المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذه الحلقة السابعة من السلسلة الحادية عشرة: سلسلة التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة، على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
سنبدأ اليوم بسورة التحريم من كتاب تفسير الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى.
وهذه المواد تنزل في قناة (اليوتيوب) الخاصة بمُحدِّثكم، تنزل مباشرةً في هذه القناة، وكل السلاسل السابقة، بحمد الله .
يقول الله : بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ إلى قوله: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:1-5].
يقول الشيخ رحمه الله تعالى: "هذا عتابٌ من الله لنبيه محمدٍ ﷺ حين حرَّم على نفسه سُرِّيَّتَه مارية أو شرب العسل؛ مراعاةً لخاطر بعض زوجاته في قصةٍ معروفةٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ أي: يا أيها الذي أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة والوحي، لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ من الطيبات التي أنعم الله بها عليك وعلى أُمَّتك، تَبْتَغِي بذلك التحريم مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا تصريحٌ بأن الله قد غفر لرسوله، ورفع عنه اللَّوم، ورحمه، وصار ذلك التحريم الصادر منه سببًا لشرع حكمٍ عامٍّ لجميع الأمة، فقال تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، وهذا عامٌّ في جميع أيمان المؤمنين -أي: أحلافهم-، أي: قد شرع لكم وقدَّر ما به تنحلُّ أيمانكم قبل الحِنْث، وما به تُكَفَّر بعد الحِنْث، وذلك كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ إلى أن قال: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:87-89].
فكل مَن حرَّم حلالًا عليه من طعامٍ، أو شرابٍ، أو سُرِّيَّةٍ، أو حلف يمينًا بالله على فعلٍ أو تركٍ، ثم حنث وأراد الحِنْث؛ فعليه هذه الكفارة المذكورة.
وقوله: وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ [التحريم:2] أي: مُتولي أموركم، ومُربّيكم أحسن تربية في أمور دينكم ودنياكم، وما به يندفع عنكم الشر، فلذلك فرض لكم تحِلَّة أيمانكم؛ لتبرأ ذِمَمُكم.
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2] الذي أحاط علمه بظواهركم وبواطنكم، وهو الحكيم في جميع ما خلقه وحكم به، فلذلك شرع لكم من الأحكام ما يعلم أنه موافقٌ لمصالحكم، ومناسبٌ لأحوالكم"[1]"تفسير السعدي" (ص872-873)..
سنأخذ بعض الدروس المستفادة هنا، وليس المقصود استقراء القضايا المتعلقة بالأحكام الشرعية -وقد أشار الشيخ إلى عددٍ منها-، وإنما الدروس المستفادة من هذه السورة، وكلام الشيخ رحمه الله من الناحية النفسية والتربوية والأُسرية.
الدرس الأول: الإسلام منهج حياة
الإسلام منهج حياة، نقل لنا واقع حياة الرسول ﷺ وأسرته وحياته البيتية والأسرية بشكلٍ واضحٍ وتفصيليٍّ، بل حتى في المجال المتعلق بالمشكلات، حتى في القضايا المتعلقة بعتاب الله لنبيه ﷺ، وهذا يُعطينا أن الإسلام منهج حياة، وليس الإسلام عبارةً عن طقوسٍ أو مجرد نظريات، وإنما هو كما قيل: عقيدة لها تطبيقاتها، منهج حياةٍ فعلًا: فهو منهج حياةٍ في الأسرة، ومنهج حياةٍ في الشارع، ومنهج حياةٍ في المسجد، ومنهج حياةٍ في الوظيفة، ومنهج حياةٍ في البلد الذي نشأ فيه الإنسان، ومنهج حياةٍ في خارج البلد الذي نشأ فيه الإنسان.
وهكذا هو منهج حياةٍ في الجو، وفي البحر، وعلى اليابسة.
فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا فيما يتعلق بما جاء في مثل هذه السورة مما يرتبط بالتفصيلات الحاصلة في بيت النبوة، على صاحبه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
الدرس الثاني: حصول المشاكل أمرٌ طبيعي
من الدروس المستفادة بشكلٍ عامٍّ: أن هذا الذي حصل في بيت النبوة يمكن أن يحصل من باب أولى في غير بيت النبوة.
فهذا الذي حصل مع وجود المُربي القدوة: النبي عليه الصلاة والسلام؛ بلينه، ورفقه، وابتسامته عليه الصلاة والسلام، وحصل ما حصل من غيرةٍ بين زوجاته، ومحاولة إيقاع بعضهن ببعضٍ، وكذلك في تعامل النبي ﷺ الذي عتب الله عليه فيه؛ فهذا إن حصل في بيت النبوة، فمن باب أولى أن يحصل في بيتي وبيتك.
ولذلك فإن حصول المشاكل أمرٌ طبيعيٌّ، فمن الطبيعي أن تحصل مشاكل في بيوتنا، وفي أُسرنا.
والذي يتصور من الآباء -خاصةً أصحاب القوامة-، أو من الأمهات، أو من الأبناء -وإن كان هذا أقلّ- أن الأسرة يمكن أن تعيش بدون مشاكل فهذا أمرٌ مرفوضٌ شرعًا وعقلًا وفطرةً وواقعًا، فأمر وجود المشاكل هو أمرٌ طبعي، فقد حصل في بيت النبوة، على صاحبه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
فنستفيد من معالجة الرسول ﷺ لما حصل من مشاكل في بيت النبوة، ومن توجيه الله لنبيه ﷺ كما في هذه السورة: كيف عالج هذه المشكلات؟
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا تربويًّا، وهذا سبب اختيار هذه السورة ضمن السلسلة الأسرية.
ولي محاضرة بعنوان: "وقفات في بيت النبوة"، تجدونها في (اليوتيوب) بهذا العنوان: "وقفات في بيت النبوة، أو من بيت النبوة، أو مع بيت النبوة".
وهي عبارة عن سبع قصصٍ أو ثمانٍ من مواقف النبي ﷺ مع مجموعةٍ من زوجاته وأبنائه، والدروس المستفادة منها، وهي تُبين كيف عالج النبي ﷺ المواقف الصعبة والمشكلات التي حصلت في بيته من أبنائه، ومن زوجاته ﷺ؟
الدرس الثالث: الله يعتب على نبيه علنًا
عتب الله على نبيه ﷺ في هذه السورة كما حصل في سورة عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1]، وهذا أمرٌ مستقيمٌ، يستقيم -يعني- لأنه أمرٌ مُؤثِّرٌ، فيه تأثيرٌ، وفيه تعديلٌ للسلوك، ونحن نحتاج في البيئة الأسرية أن يحصل هذا الأمر، ولا إشكال في ذلك، فهذا العتاب ليس عتابًا مُنَفِّرًا، وإنما هو عتابٌ مُوجِّهٌ، ومؤثرٌ، ولطيفٌ.
فنحتاج إلى مثل هذا الأسلوب الذي وُجِّهَ به النبي ﷺ، وأصبح يُتلى إلى قيام الساعة، ومع ذلك لم يقل النبي ﷺ بأن هذا الأمر فيه تنقيصٌ لي وإنقاصٌ لي، وهو أمرٌ من الله .
لذلك ليس هناك إشكالٌ أن يحصل لشخصٍ منا في بيته أن يأتي مَن يقول له: إنك لم تُصِب في أسلوبك في تربية أسرتك، وقد أخطأتَ في طريقة تعاملك مع زوجتك، وأخطأتِ في تعاملك مع زوجكِ، وأخطأتم في تعاملكم مع أبنائكم، وأخطأتَ أيها الابن في تعاملك مع والديك.
وتوجد إشكالية لدى بعض النفوس؛ فلا تقبل هذا النقد، وتتحسس منه: إما لأن نظرتها فيها مشكلة -وهذا قليلٌ ونادرٌ- فهم يرون أنهم أسرة مثالية، أو أنني لا أُخطئ! وهذا يوجد عند البعض، لكنه قليلٌ. أو أنه لا يريد أن يُشهد عليه بالنقص والتقصير!
وقد صحح الله للنبي ﷺ فيما أخطأ فيه في آياتٍ تُتلى إلى قيام الساعة، كقوله تعالى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، وهذه القصة لها روايات: فقيل: امتناعه من مارية رضي الله عنها[2]أخرجه ابن كثير في "تفسيره" (8/ 165)، وقال: "إسناده فيه نظر".. وقيل: إنه امتنع عليه الصلاة والسلام من العسل. وكل ذلك كان بسبب الزوجات.
والتحريم هنا لم يكن هو التحريم المتعلق بأنه جعل الحلال حرامًا، وإنما منع نفسه حتى يُرضي زوجته التي عتبت عليه بالنسبة لموضوع سُرِّيَّته مارية، أو لما قالت إحدى زوجاته: "إني أجد منك ريح مغافير"، وهي تُريد نكايةً بضرتها، رضي الله عن أمهات المؤمنين أجمعين، فالرسول ﷺ قال: لا، بل شربتُ عسلًا عند زينب بنت جحش، ولن أعود له، فنزلت الآية[3]أخرجه البخاري (5267)، ومسلم (1474)..
فهذا في المنع، فكيف بمَن يُحرِّم: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ؟!
فالمنع دلَّ على سماحة الشريعة وسعتها، وأن الذي أحلَّه الله هو من الطيبات التي يستمتع الإنسان بها، ويستلذّ بها، فلا يُمنع بسبب خواطر، أو بسبب مراعاةٍ لهنا وهناك.
الدرس الرابع: مراعاة الخواطر لا بد أن يُقيد بالشرع
مراعاة الخواطر لا بد أن يكون فيما أحلَّه الله وشرعه، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا نأخذها من قوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1]، فالرسول ﷺ منع نفسه من العسل؛ لأن زوجته قالت: "إني أشمّ منك رائحةً"، فامتنع النبي ﷺ من أكل العسل، ولم تكن رائحةً كريهةً، لكن أرادت ألا يأكل العسل عند زوجته الأخرى، رضي الله عنهن أجمعين.
وذكر قصة مارية رضي الله عنها.
فالرسول ﷺ امتنع لنفسه، وليس من حقك أن تمتنع يا رسول الله من حلالٍ، ومن حقك أن تأكل العسل من زوجتك، وأن تطأ سُرِّيَّتك مارية رضي الله عنها، من حقك شرعًا ذلك، فلماذا تُحرِّم؟
قال: تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ، فهنا مراعاةٌ للخواطر، لكن في غير محله، وعددٌ منا قد يُراعي زوجاته لكن خارج نطاق ما أحلَّه الله وشرعه، فهو يُريد أن يُرضي زوجته، ويريد أن يُرضي أبناءه ويُراعي مشاعرهم لكن خارج نطاق ما أحلَّ الله.
وهنا الرسول ﷺ منع نفسه، بخلاف البعض الذي قد يفعل حرامًا، أو يُسهِّل حرامًا أو يُقرِّبه من أجل مرضاة زوجاته، أو مرضاة أبنائه، وهذا لا يجوز شرعًا، ولا يجوز من الناحية التربوية: أن نُراعي الخواطر على حساب منهجنا وقيمنا ومبادئنا وعقيدتنا، فلا يجوز مراعاة الخواطر أبدًا بمثل هذا، ويجب علينا إذا راعينا الخواطر ألا تكون إلا فيما أحلَّه الله وشرعه ولا بد، فهذا قيدٌ مهمٌّ لا بد منه.
ولو أنزلناه على تصرفاتنا وإجراءاتنا وأعمالنا في بيوتنا في أشياء عديدةٍ لوجدنا لباس المرأة، والقنوات الفضائية، والأصدقاء، وما يتعلق بالسفر، والابتعاث للأبناء، والأشدّ منه: الابتعاث للبنات، وأشياء كثيرة تجدها غير مرتبطةٍ بتحريرٍ شرعيٍّ، وإنما بجبر الخواطر.
وعندي قصصٌ كثيرةٌ جدًّا في الاستشارات في هذا الجانب وصلت إلى مستوًى مُنحطٍّ، أذكر قصةً واحدةً: كنتُ في لقاءٍ وأتى إليَّ ابنٌ لأسرةٍ ما في الثانوية، وفيه غيرةٌ ونخوةٌ تجاه أخواته، وليس مُتديِّنًا، ولكن عنده غيرةٌ ناضجةٌ، يقول: أخواتي سيُسافرن بمُفردهن إلى أمريكا للابتعاث. فقلت: أين والدك؟ قال: والدي لا يُريد ذلك، لكن المشكلة أن أمي هي التي دعتهن ودفعتهن إلى أن يذهبن إلى هناك ليحصلن على شهادةٍ من أمريكا، ووالدي سيُوصلهن ويرجع ويتركهن هناك.
فهذا مثالٌ لمراعاة المشاعر التي لم تتقيد بالشرع، وإنما مراعاة مشاعر الزوجة.
فقلت له: أخواتك هل هن مُوافقات؟ قال: واحدة رافضة، لكنها مُجبرة أن تذهب، والثانية راغبة، على طريقة الأم.
فأصبحت الأسرة تسير بهذه الطريقة، فلا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تنجح؛ لأنها قد سارت بطريق غير مستقيم؛ ولذلك يقول الرسول ﷺ: مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عليه الناس[4]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11696)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2311)..
فهذا الحديث نحتاج أن نُذكِّر به أنفسنا وزوجاتنا وأبناءنا، فمَن التمس رضا الله ولو سخط الناسُ عليه، ولو سخطت الزوجة، أو سخط الابن، فرضا الله هو المُقدَّم، فالذي لا يتنازل، وليس عنده مراعاةٌ للمشاعر على حساب الدين سيرضى الله عنه، وسيُرضِي اللهُ الناسَ عنه، فصاحب المبادئ يحترمه الآخرون حتى لو كانوا يُخالفونه في الرأي، ويرضخون بعد ذلك لرأيه.
ومَن التمس رضا الناس بسخط الله، وهذا هو جبر الخواطر ومُراعاة المشاعر على حساب رضا الله : سخط الله عليه، وأسخط الناس عليه، سيسخط عليه الذين قام بتقديم مصلحتهم على رضا الله ولو بعد حينٍ، والقصص في ذلك أيضًا كثيرة.
الدرس الخامس: التعلق بالله العليم يُولِّد اليقين
التعلق بالله العليم الحكيم يُولِّد: اليقين، والثقة، والأمان.
عندما قال الله : وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]، الله مولاكم، الله الذي يعرف كيف يُربيكم؟ وما هو أصلح لكم؛ ولذلك لا تُحرِّموا ما أحلَّ الله لكم تبتغون مرضاة أزواجكم.
فلذلك علينا أن نعرف مُراد الله ، ونتعلق بالله ، فهو الأعلم منا، وهو الحكيم والأحكم منا ، والأعلم بما ينفعنا، وعلم الله وحكمته أعظم مما عندنا.
وقوله: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا [التحريم:3] قال كثيرٌ من المُفسرين: هي حفصة -أم المؤمنين رضي الله عنها-، أسرَّ لها النبي ﷺ أنه لن يأكل العسل عند زوجته زينب رضي الله عنها بعد أن قالت حفصة: "إني أشمّ ..."، ففرحت حفصة وذهبت إلى عائشة وأبلغتها -رضوان الله عليهن أجمعين-، وكان النبي ﷺ قد أمرها ألا تُخبر به أحدًا، فحدَّثت به عائشة رضي الله عنهما، وأخبره الله بذلك الخبر الذي أذاعته، فعرَّفها ﷺ ببعض ما قالت، وأعرض عن بعضه؛ كرمًا منه ﷺ وحِلمًا، فقالت له: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا يعني: الخبر الذي لم يخرج مني ومن عائشة لا يعرفه أحدٌ إلا أنا وأنت، قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم:3] الذي لا تخفى عليه خافيةٌ، يعلم السرَّ وأخفى.
وهذا فيه حُسن عِشرة النبي ﷺ في معالجة الأخطاء، والمحاضرة التي سبق ذكرها بعنوان: "وقفات في بيت النبوة" مليئة بقصصٍ للنبي ﷺ ومواقف في مثل هذه القضايا.
والنبي ﷺ لم يتكلم بكل ما أنبأه الله به، فقط أعطى شيئًا منه، وكتم شيئًا آخر؛ مراعاةً لأن الرسالة وصلت، وليس في ذلك تحريم ما أحلَّ الله؛ لذلك هنا مراعاة المشاعر مطلوبة؛ لأن هذا من كرم النبي ﷺ ووفائه، وحُسن العهد من النبي ﷺ لزوجاته، فهذا مما ينبغي التأسي به فيه عليه الصلاة والسلام: في حُسن العِشرة بين الزوجين.
الدرس السادس: خبايا الأُسَر لا تخفى على الله
فالله مُطَّلِعٌ على خبايا الأسر: قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، كشف أمر حفصة وعائشة رضي الله عنهما وأرضاهما للنبي ﷺ، فالله مُطلعٌ على ما نفعله في أُسرنا: مع زوجاتنا، ومع أبنائنا، حتى ولو لم تكن الرائحةُ قد وصلت لخارج البيت.
وكم من أمورٍ يحاول الإنسان كتمها، ويحاول عدم إخراجها من البيت -بغض النظر عن كون هذا التصرف سليمًا أو غير سليمٍ-، ولكن الله مُطلعٌ عليه.
فتجب تربية النفس والأسرة -الأبناء والزوجات- على اطلاع الله على خفايا الأمور؛ حتى يعرف كل إنسانٍ كيف يتعامل؛ لأن الله مُطلعٌ عليه، وهذه تربيةٌ إيمانيةٌ مهمةٌ جدًّا في المراقبة والرقابة الذاتية وما يتعلق بها، ومراقبة الله .
ثم يقول: "وقوله: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4] الخطاب للزوجتين الكريمتين من أزواجه ﷺ: عائشة وحفصة رضي الله عنهما، كانتا سببًا لتحريم النبي ﷺ على نفسه ما يُحبُّه، فعرض الله عليهما التوبة، وعاتبهما على ذلك"[5]"تفسير السعدي" (ص873)..
كما عاتب الله نبيَّه على قضية الامتناع، وعاتب أيضًا حفصة، وهذا تأكيدٌ لهذا المنهج: "العتاب الإيجابي"، فهو منهجٌ مطلوبٌ، وليس فيه إهانة كرامةٍ، وليس فيه تجاوز الحدود إذا كان بهذا العتاب اللَّطيف الرباني.
فإذا وقعت في الخطأ والذنب فتلزمك التوبة والابتعاد عن أي شيءٍ يُسخط الله . هذا ما يتعلق بقوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ [التحريم:6].
ثم قال: وَأَهْلِيكُمْ [التحريم:6]: "وقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به" أي: لا يسلم يوم القيامة من المسؤولية: كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[6]أخرجه البخاري (2558)، ومسلم (1829).، "إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيمن تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم ممن هم تحت ولايته وتصرفه.
ووصف الله النار بهذه الأوصاف ليزجر عباده عن التهاون بأمرها، فقال: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98].
عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ [التحريم:6] أي: غليظةٌ أخلاقهم، شديدٌ انتهارهم، يُفزعون بأصواتهم، ويُزعجون بمرآهم، ويُهينون أصحاب النار بقوتهم، ويُنَفِّذون فيهم أمر الله الذي حتَّم عليهم بالعذاب، وأوجب عليهم شدة العقاب.
لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وهذا فيه أيضًا مدحٌ للملائكة الكرام، وانقيادهم لأمر الله، وطاعتهم له في كل ما أمرهم به.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم:7] أي: يُوبَّخ أهلُ النار يوم القيامة بهذا التوبيخ، فيُقال لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي: فإنه ذهب وقت الاعتذار، وزال نفعه، فلا يبقَ الآن إلا الجزاء على الأعمال، وأنتم لم تُقدِّموا إلا الكفر بالله، والتكذيب بآياته، ومحاربة رُسله وأوليائه"[7]"تفسير السعدي" (ص874-875)..
وسنأخذ بعض الدروس من هذا المقطع والآيات من: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ إلى هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا.
وقد ذكرنا في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ أسلوب البداية بالوصف الجاذب من أجل التوجيه، فلا نستخدم النداء الجارح، والنداء السلبي، ونريد أن نُعدِّل السلوك.
ومن الدروس المستفادة: هذه المسؤولية المنوطة بالقائمين بالأُسَر المسلمة، هذه مسؤولية كل واحدٍ عنده أُسرة، فهي مسؤوليةٌ منوطةٌ به: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا، لا ينسى أبدًا، ولا يجوز له أن ينسى، لا يقل: شغلته المدرسة، أو شغله الإعلام، أو الشارع، أو المسجد، أو المجتمع، أو كذا، أو كذا. فهذه شغلتك ومسؤوليتك تجاه أسرتك: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا.
ولدي محاضرة في قناة (اليوتيوب) بعنوان: "وظائف الأسرة"، وأيضًا: "السعادة الأسرية" مادةٌ أخرى مهمةٌ جدًّا في هذا الموضوع، فالمطلوب مني في الأسرة: المحافظة على الأسرة وإسعادها.
المسؤولية الفردية والجماعية
وأيضًا من الدروس المستفادة هنا: المسؤولية الفردية، والمسؤولية الجماعية، فكل واحدٍ منا مسؤولٌ عن نفسه، ومسؤولٌ عمن يعول.
فالمسؤول عن نفسه مسؤوليته فردية: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، هذه مسؤولية فردية، والمسؤولية الجماعية في قوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا، وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ [الطور:21]، قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أيضًا هذا فرديٌّ: آمنوا هم، قال: وَاتَّبَعَتْهُمْ أثَّروا على أهليهم ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.
فهما مسؤوليتان مهمتان، فلا تتخلى عن المسؤولية الفردية وتقول: أنا مشغولٌ بأسرتي وأهلي! ولكن هو ضعيفٌ في شأنه، ولا تتخلى عن مسؤوليتك الاجتماعية أو الجماعية وتقول: أنا مشغولٌ بنفسي! فهما مسؤوليتان بعضها مع بعض.
"الترهيب" من أساليب التربية
ومن الدروس أيضًا: الترهيب، فهو أسلوبٌ تربويٌّ مُؤثِّرٌ لا شك، فقوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ يعني: النار هذه التي يُشعلها الناس، فالناس يمكن أن يكونوا أنا وأهلي: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا، وإلا سنكون وقود هذه النار.
قال: وَالْحِجَارَةُ وهذا تخويفٌ وترهيبٌ، والترهيب مطلوبٌ، لا نقل كما يقول المُتفلسفة والماديون: إن هذا تخويفٌ مُرعِبٌ!
وفي الحديث: كفى بالموت واعظًا[8]أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (10072). ، ويأتي بعض هؤلاء ويقول: لا تُذَكِّر الناسَ بالموت وتُخيفهم في هذه الحياة!
الموت في المنهج الإسلامي يُعين على تعديل السلوك وضبط النفس إذا كان يُنظر فيه باعتدالٍ وتذكُّرٍ، مع زيارة المقابر، وقراءة الآيات المتعلقة بالموت.
فالترهيب وما يتعلق به -كالوعيد وما يتعلق بنار جهنم- مطلوبٌ، لكن كما نُربي على الترهيب نُربي على الترغيب، والسياق هنا يحتاج إلى ترهيبٍ؛ لأن هنا إشكاليةً مرتبطةً بتقصيرٍ، فالله أعلم بنا من أنفسنا، والذي أُلاحظه في الاستشارات الهاتفية الكثيرة: أن الكثيرين يُقصِّرون في تربية أُسَرهم؛ ولذلك لا بد أن يكون التأثير في عقول هؤلاء وفي مشاعرهم بالترهيب.
أخيرًا: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ قال الشيخ رحمه الله: "فإنه ذهب وقت الاعتذار، وزال نفعه"[9]"تفسير السعدي" (ص874).، ولاتَ حين مَنْدَمِ، فلا بد أن نُذَكِّر أنفسنا، ونُذَكِّر أُسَرنا وأبناءنا، فحينما نقف بين يدي الله لا مجال للعمل: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:99-100]، لا مجال للرجوع، وعندئذٍ تعظم في قلوب الأجيال وفي قلوبنا أهمية المبادرة للعمل الصالح قبل الموت، قبل مغادرة هذه الحياة؛ لأنه ولاتَ حين مَنْدَمِ.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم.
↑1 | "تفسير السعدي" (ص872-873). |
---|---|
↑2 | أخرجه ابن كثير في "تفسيره" (8/ 165)، وقال: "إسناده فيه نظر". |
↑3 | أخرجه البخاري (5267)، ومسلم (1474). |
↑4 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11696)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2311). |
↑5 | "تفسير السعدي" (ص873). |
↑6 | أخرجه البخاري (2558)، ومسلم (1829). |
↑7 | "تفسير السعدي" (ص874-875). |
↑8 | أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (10072). |
↑9 | "تفسير السعدي" (ص874). |