية الانقيادية، فهو ينقاد لما يُوجَّه إليه، وينقاد حسب الظاهر، دون الغوص في الباطن والمعنى وما يتعلق بذلك.
هذه المرحلة الأولى فيما يتعلق بالنمو الخُلُقي.
المرحلة الثانية: مرحلة الاقتناعية الانقيادية: وفيها لا بد أن يُقنع؛ لأنه في مستوى أكبر من النُّضج العقلي والتَّمييز، وأعطاها ما بين سنِّ الحادية عشرة والخامسة عشرة وما بعدها تقريبًا، فيحتاج في هذه المرحلة إلى أن يُبيَّن له السبب، فيُبيَّن له لماذا نحتاج إلى أن نكون صادقين؟ ولماذا نحتاج إلى أن نحترم الآخرين؟ وما الذي يترتب على قضية الأمانة والصدق؟ ... إلى آخره.
فيحتاج إلى أن تُذكر له هذه المُبررات والأسباب حتى يكون عنده انقيادٌ واقتناعٌ؛ ولذلك هنا مستوى أعلى من مجرد التعامل بالتوجيه التربوي المُجرد.
وقد يظهر التَّمايز بين شخصٍ وشخصٍ، أو بين حَدَثٍ وحَدَثٍ، والاستنباط بين موقفٍ وموقفٍ، وما شابه ذلك، والقصة تُعين على الإقناع وما يرتبط بذلك.
المرحلة الثالثة: ذكر بعد ذلك مرحلةً سمَّاها: الرقابة الذاتية، حيث يُصبح الإنسان رقيبًا على نفسه، ويشعر بمسؤوليةٍ ذاتيةٍ، وأنه ينبغي أن يكون كذلك، وهذا هو المطلوب، وهي من سنِّ الخامسة عشرة إلى ما بعدها تقريبًا، والتي يُصبح فيها مُكلَّفًا بالغًا، وتُصبح عنده ذاتيةٌ؛ ولذلك تأتي هنا قضية الاستشعار بالمسؤولية الذاتية، ومُخاطبته بهذه المسؤولية الذاتية وما يتعلق بها.
فهذه المراحل المختلفة نحتاج أن نتنبه لها حتى نستطيع أن نتعامل مع الجيل بطريقةٍ سليمةٍ.
هذه إطلالةٌ حول ما يتعلق بموضوع هذه الحلقة، وأسأل الله أن تكون حلقةً مُباركةً نافعةً لنا ولكم، وأن يقرَّ أعيننا وأعينكم بنجاح وتألق الأطفال في مثل هذه المرحلة -وهي مرحلة التمييز- من خلال عنايتنا في البيئة الأُسرية والتعليمية والمجتمعية، والعناية بالوسائل الإعلامية المُؤثرة، فهذا هو الدور الكبير الذي نحتاجه، كما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا | على ما كان عوَّده أبوه[9]"ديوان أبي العلاء المعري" (ص1458). |
فعلى ما نُعوِّده سيكون الأمر عنده عادةً.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، ونلتقي على خيرٍ في حلقةٍ قادمةٍ، بإذن الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه أبو داود (495)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ". |
---|---|
↑2 | أخرجه الترمذي (2516)، وصححه الألباني. |
↑3 | أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022). |
↑4 | البيت في "حياة الحيوان الكبرى" (1/ 192) بلا نسبةٍ لقائلٍ. |
↑5 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (22950)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ في المُتابعات والشواهد". |
↑6 | "صيد الخاطر" (ص12). |
↑7 | "ديوان أبي الأسود الدؤلي" (ص404). |
↑8 | تفسير النيسابوري = "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" (1/ 74). |
↑9 | "ديوان أبي العلاء المعري" (ص1458). |