المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: حياكم الله أيها الإخوة والأخوات مع الدرس الثاني من المجموعة العاشرة من سلسلة "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة"، وبالأخص في هذه الدورة العاشرة مع وقفاتٍ تربويةٍ ونفسيةٍ مع رسالة العلَّامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله، والتي هي بعنوان: "الوسائل المُفيدة للحياة السعيدة".
وفي الأسبوع الماضي كنا قد تحدثنا عن مُبررات اختيار هذه الرسالة، وذكرنا مجموعةً من المُبررات -ثماني مُبرراتٍ تقريبًا-، ثم شرعنا بعد ذلك في مقدمة الرسالة التي قدَّم بها الشيخُ رحمه الله، وتحدثنا تقريبًا عن تسع فوائد أو وقفاتٍ تربويةٍ ونفسيةٍ من تلكم المقدمة.
وقد نبَّهني أحد الإخوة بعد اللقاء الماضي -جزاه الله خيرًا- إلى أنَّ الشيخ رحمه الله تحدث عن قضية راحة النفس، وزوال الهموم والغموم في المقدمة، فقال: "ولذلك أسبابٌ دينيةٌ، وأسبابٌ طبيعيةٌ، وأسبابٌ عمليةٌ"[1]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص12)..
أهمية تشخيص المشكلة
أريد هنا أن أُشير إشارةً سريعةً -نسيتُ أن أذكرها في اللقاء الماضي- إلى أنه قد يدخل ضمن هذا ما يتعلق بقضية السحر والعين والمَس، وما شابه ذلك، فالمرض قد يكون عضويًّا فيحتاج إلى كشفٍ، ونحن عندنا في التخصص قبل أن نُشخص القضية من الناحية النفسية نحتاج أن نتأكد من الناحية العضوية؛ لأن المشكلة النفسية قد تكون مُرتبطةً بقضية الغُدَد مثلًا: كأن تكون عنده مشكلةٌ في الغُدَّة الدَّرقية، والغُدَّة الدَّرقية تُسبب تغير المِزاج، أو يكون عنده مرض السكري، وهذا يُؤثر في الجانب الانفعالي، وما شابه ذلك.
فالمقصود أن الجانب العضوي مُؤثِّرٌ، وكذلك الجانب النفسي عمومًا، من: قلقٍ، واكتئابٍ، وتوترٍ، وهو الجانب الذي جاءت رسالةُ الشيخ لتُعالجه، وكذلك أيضًا المس والسحر والعين، وكل هذا حقٌّ.
وكذلك الجانب الطبيعي، وهو: عندما يُتوفَّى للإنسان قريبٌ أو عزيزٌ؛ فيحصل عنده ضيقٌ وتألمٌ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: إن العين تدمع، والقلب يحزن[2]أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).، فيحصل هذا الأمر بشكلٍ طبيعيٍّ.
لكن التَّشخيص هو القضية المهمة، فلا بد أن أعرف: هل القضية التي عندي عضويَّةٌ ولها أثرٌ نفسيٌّ، أم أنها نفسيةٌ بحتةٌ، أم أنها مَسٌّ وسحرٌ؟
ومن الخطأ أن نُشخص القضية مُباشرةً على أنها اكتئابٌ وقلقٌ وفِصامٌ، ومن الخطأ كذلك أن نقول: سحرٌ وعينٌ ومَسٌّ، وهكذا؛ فلا يجوز أن ننفي هذه الأسباب بإطلاقٍ، ولا يجوز أن نُثبتها بإطلاقٍ، إلا عند تشخيص هذه القضية تشخيصًا سليمًا من مُتخصصٍ، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يحصل عند مَن يُمارسون محاولة حل مُشكلات الآخرين.
وفي لقاءٍ قديمٍ أقامته مؤسسة الحرمين الخيرية -وكانت مؤسسةً موجودةً قديمًا في الغرفة التجارية- بين أطباء نفسيين ورُقَاةٍ، وقد حضرتُ هذا اللقاء، وعاب الأطباء على الرُّقاة عدم وجود التَّشخيص السليم عندهم، وقد وافق الرُّقاةُ الأطباءَ على ذلك؛ لأن إجراءات التشخيص عند الأطباء النفسيين موجودةٌ ضمن منهجيةٍ معينةٍ، والرُّقاة لا يوجد عند بعضهم ذلك، وكان كبار الرُّقاة حاضرين، وأقرُّوا بأنهم فعلًا تنقصهم أدوات التَّشخيص الذي يُحدد الأسباب بالضبط.
طيب، إذا عرفنا الأسباب ماذا سنفعل؟
نبدأ بالعلاج، أما أن نقفز للعلاج ولم نُدرك الأسباب، أو نضع احتمالاتٍ ونخبط خَبْطَ عَشْواء؛ فهنا المشكلة، فعدم إدراك أسباب المشكلة خطأٌ.
أعظم سببٍ للسعادة: الإيمان والعمل الصالح
يقول الشيخ رحمه الله: "وأعظم الأسباب لذلك" أي: للراحة والطُّمأنينة والحياة السعيدة "وأصلها وأُسُّها هو: الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
فأخبر تعالى ووعد مَن جمع بين الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالجزاء الحسن في هذه الدار، وفي دار القرار.
وسبب ذلك واضحٌ: فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح المُثمر للعمل الصالح المُصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة معهم أصولٌ وأُسسٌ يتلقون فيها جميع ما يرد عليهم من أسباب السرور والابتهاج، وأسباب القلق والهمِّ والأحزان"[3]"الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13)..
هذه القضية هي لُبُّ "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"، ألا وهي الإيمان والعمل الصالح، وأظن أن الآية واضحة الدَّلالة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ولو رجعنا إلى التفسير سنجد أن المُفسرين قالوا في قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً أي: في الدنيا، وهذه سعادة الدنيا، وفي قوله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وهذه سعادة الآخرة، فهي سعادةٌ في الدنيا والآخرة.
وهناك آيةٌ تُبيِّن عكس هذا، وهي قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه:124]، فلو قارنا بينهما لوجدنا أن الإيمان والعمل الصالح من أعظم أوصاف الحياة السعيدة والطيبة، وأن من أشد أسباب التَّعاسة: الإعراض عن ذكر الله وشرعه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].
وقوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا أي: تعاسةً وشقاءً في الدنيا، أما قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى أي: شقاء في الآخرة.
فأي الطريقين نُريد: سعادة الدنيا والآخرة، أم شقاء الدنيا والآخرة؟
وأي عقلٍ يُدرك الإجابة بلا شكٍّ، لكن الكلام هنا عن الطريق المُوصل للسعادة في الدنيا والآخرة، ألا وهو الإيمان والعمل الصالح، وفي مُقابل ذلك الطريق المُوصل للشقاء في الدنيا والآخرة، ألا وهو ضعف الإيمان والعمل الصالح، فأين نحن من الإيمان والعمل الصالح؟
أهمية التربية الإيمانية
القضية المهمة والكبيرة جدًّا أيها الإخوة هي التربية الإيمانية، والتربية على العمل الصالح، فأين أُسرنا اليوم من هذه القضية؟ وأين محاضن التعليم؟ وأين مُجتمعاتنا من قضية التربية على الإيمان والعمل الصالح؟ وما هو ثِقَل هذه التربية في مقابل الاهتمام بالتربية الجسمية والترفيهية والاجتماعية والجلسات؟ فأين هذه من هذه؟!
ومضامين المواد التي تُعرض لأبنائنا عبر أجهزة الإعلام في قنواتهم وجوَّالاتهم أين هي من قضية الإيمان والعمل الصالح قوةً أو ضعفًا؟
فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ولا بد أن يكون مشروعنا التربوي الكبير مرتبطًا بالإيمان والعمل الصالح؛ حتى نستطيع أن نُربي الأجيال بالطريقة الصحيحة، أما إذا غاب عنا ذلك، وقنعنا من الإيمان والعمل الصالح بأدنى مستوى، وفي أمور الدنيا لا نقنع بأدنى مستوى، فتجد الإنسان ربما أبناؤه يعيشون مثله: همُّهم الدنيا، وليس الإيمان والعمل الصالح، ثم يأتي بعد ذلك يَعُضُّ أصابع النَّدم، ويقول أحدهم: أبناؤنا وأجيالنا في ضياعٍ! واكتشفتُ أن ابنتي تفعل كذا وكذا، ووجدتُ ابني يفعل كذا وكذا، ... إلى آخره، وهذه الأمور تتكرر بصورةٍ لا تنقطع عندنا في الاستشارات، فما السبب في ذلك؟
السبب هو: إهمال المشروع التربوي الذي تتلقاه الأجيال، وهل هو مشروعٌ قائمٌ على غرس وتقوية الإيمان والعمل الصالح، أم أنه عكس ذلك؟!
فعندنا أناسٌ همُّهم غرس الإيمان والعمل الصالح في أجيالهم: من أبناء وبناتٍ، وزوجاتٍ، وأهلٍ، وأقارب، وطلابٍ، ومُحبين، وأصدقاء، حتى الكافر تجده يحرص على أن يزرع فيه الإيمان والعمل الصالح، فيُدخله في الإسلام؛ فيكون سببًا في إسلامه.
وهناك مَن هو في غفلةٍ عن ذلك، وينشغل بأشياء دنيويةٍ، وهناك مَن يُمارس عكس ذلك؛ فيغرس نقيض التربية على الإيمان والعمل الصالح، فلا يريد لأبنائه أن يكونوا على خيرٍ، ولا يريد للمجتمع أن يكون على خيرٍ؛ ومن هنا نحتاج أن نُؤكد على أهمية التربية الإيمانية.
المعنى الحقيقي للإيمان
لا بد أن نُدرك مفهوم الإيمان حسب مُراد الله ومُراد رسوله ، أما إذا فهمنا الإيمان على أنه عبارةٌ عن مشاعر وعواطف قلبيةٍ، وصلواتٍ وأحاسيس فقط، فهذا ليس الإيمان الحقيقي.
فالإيمان عند السلف الصالح الذين أخذوا من كتاب الله وسنة النبي هو: "قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالجِنَان، وعملٌ بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان"[4]"اعتقاد أهل السنة" لعبدالله بن جبرين (الدرس9، ص5)..
ونجد بعض الناس يقول: الإيمان في قلبي، وأنا نيَّتي طيبةٌ. وعمله سيِّئٌ للغاية: ينظر للحرام، ويفعل الحرام، ويتكلم بالحرام، ويسمع الحرام، ويُشارك في الحرام! ويقول: أنا نيَّتي طيبةٌ والحمد لله!
والنبي يقول: ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح الجسدُ كله، هذا الأثر العملي، وهو من الإيمان: وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[5]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).، فأين هذه المُضْغَة؟ وأين الذين يُحيون هذه المُضَغ والقلوب ويُؤثرون فيها؟ وأين تربيتنا؟ هل تُؤثر فتُحيي قلوب الأبناء وتُعرِّفهم قدر الله، أم تكون من الطرف الآخر الذين قال الله فيهم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]؟ يُعظِّمون شعائر الله: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، عندئذٍ يستسلم العبدُ لأمر الله، ولو خالف أباه، ولو أراده أبوه في شيءٍ فيه مُخالفةٌ لأمر الله تجده يتعامل معه بالحُسنى، لكنه لا يُطيعه في معصية الله .
فيتعامل الإنسان من خلال التربية الإيمانية بطريقةٍ سليمةٍ؛ ولذلك فإن الإيمان يزيد بالطاعة، فأين مشروع الطاعات لأجيالنا؟
كل واحدٍ منا يتأمل ولده، وابنته، وزوجته، وقريبه، وطالبه، وصديقه، ... إلى آخره، أين الطاعات التي تزيد من الإيمان يوميًّا؟ فالإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
وهل فتَّشنا عن المعاصي التي تنقص إيماننا وأعمالنا الصالحة؟
ولا تأخذنا العزَّة بالإثم، وإيانا أن نكون ممن آذى بلسانه عددًا من المسلمين، ومع هذا يقول: الحمد لله، أنا أحسن من غيري بإذن الله! الله راضٍ عني! وهكذا يأخذ القضية بهذا الاتِّجاه؛ فهذا ليس من تحقيق الإيمان الحقيقي، والرسول كان كثيرًا ما يدعو: يا مُقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك[6]أخرجه الترمذي، ت: شاكر (2140)، وابن ماجه (3834)، والنسائي في "السنن الكبرى" (7690)، وصححه الألباني..
والذي يشعر أن أموره طيبةٌ لا يتقدم، بل يَمْتَنُّ على الله، كما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات:17].
وينبغي للإنسان أن يكون كما وصف الله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، قالت عائشة رضي الله عنها: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال : لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويُصلون ويتصدَّقون، وهم يخافون أن لا تُقبل منهم: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61][7]أخرجه الترمذي، ت: شاكر (3175)، وصححه الألباني..
فأين هذه المعاني في نفوسنا، وفي نفوس أجيالنا الذين نُربيهم؟
فهذا الذي يجعل العمل يزداد.
أما الذي يقول: الحمد لله، صحيحٌ أنني أتأخر عن الصلاة، لكن غيري لا يُصلي أبدًا! صحيحٌ أنني أنظر إلى صور المُذيعات، لكن غيري يرى مواقع إباحيةً! ويُقارن نفسه بالأسوأ، ولا يتكلم عن الواجب عليه؛ لأنه وضع له صَكَّ غُفرانٍ مثل: صكّ النصارى، أو صك ضمانٍ!
فهنا يصف الله سبحانه الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ فهؤلاء هم الذين عندهم حساسية الإيمان، وحساسية الإيمان في القلب مهمةٌ، تجعل الإنسان يعمل، ولا يركن إلى وضعه ويقول: الحمد لله، أنا أموري تمام!
طيب، اركن في الدنيا إلى وضعك وارضَ به، ومن الطبيعي أنه سيأخذ من الدنيا حقَّه، فأين أمر الله الذي هو أعظم من أمر الدنيا؟! وأين أمر القيم والأخلاق؟!
فهذه القضية عندما أطرحها بهذه الطريقة أتعمَّد طرحها بهذه الإثارات؛ لأنني أرى جيلنا يحتاج إلى هذه الإثارات، وأنتم خذوها واستفيدوا منها مع أبنائكم.
وتأتيني شكاوى كثيرةٌ يوميًّا في الاستشارات مُرتبطةٌ بهذه القضايا، وأمورٌ في الضعف الأُسري والخلافات والمشاكل، وأرى الكثير منها مرتبطةٌ بالمنهج التربوي داخل الأسرة الذي هو بعيدٌ عن التربية الإيمانية والعمل الصالح، فانتبهوا لمثل هذه القضايا، واجعلوها أولى اهتماماتكم؛ حتى تسلموا ونسلم يوم القيامة، ومع ذلك نخاف أنَّ الله لا يتقبل منا.
ثم أيضًا هذا الواجب علينا تجاه أبنائنا والمُتربين أيًّا كانوا: في الأسرة، أو في غيرها.
أثر العمل الصالح
يريد الإنسان أن يُسعد ابنه فيُعطيه أموالًا، ويُعطيه كلَّ ما يطلبه، وكل التقنيات الحديثة، كما حدَّثني مرةً أحد وكلاء المدارس في الدمام هنا يقول: طالبٌ من الطلاب وضعه الدِّراسي انتكس بصورةٍ مُخيفةٍ وسيئةٍ جدًّا.
يقول: أتينا بالأب، وبدأ الأب يزبد ويرعد، ويقول: أنتم الذين كنتم سببًا في إضعاف ابني. قلنا له: طيب، تفضل استرح، يُعطيك العافية، أنت كيف وضعك مع ابنك؟ قال: كل شيءٍ يُريده ابني أُعطيه إياه. قالوا: مثل ماذا؟ قال: أعطيتُه آخر (موضة) في الجوَّالات، وسيارة، و(ستالايت) خاصًّا في غرفته! ويشعر هذا الأب -الذي عقله (out of control) أي: خارج التغطية- أنه قد أحسن صُنْعًا، وأنه قد أسعد ابنه، وهو السبب في انحرافه وانحداره في مستوى الدراسة بسبب هذه الأشياء التي وفَّرها له، وبسبب التربية المادية!
فالتربية المادية سبقنا الغربيون إليها، فهل هناك أكثر من الغربيين إدارةً وقوةً في التربية المادية؟ فهم أهل التربية المادية، وانظر إلى حالتهم، كما كان يقول أحد الأوروبيين: إن أوروبا لما تركت إلهها القديم -يقصد: المُعتقد النَّصراني مع انحرافه- واتَّجهت إلى إلهها الجديد -يقصد: الإلحاد والعلمانية- بدأ الأوروبيون يعيشون في قلقٍ دائمٍ.
فإنهم لما تركوا عقيدتهم المُنحرفة، وانخرطوا في العلمانية المادية البحتة -خاصةً بعد الثورة الفرنسية الصناعية التي يُؤَرَّخ بها للعصر الحديث- وصارت القضية فيها إلحادٌ بحتٌ، وعلمانيةٌ بحتةٌ تمامًا، وأُبعد الدين تمامًا -مع أن الكنيسة فعلت أفاعيلها السيئة ضد العلماء-؛ وصلوا إلى مُعدلاتٍ مُخيفةٍ من الانتحار، وأكثر المصحَّات النفسية عندهم، والتفكك الأُسري مرتفعٌ جدًّا عندهم.
واقرؤوا كتاب (باترسون) وصاحبه، وهو أمريكي، فقد أجرى دراسةً على 2000 مواطن أمريكي حول ما يتعلق بالجانب الاجتماعي الأُسري، وعنون كتابه بـ: "يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة"، والكتاب موجودٌ بترجمة الأستاذ الدكتور محمود سعود البشر في المكتبات، وهو كتابٌ رائعٌ ونفيسٌ، وطُبِّق على 2000 من الشعب الأمريكي.
العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح
هناك رابطٌ قويٌّ بين الإيمان والعمل الصالح، وهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ولاحظوا سورة العصر التي قال الشافعي رحمه الله عنها: "لو ما أنزل اللهُ حُجَّةً على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"[8]"تفسير الإمام الشافعي" (3/ 1461)..
وتصوروا أن المصحف ما فيه إلا سورة العصر، وهي سطران فقط، يقول: "لكفتهم"؛ لأنها كافيةٌ لإسعاد البشر، وبيان حقيقة المنهج في إسعاد البشرية، في مقابل تعاسة البشرية وشقائها.
وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1، 2] أي: إن أغلب الناس في خسارةٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].
يقول الشيخ السعدي -صاحب هذه الرسالة- في "تفسيره": "فبالأمرين الأولين -أي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ- يُكمل الإنسانُ نفسه، وبالأمرين الأخيرين -أي: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ- يُكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم"[9]"تفسير السعدي: تيسير الكريم الرحمن" (ص934)..
فهذه التربية الفردية في علاقة الإنسان بالله من خلال الإيمان والعمل الصالح، والتربية الجماعية في علاقته بالآخرين والمجتمع، فهو يتواصى معهم بالحقِّ والصبر.
وأيضًا العلاقة بين العلم والعمل، والنَّظرية والتَّطبيق، والعقيدة والأخلاق، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، فلا تُعْطِ معلومةً ليس لها دورٌ وأثرٌ في العمل والمشاعر، ولا تظن أن تدريس العقيدة للأبناء، أو القرآن وحفظه مجردٌ من الأثر على النفس والسلوك، فإذا لم يكن لكتاب الله أثرٌ على نفوسنا وقلوبنا وسلوكنا لم تنتفع أجيالنا به، ألم يقل أنسٌ : "رُبَّ تَالٍ للقرآن والقرآن يلعنه"[10]"موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين" (ص76).؟ وقال الله مُبينًا الحكمة من كتاب الله: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].
إذن هذا الكتاب الذي أقرأه إذا كنتُ أَهُذُّه هَذَّ الشعر وأَنْثُرُه نَثْرَ الدَّقَل -التمر الرديء- باللسان، وأُخالفه، فما الفائدة؟!
أنا لا أقول لك: لا تقرأ، وإنما أقول: عدِّل طريقة تعامُلك مع كلام الله، ورَبِّ الأبناء على ذلك، فلا يفهمون أن ديننا كَهَنُوتٌ، ومجرد معلوماتٍ ورُؤًى فقط، لا، ديننا عقائد ومبادئ وأحاسيس ومشاعر وقِيَمٌ، ديننا تطبيقٌ عمليٌّ، فمثلًا: يقرأ قول الله تعالى في كتابه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] وهو لا يغُضُّ بصره عن الحرام! وهو يُجيب عنها في الدرس والمُسابقة التليفزيونية، ولا يغُض بصره! فما الفائدة؟!
ويقرأ: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278] وهو يُرابي بأدنى ما يكون! ويريد المال والزيادة! ولا يجد مانعًا في أن يدخل في هذه المُساهمة وتلك دون أن يسأل! أهم شيءٍ لديه المال، وهو داخلٌ في المُحرَّمات! وتسأله عن الربا فيقول: حرامٌ، ولا يستطيع أن يقول: ليس بحرامٍ، وتسأله عن النظر للمرأة الأجنبية فيقول: حرامٌ، ولا يستطيع أن يقول: ليس بحرامٍ، وعندما يُسأل عن الاختلاط يقول: حرامٌ؛ لأن التحريم بنص الآيات والأحاديث، لكن هناك شهوةٌ.
إذن القضية واضحةٌ جدًّا عنده من النصوص الشرعية عبر القرون كلها، وعبر المذاهب الأربعة كلها، ومع ذلك تجد لديه هوًى: إما بسبب المال، أو بسبب الشهوة المُتعلقة بالاختلاط بين الجنسين، وما شابه ذلك.
تعارض القيم والأفكار مع الواقع والتطبيق
وهكذا إذا تعارضت القيم والعقائد والأفكار مع الواقع والتطبيق فعلى المجتمع السلام، ولن يجني هذا الفرد الانتظام والاستقرار النفسي؛ ولذلك فإن الاستقرار النفسي من أهم القضايا التي توافق بين المُدخلات والمُخرجات، التوافق بين (Input) و(Output)، وهذه مهمةٌ.
ونحن -للأسف- عندنا ما يُسمَّى بـ: الانفصام النَّكِد بين النظرية والتَّطبيق، والانفصام النَّكد بين العقيدة والعمل، وبين العلم والعمل؛ فعندنا معلوماتٌ نستطيع أن نُجيب عنها، ونستطيع أن نتكلم ونقرأ القرآن، لكن تجد بعضنا واقعه عكس ما يقرأ، فما فائدة هذا المُدْخَل الجميل الرائع من المعارف في قضايا الإيمان والعمل الصالح إذا لم يكن له رصيدٌ حقيقيٌّ من التطبيق؟!
حال بعض الفلاسفة عند رجوعهم للحق
انظروا ماذا حصل للفلاسفة من المسلمين؟
ذكر ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم "الفتوى الحموية الكبرى" في أثناء كلامه عن بعض الفلاسفة المسلمين أولئك الفلاسفة الذين انحرفت عقائدهم، وهم من أذكياء العالم، وفي آخر حياتهم تابوا إلى الله .
الإمام الشهرستاني
فهذا الإمام الشهرستاني المعروف، صاحب كتاب "نهاية الإقدام في علم الكلام"، وهو رجلٌ من مشاهير العلماء، لكنه دخل في دهاليز الفلسفة التي -كما يُقال- لا يفهمها البليد، ولا ينتفع منها الذَّكي، وأخذها على أنها مجرد معلوماتٍ عقليةٍ، دون أثرٍ على الجانب النفسي والوجداني والقلبي والقِيَمي والعملي السُّلوكي، فكان يقول:
لَعَمْرِي لقد طُفْتُ المعاهد كلها | وسَيَّرْتُ طَرْفي بين تلك المعالم |
فلم أرَ إلَّا واضعًا كفَّ حائرٍ | على ذقنٍ أو قارعًا سِنَّ نادمِ[11]"الفتوى الحموية الكبرى" (ص191). |
الفخر الرازي
وهذا الفخر الرازي، وهو من العلماء، وقد تاب كما ذكر ابن كثيرٍ في "البداية والنهاية" ورجع عن علم الكلام والفلسفة المُنحرفة، فكان يقول:
نهاية إقدام العقول عِقَالُ | وأكثر سَعْي العالمين ضلالُ |
وأرواحنا في وَحْشَةٍ من جُسومنا | وغاية دُنيانا أذًى ووبَالُ |
ولم نستفدْ من بحثنا طُول عُمُرنا | سوى أنْ جَمَعْنَا فيه قِيلَ وقالوا[12]"الفتوى الحموية الكبرى" (ص192). |
يقول: "لقد تأملتُ الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأُ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وأقرأُ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ومَن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"[13]"الفتوى الحموية الكبرى" (ص193)..
انظروا إلى تلك العبارات، وهي عباراتٌ لها دلالاتٌ حول ما نتكلم عنه من حقيقة الإيمان والعمل الصالح، وأنه عبارةٌ عن اعتقادٍ وقولٍ وعملٍ، وليس عبارةً عن مُعتقداتٍ ومبادئ ذهنيةٍ معرفيةٍ فقط، فهؤلاء عاشوا هذا التصور الخاطئ، ودخلوا في قضايا الانحرافات الفكرية، وهم من كبار العلماء والفلاسفة.
إمام الحرمين
وهذا أبو المعالي الجويني إمام الحرمين، وهو من الأئمة المعروفين، وقد سَبَرَ أغوار الفلسفة، ولم تكن المنهجية عنده على مُراد الله في الإيمان والعمل الصالح، فكان يقول: "لقد خُضْتُ البحر الخِضَم، وتركتُ أهل الإسلام وعلومهم، وخُضْتُ في الذي نَهَوني عنه"، فهم نَهَوني عنه، لكنني بقيتُ على ما أنا عليه، "والآن إن لم يتداركني ربي برحمةٍ منه فالويل لفلان" يعني: الذي أثَّر فيه، "وها أنا أموتُ على عقيدة أمي"[14]"الفتوى الحموية الكبرى" (ص194)..
ما عقيدة أمه؟ هل هي عالمةٌ؟
هي "عقيدة العجائز" كما جاء عن أحد العلماء، وهي عقيدة الفطرة، فيقول: عقيدة أمي أحسن من هذه الفلسفات.
ويقول واحدٌ منهم: "أكثر الناس شكًّا عند الموت أصحابُ الكلام"[15]"الفتوى الحموية الكبرى" (ص195)..
نداءٌ لمَن تأثَّروا بالمناهج المُنحرفة
هنا نداءٌ للذين يشطحون في اتِّجاهات الأفكار العلمانية والليبرالية والإلحادية، وأيضًا في الجانب الآخر: الداعشية، والغلو، والتطرف، ... إلى آخره، نقول لهم: اتَّقوا الله في هذه الاتجاهات التي هي بعيدةٌ عن معنى الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الإيمان والعمل الصالح لا يمكن أن يتَّجه إلى الإفراط أو التفريط، إنما هو مصدر السعادة، لا مصدرَ الشقاء والتَّعاسة للإنسان والأمة.
واسألوا أنفسكم: ماذا قدَّم لنا الإلحاد؟ وما الذي قدَّمه التغريب؟ وما الذي قدَّمه أهلُ الغلو والإفراط والتكفير؟ وما الذي قدَّمه أهل الليبرالية؟ هل قدَّموا لنا إسعاد الأنفس؟! لا، بل قدَّموا لنا أسوأ ما يكون.
يقول أحد الذين خالطوا الليبراليين -وهو من المُعاصرين، وما زال حيًّا، نسأل الله أن يُثبته- وقد مرَّ في مرحلةٍ من عمره بشيءٍ من الانتكاسة والتأثر بهذه الليبرالية، فيقول: كنتُ أستغرب من هؤلاء حينما يُؤذِّن المُؤذِّن ويهربون! ولا يُحبون أن يسمعوا الأذان! فكنتُ أقول: نحن على حقٍّ، لكن تطورنا كأناسٍ مسلمين، وعندنا فكرٌ ناضجٌ، ... إلى آخره.
يقول: فأبعد ما يكون هؤلاء عن الصلاة! ولا يُطيقون أن يسمعوا الآيات!
يقول: فبدأتُ أسأل نفسي وأُناقشها، فأدركتُ أن ما أنا عليه مع هؤلاء من عمل الشيطان، وهو نقيض طريق الإيمان والعمل الصالح.
فالإيمان والعمل الصالح يربط المُعتقد والأفكار؛ ولهذا ابحثوا عن مُعتقدات أبنائكم وأفكارهم في ظلِّ التقنية المفتوحة اليوم التي فيها ما هَبَّ ودَبَّ، وفيها الإفراط والتفريط، وفيها الخير كذلك، لكن أين نحن من ربطهم بهذا الخير ومعين التربية الإيمانية والعمل الصالح؟!
كذلك تنبغي العناية بالسلوك الذي هو جانبٌ من العمل الصالح: كالمُحافظة على الصلاة، والأخلاق الحسنة، وبرِّ الوالدين، وصِلة الأرحام، والقيام على خدمة المجتمع، ودعوة غير المسلمين للإسلام، والإحسان للآخرين، كما سيأتي معنا، بإذن الله .
التربية على الإيمان والعمل الصالح هي التربية العالمية اليوم
قضية القضايا اليوم هي ما يتعلق بالإيمان والعمل الصالح، بل إن قضية التربية عالميًّا اليوم هي التربية المُتعلقة بالتربية على الإيمان والعمل الصالح.
وأنا أقول لكم ذلك بحكم تخصصي واطِّلاعي على النَّظريات المتعلقة بمجال التخصص، فيا ليتنا نعود إلى معيننا حتى نأخذ التربية الحقيقية التي نسعد بها حقًّا:
ولستُ أرى السَّعادةَ جَمْعَ مالٍ | ولكنَّ التَّقِيَّ هو السعيدُ[16]"ديوان الحُطيئة" (ص6). |
فليست السعادة في المُنشآت، فهناك أناسٌ بلغوا في الحضارة المادية مبلغًا كبيرًا، ونحن ما زلنا مُتأخرين، بل مُقلدين للأسف!
ولا أقول: نترك الحضارة المادية ولا نهتمُّ بها. وإنما أقول: هؤلاء أصحاب الحضارة المادية، ماذا عن روحهم وعقائدهم؟ وماذا عن داخل نفوسهم؟
واسألوا عن نسبة الانتحار في السويد، مع أنها من أكبر نِسَب العالم في الدخل اليومي المادي! واسألوا عن نسبة الانتحار في اليابان، وستعرفون هذه الحقائق، واسألوا عن الإنسان: كيف يعيش هناك؟
وقد قلتُ لكم: ارجعوا إلى كتاب (باترسون) وصاحبه: "يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة"، وانظروا للقضايا القِيَمية التي يُناقشها (باترسون)، وهو أمريكيٌّ، وكافرٌ، ويتكلم بكل موضوعيةٍ حول هذه القضية المتعلقة بالقيم، وانظروا إلى الخَوَاء الروحي الذي يعيشونه!
ومع الضربات المشؤومة في 11 سبتمبر، وما تلاها من مصائب وبلاوي من تصرفات بعض المسلمين، مثل: داعش وغيرها، ومع العداء الشديد للإسلام والمسلمين من أعداء المسلمين؛ تجد أن نسبة الدخول في الإسلام في أوروبا تزداد، فهذا دين الله ، وهو شيءٌ يُزرع في القلب.
صحيحٌ أننا مُقَصِّرون في وسائل التأثير فيهم؛ ولذلك كان إبراهيم يقول: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة:5] يعني: لا نكون نحن -المسلمين- سببًا في إضلال الكفار، فيرون أخلاقنا سيئةً؛ فلا يدخلون في الإسلام؛ ولذلك كان إبراهيم يخاف من ذلك، ونحن اليوم نخاف أكثر، ومع ذلك يدخلون في دين الله أفواجًا.
والمُطَّلعون يعطون تواريخ قريبةً جدًّا بأن الإسلام سيكون الديانة الأولى، وجزءٌ من تفسير هذه القضية يتمثل في الخَوَاء الروحي الذي يعيشونه، فحين يسمعون عن قضيةٍ معينةٍ هنا أو هناك: تفجير، أو قتل، أو ذبح بسكاكين من هؤلاء الشراذم: داعش وأمثالهم؛ يبدؤون في الاطلاع على الإسلام، ويرجعون إلى القرآن، ويبدأ هذا القلب الذي هو خاوٍ، وليس فيه ما يُنعشه وما يُسعده؛ يشعر بأنه يفقد هذه المعاني، خاصةً إذا وُفِّقَ إلى إبعاد هذه المُمارسات العملية السيئة من بعض المسلمين، أو المحسوبين على الإسلام؛ فيدخلون في دين الله أفواجًا.
وعلى كل حالٍ نحن الآن في الوسيلة الأولى، ولم نُكملها، لكننا سنقرأ معظمها -إن شاء الله- في اللقاء القادم، ثم ندخل في الثانية والثالثة، بإذن الله.
فإن كان هناك سؤالٌ من أحدٍ فليتفضل.
المنهج الصحيح
س: ما المنهج الصحيح؟
ج: المنهج الصحيح هو اتِّباع كتاب الله وسنة رسول الله ، أما هؤلاء الذين اجتمعوا مُؤخرًا في الشيشان، وتكلَّموا عن أنهم هم أهل السنة والجماعة! وهم يُمثلون غُلاة الصوفية! فقد ردَّ عليهم علماؤنا وهيئة كبار العلماء عندنا هنا، وردَّ عليهم أيضًا عددٌ من علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والحمد لله، فهم يظنون أن هذا إيمانٌ، وأن هذا الذي يُفترض أن يكون، وأن هذا ضد الوهَّابية وضد الإرهاب كما يزعمون! ويركبون هذه المَوجة، وما شابه ذلك!
ولا شكَّ أن هؤلاء يظنون أنهم يُحسنون صُنْعًا بعماماتهم ولِحاهم للأسف الشديد! وهذا موجودٌ من أيام النبي ؛ فالخوارج الذين يُكفِّرون الناس بالمعصية كانوا موجودين في العهد الأول، وقد قال النبي عنهم: يخرج فيكم قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم[17]أخرجه البخاري (5058)، ومسلم (1064). ... إلى آخره، يعني: هم أهل عبادةٍ وطاعةٍ، لكنهم مُنحرفون في حقيقة الإيمان.
لذلك ينبغي أن نتعلم الإيمان الفطري، الإيمان الذي كان عليه سلف الأمة، وهو الإيمان الذي ربَّى رسول الله عليه الصحابة، وهو الإيمان الذي في كتاب الله وسنة رسول الله ، وما أسهله! وما أحلاه من إيمانٍ! لكن تشوَّهت هذه القضايا بسبب تصرفاتٍ أو ادعاءاتٍ من أناسٍ مُعادين للإسلام، حتى صار بعض المسلمين -للأسف الشديد- يُشارك في هذه الادِّعاءات.
وجزاك الله خيرًا على سؤالك الطَّيب.
س: ما مبادئ التعامل مع النفس البشرية؟
ج: نعم، أحسنت، لا شك أن هذه القضية مهمةٌ جدًّا، فمن مبادئ التعامل مع النفس البشرية: أن النفس البشرية وحدةٌ مُتكاملةٌ من العقل والروح والجسد، فهذا لا شكَّ أنه يجمعها كلها؛ لأن الإيمان مُرتبطٌ بعقائد وأفكار، وكذلك مُرتبطٌ بقيمٍ وسلوكٍ وأعمالٍ، وهذا الجانب مهمٌّ، وهو التعريف الذي ذكرناه للإيمان، وهو تعريف أهل السنة: "الإيمان: قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالجنان، وعملٌ بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان"[18]"العقيدة الواسطية" بتعليق ابن مانع (ص14)..
أسأل الله لكم التوفيق والسَّداد.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص12). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315). |
↑3 | "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" (ص13). |
↑4 | "اعتقاد أهل السنة" لعبدالله بن جبرين (الدرس9، ص5). |
↑5 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |
↑6 | أخرجه الترمذي، ت: شاكر (2140)، وابن ماجه (3834)، والنسائي في "السنن الكبرى" (7690)، وصححه الألباني. |
↑7 | أخرجه الترمذي، ت: شاكر (3175)، وصححه الألباني. |
↑8 | "تفسير الإمام الشافعي" (3/ 1461). |
↑9 | "تفسير السعدي: تيسير الكريم الرحمن" (ص934). |
↑10 | "موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين" (ص76). |
↑11 | "الفتوى الحموية الكبرى" (ص191). |
↑12 | "الفتوى الحموية الكبرى" (ص192). |
↑13 | "الفتوى الحموية الكبرى" (ص193). |
↑14 | "الفتوى الحموية الكبرى" (ص194). |
↑15 | "الفتوى الحموية الكبرى" (ص195). |
↑16 | "ديوان الحُطيئة" (ص6). |
↑17 | أخرجه البخاري (5058)، ومسلم (1064). |
↑18 | "العقيدة الواسطية" بتعليق ابن مانع (ص14). |