المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، حياكم الله أيها الإخوة والأخوات مع حلقةٍ جديدةٍ مباشرةٍ من "أسس التربية" من قناتكم قناة "زاد العلمية".
وقد تحدثنا في حلقةٍ سابقةٍ عن تربية الفتاة -في الحلقة الأولى-، وها هي الحلقة الثانية مع "تربية الفتاة" أيضًا.
فكنا معكم في الحلقة الماضية قد تحدثنا حول ما يرتبط بالتربية الإيمانية والروحية للفتاة، وكانت هناك عدة مُشاركاتٍ من المُستشارين والمُستشارات -مشكورين، مأجورين- عن أهمية التربية وتأثيرها، وعما يتعلق بالفرق بين الصبي والفتاة، وكذلك ما يرتبط بمراحل النمو والاحتياجات لكل مرحلةٍ، وعن الهوية الجنسية، ثم ختمنا بعد ذلك حول ما يرتبط بقضية النَّسوية وخطورة هذا الفكر على الفتيات.
الجانب الاجتماعي والأخلاقي للفتاة
لقاؤنا هذه الليلة أيها الإخوة والأخوات الأكارم عن محورٍ آخر في "تربية الفتاة"، وسيُشاركنا -بإذن الله - مجموعةٌ من المُختصين والمُختصات، والمُستشارين والمُستشارات.
نتحدث في هذه الحلقة عن الجانب الاجتماعي والأخلاقي -بإذن الله-، وهو محورٌ مهمٌّ جدًّا، وتكتمل شخصية الفتاة باكتمال مجالات تربيتها من خلال القائمين على تربيتها في الأسرة والتعليم والمدرسة والجامعة، وفي غيرها من المحاضن التربوية وأماكن التوجيه لهذه الفتاة.
وحول ما يتعلق بالجانب الاجتماعي والأخلاقي الذي يجب أن نُربي الفتاة عليه معنا مُداخلةٌ مُسجلةٌ من سعادة الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله المُقبل، الخبير والمُستشار الأُسري -جزاه الله خيرًا-، وهو يتحدث عن هذا المحور كفاتحةٍ.
فمرحبًا بالدكتور وأهلًا وسهلًا.
الضيف: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيَّاك الله دكتور خالد، موضوعك رائعٌ جدًّا، والحقيقة أن الناس يُقصرون كثيرًا في تربية البنات، وربما حتى في النظرة إلى البنات؛ ولذلك نجد كثيرًا من الناس ربما يُغريه هدوء البنت فلا يصرف لها جزءًا من التربية التي تستحقها، وربما قصَّر في الاحتياجات التي تحتاجها البنت كجزءٍ من تربيتها.
فموضوع تربية البنت موضوعٌ مهمٌّ جدًّا، والبنت نفسها كالولد؛ عندما يُعنى بها ويُهتمّ بها سيكون لها تأثيرٌ كبيرٌ جدًّا، بل هي التي تُمثل المحضن الأول للأطفال، وبقدر العناية بها يكون تأثيرها في الأطفال وتنشئتهم.
دعني على عجلٍ أذكر كيف تتحمل الفتاة المسؤولية عندما تُتاح لها فرصةٌ وتُمنح تربيةً وتوجد في جوٍّ يُقدر مثل هذا الأمر؟
ولعل أقرب مثالٍ عندي هو حادثة الهجرة، وهو أكبر حدثٍ في تاريخ الإسلام، حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "فبينما نحن يومًا جلوسٌ في بيت أبي بكرٍ في نحر الظهيرة قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسول الله مُتقنعًا، في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ" يعني: جاء لأمرٍ مهمٍّ، هكذا فهم أبو بكر .
"فجاء رسول الله فاستأذن، فأذن له فدخل وجلس"، وكأنه انتظر قليلًا حتى تذهب الطفلة والفتاة اللتان هما أسماء وعائشة؛ لأنه يريد أن يبوح لأبي بكرٍ بالأمر الخطير، فقال النبي لأبي بكر: أخرج مَن عندك، فقال أبو بكرٍ كلمةً دائمًا أذكرها وأطرب لها: "إنما هم أهلك"[1]أخرجه البخاري (3905).، أي: هناك ثقةٌ كبيرةٌ تُوحي بها هذه الجملة، فأبو بكر يُدرك موقعه من النبي ، فيسحب هذا الموقع على ابنتيه؛ لأنه بالفعل سكب حبَّه للنبي وحماسه للدين في حنايا ابنتيه، بل في جميع أهل بيته، فإذا هم صورةٌ عنه في حماسهم وحبِّهم لدينهم ونبيهم؛ ولذا ما انتهى الأمر عند هذا الحدِّ، وعند كون الطفلة تحفظ السرَّ، وإنما نلحظ أمرين:
الأمر الأول: أن هاتين الطفلتين قامتا على عجلٍ وأعدَّتا ما تطلبه الرحلة من بعض الأشياء التي لم تُعَدّ بعد، وتُعبر عائشة تعبيرًا عجيبًا عندما تقول: "فجهزناهما أحثَّ الجهاز"[2]أخرجه البخاري (3905).، أي: إنه أسرع وأعجل شيءٍ استطعنا أن نعدّه.
ثم استطاعت أسماء أن تحفر لها ذكرى في التاريخ الإسلامي بالدور الذي قامت به، وعلى إثره نالت لقب: ذات النِّطاقين.
وهذا الحدث يُعطينا أن كل ما يمكن أن يقوم به الولد إذا أُتيحت له فرصة التربية الإيجابية الجيدة، يمكن أن تقوم به البنت فيما يتصل بجوانب كثيرةٍ من الحياة.
ومثلما ذكرتُ: أن هذا الحدث من أخطر الأحداث التي مرَّت في التاريخ الإسلامي؛ إذ لو استطاع الكفار أن يُطفئوا هذا الحدث أو أن يقضوا عليه لانتهى الإسلام، ومع ذلك دخلت طفلةٌ في تكوين هذا الحدث والقيام به، وسجَّله التاريخ ليُعطينا درسًا بأن الفتاة لا تقلّ عن الفتى، وأن الفتاة يمكن أن تنطبق عليها تلك الثقة التي أطلقها أبو بكر: "إنما هم أهلك" متى نالت التربية التي تستحقُّها الفتيات.
المحاور: جميلٌ: "إنما هم أهلك"، هذه القضية أيها الإخوة كما أشار الدكتور عبدالعزيز -وفَّقه الله- قضيةٌ أساسيةٌ فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والأخلاقي وتحميل المسؤولية للفتيات، فحينما تكون الفتاة في محل المسؤولية، وتُعلَّم هذه القضية، وتُدرب عليها، وتُربى عليها؛ ستُصبح مثل هذه الصورة الجميلة الرائعة.
وهذه الأزمة الخطيرة التي أشار إليها الدكتور في قصته من السيرة النبوية.
ونحن بأمس الحاجة إلى تربية بناتنا وفتياتنا على مثل هذه المسؤولية، وعندئذٍ سيكونون في محل المسؤولية، ومن أخطر ما يكون حينما يكون الأمر على غير هذا في تحميل المسؤولية؛ عندئذٍ يمكن أن يُقال: البنت ليست مُستعدةً للزواج ورعاية زوجها، وما شابه ذلك، وتأتي المشاكل بناءً على ضعف تحميل المسؤولية، مع أن الفرص متاحةٌ جدًّا.
لعلنا نُكمل أيضًا مع الدكتور عبدالعزيز.
الضيف: بالتأكيد كل الناس يؤمنون بأن الفتاة تحتاج إلى تربيةٍ، لكن ما المقصود بالتربية؟ وكيف يمكن أن نُجسد التربية التي تحتاجها الفتاة أولًا؟ ثم التي تكون لها ثمرةٌ فيما بعد، والتي بالفعل نستطيع أن ننتقل فيها من مجرد الجانب الفكري أو الذهني إلى الجانب السلوكي التطبيقي.
أظن أن أجمل وأفضل مثلٍ يمكن أن يُعبر عن هذه التربية هو ما عمله المصطفى مع ابنته فاطمة رضي الله عنها، فكان في أكثر من مناسبةٍ وبأكثر من كلمةٍ يُعبر عنها: فإنما هي بَضْعَةٌ مني، يُريبني ما أرابها، ويُؤذيني ما آذاها[3]أخرجه البخاري (5230).، فأي مُشاركةٍ شعوريةٍ يشعر بها النبي ، أو ينقل فيها مشاعره إلى ابنته، حتى وهي كبيرةٌ، وليست صغيرةً، لكن هذا التعامل الذي تمَّ في مرحلةٍ مُتأخرةٍ وهي كبيرةٌ تأسس على تعاملٍ وهي صغيرةٌ، فالتعامل امتدَّ وأصبح تعاملًا واحدًا منذ كانت طفلةً قدمت إلى الحياة حتى فارقها .
ومعروفٌ عندما أَسَرَّ إليها في نهاية حياته سرًّا فبكتْ، ثم أسرَّ إليها سرًّا فضحكتْ، وسألتها عائشة رضي الله عنها فلم تُخبرها حتى مات النبي .
وهذا أيضًا درسٌ: كيف يُعطي النبي سرًّا وهو يثق أن ابنته لن تُخرج هذا السر؟ ولو لم يكن النبي يُدرك المستوى الذي وصلت إليه ابنته من خلال التربية التي مارسها معها، وأشبع لها حاجاتها، لما باح لها بهذا السر، ولما تعامل معها بهذا التعامل القريب جدًّا.
ويكفي الحديث الذي روته عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي كان إذا قدمت ابنته فاطمة قام إليها، وما وقف في مكانه، بل تقدم خطواتٍ إظهارًا للحفاوة، فأخذ بيدها، وقبَّلها، وأجلسها في مجلسه، وكانت هي في المقابل إذا جاء النبي إليها قامت إليه، فأخذت بيده، فقبَّلته، وأجلسته في مجلسها[4]أخرجه أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8311)، وصححه الألباني..
فهذا التعامل الرائع جدًّا والتطبيقي العَفَوي المُستمر أصبح له مُخْرَجٌ أو مُنتجٌ رائعٌ جدًّا، فعائشة ماذا تقول عن فاطمة؟
"ما رأيتُ أحدًا أشبه سَمْتًا ودَلًّا وهَدْيًا برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله "[5]أخرجه أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8311)، وصححه الألباني.، يعني: هذا الاقتداء جاء إثر ذلك التعامل المُستمر، فصارت الفتاة تُعْجَب بأبيها وتُحبه وترتاح إلى كل تصرفٍ يتصرفه حتى وقته، ولو أن الأب أمرها أو نهاها تُدرك وفق العلاقة المتينة التي تظهر لها أن والدها يُحبها، ويسعى في مصلحتها، وبالتالي فإنه لا يصعب وقتها أن يكون التوجيه للفتاة، وأن تقبل الفتاة ذلك التوجيه، لكن على أرضيةٍ صلبةٍ من التربية والعلاقة الجميلة بين الأب والبنت.
المحاور: ما شاء الله! نشكر الدكتور عبدالعزيز حقيقةً على هذه الإطلالة الرائعة، فقد ذكَّرنا بعبارة: فإنما هي بَضْعَةٌ مني، وكيف كانت عائشة تصف فاطمة بأنها كانت أشبه دَلًّا وسَمْتًا بالنبي ؟
أيها الإخوة الأكارم، الحقيقة أن هذه الإطلالة وهذا المُنتج الرائع الذي أشار إليه الدكتور عبدالعزيز نحن بأمس الحاجة إليه، وقد أشار في الأخير إلى قضية الأرض الصلبة، وهذه التي نُريدها، فإيجاد أرضٍ قويةٍ لتربية الفتاة داخل الأسرة بالدرجة الأولى حتى تنتج لنا هذه المعالم الرائعة من تحمل المسؤولية والثقة المُتبادلة، وكذلك ما يتعلق بقضية الاقتداء والتبادل في العلاقات، وكيف كان يفعل فتفعل مثلما فعل معها النبي الذي هو والدها، وهكذا ينبغي أن نكون مع بناتنا وفتياتنا: أطفالًا ومُراهقاتٍ.
حسنًا، لعلنا أيضًا ننتقل بعد ذلك إلى مُشاركةٍ مُباشرةٍ، بإذن الله .
دور الأب في تربية الفتاة
معنا الأستاذة آمنة بنت حسن مصلوف، ماجستير في التوجيه والإرشاد التربوي، ومُستشارة ومُدربة في العلاقات الأسرية.
تتحدث معنا الأستاذة آمنة حول ما يتعلق بدور الأب في تربية الفتاة، فلنستمع إليها.
الضيفة:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، من المواضيع المهمة جدًّا التي أُحب أن أتطرق إليها في تربية البنات موضوع: دور الأب في تربية الفتاة، وما جعلني أُؤمن بأهمية هذا الموضوع هو تأثر الفتاة نفسيًّا وسلوكيًّا بالخلل في علاقتها بالأب، وهذا ما أُلاحظه عندما ترد إليَّ عدة استشارات تخص الفتيات، فعند سؤال الفتاة عن علاقتها بالأب أجد خللًا كبيرًا في هذه العلاقة أدَّى إلى شخصيةٍ غير سَويَّةٍ وغير مُتَّزنةٍ نفسيًّا.
الأمر الآخر أيضًا: أجد في غالب الأُسر في مجتمعنا أن تربية البنات مُوكلةٌ إلى الأم بشكلٍ كبيرٍ بحكم قُربها من ابنتها، ومعرفتها بخصائصها النفسية وشؤونها الخاصة.
فأقول: إن هناك أدوارًا تربويةً لا تستطيع الأم مهما فعلت القيام بها، فمهمة الأب مع ابنته لا تقتصر فقط على توفير الماديات والأمور الترفيهية أو وضع العقوبات، بل لا بد أن تكون هذه العلاقة أعمق وأقوى من ذلك، ولنا في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ في تعامله مع بناته، وقد أشار إلى ذلك الدكتور عبدالعزيز المقبل في مُداخلته، جزاه الله خيرًا.
فمن أكثر المراحل التي تحتاج فيها الفتاة إلى أن تكون قريبةً من والدها: مرحلة المُراهقة، طبعًا لماذا المُراهقة؟
لأنها تكون نفسيًّا قد بدأت تتشكل كامرأةٍ، وتريد أن تتعرف على الجنس الآخر بشكلٍ أعمق، والأب طبعًا هو النموذج الأول في حياة هذه الفتاة، وذلك يجعل علاقة الأب بابنته في تلك الفترة مهمةً جدًّا؛ لأنها تتحكم في مدى توازنها النفسي، فهناك -كما نعلم جميعًا- سِماتٌ فطريةٌ للفتيات، منها: أنهن عاطفياتٌ وضعيفاتٌ ويبحثن دائمًا عن الأمان، والأب هو مصدر الأمان الأول الذي تنشده الفتاة في الأسرة، وأول مكانٍ تأوي إليه عند خوفها؛ ولذلك لا بد أن يُوفر الأب لابنته الأمان النفسي قبل المادي، وإذا حدث وافتقدت الفتاة الأمان النفسي داخل أُسرتها فستطلب الأمان خارجه، وبذلك ندفع الفتاة للانحراف من حيث لا نشعر.
أيضًا تحتاج الفتاة إلى أن تشعر بأنوثتها من الطرف الآخر، والشعور بالاهتمام، والشعور بجمالها أيضًا، وتحتاج أيضًا لسماع كلمات المدح والثناء والتقدير واللمسة الحانية، فكل ذلك مهمٌّ جدًّا؛ لكونه من السمات الفطرية لهذه الفتاة، فإن استطاع الأب أن يُقدم لابنته ذلك فقد أقام عندها خطًّا قويًّا للدفاع لا يجعلها أبدًا تنشأ وتكون شخصيتها شخصيةً هَشَّةً أو ضعيفةً عندما تتعرض لنظرة إعجابٍ أو كلماتٍ معسولةٍ من خارج الأسرة.
أيضًا من الضروري أن يمدَّ الأب ابنته بخبراته في الحياة، ويكون صديقًا لها، يُشاركها بعض اهتماماتها.
وتُؤكد التجارب أن الفتاة التي تنشأ صديقةً لوالدها تُصبح أكثر قدرةً على مُواجهة الحياة، وأكثر ثقةً في نفسها، فمُعاملتك أيها الأب لابنتك باحترامٍ وتقديرٍ ستنعكس بشكلٍ إيجابيٍّ على شخصيتها وصورتها الذاتية، ومن ثَمَّ ستكون قادرةً -بإذن الله- على مُواجهة الأزمات والمواقف الحياتية التي تمرُّ بها.
أخيرًا: على الآباء أن يتذكروا أن بناتهم بحاجةٍ إلى أبٍ مُتفاهمٍ وحنونٍ ورحيمٍ، هَدْيُه وقُدوته في ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يُعظِّم شأن بناته، ويُشعرهن بوافر حبِّه ورحمته بهن.
ولعل الرجوع لكتب السيرة والوقوف على مواقف النبي عليه الصلاة والسلام مع بناته تختصر على الآباء الكثير من الوقت والجهد في البحث عن التعامل الصحيح والسليم مع هذه الفتاة.
وجزاكم الله خيرًا، ونفع بعلمكم.
المحاور: شكرًا للأستاذة آمنة مصلوف على هذه الإطلالة الرائعة فيما يتعلق بقضية الأب، وتحدثت عن حاجة الفتاة إلى التعرف على الجنس الآخر، وأول مَن يُؤهلها لذلك هو معرفتها بالأب مباشرةً، فهو أقرب مَن يكون لها، وكذلك الشعور بالأمان النفسي من خلال قُرب الأب منها، والاهتمام والمدح والثناء فيما يتعلق بالجانب الأُنثوي لها، وأيضًا أن يكون حبيبًا وقريبًا منها، وحنونًا عليها، وكذلك ما يرتبط بقضية الخبرات في الحياة.
فهذا لا شكَّ أنه دورٌ عظيمٌ جدًّا يُمارسه الأب فيما يتعلق بقضية الفتاة، فنسأل الله أن يُعين الآباء على ذلك.
علاقة الفتاة بإخوانها الذكور
ننتقل إلى مُشاركةٍ مُباشرةٍ هاتفيةٍ مع الأستاذة أسماء الجراد، الكاتبة والخبيرة التربوية.
حيَّاكم الله أستاذة أسماء.
المتصلة: حيَّاكم الله يا دكتور.
المحاور: مرحبًا، وبارك الله فيكم، لعلكم تُحدثونا في المقطع الأول لمُشاركتكم عن تربية الفتاة، كما أن الأب له دورٌ مع الفتاة، كذلك العلاقة التي تكون بين الفتاة وإخوانها الذكور، وكذلك دورها في الأسرة، مشكورين، مأجورين، تفضلوا.
المتصلة: بارك الله فيكم، انطلاقًا من كلام الأخت آمنة: أن الفتاة تبدأ في التعرف على الجنس الآخر من خلال علاقتها مع والدها، كذلك دور الأخ مهمٌّ جدًّا في علاقة الفتاة وفي نظرتها للجانب الذكوري.
فما يُقدمه الأخ من أي تصرفٍ، أو أي أسلوبٍ، أو أي تعاملٍ، فإنها لا ترى العالم إلا من هذا المُنطلق، يعني: ترى الخارج وترى مجتمع الذكور من خلال إخوانها ومحارمها، وبالتالي فكل العلاقة تتركز على هذا النوع، فإذا كان الأخ يهتم بأخته، ويُحسن إليها، ويتلطف معها، ويُعاملها بالحُسنى؛ فإنها ستنظر نظرةً إيجابيةً وجميلةً ورائعةً لهذه العلاقة.
ونبدأ هنا طبعًا بالحديث عن العلاقة الإسلامية التي شرعها الإسلام في علاقة الأخ بأخته: بأن تكون علاقةً مبنيةً على الإحسان والحب والحنان واللطف، حيث إن النبي استقبل أخته الشيماء بنت الحارث، فبسط لها رداءه حتى تجلس عليه، وخيَّرها بين أن تبقى عنده أو ترجع إلى قومها، ولما غادرت أهداها جاريةً وأنعامًا[6]"سيرة ابن هشام" ت: السقا (2/ 458)، و"السيرة النبوية" لابن كثير (3/ 689).، فكان يُحب أخته، ويُقربها منه.
وأيضًا كان الأدب الإسلامي في التسامح بين الإخوة والأخوات، وفسَّرته الآية التي في سورة يوسف، حيث غفر لإخوانه رغم كل ما فعلوه به فقال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92].
فعلاقة الفتاة أيضًا مع إخوانها تنتج من علاقةٍ طيبةٍ بين الأبوين معًا، وبين الأب وابنته، فإذا رأى الابن أن الفتاة مُحترمةٌ، وأن الأبوين يُعاملانها بحبٍّ واحترامٍ ويُقدرانها؛ فبالتالي سيفعل مثلما يفعل الوالدان، وستكون العلاقة بينهما طيبةً، فلا بد من محبة الأخ لأخته، ورحمته بها، وأن يُعينها، ولا يكون مُتسلطًا عليها.
وهنا مشكلةٌ كبيرةٌ تحصل: أن كثيرًا من الآباء يُعطون سلطةً للذكور على الإناث بدون داعٍ، فحق التربية مفروضٌ على الأبوين، وليس على الأخ أن يُربي أخته.
المحاور: إذن هي علاقةٌ تعاونيةٌ.
المتصلة: نعم، وحتى لما يُتوفَّى الوالد ينتقل واجب الإنفاق والنَّصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الأخ الأكبر، ولا يُسمح -مثلًا- بالتجاوزات التي تحصل، مثل: أن يُهين الأخ أخته، أو يحتقرها، أو يضربها، أو يقوم بتربيتها بحكم الأخوة، إنما واجبٌ عليه أن يحترمها إذا كانت أكبر منه سنًّا، ويتأدب في الحديث معها، وأن يُعاملها بالحُسنى.
المحاور: وهذا أستاذة أسماء لا شكَّ أنه سيُؤدي إلى ما أشرتِ إليه فيما يرتبط بقضية الشعور بالأمان النفسي الذي من المهم جدًّا أن تُشبع الفتاة فيه حتى لا تبحث عنه خارج الأسرة.
المتصلة: نعم، وكذلك بعض الآباء -للأسف- يمكن أن يُفضل الذكور على الإناث، وهذا كثيرًا ما نسمعه في عالم الفتيات: أن الأب أو الأم تُعطي الصلاحيات المُطلقة للابن، وتمنع البنت من كل شيءٍ بحكم أنها فتاةٌ فقط، وليس هناك طبعًا محظورٌ شرعيٌّ لممارسة بعض الأفعال أو التصرفات أو الخروج أو التَّنزه، فأحيانًا جعل كل شيءٍ متاحًا ومغفورًا للذكر، والفتاة لا، ذلك يجعل هذا حاجزًا وفجوةً بين الأخ وأخته، وبالتالي ينطبع على علاقتهما لاحقًا، ويُصبح هناك عنفٌ ومشاكل وحساسيةٌ بينهما، مع أن الإنسان حين يحزن أو يغضب أو يتألم أول ما ينطق به هو كلمة: أخ، وهذه الكلمة بعُمقها تعني فعلًا الأمان والراحة والهدوء والاستقرار.
المحاور: جميلٌ، جزاكم الله خيرًا.
وقبل أن نأخذ المحور الآخر ونخرج إلى فاصلٍ، نُؤكد قبل ذلك على هذا المعنى أيها الإخوة والأخوات، وهو ما ذكرته الأستاذة أسماء في أهمية العلاقة القوية بين الإخوة والأخوات.
وأنا أعرف أحد الأشخاص يقوم بتقبيل أخواته كلهن، يُقبل رؤوسهن جميعًا: الكبيرات، ومَن هُنَّ أصغر منه، وقد لا يفعل هذا الكلام مع إخوانه، فلا شكَّ أن هذا الشعور للبنت بهذه المثابة شعورٌ مهمٌّ جدًّا، فنحتاج إلى هذا الإشباع.
وقد أشار الدكتور عبدالكريم بكار إلى الحاجة لهذا الإشباع في جانب الاهتمام والعناية والتقدير والحب، وإشباع الجانب الوجداني والعاطفي.
وأشار الدكتور -حفظه الله- إلى أن هذا هو الذي يحمي من قضية الانفلات حتى في العالم الافتراضي أثناء استخدام التقنية، وتجاوز الخطوط الحمراء.
ولعلنا أستاذة أسماء نستمر معكم -إن شاء الله تعالى- لكن نأخذ فاصلًا -بإذن الله - ونعود إليكم، فكونوا معنا أيها الإخوة بارك الله فيكم.
الفاصل:
نصف المجتمع
هي نصف المجتمع، وتلد النصف الآخر، رمز العاطفة والعناية والعطاء، فهي الأم والأخت والزوجة والابنة، هكذا هي المرأة، ومع هذا فقد تعاملت حضاراتٌ وأممٌ سابقةٌ معها على أنها رمز شرٍّ وشقاءٍ لبني آدم، فسلبوها جميع حقوقها المادية والمعنوية، بل في بعض المجتمعات لا يحقُّ لها أن تعيش بعد موت زوجها، فتُحْرَق معه وهي حيَّةٌ.
فجاء الإسلام وأنصف المرأة، وأعطاها كامل حقوقها، وعزَّز مكانتها الحقيقية اللائقة بها، وحذَّر أشد التحذير من انتقاص حقٍّ من حقوقها، وبيَّن أنها خيرٌ وهبةٌ من الله تعالى، وجعلها شريكةً وشقيقةً للرجل فقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، وقال عليه الصلاة والسلام: النساء شَقائق الرجال[7]أخرجه الترمذي (113)، وأبو داود (236)، وصححه الألباني..
وأسند إليها مُهماتٍ ووظائف تتفق مع طبيعتها وأُنوثتها من عنايةٍ وعطفٍ ورحمةٍ، فجعل من مهامها القيام على شؤون بيتها ورعايته، فقال عليه الصلاة والسلام: والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها، ومسؤولةٌ عن رعيتها[8]أخرجه البخاري (893)..
وهذه الرعاية تحتاج إلى عناءٍ وتعبٍ لا يقلّ بحالٍ عن عناء الرجل في طلب الرزق ومُتطلبات الحياة، حتى يحصل التكامل داخل البيت وخارجه.
وأسند إليها كذلك مهمة تنشئة الأجيال؛ لكون الأسرة هي أساس المجتمع، فهذا تكوينٌ طبيعيٌّ من الله للمرأة يُبين أهميتها وعلو مكانتها، ومكانة مركزها في دورة الحياة.
الدكتور خالد: حيَّاكم الله أيها الإخوة والأخوات، كنا مع الأستاذة أسماء الجراد حول علاقة الفتاة بإخوانها الذكور، ودور الأسرة في هذا الأمر.
الصراع داخل الأسرة
الأستاذة أسماء، لو حدَّثتمونا عما يحصل داخل الأسرة من صراعٍ بين الآباء والأبناء، أو بين الإخوان والأخوات، وما يرتبط بالإشارة حول الفروق الفردية؛ حتى يكون المُربون والمُربيات في انتباهٍ في هذه النقطة، تفضلوا، حفظكم الله.
المتصلة: نقول: إنَّ الصراع ينشأ غالبًا بسبب التغيرات السريعة الحاصلة في العناصر المادية والمعنوية بسبب الحركة السريعة للحياة، وهذا يُغير في كثيرٍ من المفاهيم وأساليب الحياة.
والعديد من الصراعات أيضًا تعود أسبابها إلى الرغبة في الاستقلالية، وعدم الرغبة في التبعية للكبار، أو التَّحرر، أو السعي إلى الشخصية المستقلة.
وكثيرٌ من الفتيات تمر بمرحلة تحولٍ في أثناء المُراهقة بفرط حساسيةٍ تجاه كلام الأهالي، وتعتبر أي كلامٍ أو أي تأنيبٍ أو أي شيءٍ تدخلًا في حقوقها وحُريتها الشخصية، أو أنه يُقلل من قدرتها، وعدم معرفتها بالطريق الصحيح.
المحاور: وهذا كثيرٌ حقيقةً.
المتصلة: نعم، وهناك ينشأ الصراع بين الآباء والبنات، وبين الأمهات أيضًا وبناتهن، بحيث تصبح هناك فجوةٌ -مع الأسف- يسدُّها بعض الآباء بإرخاءٍ كاملٍ وإعطاء الفتاة كل الصلاحيات دون رقيبٍ ولا حسيبٍ، وهذا خطأٌ كبيرٌ، وبعض الآباء يُمارسون التَّشدد والحِصار الكبير، فيمنعون الفتاة من كل شيءٍ.
المحاور: إذن لا إفراط، ولا تفريط، كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
المتصلة: التوازن مطلوبٌ في كل الحالات، لا إفراط، ولا تفريط، وأيضًا لا بد أن تُعطى للفتاة بعض الأريحية والصلاحيات والحرية حتى تستطيع أن تنطلق في الحياة وترى كل ذلك تحت ضوء الشرع والشريعة الإسلامية، وألا يكون هناك طبعًا أي محظورٍ شرعيٍّ.
والكثير من الصراعات تنشأ بين الإخوة والأخوات مع بعضهم البعض -للأسف- حيث يتسلط بعض الإخوة الكبار على الصغار، أو يتحكمون في مستقبلهم أو في اختياراتهم، وهذا شرخٌ كبيرٌ في العلاقة الأسرية التي ينبغي أن تكون علاقة تواصلٍ، وليست علاقة صراعٍ، مع الأسف.
المحاور: علاقة تواصلٍ، وليست صراعًا.
طيب، فإذا كان الصراع والتَّسلط فما التوجيه؟
المتصلة: لا بد للأهالي أن يضعوا أمام أعينهم أنهم المسؤولون عن التربية كما ذكرنا، وأيضًا أن تكون لغة الحوار موجودةً في الأسرة، وأن تُعطى الفتاة بعض الاستقلالية وبعض الأمور التي تستطيع أن تُبدع فيها، وأن تُعطى بعض الأعمال التي تقوم بها حتى تُتاح لها الفرصة في أن تُمارس حياتها الطبيعية بشكلٍ سَوِيٍّ، وبشكلٍ لا تشعر معه أنها مُختنقةٌ فتهرب، أو أنها مفلوتةٌ فتضيع.
المحاور: صحيحٌ، الوصف الأخير لو تُعيدونه؛ لأنه وصفٌ يضبط قضية التوازن.
المتصلة: ألا تُترك بحريةٍ كاملةٍ فتضيع، ولا أن تُعسر وتُحصر في مكانٍ واحدٍ أو في زاويةٍ واحدةٍ فتختنق وتهرب.
المحاور: إذن لا بد من الودِّ والحزم في التعامل، كما دلَّت الدراسات أيها الإخوة والأخوات على أن التعامل بالإفراط أو التفريط ليس صوابًا، وهذا ينتج مُنتجًا مُتمردًا، فإذا كانت مُدللةً وبحمايةٍ زائدةٍ، وكل ما تطلبه يُنفذ؛ سيصل بها الأمر إلى التَّمرد، وكذلك إذا كانت يتم التعامل معها بقسوةٍ وتسلطٍ وشدةٍ ستكون النتيجة هي التَّمرد.
نعم أستاذة.
المتصلة: هذا الصراع أيضًا قد ينشأ بسبب خللٍ تربويٍّ وهو: عدم مراعاة الفروق الفردية بين الأبناء، وهذا الفرق إما أن يكون فرقًا نوعيًّا، أو فرقًا في الدرجة.
فالفرق النَّوعي مثل: مُقارنة الفتاة بغيرها، سواء بالصفات الخَلْقية أو الخُلُقية، فينشأ هنا صراعٌ بين الأخوات أحيانًا بعضهن البعض، وأيضًا بين الأم والبنات عندما تُكثر الأم من تشبيه البنت أو مُقارنتها ببنات عمِّها وببنات خالها، أو ببناتٍ أُخرياتٍ، مثلًا: في الشكل، أو في الطول، أو في الجمال، وفي غيره، فتفقد البنت ثقتها بنفسها، وتمارس نوعًا من التَّمرد.
المحاور: إذن لا داعي لعقد هذه المُقارنات.
المتصلة: نعم، والفروق الفردية أيضًا قد تكون بالدرجة، فيمكن في الذكاء، أو في العقل.
وأيضًا يجب على الأهل أن يُراعوا الفروق الفردية بين البنات بعضهن البعض، وبين الفتيات والأخوات؛ لأن الفروق الفردية تُفقد الفتاة الأمان والراحة والسعادة.
المحاور: حتى للأطفال يحصل هذا الإشكال إذا كانت هذه هي طريقة التربية، وكانت مُستمرةً، فلا شكَّ أن لها أثرها السيئ، فكيف بها مع المُراهقات؟!
المتصلة: في الأخير نقول: لا تُجبروا أبناءكم على آدابكم، فإنهم خُلقوا لزمانٍ غير زمانكم، وهذا من أهم الأشياء التي ...
المحاور: لا تُجبروا ...
المتصلة: لا تُجبروا أبناءكم على عاداتكم أو آدابكم، فإنهم خُلقوا لزمانٍ غير زمانكم، وهذه من الحِكَم التي تُقال في مُراعاة الفروق بين الأجيال.
المحاور: تقصدون في هامش العادات التي فيها -كما يُقال- هامش إجهادٍ، فيضبط هذا كله شرع الله .
المتصلة: نعم، نُركز على العقيدة الصحيحة، وأن يكون مرجعنا كتاب الله وسنة رسوله ، لا عادات وتقاليد، ولا حتى مثل: أهل فلان، وأفعال علان.
المحاور: شكرًا أستاذة أسماء الجراد على مُشاركتكم، بارك الله فيكم.
كانت معنا الأستاذة أسماء الجراد، الكاتبة والخبيرة التربوية، وقد تحدثتْ عن هذين المحورين المُهمين، وهما: محور علاقة الفتاة بإخوانها، وهذه القضية التي تُكمل العلاقة بين الآباء أو الذكور مع الفتيات، ولا شك أن هذه القضية مهمةٌ جدًّا.
ثم عرجت على قضيةٍ تحصل بين أفراد الأسرة، ولها ارتباطٌ بقضية عدم التقدير والاحترام والتَّمييز بين جنس الذكور وجنس الإناث، وما يرتبط بقضية الصراع، فالصراعات من المهم جدًّا أن نُقلل منها، ومن المهم جدًّا أن نعدل: اتَّقوا الله واعدلوا بين أولادكم[9]أخرجه البخاري (2587).، ومن المهم أن نبتعد عن عقد المُقارنات بين الأبناء.
وهناك أساليب أخرى من أجل الحثِّ على رأسها: القدوة، والتحفيز، والتواصل، لا التَّسلط والعلاقات القائمة على قضية الدلال، أو قضية القسوة والشدة، نشكر الأستاذة الكريمة.
تعزيز الرقابة الذاتية في نفوس الأبناء
معنا الدكتورة أسماء عبدالعزيز الحسين، عضو هيئة التدريس بقسم علم النفس، ورئيسة مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية لرعاية الطفل، وباحثة ومُؤلفة، ومُستشارة نفسية وأُسرية.
مرحبًا بكم دكتورة أسماء.
المتصلة: حيَّاكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ونحن في الحلقة الثانية من "تربية الفتاة"، وحول ما يتعلق بالجانب الاجتماعي والأخلاقي، ولعلكم تُحدثوننا -بارك الله فيكم- عن تعزيز الرقابة الذاتية في نفوس الأبناء، تفضلوا، بارك الله فيكم.
المتصلة: جزاكم الله خيرًا.
المحاور: وإياكم.
المتصلة: أولًا: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقُدوتنا ومُعلمنا الخير محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، دين الإسلام دين الفطرة والرحمة والتربية الحسنة والنَّجاة والسُّمو، وموضوعكم جميلٌ جدًّا ومهمٌّ، والحقيقة أن تنمية حبِّ الله والرقابة في نفوس الأبناء موضوعٌ مُتجذِّرٌ، أو له أصوله، وهو مُتسلسلٌ؛ يبدأ من الصِّغر، بل يبدأ قبل ولادة الطفل من خلال حُسن اختيار الوالدين والقدوة والبيئة الصالحة، ثم يأتي بعد ذلك طبعًا مُراعاة المراحل العمرية وخصائصها في إشباع الحاجات وطريقة التعليم، فكل مرحلةٍ لها طريقةٌ، وأيضًا في تعليمه الصبر والحب، أو المُتضمن الهيبة والبدء بالترغيب، وفي عملية التربية واستثمار المواقف، وتحميله المسؤولية، والتعويد على التفكير، واستثمار قُدرات المَلَكات العليا، وفي الدعاء بالصلاح.
فكل هذه الأشياء مُترتبةٌ على بعضها ومهمةٌ في غرس الرقابة الذاتية، وأيضًا شخصية الطفل كلما كانت قويةً، وحاجاته مُشبَعةً، وأمامه قدوةٌ صالحةٌ كانت البيئة خصبةً للغرس.
المحاور: عفوًا يا دكتورة، نحن نتكلم عن الفتاة: طفولةً ومُراهقةً من جهةٍ، وأيضًا نتحدث عن هذه الرقابة الذاتية وتعزيزها من أجل تربية الفتاة على المجال الأخلاقي والاجتماعي، فما العلاقة بين الرقابة الذاتية وتعزيزها في نفوس الفتيات -طفولةً كانت أو مُراهقةً- وما يتعلق بالجانب الاجتماعي والأخلاقي؟
المتصلة: جميلٌ، هذه الأشياء تبدأ طبعًا -مثلما ذكرتُ- من الصغر من القدوة من الأبوين، ولو عرفنا مفهوم الرقابة الذاتية وهي: شعورٌ داخليٌّ وقوةٌ ضابطةٌ للطفل أو الطفلة.
المحاور: إذن قوةٌ ضابطةٌ، هي من ذاتها تضبط نفسها حتى ولو لم يكن معها أحدٌ.
المتصلة: لكن هناك أهميةٌ لتعزيز الرقابة الذاتية؛ لأن الطوفان أمام الطفل أو البنت طوفانٌ من جميع الجهات: من التواصل الاجتماعي، والرفاق، والبيئة التي أمامه، فكل هذه الأشياء بحاجةٍ إلى دور الأبوين في تعزيز الرقابة الذاتية، فالطفل يُولد على الفطرة، ولكن يحتاج إلى مَن يرعى أو يغرس هذه السلوكيات الحسنة في نفسه.
المحاور: إذن لا بد من قضية الغرس، ولا بد من قضية القدوة؛ حتى تنشأ الفتاة على ذلك، فلو تعرَّضت عبر -مثلًا- وسائل التواصل الاجتماعي أو العلاقات والصداقات مع أُخرياتٍ ... إلى آخره إلى شيءٍ يُخالف ما تربَّت عليه تستطيع أن تقول: لا لمَن يستحقّ أن يُقال له: لا.
المتصلة: كلامٌ جميلٌ، وهذه تكون في بداية الأمر في مرحلةٍ مُبكرةٍ جدًّا: بداية الاستيعاب، يجب أن تكون هناك سلوكياتٌ حسنةٌ وخطٌّ أحمر لبعض الأشياء، وبأسلوب الترغيب طبعًا، لكن التهاون وترك المجال مفتوحًا كما تفعل بعض الأمهات، فتكون هي السبب فيما يحدث للفتاة في مرحلةٍ لاحقةٍ.
فبعض الأمهات عند سؤالها: لماذا تتركين الفتاة بسلوكياتٍ معينةٍ؟ تقول: لا أستطيع، المجتمع من حولي، والصديقات، وكذا، والبنت استقوت على تعليمات الأم، لكن في مرحلةٍ سابقةٍ مُبكرةٍ لو تعهدتها بالنَّماء وحُسن الرقابة والرعاية لانغرست أخلاقٌ وقيمٌ تُساعدها في الرقابة الذاتية.
المحاور: إذن الدور التربوي في الأسرة تجاه الفتاة دورٌ كبيرٌ جدًّا، فلا ينبغي أن يكون اهتمامنا بالجانب المادي البَحْت على حساب ما يرتبط بقضية زراعة هذه القيم والأخلاق، وأن نكون نحن قُدواتٍ لهؤلاء الفتيات؛ لأنهن بلا شكٍّ في عصرٍ صعبٍ، وما يمكن أن يُبنى في الأسرة قد يُهدم في غير الأسرة.
إذا كانت هناك خاتمةٌ، بارك الله فيكم.
المتصلة: لا بد من إشباع حاجات الطفل أو الفتاة النفسية والعاطفية، وتنمية خِصال الخير والصفات الإيجابية فيها، ووضع ضوابط وقواعد مُلزِمة داخل المنزل وخارجه قدر الإمكان.
المحاور: إذن تنمية الجانب الإيجابي، وإشباع الحاجات، وكذلك وضع ضوابط وقواعد مُلزِمة، ووجود نظامٍ في الأسرة.
المتصلة: نعم، لا بد، ضروري.
المحاور: طيب، جزاكم الله خيرًا دكتورة أسماء، وشكرًا لكم على مُشاركتكم لنا.
كانت معنا الدكتورة أسماء الحسين حول تعزيز الرقابة الذاتية في نفوس الفتيات، وهذا الدور المطلوب من الأسرة من أجل أن تُواجه الفتيات المُتغيرات الكبيرة التي نحن بأمس الحاجة إليها.
ولا شكَّ أن هذه القضية أيها الإخوة والأخوات مهمةٌ جدًّا، يعني: لو لم يكن عندنا تكليفٌ في قضية الأسرة ووظيفتها التربوية والدور التربوي إلا هذه القضية لكَفَتْ؛ لأن هناك تضييعًا لمثل هذه القضية والواجبات والفرص المُمكنة، خاصةً -كما يُقال- مع نعومة الأظفار، فهؤلاء الفتيات من مرحلة الطفولة؛ فلذلك الواجب كبيرٌ، والتربية الإيمانية القائمة على القدوة، ووجود النظام، وإشباع الحاجات النفسية -كما أشارت الدكتورة- قضيةٌ مهمةٌ.
مهارات الحوار البَنَّاء وزرع حب الله في النفوس
لعلنا أيها الإخوة والأخوات ونحن في ختام الحلقة الثانية من "تربية الفتاة" وحول الجانب الأخلاقي والاجتماعي نختم هذه الحلقة المُباركة -بإذن الله - بمهارات الحوار البنَّاء، وكيف نُدير هذا الحوار بفاعليةٍ داخل الأسرة؟ وكون الفتاة أحد أعضاء هذه الأسرة.
معنا الدكتورة لمياء عبدالرحيم علي قاضي، دكتورة في الإدارة التربوية، ومُستشارة تربوية، ومُدربة وخبيرة دولية بمركز التطوير المهني والتعليم، ومُستشارة مُعتمدة في الحوار الأُسري.
حيَّاكم الله دكتورة.
المتصلة: بسم الله الرحمن الرحيم.
المحاور: تفضلوا، الله يحفظكم.
المتصلة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المحاور: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصلة: بدايةً أشكركم على استضافتي في هذا البرنامج، وسنتناول -إن شاء الله- محور حبِّ الله في النفوس.
المحاور: بقي من الوقت قُرابة الخمس دقائق، نتحدث حول ما ترونه مُناسبًا في الجانب الذي جهَّزتُموه، تفضلوا.
المتصلة: بدايةً بسم الله الرحمن الرحيم.
زرع حب الله في نفوس أبنائنا شيءٌ مهمٌّ جدًّا، وهذه القيمة قيمةٌ عظيمةٌ، فالله فطر الإنسان عليها: ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُمَجِّسانه، أو يُنَصِّرانه[10]أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).، فلا بد أن نزرع حب الله في نفوس أبنائنا، ونزرع فيهم حب العالم كله، ويكون ذلك عن طريق الحوار، فلا توجد عمليةٌ إلا عن طريق الحوار البَنَّاء.
المحاور: إذن ما نكسبه لفتياتنا -طفولةً ومُراهقةً- لن يكون إلا عن طريق الحوار.
المتصلة: كله عن طريق الحوار: حوارٌ لفظيٌّ، أو غير لفظيٍّ، وعن طريق الاحتواء العاطفي، فكل هذه الأشياء تُعتبر عن طريق الحوار البَنَّاء، وإذا لم يوجد حوارٌ بَنَّاء فلن نستطيع أن نغرس أي قيمةٍ، فمن أجل أن أزرع قيمة حب الله -وهي قيمةٌ عظيمةٌ- فأول خطوةٍ أبدأ بنفسي، يقول الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، ومن ثَمَّ تُصبح طبعًا.
فتوجيهاتنا لأبنائنا لهذه القيمة العظيمة تظهر في المواقف والسلوكيات والحوار والتواصل؛ ولذلك تبدأ هذه القيمة من خلال الأسرة، فهي أصلًا مُكونةٌ من أركانٍ أساسيةٍ: الأم والأب الخلية الأولى والوحدة الأساسية في البناء الاجتماعي، فمنذ ولادة الطفل يلقى خلاصة الخبرة من الوالدين، فيكتسب هذه القيم والاتجاهات، فلا بد على الأب والأم أن يفهما هذه القيمة، وأن يُعظِّما هذه القيمة في داخلهما.
وحتى حوارنا مع أنفسنا وذواتنا لا بد أن يكون حوارًا بنَّاءً؛ ولهذا لا بد أن أستشعر معنى القيمة، وكل إنسانٍ يتمتع ببصمةٍ خاصةٍ وراثيةٍ في آثاره وأصابعه يتميز بها عن غيره، وهناك بصمةٌ في العين، وكذلك لا بد أن يتميز بقيمةٍ معنويةٍ، وهذه القيمة مهمةٌ جدًّا، فإذا فهمتُها بشكلٍ صحيحٍ أستطيع أن أغرس أي شيءٍ من القيم الأخرى، فهذه القيمة تنتج عن عاداتٍ وسلوكياتٍ ومبادئ واتجاهاتٍ وأفكارٍ ومشاعر ... إلى آخره، وتُسمى بالبصمة القِيَمية.
المحاور: كيف يكون هذا الأمر من خلال الحوار؟
لو أعطيتُمونا شيئًا من المهارات، وكيف نُدير الحوار ويكون فعَّالًا؟
المتصلة: هناك شيءٌ اسمه: دورة الحوار، وهذه مهمةٌ لأي حوارٍ يكون مع أي شخصٍ: مع الصغير والكبير، والوالدين، والأقران، والدورة عبارةٌ عن أربع نقاطٍ مهمةٍ.
المحاور: ما هي؟
المتصلة: أُنصِت، وأسأل، وأتَّفق، وأوضح.
فهذه أربع نقاطٍ مهمة، ولا بد أن أتعلم مهارات الإنصات حتى أُعطي مجالًا حين أسمع للطرف الآخر.
المحاور: معنى "مهارات الإنصات" باختصارٍ شديدٍ جدًّا: كما أنني أتحدث، فأنا كذلك أستمع، كذا؟
المتصلة: نعم.
المحاور: طيب، الثانية؟
المتصلة: وأيضًا لما أتكلم أُبين؛ حتى تصير الرسالة واضحةً، يفهمني وأُعيد وأُكرر مرةً ثانيةً، وأتأكد أن هذا الشيء قد تمَّ فهمه، وأيضًا أتَّفق.
المحاور: أسأل من باب التأكد من أن المعلومة قد وصلت.
المتصلة: نعم، أتأكد أن المعلومة وصلت، وأُوضح أيضًا نفس الشيء.
المحاور: أتَّفق؟
المتصلة: "أتَّفق" هذه نقطةٌ مهمةٌ جدًّا، فلا بد أن أدخل في حواري مع أي شخصٍ بنقطة اتِّفاقٍ ولو 1%.
المحاور: يعني: في أمرٍ متفقٍ عليه بيننا.
المتصلة: يعني: أبحث عن نقطة اتِّفاقٍ.
أُعطيك مثالًا من السيرة العَطرة له : جاءته امرأةٌ فاستوقفته وقالت: يا رسول الله، إن ابني يُكثر من الشعر. تشكو من أن ابنها يُكثر من الشعر، وتُريده أن يُكثر من القرآن وذكر الله ، فاهتمَّ بحاجتها، والحديث يرويه الغلام نفسه في "صحيح البخاري" يقول: رآني في الطريق. فناداه باسمه.
لاحظ: أول شيءٍ التقدير والاحترام: ناداه باسمه، ثم أردفه خلفه، وهذا من الاحترام والتقدير، وهو أعظم مخلوقٍ ونبيٌّ وأردفه خلفه!
تخيل أميرًا أو ملكًا أركبك خلفه، ما يكون شعورك؟
فأردفه خلفه، ثم قال له: أتُجيد شيئًا من الشعر؟ قال: بلى يا رسول الله. فأتى إليه من نقطة اتِّفاقٍ، ونقطةٍ يُحبها، فقال: بلى يا رسول الله، فقال: أنشدني بيتًا، فأنشده بيتًا، فقال: زدني، فأنشده بيتًا ثانيًا وثالثًا حتى بلغ مئة بيتٍ، وهو يُنصِت له، وطبعًا حقق احتياجًا واتِّفاقًا، ثم قال له: ألا أدلك على خيرٍ من ذلك؟ قال: بلى يا رسول الله. طبعًا كل قلبي وسمعي لك عليه الصلاة والسلام.
المحاور: أصبحت الأرضية جاهزةً، والبيئة مُتهيئةً.
المتصلة: طبعًا، دخل إلى ما عنده باتِّفاقٍ، فقال له: أصدق كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمة لبيد: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ[11]أخرجه البخاري (3841)، ومسلم (2256) بدون قصة الفتى.، فأنشده الشعر، ولم يمنعه من إنشاده، لكن اجعل الشعر في ذكر الله، وفيما ينفع وطنك وأمتك ونفسك، فكن مثل حسان بن ثابت، يكون نافعًا، ولا يكون شعرًا لا فائدةَ منه.
المحاور: طيب، أخيرًا ما المقصود بأوضح؟
المتصلة: وضِّح، أنا حين أنقد أُعطيه مجالًا ليسمعني، وأُوضح الكلام الذي أقوله، وحينما قال : ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل وضَّح له أن الشعر ما يُمنع، وإنما اجعل شعرك في ذكر الله ، وهكذا (الإنترنت) لا أمنع أولادي منه قهرًا، وإنما أدخل لهم من باب اتِّفاقٍ، وأزرع فيهم حبَّ الله .
المحاور: طيب، شكرًا لكم دكتورة لمياء عبدالرحيم القاضي على هذه الإطلالة حول ما يتعلق بأهمية بيئة الحوار من أجل غرس القيم السلوكية والأخلاقية، وبناء الجانب الاجتماعي لدى الفتيات: طفولةً ومُراهقةً.
أيها الإخوة والأخوات، هذا الجزء الثاني من حلقة "تربية الفتاة"، ويبقى معنا الجزء الثالث والأخير -بإذن الله-، وسنكون معكم بعد أسبوعين في بَثٍّ مباشرٍ حول "تربية الفتاة" -بإذن الله الواحد الأحد- وسنتناول الجانب العلمي والثقافي.
أما الأسبوع القادم -بإذن الواحد الأحد- بسبب هذه الأزمة العالمية المُتعلقة بـ(كورونا) -وقانا الله وإياكم من الشرور والفتن- سيكون حديثنا حول الطمأنينة النفسية، وكيف نُخفف من الهموم والغموم؟
موعدنا الأسبوع القادم، فكونوا معنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه البخاري (3905). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (3905). |
↑3 | أخرجه البخاري (5230). |
↑4 | أخرجه أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8311)، وصححه الألباني. |
↑5 | أخرجه أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8311)، وصححه الألباني. |
↑6 | "سيرة ابن هشام" ت: السقا (2/ 458)، و"السيرة النبوية" لابن كثير (3/ 689). |
↑7 | أخرجه الترمذي (113)، وأبو داود (236)، وصححه الألباني. |
↑8 | أخرجه البخاري (893). |
↑9 | أخرجه البخاري (2587). |
↑10 | أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658). |
↑11 | أخرجه البخاري (3841)، ومسلم (2256) بدون قصة الفتى. |