المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه الحلقة السادسة من المجموعة الحادية عشر من سلسلة التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة، ومع العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير سورة الحجرات، يقول الله : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات: 14 - 18].
يقول الشيخ رحمه الله: "يخبر تعالى عن مقالة الأعراب الذين دخلوا في الإسلام في عهد رسول الله ﷺ، دخولًا من غير بصيرة، ولا قيام بما يجب ويقتضيه الإيمان، أنهم مع هذا ادعوا وقالوا: آمنا أي: إيمانًا كاملاً مستوفيا لجميع أموره، هذا موجب هذا الكلام، فأمر الله رسوله، أن يرد عليهم، فقال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات: 14]"، -يعني الله أمر الرسول ﷺ أن يقول لهؤلاء قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات: 14]، لم تؤمنوا، نعم أسلمتم، ولكن لم تؤمنوا، وهذا هو القول الراجح عند أهل العلم بأنهم كانوا مسلمين، ولكن إيمانهم ضعيف، "قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات: 14] أي: لا تدَّعوا لأنفسكم مقام الإيمان، ظاهرًا، وباطنًا، كاملًا.
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] أي: دخلنا في الإسلام، واقتصروا على ذلك.
وَ السبب في ذلك، أنه لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] وإنما أسلمتم خوفًا، أو رجاء، أو نحو ذلك، مما هو السبب في إيمانكم، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم"، -يعني أنتم لما بعد يدخل الإيمان في قلوبكم وإنما نعم أسلمتم فلا يجوز لكم أن تدعوا الإيمان، وإنما أنتم أسلمتم-.
وفي قوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] أي: وقت هذا الكلام، الذي صدر منكم فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك، فإن كثيرًا منهم"[1]تفسير السعدي (ص: 802)..
يعني وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، الآن أنتم مسلمين، وفيه إلى أن هؤلاء بعد ذلك أصبحوا مؤمنين حقًا.
"فإن كثيرا منهم، من الله عليهم بالإيمان الحقيقي، والجهاد في سبيل الله"[2]تفسير السعدي (ص: 802)..
يعني هؤلاء الذين قصدهم الله أصبحوا بعد ذلك من أهل الإيمان الحقيقي، وفعلاً كثير منهم دخل الإيمان في قلوبهم. هذا باختصار شديد.
"وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بفعل خير، أو ترك شر لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ أي: لا ينقصكم منها، مثقال ذرة، بل يوفيكم إياها، أكمل ما تكون لا تفقدون منها، صغيرًا، ولا كبيرًا، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 14] أي: غفور لمن تاب إليه وأناب، رحيم به حيث قبل توبته"[3]تفسير السعدي (ص: 802)..
ممكن نستفيد مما سبق في تربيتنا لأنفسنا ولأهلينا وأسرنا وأبنائنا وللمجتمع عمومًا بعض الدروس المهمة:
الدرس الأول: الظواهر والبواطن
ما بين الظواهر والبواطن: فهؤلاء أسلموا ظاهرًا، ولكن لم يصلوا إلى حقيقة الإيمان، فليس الإسلام مجرد ظواهر، وإنما هناك أعمال قلوب وهي مرتبطة بالإيمان، ولذلك كل مؤمن مسلم، وليس العكس، وبعض الناس وهو يتكلم كأنه يقول: الحمد لله، يعني بفضل الله أنا حققت الإيمان المطلوب! يتكلم بهذه الصورة، مع أن هذا نفسه مخالف لأعمال القلوب كما سيأتي.
فيجب أن ندرك ما يرتبط بالتربية على أن هذا الدين له ظاهر وله باطن، وقد جاء في حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ...ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[4]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).، ولذلك لا يمكن أن يكون الإنسان باطنه صالحًا وظاهره غير صالح، ولكن ممكن أن يكون ظاهره صالح، ولكن باطنه ليس كذلك؛ لأنه قد يتصنع هذا بسبب معتركات الحياة والتعامل مع الآخرين.
تربية الأبناء، تربية النفس، على هذه المعاني مهمة جدًّا، هل نحن مثل هؤلاء الناس نظن أنا نحسن صنعًا، وأنا قد بلغنا وبلغنا، فندّعي الإيمان، وحقيقة الأمر أنا لسنا كذلك، هذه قضية مهمة جدًّا، وإدراك الأبناء وإدراك الأجيال، من خلال البيئة الأسرية والبيئة المدرسية والبيئة المجتمعية، أن الإنسان له مراتب: مرتبة الإسلام، ثم مرتبة الإيمان، ثم مرتبة الإحسان، فلذلك ينبغي أن ندرك هذه القضية في العلاقة ما بين الظواهر والبواطن، وبين البواطن والظواهر.
الدرس الثاني: الإخبات والتواضع
وهو تأكيد للأول، يقول الله في وصف الصحابة رضي الله عنهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ[المؤمنون: 60] وصف هؤلاء الذين يعملون لهذا الدين، والذين هم على استقامة، فعائشة رضي الله عنها ظنت أن هؤلاء الذين يسرقون ويشربون الخمر ويزنون ويفعلون الكبائر، قالت عائشة رضي الله عنها: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فبين لها النبي ﷺ أنهم ليسوا كذلك فقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 61][5]أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (162).، ولكنهم يخشون أن الله لا يقبل منهم أعمالهم، لذلك وصفهم الله هذا الوصف الدقيق، وهذا معنى الآية العظيم، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا [المؤمنون: 60]، يعني يعملون الصالحات، ولا يعملون السيئات، يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، خائفة أن الله لا يتقبل منهم، لذلك مهم جدًا أن نتربى على ذلك، ومن التربية الإسلامية للنفس البشرية مثلاً: أن الإنسان بعد أداء الصلاة أول دعاء يقول كما ورد عن ثوبان قال: كان رسول الله ﷺ، إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام[6]أخرجه مسلم (591)..
إذن هو يستغفر الله؛ لأنه يخشى أن تكون نواقص في صلاته فيستغفر، أما الآخرون فيقول: الحمد لله صليت!
ففيه فرق بين الطائفتين، لذلك أنا وأنت وابني وابنك وزوجتي وزوجتك، ومن نحب أن يكونوا كذلك، يجب أن يكونوا من هذا الصنف: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، لأن هذا الذي يجعله يعمل أكثر ويستمر في العمل، ويتواضع لله ، أما الذي يقول: حققت وحققت فهذا سيبقى مكانه وكأنه قد ضمن الجنة، وهو سيتعامل مع الله بصورة ليست سليمة، مثل قول هؤلاء: آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا.
فلا بد من الاخبات والتواضع: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، وهذا يُعين على العلاقة بالله حتى يرتقي من درجة الإسلام إلى درجة الإيمان، ثم إلى درجة الإحسان، فما أجمل أن نربي الأجيال على مثل هذه الصورة، لكن تجد من وُفِق إلى ذلك يقول: المطلوب منا أكثر من هذا حتى الطفل أو الصغير الذي تربي على هذا يقول: الواجب علينا أكبر، هذا حق الله، وحق الله أكبر، أما الآخر فيقول: الحمد لله أنا فعلت الذي عليّ وانتهينا، وباقي وقته كأنه أخذ إجازة، وهذه قضية خطيرة جدًا.
الدرس الثالث: منهجية الثناء والمدح
هؤلاء مدحوا أنفسهم وهذا أشد من المدح للغير، والرسول ﷺ حين مدح عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: نِعم الرجل عبد الله، لو كان يقوم من الليل[7]أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479).، أثنى عليه وبين نقصًا عنده، وأيضًا في الرجل الذي جاء وأدرك الصلاة مستعجلاً قال: زادك الله حرصًا ولا تعد[8]أخرجه البخاري (783).، فأثنى عليه بأنه حريص على إدراك الركعة: زادك الله حرصًا، يعني ما شاء الله عليك، لكن لا تعد تفعل هذا مرة أخرى، يقول التربويون والنفسيون: هذا من أجمل ما يكون في الثناء والمدح، فلا تثني ولا تمدح مطلقاً، لا تقل: أنت رائع وتسكت، أحسنت وتسكت، إنما تذيلها بشيء يدل على الحاجة والاستمرار في العمل والمزيد، أحسنت وبارك الله فيك، ونحتاج منك المزيد، أحسنت لكن تنبه للأمر كذا.
فهذا في مدح الإنسان وثنائه لغيره، فكيف بمدح الإنسان لنفسه! كما قال هؤلاء: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا [الحجرات: 14]، وصفوا أنفسهم بمرتبة هم ليسوا لها، فهذه منهجية لا بد أن ندركها ونستفيد منها فيما يتعلق بالتعامل مع النفس، أو التعامل مع الآخرين.
الدرس الرابع: أثر التوجيه الواقعي في المستقبل
ويتضح في كلام الشيخ رحمة الله عليه في قوله: "فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك، فإن كثيرًا منهم، منّ الله عليهم بالإيمان الحقيقي، والجهاد في سبيل الله"[9]تفسير السعدي (ص: 802).، يعني هؤلاء الذين دخلوا الإسلام، لكن لم يتمكن الإيمان في قلوبهم قالوا: آمنا، فأمر الرسول ﷺ أن يقول لهم: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، ثم تحقق في كثير منهم بعد ذلك الإيمان، فلو سكت عنهم وتركوا فسيبقون على أنهم آمنا، لكن بيّن لهم فعرفوا حقيقة ما هم عليه، ثم أصبحوا بعد ذلك كما قال الشيخ رحمه الله فكان كثيرٌ منهم من الذين مَنّ الله عليهم بالإيمان الحقيقي والجهاد في سبيله كما جاءت الآيات التي بعدها.
الدرس الخامس: فضل الله
فضل الله : لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 14]، فضل الله عظيم، مَنْ يمكن أن يقدم له مثل هذا الفضل؟ ولله المثل الأعلى، الله يقول: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحجرات: 14]، هذا الشرط أن تأتي بالخير وتترك الشر، فالله لا ينقصنا ولا ينقصكم منها مثال ذرة، بل يوفّيكم إياها أكمل ما تكون، وهذا دافع؛ ينبغي أن نستخدم هذه الدافعية لأجل العمل، فالله يحب من العباد أن يطيعوه ويطيعوا رسوله ﷺ، وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية من الله ، ويكون هذا حين تتشوف النفس لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، سيغفر الله لمن يفعل ذلك ويرحمه وإن الله لن ينقص مثقال ذرة من أعمالنا، فعندما يُربّى الأجيال على مثل هذه المعاني وتُربّى النفوس ما أجملها.
والواحد منا إذا كان موظفًا وقيل له: المدير يتابع شغلك يثني عليك خيرًا، فيحس أن له كيانه وقيمته ويحس بوجوده، ولله المثل الأعلى، فكيف أن الله الذي خلقنا منه هذا الفضل العظيم، فنحتاج إلى مثل هذه المعاني لأنفسنا ولغيرنا، ولأسرنا ولبيئاتنا التربوية أيًّا كانت.
ثم يقول الله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ هؤلاء هم المؤمنون الذين أصبح هؤلاء كثيرًا منهم من هؤلاء بعد أن عُلّموا وَرُبوا أنهم لم يكونوا من المؤمنين حقًا وإنما كانوا من المسلمين.
قال الشيخ رحمه الله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: على الحقيقة، الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: من جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، فإن من جاهد الكفار دل ذلك على الإيمان التام في القلب؛ لأن من جاهد غيره على الإسلام والإيمان، والقيام بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك من باب أولى وأحرى"[10]تفسير السعدي (ص: 802)..
فالذي يجاهد الأعداء من باب أولى أنه يجاهد نفسه، فلا يمكن أن يكون منتصرًا على أعدائه إلا إذا كان منتصرًا على نفسه، إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7].
ثم قال الشيخ: "لأن من جاهد غيره على الإسلام والإيمان، والقيام بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك من باب أولى وأحرى؛ ولأن من لم يقو على الجهاد، فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه، -والعكس بالعكس-، وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب، أي الشك؛ لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني، بما أمر الله بالإيمان به الذي لا يعتريه شك بوجه من الوجوه.
وقوله: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] أي: الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة، فإن الصدق دعوى كبيرة، فكل شيء يُدّعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان، وأعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة، والفوز الأبدي، والفلاح السرمدي، فمن ادعاه وقام بواجباته ولوازمه؛ فهو الصادق المؤمن حقًا، ومن لم يكن كذلك؛ عُلم أنه ليس بصادق في دعواه، وليس لدعواه فائدة، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى"[11]تفسير السعدي (ص: 802)..
فكيف تقولون على أنفسكم: بأنكم مؤمنين وأنتم في بداية الإيمان وهذه قضية قلبية لا يطلع عليها ولا يعلمها إلا الله، فهذا خطر على أنفسنا وعلينا، يعني كأننا نحن نحكم بحكم الله ، والله هو المطلع وحده على ما في القلوب، لا يطلع عليه إلا الله.
قال الشيخ رحمه الله: "فإثباته ونفيه، من باب تعليم الله بما في القلب، وهذا سوء أدب وظن بالله؛ لأن الله قال بعد ذلك: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ [الحجرات: 16]"[12]تفسير السعدي (ص: 802)..
سنقف مع كلام الشيخ وقفات:
الوقفة الأولى: بين الصورة والحقيقة
وهذه وقفات تربوية ونفسية، نحاول تطبيقها على الجانب الأسري، والتعليمي، والمجتمعي.
كيف بين الصورة والحقيقة؟ يذكر بعض الذين يتحدثون حول هذه القضية أن الطفل حين يواجه أسدًا ولكن هذا الأسد ليس حقيقة وإنما صورة تمثال أو لعبة يركبه ويضربه ويفعل فيه ما يشاء؛ لأن الأسد هذا صورة، لكن لو كان الأسد حقيقة لا يستطيع أن يفعل هذا الأمر، وهكذا الحقائق المتعلقة بهذه الجوانب لها صورتها التي هي الدعاوى، مثل قولهم: آمنا، ولكن حقيقة الأمر ليس كذلك.
فلا بد أن نميز ما بين الصورة والحقيقة، لا فيما نحن نعمله ولا فيما نربي أجيالنا ولا فيما نحكم به على الآخرين، أو أن نأخذ القضية مجرد أشكال، وإلى آخره، نعم لنا الظواهر والله يتولى السرائر، وهذا سيأتي، لكن الكلام هنا على المدح والثناء والإسراف فيهما وأن نتجاوز ونُعْلِّم الله بديننا ودين غيرنا، فالقضية خطيرة وتحتاج إلى تأمل؛ لأن هناك فرقًا بين الصورة والحقيقة، مثل: صورة الأسد، وحقيقة الأسد.
الوقفة الثانية: جهاد النفس وجهاد الأعداء
بين جهادين، جهاد النفس وجهاد الأعداء، وقد أشرنا إلى ذلك، فلا يمكن أن ينتصر الإنسان على أعدائه إذا لم ينتصر على نفسه، فالأمة الإسلامية مرت بمراحل كثيرة جدًّا فيما يتعلق بهذا الأمر، والحقيقة واضحة جدًّا في كتاب الله وسنة النبي ﷺ، لكن الدلائل تدل عليها بشكل كبير لو رجع المسلمون إلى دينهم، يعني كما قيل: لو أصبحت صفوف المصلين في صلاة الفجر كصفوفهم في صلاة الجمعة لانتصر المسلمون على أعدائهم، هذه صورة لها اعتبارها الحقيقة؛ لأن ما في مثل أن يقوم الإنسان من لذته ومتعته مثلاً في فراشه طائعًا لله ، فيقوم يصلي الفجر جماعة، ويكون هذا هو حال المسلمين، عندئذ سيكون هذه الحقيقة دلالة الإيمان الحقيقي الذي من دلائله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات: 15]، أما الملخبطون أو المقصرون أو المترددون،...، فهذا فرق ما بين هؤلاء وهؤلاء في الأعمال، فتجد هؤلاء يتأخرون، هؤلاء يؤجلون الصلوات، هؤلاء يتأوّلون لأنفسهم، وهؤلاء باقون على ما هم عليه.
وأعرف شخصًا وقت كلامه كان في الخمسينات والآن في الستينات، كان يقول لبعض الأشخاص حين حج، وكان صلى مع الحملة صلاة الفجر في تلك الحملة قال: هذه أول مرة أصلي صلاة الفجر جماعة منذ زمن، وهو منا وفينا ويحمل شهادة، وأعرفه مباشرة، لكنه اعتاد على هذا، وتجد خلقًا من أكثر الناس طِيبة وخُلقًا وإذا تكلمت معه يشعر أنه على خير وأموره طيبة، والناس يثنون عليه، وعنده شيء من المدح والثناء لنفسه ولذاته، وليس عنده شعور بالتقصير، حكم على نفسه تجاه رب العالمين، وهذه قضية خطيرة جدًّا خاصة عندما يألفها الابن والجيل، يتربَّون عليها حتى يصبح عندهم التغيير من الصعوبة بمكان، فلا بد من مجاهدة النفس حتى ننتصر على غيرنا.
الوقفة الثالثة: المطلوب في مواجهة الشبهات
الدور المطلوب في مواجهة شبهات الشكوك: وهذا الدور التربوي المطلوب في الأسرة وفي التعليم وفي المجتمع والخطباء والمنتديات والجهات الاجتماعية، وغيرها، خاصة اليوم كثرت وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تسهّل الأمور جدًا، وأصبحت إثارة الشبهات في السناب شات، وعدد المتابعين لحساب سناب شات في السعودية سبعة ملايين بعد أن كان في بدايته مليونان، وهذا كمثال، فكيف بوسائل التواصل الأخرى؟
مما سهّل الوصول لكل شبهة كقضايا الغلو والتطرف بسهولة فيجدها الابن بواسطة أي وسيلة من وسائل التواصل، وكذا الإلحاد والليبرالية والتغريب والبدع والشركيات، وأصبح كل واحد يلقي بضاعته، وهناك من يتلقف هذه القضايا، إذا لم يكن هناك مواجهة لهذه الشبهات ويتربى الأجيال عليها بعلم صحيح وفلترة لهذه القضية من خلال طرح الأفكار السليمة حتى يصبح عنده سياج دون أن يوغل في مثل هذه القضايا ويذهب هو بنفسه، لكن إن وردت إليه دفعها، فيصبح كالزجاجة لا كالإسفنجة؛ حتى لا يتأثر، ولكن إن كان كالإسفنجة سيتأثر، فهذه قضية مهمة جدًّا.
ولذلك هذا الوصف الذي وصف فيه هرقل حين سأل أبا سفيان هرقل: "هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ يعني من اتبع النبي ﷺ، قال: لا، قال هرقل -وهو كافر، لكن مدرك الحقيقة-: هكذا الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب"[13]أخرجه البخاري (7)، (51)، (2941)، ومسلم (1773).، فالعودة العودة للتقوى والإيمان والقلوب.
وهنا سؤال لنفسي ولجميع المجتمعات الأسرية والتعليمية والمجتمعية: ما الدور الذي نقوم به لأنفسنا وللقريبين منا والمسؤولين عنهم فيما يتعلق بالتربية الإيمانية وتغذية القلوب بالإيمان؟
كلنا بأمس الحاجة أن نراجع أنفسنا في مثل الأمر.
الرابع: خطورة الدعاوى
والدعاوى ما لم تكن عليها | بينات أصحابها أدعياء |
وقالوا: آمنا، كما سبق ومع ذا هم لم يؤمنوا، ثم قال الله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ....
قال بعد ذلك: "أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة"[14]تفسير السعدي (ص: 802).، فلا يمكن يكون واحد مؤمن طيب القلب، وعمله سيء، تقول له: اتق الله يا أخي، قال: الإيمان في قلبي، ونيتي طيبة! طيب ولِمَ عملك سيء؟
ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله[15]سبق تخريجه.، فيوجد أناس يريدون يغيروا هذه القضايا؛ ليبرروا لأنفسهم أن يبقوا على ما هم عليه، وهذا من أخطر ما يكون! أن يتربى الجيل على ذلك، وكما يكون الآباء والمربون سيكون الأبناء والمتربون، وكما يكون المعلمون سيكون الطلاب مثلهم، وإن كان المسؤولون سيكون الناس الذين تحتهم مثلهم، إيجابًا أو سلبًا.
وهنا تظهر أهمية التطابق التربوي وقضية القدوة كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3]، وأن ما في القلب يجب أن يترجم في الواقع الذاتي، والواقع الأسري في واقع الأسرة التي أنا فيها، والواقع التعليمي، والواقع المجتمعي، وفي الشارع...، فهذه القضية مهمة، وأذكر قصة قديمة، قيل: إن اثنين أسلما في كندا وارتدا في مكة، بغض النظر لكن معناها، فما المقصود منها؟ صورة جميلة قرأها عن الإسلام وأعجبته، ثم رأى صورة عند البعض عكس الصورة الأولى تمامًا، ولذلك يجب على الذين يتعاملون مع المسلمين الجدد أن ينبهوا المسلمين الجدد على ذلك وأنه قد يرى من بعض المسلمين خلاف حقيقة الإسلام فلا يُصدم بذلك.
وهكذا يجب أن يُربى الأبناء والأجيال، حتى بالنسبة للأب يقول لابنه: لا تجعلني قدوة سيئة! إذا رأيتني مخالفًا لأمر أنت تعرفه حقًّا وتعلمته أو قرأته في كتاب الله، فإن الذي في كتاب الله هو الصح، وأنا المخطئ.
يقول الشيخ: "ولهذا قال: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات: 16]، وهذا شامل للأشياء كلها، التي من جملتها ما في القلوب من الإيمان والكفران، والبر والفجور، فإنه تعالى يعلم ذلك كله، ويجازي عليه إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر"[16]تفسير السعدي (ص: 802)..
الدرس في هذا المقطع: أهمية التربية على أن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، فلابد يتربى الجيل على هذا، لا يدخلون في قضية الأمور التي لا يعلمها إلا الله ، كما جاء في حديث أسامة: أشققت عن قلبه[17]أخرجه مسلم (96).، فهذه قضية مهمة جدًّا، ولذلك لابد الناس يؤخذون بظواهرهم، وأمور البواطن الله أعلم بها، فمن أظهر أو جاءت قرائن عديدة فهذا أمر آخر.
ثم يقول الشيخ في ختام هذه السورة: "هذه -أي الصورة السلبية المذكورة سابقًا- هذه حالة من أحوال من ادعى لنفسه الإيمان، وليس به، فإنه إما أن يكون ذلك تعليمًا لله -كأنه يُعَلِّم الله والعياذ بالله-، وقد علم أنه عالم بكل شيء، وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنّة على رسوله ﷺ، وأنهم قد بذلوا له وتبرعوا بما ليس من مصالحهم، بل هو من حظوظه الدنيوية، وهذا تجمل بما لا يجمل، وفخر بما لا ينبغي لهم الفخر به على رسوله ﷺ، فإن المنة لله تعالى عليهم، فكما أنه تعالى هو المان عليهم، بالخلق والرزق، والنعم الظاهرة والباطنة، فمنّته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، ومنّته عليهم بالإيمان، أفضل من كل شيء، ولهذا قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحجرات: 17-18]، أي: الأمور الخفية فيهما -أي في السماوات والأرض-، التي تخفى على الخلق، كالذي في لجج البحار، ومهامه القفار، وما جنّه الليل وما واراه النهار، يعلم قطرات الأمطار، وحبات الرمال، ومكنونات الصدور، وخبايا الأمور: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59].
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات: 18] يحصي عليكم أعمالكم، ويوفيكم إياها، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة، وحكمته البالغة"[18]تفسير السعدي (ص: 802)..
فمن هذا المقطع يمكننا أن نأخذ ثلاثة دروس:
الدرس الأول: الآفات القلبية
الآفات القلبية هي بسبب أمراض القلوب من العُجب والمنّة، عندما وصف الشيخ حال هؤلاء مع الله، وحالهم مع الرسول ﷺ، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ [الحجرات: 16]، ثم قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: 17]، فإما أن يكون تعليمهم لله، وهذا أعوذ بالله إما يكون مِنَّةً منهم على رسول الله ﷺ، وهذا غير مقبول، ومن الآفات القلبية، وصل بهم لهذا المستوى بسبب العجب والمِنَّة، وهذا بسبب أمراض القلوب.
وأيضًا بسبب التفكير السقيم بادعائهم الإيمان فلنقي أجيالنا من ذلك كله، من قضية التفكير السقيم، ومن قضية أمراض القلوب، فليس من المعقول أن الواحد لأول دخوله في الإسلام يصير مؤمنًا، مسلم نعم، وهذا هو القول الراجح عند بعض أهل العلم، أنهم كانوا مسلمين ولكنهم ضعفاء الإيمان.
الدرس الثاني: مِنَّة الإيمان أعظم المِنن
أكبر مِنَّة هي مِنَّة الإيمان، وهذه الآيات دالة على ذلك، وأشار إليها الشيخ عندما قال: "فمِنَّته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، ومِنَّته عليهم بالإيمان، أفضل من كل شيء، ولذلك ليس لنا مثل هذه القضية أن نعمقها في نفوسنا وفي نفوس من بين أيدينا من الأجيال، ألا وهي التدين والإسلام لله، وتعميق الإيمان في قلوبهم، وأن يلاقي الإيمان بشاشة قلوبهم، فبها تسعد النفس، ويدرك الإنسان حقيقته، ويعرف الحياة الحقيقية، ويعرف حقيقة الدنيا عند الآخرة، ويعرفون مكانهم في هذا الوجود، وأن هذا الوجود كله مسخر للإيمان بالله ، ولا يستغل ولا يسخر إلا بطاعة الله، أما من استغله بمعصية الله فهو الخاسر.
الدرس الثالث والأخير: تعظيم الأوامر والنواهي
تعظيم الأوامر والنواهي بتعظيم الآمر والناهي: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات: 18]، ثم الكلام الذي ذكره الشيخ في تعظيم الله، لن يُعْظِّم أجيالنا أوامر الله ونواهيه أوامر رسوله ﷺ التزامًا واتباعًا، ونواهيه تركًا وابتعادًا، ولن نعظم نحن كذلك الأوامر اتباعًا والنواهي تركًا إلا بتعظيم الله الآمر الناهي، وبهذه الصورة يتربّى الإنسان على الإيمان، بل يصل لمستوى الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
بهذا انتهينا من سورة الحجرات، ولله الحمد والمِنَّة.
أسأل الله لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | تفسير السعدي (ص: 802). |
---|---|
↑2 | تفسير السعدي (ص: 802). |
↑3 | تفسير السعدي (ص: 802). |
↑4 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |
↑5 | أخرجه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وحسنه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (162). |
↑6 | أخرجه مسلم (591). |
↑7 | أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479). |
↑8 | أخرجه البخاري (783). |
↑9 | تفسير السعدي (ص: 802). |
↑10 | تفسير السعدي (ص: 802). |
↑11 | تفسير السعدي (ص: 802). |
↑12 | تفسير السعدي (ص: 802). |
↑13 | أخرجه البخاري (7)، (51)، (2941)، ومسلم (1773). |
↑14 | تفسير السعدي (ص: 802). |
↑15 | سبق تخريجه. |
↑16 | تفسير السعدي (ص: 802). |
↑17 | أخرجه مسلم (96). |
↑18 | تفسير السعدي (ص: 802). |