المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
هذا هو اللقاء الثاني والخمسون، وهو أول درس مع المجموعة الخامسة من هذه السلسلة "تطبيقات تربوية ونفسية من الكتاب والسنة" سيكون إن شاء الله تعالى لقاء اليوم والذي بعده سنخصه حول معالم في المنهج النبوي التربوي، ونسأل الله التوفيق والإعانة، وأن يستعملنا وإياكم في طاعته، ويرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والسداد، كما نسأله أن يلطف بإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
لماذا الحديث عن معالم المنهج النبوي التربوي؟
لا شك أن السنة النبوية هي مصدر من مصادر التشريع، وهي مصدر من مصادر التربية الإسلامية التي ندعو إليها، وذكرنا سابقًا الإشكالية الحاصلة في الأمور التربوية والنفسية والاجتماعية؛ كون أن هذه الأمور للأسف الشديد من الناحية النظرية والأكاديمية والتدوين ارتبطت بالمنهج الغربي، بينما نجد في معيننا الإسلامي الشيء العظيم والكبير من خلال كتاب الله وسنة النبي ﷺ .
أردنا أن نأخذ بعض المعالم من خلال السنة النبوية، ومن خلال منهج النبي ﷺ في تربيته وتوجيهاته، وهكذا ينبغي حينما نتلقى السيرة النبوية أن نأخذ هذه السيرة من خلال أثرها على السلوك، وكيف هي تبني سلوك الإنسان بمفهوم السلوك الشمولي، وأثرها على تنمية الأفكار والعقل، وأثرها على تنمية المشاعر والاتجاهات، وأثرها على تنمية الخبرات والسلوك والمهارات، هذه التي تبني الإنسان في هذه المسارات الثلاثة.
والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام فيها معين عظيم لا ينضب، وسنأخذ شيئًا من ذلك، ولا أنسى الشكر بعد شكر الله للموسوعة الحديثية في موقع الدرر السنية على هذا الجهد الكبير في حفظ السنة النبوية وتحقيقها، فقد أصبحت مرجعًا إلكترونيًّا فأي شخص يريد أن يعرف صحة الحديث وأن يجمع بعض الأحاديث المتعلقة ببعض الأمور، وعنده رأس كلمات من هذا الحديث؛ فإنه يستطيع أن يصل إلى هذا المخزون الكبير من خلال موقع الدرر السنية في الموسوعة الحديثية.
أهمية العمل بالعلم
والمنهج الأساسي المهم الذي لا بد أن ندركه في قضية التربية النبوية هو قضية مطابقة القول للعمل، وهذه قضية أساسية، فكل المعالم التي سنذكرها منطلقة من هذا الأساس.
ما فائدة أن نُعَلم الدين وهو عبارة عن معرفة؟ يعني: كما يقول البعض: الدين جميل، والدين جيد.
نقول: إذا كان جميلًا، وجيدًا وطيبًا، فهل هناك مشكلة لو طبقناه؟
فليست القضية قضية أذواق، وليست القضية قضية معارف أجيب عليها في الاختبارات، إنما كما قال الله سبحانه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19]، فالعلم قبل القول والعمل، كما قال البخاري رحمه الله: "باب العلم قبل القول والعمل"[1]صحيح البخاري (1/24)..
العلم حينما يكون مجردًا من أثره على السلوك، بمفهوم السلوك الذي ذكرناه الذي هو المعتقدات والأفكار، التي هي المشاعر والأحاسيس والاتجاهات، التي هي الخبرات والمهارات، فلا فائدة لهذا العلم، وأشد ما يكون حينما يكون مرتبطًا بمصدري التشريع وهو كتاب الله وسنة النبي ﷺ .
انظروا ماذا يقول الله ، فلا شيء مثل كتاب الله، فالله خص من يحفظ كتاب الله تعالى لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف [2]أخرجه الترمذي، رقم: (2910)، وصححه الألباني في السلسلة، رقم: (3327)..
وقال رسول الله ﷺ : يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها [3]أخرجه أبو داود، رقم: (1464)، والترمذي، رقم: (2914)، والنسائي، رقم: (8002)، وأحمد، رقم: (6799)، وصححه الألباني في السلسلة، … Continue reading.
ويقول الله : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29]، فكتاب الله إذا لم يكن هناك له أثر علينا في التدبر والتذكر، فربما يكون هذا القرآن حجة علينا، لا حجة لنا، فـ "رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه"[4]الحديث المذكور: لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نسبه الغزالي في (إحياء علوم الدين) لأنس بن مالك فقال: … Continue reading، كذلك ما يتعلق بقضية سنة النبي على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فهكذا ينبغي أن نربي أنفسنا بالذات مع أعظم وأهم مصادر التربية الإسلامية، وهو كتاب الله وسنة النبي ﷺ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه [5]أخرجه الترمذي، رقم: (2417)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 162). هذا التطابق التربوي المطلوب، وهذا هو إطار المعالم التي سنأخذها وهي "عن علمه ماذا عمل به".
نقرأ السيرة النبوية، نقرأ حديث النبي ﷺ ، نسمعها لا بد أن يكون لها أثر.
فأين آثار حديث النبي ﷺ على أجيالنا وبناتنا ونسائنا وعلى أنفسنا؟ أين أثر هذه الأحاديث وهذه السنة النبوية التي أخذناها في مناهجنا وقرأناها في مدارسنا وحفظناها؟ أين أثرها من خلال الدروس العلمية التي موجودة في المساجد، من خلال ما يبث عبر القنوات الفضائية؟ أين هذه من خلال ما نسمع في الخطب وغير ذلك؟ أين أثرها علينا يوم القيامة سيسأل الإنسان من هذه الأسئلة، ولذلك يقول علي بن أبي طالب : "هتف العلم بالعمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل"[6]اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 36)..
فلا قيمة للعلم إذا كان لا يتلوه العمل هذا هو الإطار الأساسي الذي نبني عليه معالم المنهج النبوي في هذا اللقاء، واللقاء القادم بإذن الله .
المعلم الأول: المنهج النبوي تجاه التعامل مع كتاب الله
وهو المصدر الأساسي، وهذا هو التربية التي ينبغي أن تكون، وكم يحز في النفس حينما يكون بعض واقع الحصص الدراسية في المدارس مثلًا كحصص القرآن يذكّرك بما فعله القس "دانلوب" في التعليم المصري لما كانت مصر هي مركز الحضارة الإسلامية، وجاء "دانلوب" وأنشأ التعليم المضاد للتعليم الإسلامي، ومن ذلك فيما يتعلق بقضية الحصص الدينية، ومنها ما يتعلق بكتاب الله ، وجعل من يقوم بها كبارًا في السن مرضى ليس عندهم حوافز، وجعلها في آخر الحصص الدراسية، وأنشأ مدارس أخرى تنافس مدارس الأزهر، وشيئًا فشيئًا.
أقول: بعض ما نراه ونسمعه في بعض الحصص الدراسية المتعلقة بالقرآن تتألم حينما ترى التأفف من الطلاب من هذه الحصة، والثقل عند الطلاب، قد يكون السبب هو المعلم، وقد يكون السبب قبل ذلك لا شك هي الأسرة والتربية الأسرية، وقد يكون السبب الطالب، وقد يكون السبب الجميع.
فهذه قضية مهمة جدًّا، حينما تصبح حصة كتاب الله -نسأل الله العافية- ثقلًا على الطالب، وحينما يأتي البعض يرسب في القرآن، ويستغرب أنه رسب في القرآن، وكأن القضية أصبحت عادية جدًّا أنك تنجح في كتاب الله ، مع أن القضية ليست متعلقة بمجرد المحفوظ حتى يسمع، أو التفسير حتى يشرح، وإنما أشد من ذلك ما يتعلق بقضية التطبيق لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29]، هذه لا يقيسها إلا الذين يعايشون هذا الشخص، أب مع أبنائه، أو زوج مع زوجته، أو معلم مع طلابه، وقبل ذلك وبعده هو ما يتعلق مع علم الله في حال هذا الإنسان وتعامله مع كتاب الله .
قال أبوعبد الرحمن السلمي: «حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النَّبي ﷺ عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا»[7]الإتقان (2/389)، التفسير الكبير (2/132)..
فالقضية علم وعمل، وهذا معلم مهم جدًّا في التربية والتعامل مع كتاب الله في المنهج النبوي؛ لذلك قلّ الكم، وزاد الكيف.
وإذا كان الأجيال يعتنون بعكس، فيزيد لديهم الكم، ويقل الكيف، فأدرك بأن هذا المنهج ليس على ما ذكر قبل قليل في تعامل أصحاب النبي ﷺ مع كتاب الله، ومع سنة النبي ﷺ من خلال المنهج النبوي الذي رباهم النبي ﷺ حتى إن بعضهم من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام مكث في سورة البقرة ثمان سنين يتعلمها[8]هو عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. انظر: موطأ مالك (2/287)، رقم: (695)..
وهذا ليس لضعف حفظه، وإنما للمنهجية التي كانوا عليها، كما جاء في حديث أبي عبدالرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن: عثمان بن عثمان وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النَّبي ﷺ عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا".
ويا ليت أن الأسر تنتبه لهذه المنهجية منذ نعومة الأظفار، لنعلم أبناءنا من الصغر العناية بحفظ القرآن حفظًا وتلاوة، وتطبيقًا وعملًا؛ فإذا ربيناهم على هذا الأساس، حتى لو قل منسوب الحفظ، لو يأخذ ست سنوات يحفظ القرآن مع هذه المنهجية، فلا يكون همنا فقط هو قضية المحفوظ والمقروء -مع أهميته- فهو عبادة موجودة في كتاب الله أعطيت خصوصية، لكن أيضًا لا نُغفل الشق الآخر الذي ذكرته آياته لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص : 29]، وكذلك المنهج الذي ذكره العلماء أنهم لا يتجاوزون العشر الآيات حتى يتعلموا ما فيها من عمل ومن عمل.
لذلك لاحظوا ماذا لفتت إليه أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، كما جاء في الحديث الصحيح، فعن سعد بن هشام، قال: سألت عائشة، فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله ﷺ؟ فقالت: كان خلقه القرآن [9]أخرجه أحمد، رقم: (25302)، وصححه محققو المسند..
هذا تعبير عظيم جدًّا على المنهجية التربوية عند النبي ﷺ، المنهج النبوي التربوي أن يكون القرآن له أثر على قيمنا وأخلاقنا، بل أن يصبح خلقنا القرآن، هكذا ينبغي أن نربي أجيالنا على مثل ذلك.
هل أخلاقنا، هل أخلاق أجيالنا، هل أخلاق طلابنا: هي أخلاق القرآن؟ أنا أقول هذا الكلام على مستوى الأمة عمومًا، وأقولها على مستوى أضيق، الذين وفقهم الله من الأجيال في حفظ كتاب الله أو جزء من كتاب الله، وفي تلاوة كتاب الله من الكبار، أو من الصغار، أو من الذكور والإناث، هل أخلاقهم هي أخلاق كتاب الله ؟
سؤال كبير يحتاج، فلا يوجد أحد من المسلمين ينكر أن مصدره، ومرجعه هو كتاب الله هل أخذنا بهذه الطريقة؟
فهذا معنى مهم جدًّا في التربية النبوية، وهو أن نأخذ كتاب الله من خلال الجمع بين العلم والعمل، الجمع بين الحفظ والقراءة والتلاوة، وبين التذكر والخشوع والتطبيق والتأثير على أخلاقنا وقيمنا.
لذلك كما جاء أيضًا في الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ في حديث عبدالله بن عمرو: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان [10]أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، رقم: (2036)، والطبراني في الكبير، رقم: (88)، وصححه الألباني في صحيح الجامع … Continue reading.
فالقرآن له أثر، وله بناء للسلوك إلى مستوى أن الإنسان يصل إلى أنه يضحي بلذته وشهوته ونومه من أجل مرضاة الله ، فهذه منقبة كبيرة جدًّا لا يتوقع الإنسان بمثل هذه الحال أن لا يؤثر القرآن على خلقه وعلى قيمه، لا يؤثر على عمله إذا وصل إلى هذه المرحلة، وهنيئًا لمن وصل إلى مثل هذه المرحلة، هنيئًا الذي يستمتع مع كتاب الله حينما يكون الناس في نومهم، هو يكون مستيقظًا قد ضحى بلذته وشهوته، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17، 18]، ولذلك مِثل هؤلاء القرآن حجةٌ لهم لا عليهم.
هذا هو المعلم الأول في التعامل النبوي مع كتاب الله ، والتربية على القرآن، وهذا موضوع طويل لا شك، لكن نأخذ بعض الشذرات حتى نفتح لنا آفاقًا عديدة في أن نراجع أنفسنا، وليس هذا المقصود فيه معلمي القرآن فقط، بل المقصود أنا وأنت في تعاملنا مع القرآن، الذي قد وفقنا بمثل هذه المصاحف، وأصبحت الآن كلها محمّلة على الجوال، وأصبحت عند البعض في صدورهم، لكن كيف تربية القرآن لهم؟ هل هي على منهج النبي ﷺ؟
أيضًا لما تراجع الأم لأبنائها وبناتها، والأب يهتم بهذه القضية، يوجه إلى حلقات التحفيظ، مراكز حلقات التحفيظ، ومدارس حلقات التحفيظ، أين هم من هذا المنهج التربوي النبوي؟
يقول النبي ﷺ في الحديث الحسن: يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، ويزاد بكل آية حسنة [11]أخرجه الترمذي، رقم: (2915)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/1333).، ولا شك أن هذا النعيم العظيم هو للذي وُفق إلى التربية على كتاب الله ، وأُعين على ذلك، وكانت عنايته بكتاب الله على منهج النبي ﷺ.
المعلم الثاني: أهمية القدوة الحسنة في التعليم
ما يتعلق بطريقة التعليم، وسمة التعليم، يعني: لما كان النبي ﷺ يعلم أصحابه أحكام الحج كما جاء في الحديث الصحيح كان يقول: خذوا عني مناسككم [12]أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم: (9524). وهو في مسلم، رقم: (1297)، عن جابر رضي الله عنه بلفظ: «لتأخذوا مناسككم».، فالقضية واضحة جدًّا أحكام يطبقها النبي ﷺ، ويأخذ الصحابة عن النبي ﷺ وينقلونها إلى الآخرين، وكذا في حديث الحج المشهور وهو حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما فيه صفة حج النبي ﷺ [13]أخرجه مسلم، رقم: (1218)..
فنحن نحتاج إلى هذا المعلم في تربيتنا كصفة تعليم، تريد تعلم أيها الأب، أو أيها المربي، أو أيها الصديق، أو أيتها الجهة، أو المدرسة، أو المعلم، أو المعلمة؟ لا يكن تعليمك عبارة عن كلام مجرد، وإنما تطبيقات حية موجودة، قيم يطبقها المربي، أخلاق يطبقها المربي، قدوة موجودة حية، نموذج موجود حي يختصر علينا الكلام الكثير، وإن كنا نريد أن نقول -وأنا لا أشك في ذلك قيد أنملة-: إن هذا هو أدبيات التوجيهات الإسلامية، بل حتى النظريات الغربية بعضها تتكلم بمثل هذه القضية، ولا شك أن العقل الصحيح يرشد إلى هذا المعنى، أن من أسباب ضعف الأثر في المدخلات، في المناهج، في التوجيهات التي نوجهها: أننا إذا كنا قدوة لن نحتاج إلى كثير كلام، وهذه طبيعة النفس البشرية.
تعلمون قصة صلح الحديبية، فلم يستجب الصحابة للنبي ﷺ بأن يحلوا من عمرتهم حتى بينت له زوجه رضوان الله عليها أن يأمر الحلاق أن يحلق رأسه أمامهم، فكان أثر هذا الفعل على الصحابة حتى كاد الصحابة يقتل بعضهم بعضًا[14]انظر الحديث في صحيح البخاري، رقم: (2731). من شدة تنفيذهم للأمر بعدما رأوا النبي ﷺ يفعل هذا الفعل، فكان أثر الفعل أقوى وأرشد من أثر القول.
وهذا طبيعة النفس البشرية، وهذا سمة مهمة في التعليم والتربية، لا تقل أنا وجهت أولادي بكلام طيب وجيد، نقول: هل الصورة العملية الحية موجودة؟ هل القدوة موجودة أم لا؟ هذا سمة للتعليم مهمة أكّد عليها النبي ﷺ في منهجه التربوي.
وفي حديث مالك بن الحويرث قال: أتينا النبي ﷺ ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله ﷺ رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا -أو قد اشتقنا- سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم ومروهم، -وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها- وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم[15]أخرجه البخاري، رقم: (7246)..
ففعل النبي ﷺ في أدائه للصلاة هو الذي نقله مالك بن الحويرث ؛ ولذلك نحتاج إلى هذا الأسلوب النبوي التربوي فيما يرتبط بسمة التربية، سمة التعليم، والتوجيه والتربية، وهو متعلق بقضية القدوة العملية النموذج الحي التطبيق، أو يسمى التطابق التربوي هذا المعلم الثاني.
المعلم الثالث: العلاقة بين العقيدة وبين السلوك
هذا المعلم له شبه بما سبق، لكن لا بد أيضًا من التأكيد عليه، فأنت تفرح حينما تجد شخصًا مثًلا يغار على حرمات الله ، ولو لم يكن متدينًا، وحينما سُب النبي ﷺ وأوذي بالشتائم عليه الصلاة والسلام قامت قيامة أناس هم مقصّرون حتى في التزامهم بمنهج النبي ﷺ.
وأذكر قصة في تلك الفترة أني دخلت على حلاق، وكان في تلك الفترة ذروة الإنكار على من سب النبي ﷺ، وكان عند الحلاق شاب من الشباب يحلق لحيته، ودخلتُ في وقت حلق اللحية، فإما أن أنكر بالكلام، أو بالقلب، فقلت لهذا الشاب: أنت تحب النبي ﷺ؟ قال: نعم لا شك، قلت: ما تقول في هذه القضية التي حصلت؟ فتكلم كلام الذي يغار، قلت: النبي ﷺ يحب منك أن تبقي هذه اللحية عليه الصلاة والسلام، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
فما قيمة كتاب الله إذا لم يكن له أثر؟ ما قيمة العقيدة إذا لم يكن لها أثر على السلوك؟ انظروا لهذا المعنى في حديث النعمان بن بشير قال: سمعته يقول: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب [16]أخرجه مسلم، رقم: (1599)..
الذي يقول: قلبي طيب، وقلبي أبيض، ونيتي جيدة، وفعله يخالف نيته، نقول: الرسول ﷺ يقول: ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. فأصلح نيتك وقلبك، أصلح معتقدك.
فينبغي العناية في التربية مع الأجيال، ومع الجميع، وأن يكون القلب فعلًا متشربًا لهذه القضية بشكل كبير؛ حتى لا يحصل عندنا انفصام ما بين النظرية والتطبيق، وما بين العقيدة والسلوك، فهذا انفصام خطير جدًّا.
نحتاج إلى ترميم الهوة ما بين العقيدة والسلوك، ولن يكون هذا الأمر إلا باتباع المنهج النبوي في إصلاح الباطن أولًا ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله.
أين عناية الأسر اليوم؟ أين عناية المدارس؟ أين عناية المحاضن التربوية؟ أين عناية الإعلام؟ أين عناية المساجد؟ أين عناية الخطيب؟ أين عناية كل من عنده مجال للتوجيه في الآخرين؟ أين عنايتهم في التأثير في صلاح القلوب؟
من الذي يربط العقيدة حينما يشرح الأصول الثلاثة، ويشرح كشف الشبهات، ويشرح العقيدة الواسطية، والطحاوية، والتدمرية، والحموية، ويربط القضية بأثر هذه العقيدة على صلاح القلب أولًا، ثم صلاح الظاهر، فيجمع الله له بين صلاح الباطن وصلاح الظاهر؟
من أراد أن يعرف هذه القضية قرأ في العقيدة الواسطية كمثال وغيرها من باب العقيدة، ويقرأ في كلام ابن تيمية في استشهاداته في الأسماء والصفات في الآيات والأحاديث، ثم بعد ذلك يختم عقيدته الواسطية في بيان صفات هؤلاء الذين اتصفوا بهذه العقيدة.
حينما يتكلم عن صفاتهم الأخلاقية، وصفاتهم الاجتماعية، وصفاتهم مع المجتمع، وصفاتهم مع قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه يقول: إن هذه العقيدة التي شرحناها من قبل لا يمكن أن تكون بعيدة عن هذه السلوكيات، وهذه الأعمال في الحياة، فإذا لم يكن للعقيدة أثر، فما فائدة هذه العقيدة؟ نحتاج هذه العقيدة بشكل كبير، وعندئذ نحن سنخرِّج على المعلم السابق قدوات يربطون بين القول والعمل بين العقيدة والسلوك.
ولاحظوا الرابط ما بين هذه المعالم الثلاث المهمة جدًّا، رابط مهم، نحتاج نراجع أنفسنا في قضية طريقة تربيتنا مع كتاب الله لأنفسنا ولغيرنا في طريقة تعليمنا وتدريسنا، في طريقة العناية بصلاح الباطن وأثره على صلاح الظاهر، بأعمال القلوب، بالعناية بالتأثير التربية المادية، لا يشترط أن تكون غربية، المادية حتى في العناية بالهندام والشكل وبالجسم وبالجانب العضوي البحت إلى آخره، في الغالب يُنسى هذا المعلم، وهو يتعلق برابط العقيدة بالسلوك، فغالبًا ما يكون الاهتمام هو بقضية الجانب النظري الشكلي، فقد يأخذ 100% في اختبار التوحيد، أو في اختبار القرآن، لكن أين السلوك؟ لماذا لم يلفت نظر هذا الأب، ما هو اهتمام ابني وابنتي؟
لماذا الاهتمامات مخالفة للعقيدة؟ وأصبح يدخل على مواقع فيها شبهات، ويدخل على متابعات إلحادية، ويدخل على حوارات حتى في الذات الإلهية، وليس هناك أي وقاية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا[التحريم: 6].
ومن هذا الجانب الإيماني، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ[الطور: 21]، أذرعة مهمة جدًّا في التربية نحتاج إليها، ولو لم نستفد من مثل هذا الطرح إلا في قضية مراجعة طريقتنا في التربية، مراجعة مع أنفسنا ومع غيرنا.
كُلٌّ يجتهد كما نجتهد في البناء، في العمار، في الوظائف، في كسب الأموال، في الهم، في الصحة، نجتهد أعظم من ذلك في هذا البناء السليم للنفس البشرية، خاصة الذين نحن مسؤولون عنهم أمام الله ، ماذا سنقول لله يوم نلقاه، ويوم تبلى السرائر؟
ومثال ربط العقيدة بالسلوك، ثم أثر ذلك على السلوك الظاهري: الحديث الصحيح المشهور عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف رسول الله ﷺ، فقال: يا غلام، أو يا غليم، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت: بلى. فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء، يعرفك في الشدة، وإذا سألت، فاسأل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا[17]أخرجه الترمذي، رقم: (2516)، أحمد، رقم: (2803)، واللفظ له، وقال محققو المنسد: حديث صحيح..
هذا تربية وتعليم لابن عباس، وكان غلامًا، يربى على قضية العقيدة، وقضية الإيمان، وحفظ الله، ويربط بهذه القضية المهمة جدًّا التي لها أثر بعد ذلك في حياة الإنسان.
ما أجمل أن نربي الصغار والأطفال على مثل هذه المعاني، "احفظ الله يحفظك في الرخاء" حتى يعرفوا الله في الشدة، حتى يصبح الإنسان بعد ذلك متخلقًا بأخلاقيات الإيمان في حياته، لماذا يفزع الناس بمجرد واحد توفي له، أو أخبر بمرض فيه في سن المراهقة، أو أكبر من ذلك؟
وأنا أذكر شخصًا ابتلاه الله بمرض مزمن، ولكنه لا يفتر لسانه من ذكر الله، وهو شاب في العشرينات توفي رحمة الله عليه بسبب المرض، وهو لا يفتر لسانه بحمد الله ، اختبرته كثيرًا، وقد كان جاري في السكن، واسمه ماجد رحمة الله عليه، لا أكاد أسأله، بل لم أسأله كيف حالك يا ماجد إلا وهو يحمد الله تعالى، حتى توفاه الله ، وفاز بحسن الخاتمة بإذن الله تعالى؛ لأنه قد ربي على هذه القضية.
لكن إذا لم يربى الطفل الصغير تجد أنه ربما يجزع من مرض بسيط، وهكذا ربما المراهق أو الكبير يجزع، ويسخط على قضاء الله وقدره؛ لأنه لم يؤسس على الإيمان بقضاء الله وقدره، وعلى العقيدة الصحيحة.
يجزع لو أتيحت له الفرصة، ثم ضاعت هذه الفرصة، مادية، أو مالية، أو وظيفية، يجزع ويصبح كأنه هو الذي يملك هذه القضايا، والأمر بيد الله من قبل ومن بعد؛ ولذلك تجد من يكون لديه الشكر والحمد لله واليقين يقول: ما عند الله خير، وهذا الأمر أمر قد قدره الله ؛ فترتاح نفسه.
وفي حديث عمرو بن أبي سلمة عند البخاري: كنت غلامًا في حجر رسول الله ﷺ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ: يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك فما زالت تلك طعمتي بعد[18]أخرجه البخاري، رقم: (5376)، ومسلم، رقم: (2022)، واللفظ للبخاري..
الشاهد في الاستدلال في هذا المعلم: الربط بين العقيدة والسلوك، فقال له: سم الله، ثم قال له: وكل بيمينك، وكل مما يليك، فهذا السلوك متعلق بآداب الطعام، ونحتاج إلى مثل هذا السلوك، وإلا ما فائدة من هذا الأمر إذا كان مجرد معرفة أخذناها في المناهج؟!
فالآداب والأخلاق والقيم مرتبطة بالعقيدة، وهذه قضية مهمة جدًّا ، لماذا تجد بعض الغربيين عنده كلام جميل جدًّا في القيم والأخلاق، لكنهم متحيرون قلقون مضطربون؟
الجواب: لأن القيم والأخلاق التي يتكلموا عنها بعيدة عن المعتقد الصحيح، ليس هناك أرضية قوية للمعتقد الصحيح، ونحن نتكلم بشمولية، وإلا قد ينجح حتى الكافر في خُلق معين، أو في قضية معينة، ويجازيه الله في الدنيا، وليس له يوم القيامة من خلاق، لكن الكلام في الشمولية وبناء الإنسان.
قال أحد الأوربيين: "إن أوروبا لما تركت إلهها القديم، واتجهت إلى إلهها الجديد؛ بدأ الأوربيون يعيشون في قلق دائم".
وتوجد مدارس قدمت نظريات في الجوانب هذه فلم تنفع، وجاء أيضًا ضبط الأخلاقيات عبر بعض الإجراءات، فقد قامت بها أمريكا في السبعينات على قضية الخمر، والآن في أنظمة التحرش الجنسي وفي قضايا الاختلاط فلم تنفع؛ والسبب أنه لا يوجد ضمير حي تربى على قضية العقيدة؛ حتى أصبح الباطن قويًّا والأرض قوية وعندئذ تكون فيه مراقبة ذاتية.
وقد حصل في إحدى ولايات أمريكا لما انطفأت الكهرباء ساعات سجلت حالات عديدة جدًّا من الإجرام؛ لأن القيم الظاهرية النسبية ليست الثابتة النسبية المرتبطة بمراقبة الكاميرات! انتهت الآن الكاميرات بإغلاق الكهرباء، فذهبت القيم؛ لأن القيم نسبية، ليست ثابتة، ولا متجذرة، ولا هي مرتبطة بعقيدة، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله.
ولذلك بعض المسلمين يربطون أيضًا أخلاقهم وقيمهم بالرقيب، كالأب والأم، ورجل الهيئة، ورجل الشرطة، والمسؤول، فهذا لا يمثل قيمًا وأخلاقًا ثابتة على المنهج النبوي؛ لأن عنده اختلالًا أصلًا في قضية القلب وصلاح الباطن؛ لأنه قد عظَّم البشر، ولم يعظِّم رب البشر؛ فينبغي أن نربي الأبناء على تعظيم الله تعالى وشعائره، قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
الأسئلة:
يقول الأخ الكريم: هل من الأفضل أن يحفظ الصغير القرآن، ثم بعد ذلك يتعلم العلم، أم يحفظ ويتعلم في نفس الوقت، مع أن بعض أهل العلم يفضل الطريقة الأولى؟
أقول: هناك مدارس حتى عند العلماء المسلمين السابقين في هذا الأمر، أهل المشرق وأهل المغرب، أنا أربط هذه القضية بالنضج الفكري، وبنضج الإدراك، فهناك نضج يحصل للطفل شيئًا فشيئًا.
فقد وُجد أطفال في أعمار مبكرة جدًّا قبل المدرسة في السنوات الأولى مثلًا يحفظ شيئًا كثيرًا، ممكن يحفظ إلى جزء يس، وعمره أربع سنوات، وأحد الشباب وهو الآن متقن لكتاب الله، ويدرس في الماجستير، أذكره وهو طفل صغير وعمره أربع سنوات، وهو مع والده في مسجد في الدمام، وقلت له وأنا أداعبه وأظن أني أحسن صنعًا: ما شاء الله تحفظ الفاتحة؟ فسكت، فقلت ربما أني أحرجته، وأنه حتى الفاتحة لا يحفظها، فقال لي والده: أبشرك يحفظ جزء يس كاملًا، ويأتي أبوه بمعلم قرآن إلى البيت، وأنجز في ذلك العمر، ولذلك دخل المدرسة وهو متقن لكتاب الله، ما شاء الله تبارك الله، ووالده موجود هنا في الدمام حفظه الله.
ووجهة نظري أن نسري المسارين مع بعض، في عنايتنا بالذات مع الطفولة، والعناية بمقدار الحفظ الجيد؛ لأن الأطفال أصلًا عندهم قدرة حفظية قوية جدًّا ، فلا بد ألا تفوتنا.
لكن أيضًا أن ننتبه للذي نحن نغفل عنه، وربما تغفل عنه المدارس ويغفل عنه في حلقات القرآن والتحفيظ، وهو ما يتعلق بتدريس الآداب والسلوكيات المربوطة بكتاب الله .
وفي بعض الحلقات قامت بربط بعض حلقات التحفيظ بالآداب والسلوك، وفي برنامج صيفي في جامعة أمينة حسون،: يعطيهم المعلم الأدب، ويربطهم به، ولا يكثر عليهم في الجانب التوجيهي، ربما تكون القدرة الحفظية أوفر وأحسن لكن أيضًا لا ننسى المشكلة، نحن لما نعتني بقضية الحفظ بالذات والتلاوة وننسى القضية الثانية مع جلالة قدر الجانب الأول وأهميته، وأنه عبادة كما قلنا، وكذلك أيضًا استثمار محضن الطفولة بشكل كبير، لا شك في ذلك، لكن تظهر القضية في المسار الثاني أكبر إذا تقدمنا في العمر؛ لأنه يصبح النضج هنا أكثر ووجود الإدراك أكبر.
دعنا نكون مثل الصحابة رضي الله عنهم الذين جلسوا في سورة البقرة ثمان سنوات، لنجلس نحن ما عندنا إشكالية، أنا وجهة نظري إما أنه يحفظ بسن مبكرة، أو يتنازع هذا مع هذا أنه تتضاعف فترة الحفظ وسنين الحفظ مع أهمية أنه يطبق ويتعلم الآداب، وعنده قدرة على التعلم والإدراك في هذا.
فأنا أقول: المنهج الذي أقتنع به النبوي هو التربوي، هو هذا المنهج الثاني، وإذا كنت أقول لبعض الإخوان مسؤولي الحلقات: لا تنسوا هذا الدور التربوي المطلوب، لا يفهم من كلامي وقف حلقات حفظ القرآن، حاشا أن أقول الكلام هذا، ولا أقول: أوقف يا أيها الأب حرصك على ابنك، لكن أقول: التفت للمسار الثاني الذي نحن قد نغفل عنه، ضع له على الأقل 20% أو 25% أو 30%، وارتق بها، هذه مهمة، يتربى عندئذ كما أنه عنده قدرة حتى الجانب الاستيعاب لا تتصور.
وأنصح أن تقرؤوا في خصائص المراحل العمرية، فبعضنا يفهم أن من ما زال طفلًا لا يُوجّه، نقول: عنده نمو، وقد يكون النمو سريعًا، وتجدون حتى في الجوانب العضوية ينمو بسرعة في المراحل الأولى، كذلك يحصل عنده نمو في فروقات بين النمو الجسمي، والنمو العقلي، والنمو الواجدني، والنمو الاجتماعي.
وأنصح بقراءة فصل النمو من كتاب الأستاذ الدكتور الفاضل عبد العزيز النغيمشي "علم النفس الدعوي" تكلم عن مرحلة الرضاعة، والحضانة، ومرحلة التمييز، مهم جدًّا، وتكلم عن أنواع النمو التي ذكرناها، والإشارات المتعلقة بها.
وأنا أجزم بأن من سيقرأ هذا الفصل؛ كونه كلامه مربوطًا بكتاب الله ، وسنة رسوله ﷺ، هذا الذي جعلني أقوله، وإلا كتب علم النفس كثيرة، ذكرت في هذا الموضوع، لكنه ببساطة عباراته، وربطه بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، أنا أؤكد على الاطلاع عليه كتاب "علم النفس الدعوي" في فصل النمو ستجدون أنه في قضايا متعلقة في موضوع الاستيعاب والفهم والحفظ، وما يرتبط بذلك في مثل هذه المراحل، وهذه تساعدنا على قضية أن نتنبّه لهذا الموضوع؛ حتى نستطيع أن نعمل هذا الاتجاه التربوي الذي ذكرناه فيما يتعلق بربط العقيدة والسلوك.
↑1 | صحيح البخاري (1/24). |
---|---|
↑2 | أخرجه الترمذي، رقم: (2910)، وصححه الألباني في السلسلة، رقم: (3327). |
↑3 | أخرجه أبو داود، رقم: (1464)، والترمذي، رقم: (2914)، والنسائي، رقم: (8002)، وأحمد، رقم: (6799)، وصححه الألباني في السلسلة، رقم: (2240). |
↑4 | الحديث المذكور: لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نسبه الغزالي في (إحياء علوم الدين) لأنس بن مالك فقال: "قال أنس بن مالك: رب تال للقرآن والقرآن يلعنه". إحياء علوم الدين (1/274). |
↑5 | أخرجه الترمذي، رقم: (2417)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 162). |
↑6 | اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 36). |
↑7 | الإتقان (2/389)، التفسير الكبير (2/132). |
↑8 | هو عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. انظر: موطأ مالك (2/287)، رقم: (695). |
↑9 | أخرجه أحمد، رقم: (25302)، وصححه محققو المسند. |
↑10 | أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، رقم: (2036)، والطبراني في الكبير، رقم: (88)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم: (3882). |
↑11 | أخرجه الترمذي، رقم: (2915)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/1333). |
↑12 | أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم: (9524). وهو في مسلم، رقم: (1297)، عن جابر رضي الله عنه بلفظ: «لتأخذوا مناسككم». |
↑13 | أخرجه مسلم، رقم: (1218). |
↑14 | انظر الحديث في صحيح البخاري، رقم: (2731). |
↑15 | أخرجه البخاري، رقم: (7246). |
↑16 | أخرجه مسلم، رقم: (1599). |
↑17 | أخرجه الترمذي، رقم: (2516)، أحمد، رقم: (2803)، واللفظ له، وقال محققو المنسد: حديث صحيح. |
↑18 | أخرجه البخاري، رقم: (5376)، ومسلم، رقم: (2022)، واللفظ للبخاري. |