المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يجعلنا وإياكم من السعداء في الدنيا والآخرة.
نحن في الدرس العاشر من المجموعة العاشرة في السنة الخامسة بحمد الله من سلسلة "التطبيقات النفسية والتربوية من الكتاب والسنة" على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ومازلنا مع رسالة العلَّامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"، ولم يتبقَّ معنا في هذه الرسالة المباركة سوى ثماني وسائل، والمتوقع -بإذن الله - أن يكون إنجازها في اللقاء القادم، والذي بعده -بإذن الله - لمراجعة الوسائل في الرسالة كاملةً، وسماع الأسئلة، والإجابة عنها، وأيضًا يمكن أن يدور حوار ونقاش حول الوسائل الواحدة والعشرين كاملة، والأسبوع الذي بعده للاختبار بإذن الله ، ونلتقي بعده من أجل توزيع الجوائز، خاصةً أن عددًا من الإخوة والأخوات أكرمونا وأكرموا أنفسهم بالحرص على الحضور باستمرار.
وهنا أؤكد على قضيتين:
القضية الأولى: أن موضوع التحضير لا زال عبر (الواتساب)، والأخ الذي يريد أن يدخل في المسابقة يُرسل رسالةً عبر (الواتساب) كما سبق أن أعلنَّا، وموجود في الكتاب الذي وزع، حتى يأخذ نصيبه في التقييم، وهكذا الأخوات، والذي فاته شيء يُرسل تاريخ ما فاته، ونحن نتعامل مع الإخوة المُرسلين والأخوات المُرسلات بالثقة.
وهكذا إذا كان هناك متابعون عبر البث الصوتي المباشر، فكذلك يدخل معهم نفس الاتجاه على (الواتساب: 0502232288).
القضية الثانية: توجد ورقة تُوزع عليكم -جزاكم الله خيرًا-، وستكون عندنا فسحة من الوقت -بإذن الله- في هذا اللقاء واللقاءات القادمة للإجابة عن الأسئلة، فأي سؤالٍ مُرتبط بمجال التخصص -في المجال التربوي والنفسي والأسري- يمكن أن يسأل عنه، أو حتى فيما ناقشناه في الكتاب.
وكذلك إذا كان عندكم اقتراح يتعلق بالدورة القادمة، فهناك مَن يستحسن أن تستمر الدورة بهذه الطبيعة، بحيث نأخذ رسالة مناسبة وندرسها، أو شيئًا مُعينًا مُحددًا، ويؤخذ خلال فصل دراسي، أو قريبًا من ذلك، حسبما يتم اختياره.
وهناك فكرة: أن نشرع في شيء من مؤلفات الشيخ ابن سعدي رحمه الله في التفسير، أو في الحديث؛ لنصل إلى نتيجة واضحة، أو نأخذ سورةً من القرآن، أو سورتين، تُدرس من الناحية النفسية والتربوية من خلال تفسير ابن سعدي رحمه الله أيضًا.
فنحتاج رأيكم في خلال هذين الأسبوعين حتى نستطيع أن نعدّ للفصل القادم -بإذن الله - وإعلاناته وما يتعلق به.
فأي واحدٍ عنده سؤال أو اقتراح عمومًا يمكن أن يُرسل ورقة سؤاله أو اقتراحه فيما يتعلق بالدورة القادمة بتوفيق الله وعونه.
والآن الصفحة (25)، وكنا في الأسبوع الماضي استوعبنا كامل الحلقة في وسيلةٍ واحدةٍ، فنظرًا لأهميتها أخذنا كامل اللقاء حول هذه الوسيلة الرائعة المهمة التي سطرها النبيُّ عليه الصلاة والسلام بقوله: لا يَفْرَك مؤمنٌ مُؤمنةً، إن كره منها خُلُقًا رضي منها آخر[1]أخرجه مسلم (1469).، وأن هذا:
أولًا: معلم من معالم العلاقات الإنسانية بين الزوجين، وبين الآباء والأبناء، وبين عموم البشر بعضهم مع بعضٍ: أن الإنسان يتوقع الخطأ من الطرف الآخر.
ثانيًا: أنه يعقد مُقارنةً بين الأخطاء التي ترِد من الطرف الآخر مع محاسنه، فيُقارن بين المحاسن التي لديه والأخطاء التي ترِ د منه.
ثالثًا: أن هذا مصدر للسعادة، وعكسه مصدر للتعاسة.
فكل هذه الأمور الثلاثة تؤكد الحاجة الكبيرة للوقوف عند هذا التوجيه النبوي، وتطبيقه في الحياة، وهو من الأمور المساعدة على الحياة السعيدة في هذه الدنيا، أسعدنا الله وإياكم في الدنيا والآخرة.
وفي الفصل المُعنون بــ"عدم الاسترسال وراء الهموم" قال الشيخ رحمه الله:
لا تسترسل في الهموم
"فصل:
14- العاقل يعلم أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة، وأنها قصيرة جدًّا، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهمِّ والاسترسال مع الأكدار، فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة، فيشحّ بحياته أن يذهب كثيرٌ منها نهبًا للهموم والأكدار، ولا فرقَ في هذا بين البَرِّ والفاجر، ولكن المؤمن له من التحقق بهذا الوصف الحظّ الأوفر، والنصيب النافع: العاجل والآجل".
هذه قضية مهمة جدًّا في التعامل فيما يتعلق بطرد الهموم والغموم، وتحقيق الحياة السعيدة: أن يحرص الإنسان في حياته التي يعيشها على ألا يُنكِّدها ويُنغِّصها بمزيدٍ من الهموم والغموم، قال الله : إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، يعني: أنت كادح، ونحن نكدح في هذه الحياة، فلا حاجةَ أن نزيد هذه الحياة كدًّا وكدحًا وهمًّا على ما نحن عليه، فهي لا تتسع لكل هذه الهموم والغموم؛ فلذلك نحاول أن نبسطها، وأن نسعد بها من خلال طرد هذه الهموم والغموم، وإلا سنقصر حياتنا الدنيوية بهذه الهموم؛ لأن الإنسان لا يسعد بحالٍ من الأحوال في همومه وغمومه؛ ولذلك كلما طالت فترة الغموم والهموم في هذه الدنيا وقتًا وزمنًا كلما كان هذا على حساب فترة السعادة.
والناس متفاوتون: فأكثرهم سعادةً هو مَن يشعر باللَّذة والمتعة من حيث الوقت، وهناك أناس يشعرون في كثيرٍ من أوقاتهم بأقلّ من ذلك، وهكذا؛ لأن القضية إمَّا أن تكون سعادة، أو يكون عكسها من الهموم والغموم، فلماذا أزيد كدر هذه الحياة وغموم هذه الحياة بهمومٍ وغمومٍ؟!
وهذا خطاب من الإنسان لنفسه، يقنع نفسه بأن لا داعي لذلك، فأنت لو وقفتَ وقفة تأمُّلٍ مع هذه النفس: لماذا أزيد وآتي وأُسْرِف في الوقوف عند التفكير والاسترسال في هذه الهموم؟!
المشكلة عندنا في موضوع الاسترسال، لكن لو تعوّذنا بالله وانتهينا كما جاء في الحديث: فليستعذ بالله ولينتهِ[2]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، ويقطع طريق التفكير والاسترسال فيه، وماذا يفعل أيضًا؟
ينشغل بحياته، فإذا فعل ذلك استطاع أن يسعد، وإلا ما أسهل أن تأتيك كوابيس الهموم والغموم، أو الأحزان، أو ما تستقبله وأنت على فراشك، وأنت في صلاتك، وأنت في جلوسك مع أهلك، وأنت في مُنتهى المُتعة واللَّذة الدنيوية، لكنها ستُكدّرها تلك التعاسة والشقاء المتعلق بالهموم والغموم.
إذن هنا محادثة للنفس، هنا إقناع للذات بأننا لسنا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الهموم والغموم، فالدنيا مليئة بذلك، فلنُنقِصها بقطع الاسترسال في الهموم والغموم، وهذا القطع بحاجةٍ إلى قوة إرادة.
والمشكلة عند هؤلاء هي الاسترسال، يعني: تأتيه القضية، ويسبح فيها، ويغوص بها، هي بدأت -كما قال ابنُ القيم رحمه الله- بخاطرة، لكن استرسل معها فأصبحت فكرة، قال رحمه الله: "دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرةً، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوةً، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمةً وهمَّةً، فإن لم تُدافعها صارت فعلًا، فإن لم تتداركه بضدِّه صار عادةً؛ فيصعب عليك الانتقال عنها"[3]"الفوائد" لابن القيم (ص31)..
فلو أنه طرد الخواطر هل حصلت الأفكار؟
ولو طرد الأفكار لمَّا أصبحت أفكارًا هل حصلت الإرادات؟
ولو طرد الإرادات هل حصلت الأعمال؟
ولو طرد الأعمال هل حصلت العادات؟
أبدًا؛ لذلك كلما استطعنا أن نقطع من البداية فهذا أفضل.
وهذا التمايز بين البشر، بين بعضنا البعض، فيوجد أناس عندهم -ما شاء الله، تبارك الله- قُدرة على قطع مجرد الخاطرة السيئة التي تأتيه من الأوهام قبل أن تُصبح فكرةً، وهذا دليلٌ على قوة الإرادة: فليستعذ بالله ولينته، عنده قدرة لعلاقته بالله، وإدراكه لحقيقة الأمور، وتعامله مع نفسه بطريقةٍ إيجابيةٍ من خلال هذه الوسائل.
وهناك ناس لا يفيق الواحد منهم إلا عندما تكون الفكرة قد تمكّنت منه، فيحتاج إلى مُجاهدةٍ أكبر وأكثر عندما تكون إرادة، فالبعض ما ينتبه إلا بعد ذلك، وأكثر من ذلك عندما تكون عملًا، وهكذا أشدّ وأشدّ عندما تكون عادةً، والعادة يُصبح تغييرها صعبًا، وليس مستحيلًا.
لذلك فمن الأهمية بمكان عدم الاسترسال، والإنسان لو جرَّب نفسَه بالمُجاهدة: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فجاهد نفسه باستخدام الإقناع الذاتي، مثلما يقول: هل أنت بحاجة إلى مزيدٍ من العناء في الدنيا والأوهام؟! لماذا تزيد على نفسك همومًا؟! ماذا ينفعك الآن التفكير في القضية؟!
أنا أحترم مَن يُفكّر من أجل حلّ مُشكلةٍ ما، لكن عندما أفكر في الأحزان التي انتهت، أو أُفكر في أوهام ليست حقيقيةً وأقلق، ما الفائدة من ذلك؟! فالماضي انتهى، والمستقبل ليس بيدي، ولا بيدك.
وقلنا: من أهم الوسائل أن نعمل في الحاضر، وأن نُركّز في الحاضر، فهذا الذي يحتاج إلى مُجاهدةٍ: فليستعذ بالله ولينته، فيقول: أعوذ بالله، وينتهي مما هو عليه من الاسترسال.
والناس متفاوتون: منهم مَن يُدرك عند الخواطر؛ لأن كل واحدٍ مُعرَّضٌ للخواطر، فلا يوجد أحدٌ من البشر ليس مُعرَّضًا للخواطر السلبية أبدًا، وهناك أناس قد يتجاوز الأمر معهم إلى الأفكار، فتُصبح القضية أشدّ، وهكذا الإرادات، والأعمال، والعادات؛ فلذلك الذي يستطيع أن يتعامل مع نفسه بإيجابية أكثر؛ يسعد أكثر، ويستغرق وقته في الدنيا بسعادةٍ أكبر، ويستطيع أن يطرد الخاطرة قبل أن تُصبح فكرةً؛ لأن الاسترسال هو المشكلة، هو جالس يُفكر! قل: أعوذ بالله، وانتهِ، وغيّر مكانَك، وأنت أدرى بنفسك: ما الذي يشغلها؟ ما الأمر الذي يمكن أن يشغل ذاتك ونفسك عن أن تسترسل مع الفكرة السيئة، أو الخاطرة السيئة؟
فهنا تحتاج إلى مجاهدةٍ قدر المستطاع، ويضع هذه ركيزة في ذهنه، مثل: التكليف، وهذا موجود في آليات ما يُسمّى: بالضبط الذاتي (Self Control)، وقد تكلمنا عنها في دروسٍ سابقةٍ: ما يتعلق بوضع تكليف للإنسان، يُكلّف نفسه بأعمالٍ يمارسها، ويختبر نفسه فيها، ويُعطي نفسه رسائل إيجابية، ويُقيِّم ذاته؛ لأن هناك أشياء معينة مثل هذه الأمور لا يمكن أن تنتظر غيرك، فغيرك لا يمكن أن يكون معك 24 ساعة، كلما رآك مهمومًا قال: تعالَ لأشغلك. لا يمكن، أنت على السرير وحدك، وأنت في السيارة ربما وحدك؛ فلذلك الشخص غالبًا يكون استرساله عندما يكون وحده؛ ولذلك إشغال النفس مهمٌّ، والجماعية مهمة، وهو أدرى بنفسه.
وهناك أناس -ما شاء الله تبارك وتعالى- إذا أصبحوا بأنفسهم خلوا بالله واستفادوا، وخلوا بكتبهم واستفادوا، وخلوا بشؤونهم واستفادوا، لكن مشكلتنا نحن مع الذي عنده ضعف في ضبط الاسترسال.
ولذلك في تكوين العادات التي ذكرناها من كلام ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله كان يتكلم على تكرار الأعمال وأثرها في العادات، أيًّا كانت: سلبية أو إيجابية، وهذا سبق أن تكلّمنا عنه عندما تكلّمنا عن العادات في لقاءات سابقة في نفس هذا الدرس في مجموعات سابقة.
فحين يقول الله : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فهذه هي العادة، وهي عادة الصلاة، وتكرار الصلاة يساعد على طرد ما يضادها، وهو الفحشاء والمنكر، لكن بشرط أن تكون مكررةً، نفس الكلام بالشيء السلبي، إذا كان الاسترسال مع الأوهام مكررًا ماذا سيطرد؟! أي تفكيرٍ: إيجابي أو سلبي؟
إذا كانت الأوهام متكررة سيُطرد التفكير الإيجابي، وستُطرد السعادة في هذه الحياة، وهكذا يكون الإنسان محتاجًا إلى أن يُقنع نفسه أنه لا بد له من تكرار الشيء الإيجابي حتى بالتفكير قدر المستطاع، يعني: في بعض الأحيان يستخدم الإنسان أسلوب الإحلال، أو تغيير المسار، وقد حصل ذلك لي مرةً مع نفسي، وجربته في ذاتي؛ فوجدتُ نفعًا بفضل الله ، فقد جاءتني أفكار وجعلت أسترسل معها بشكل كبير جدًّا، وكان في ذلك ضغط عليَّ، فتعبت في وقتها، وأذكر أنني كنتُ في السيارة، وكنت عند إشارة مرور، فقلت: أنفع شيء أن أُخرج ورقةً وقلمًا وأُسجل كل ما في ذهني. ففعلتُ ذلك ونزَّلتُ ما في ذهني في الورقة، وكأني أنزلت جبلًا من رأسي على هذه الورقة، وما فعلت هذا الفعل إلا لأجل طرد الاسترسال، هذا كان قصدي، فهدفي أن أُخفف من الضغط الموجود، فما أن أنزلته إلا وكأنني ليس لي بهذا الموضوع علاقة.
وأذكر أنني جلستُ ساعتين بعدها دون أن أفكر في هذا الموضوع، ما واجهني هذا الموضوع إلا بعد ساعتين، وعندما رجع عاد ضعيفًا، مع أنه كان في وقتها قويًّا؛ ولذلك فمهارات إيقاف الاسترسال في التفكير والاسترسال في الهموم مهمة جدًّا، ونحن نتكلم عن الأشياء السلبية: الهموم والغموم والتفكير السلبي، وما شابه ذلك، فينبغي التعود على هذه المهارات.
وكل إنسان أدرى بنفسه، ففي بعض المرات يقول لنفسه: أذهب لأمارس الرياضة. هو يحب الرياضة، فيذهب ليُمارس الرياضة حتى يشغل نفسه، والثاني يفتح كتابًا، والثالث يقوم ويتوضأ ويُصلي. لكن لاحظ أن كل هذه الأشياء المُشترك بينها هو إشغال النفس، وجاءت أيضًا لإيقاف هذا الاسترسال السلبي؛ ولذلك لا بد من عملٍ، أما مَن يستسلم لهذه الأوهام فهذه هي المشكلة الحقيقية.
لماذا تُعكّر حياتك بكثرة هذه الأوهام؟! عليك بقطعها ما أمكنك إلى ذلك سبيلًا.
الفكرة باختصار شديد جدًّا: أن المشكلة في قضية عدم وجود السعادة، أو ضعف السعادة، ووجود عكس ذلك؛ وهو الاسترسال في الأوهام عمومًا، وتدخل الأوهام طريق الهموم: الأشياء السابقة، والأشياء القادمة، لما تحدثنا عنه فيما يرتبط بقضية الحزن، وقضية التوتر والقلق، إلى آخره.
المقصود هو الاسترسال فيما يرتبط بالأمور التي هي من الوهم، لا قيمة لها: لا في الماضي، ولا في المستقبل، هذا وصف المشكلة.
فماذا أعمل؟
أقطعه، لماذا؟
عندي إقناع عقلي، ما الإقناع العقلي؟
زيادة توسيع دائرة الهموم في الدنيا، وهل أنا بحاجةٍ أصلًا إلى توسيع الهموم في الدنيا؟!
وقت الدنيا قصير، وسأزيده قصرًا!
فأنا أحتاج أن أستمتع في هذه الدنيا حتى أستفيد لنفسي ولغيري، فهذا يزيدني همًّا على همٍّ، وغمًّا على غمٍّ، وسأقصر من استمتاعي في الدنيا بالحلال من خلال هذه الأوهام، فهذا جانب الإقناع فيما يتعلق بجانب الوقوف مع النفس، ومخاطبة النفس وإقناعها بذلك.
هناك ناس ينجحون، لا تظنوا أن هذه القضية مرتبطة مثلًا بشيء خيالي، لا، لا، فقضية محاسبة النفس أليست من أبجديات الشريعة؟ بلى، فكذلك حين يقف الإنسان مع نفسه، ويبدأ في الأخذ والعطاء معها، فيُحدِّث نفسه، ويبدأ ما يُسمّى بحديث الذات (Self Talk)، ويُخاطب نفسه، يُحدِّث نفسه.
فالأمر الأول: القناعة؛ لأنه لا يمكن أن ننتقل للوسيلة إلا بالقناعة، فإذا لم تقتنع أن هذه مشكلة بالنسبة لك، وأنها تُسبب لك قصر هذه الدنيا أكثر مما هي عليه، وتُسبب همومًا فإنك لن تتجه للقضية الثانية، ولا بد من الإقناع، ودائمًا يقولون في المشكلات: لا بد من البداية بالإقناع، لا بد أن يكون هناك إقناع.
وهذه قضية خطيرة جدًّا فيما يتعلق بحلِّ مشكلات الأبناء والأزواج، إلى آخره، فالطرف الآخر قد يكون غير مُقتنع، فدورك أنت أن تمارس الإقناع، فلا يمكن أن يتخذ ما تُريده من وسائل من أجل حلِّ المشكلة التي تراها أنت مشكلة إلا إذا كان مُقتنعًا بأنها مشكلة.
فإذن هذه قضية الإقناع، ثم نتجه إلى الوسيلة، وهي: قطع هذا الاسترسال من بدايته، وكل عبدٍ حسب قدرته فيه، فهناك مَن يقطعه عند الخواطر، وهناك مَن يقطعه عند الأفكار، إلى آخره، وهذه تحتاج إلى مهارات: إما: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وإما مهارة فعلية، أو كلاهما، فيذهب ليُمارس قضيةً أخرى يشغل نفسه فيها، وما شابه ذلك، لكنها مجاهدة أيًّا كانت.
وكلمة: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ما أسهلها! لكن هناك ناس لا يستطيعونها في مثل هذا الموقف: فليستعذ بالله ولينتهِ، ولا يستطيعونها عند الغضب -كمثال-، مع أنها سهلة، فهو نفسه يقولها عندما يكون هادئًا، لكن لا يقولها عندما يكون في حالة غضبٍ -كمثال-، أو في حالة استرسال؛ ولذلك لا بد من التعود عليها.
ولذلك في الضبط الذاتي يمارس الإنسان القضية، فيُقيّم نفسه: هل استطاع أن يُنجز المهمة بطريقةٍ جيدةٍ؟ فإن لم يستطع يعود مرةً أخرى؛ لأن هذه المجاهدة هي التي تجعلك تصل للنتيجة الإيجابية، لكن لو أنك استسلمت ستجد نفسك مستمرًّا في الأوهام والاسترسال فيها.
وكل شخصٍ حسب ما يراه أفضل له ويستطيعه، والذي جعلني أفكر في الكتابة أنه كانت عندي أوراق لاصقة أستخدمها لأكتب بعض التكاليف فيها، وأضعها أمامي في السيارة، فكان هذا أقرب شيءٍ إليَّ فأخذته.
وبعضهم يأخذ (كلينكس) ويُسجّل، والبعض -ما في شكّ- يبدأ يُجاهد نفسه بالذكر، وبعضهم يرفع السماعة مثلًا ويتصل، ويُلزم نفسه باتصال يكون ثقيلًا، فيتصل بأمه: السلام عليكم، كيف الحال؟ مسَّاكِ الله بالخير. وهو يريد قطع الاسترسال فيتصل بأمه بطريقةٍ سليمةٍ.
وطبيعة النفس البشرية أن هذا الاسترسال يخفّ شيئًا فشيئًا بإشغال النفس بأي طريقةٍ ممكنةٍ: فيمكن أن يمارس الرياضة، ويمكن أن يوقف السيارة ليُغير مكانه ويمشي على قدميه مثلًا.
المهم أن يفعل أي وسيلةٍ يستطيع بها أن يُغير الحالة التي هو عليها.
فمثلًا إذا جاءت هذه الأوهام واسترسلتَ معها وأنت على الفراش ماذا تفعل؟
لا تقعد في الفراش، قم واتركه، الفراش للنوم، وليس للتفكير، اذهب إلى مكتبك وفكّر هناك كما يقولون، أو اذهب إلى المطبخ وكُلْ، فهذه وظائف الأماكن.
ومشكلتنا أن البعض عنده السرير للتفكير، وللقراءة، وللأكل، وللنوم، وهذا خطأ في الجوانب الصحية العضوية، وخطأ في الجوانب الصحية النفسية.
ففيما يتعلق بالعادات -ومنها: طرد العادات السيئة- هناك آليات، أولها: القناعة، وهي باختصار أن يقتنع الإنسان أنها سيئة، وأنها تولد مشكلات بالنسبة له، وتوجد له التعاسة، فلا بد من القناعة.
الثانية: لا بد من العزيمة والإرادة في ترك شيءٍ ما.
الثالثة: وجود البديل الآخر المقابل، والعمل عليه، وهو العادة الإيجابية، والتدرج في ذلك، وهذا يظهر عند المدخنين مثلًا: فلا يستطيع أغلب الناس ترك التدخين مرةً واحدةً؛ ولذلك أفتى بعض أهل العلم -مثل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله- بقضية الترك بالتدرج[4]انظر: "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (15/ 405)، و(16/ 55).، يعني: ترك المنكر -مثل: التدخين- بالتدرج، وهو ينوي الترك؛ لأن هذا هو الأقرب بالنسبة لتعامل الإنسان مع الجانب الفسيولوجي، حتى يتركه بشكل سليم.
النقطة الرابعة: الاندماج الجماعي: أن يندمج مع مجموعةٍ تُساعده على العادة الإيجابية، ويترك المجموعة -التي هي البيئة- التي تُعينه على العادة السيئة.
هذا باختصارٍ، وهو مذكورٌ بالتفصيل في تلك الحلقات، والله أعلم.
المقارنة بين المخاوف والأوهام والنِّعَم الظاهرة والباطنة
ثم يقول الشيخ رحمه الله تعالى:
"15- وينبغي أيضًا إذا أصابه مكروه أو خاف منه أن يقارن بين بقية النِّعَم الحاصلة له: دينية أو دنيوية، وبين ما أصابه من مكروه، فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النِّعَم، واضمحلال ما أصابه من المكاره".
هذه أشار الشيخ إليها في أول الرسالة، لكن هنا تأكيد على قضية عقد المقارنة، خاصةً فيما يتعلق بخلق الله للإنسان، فمثلًا: أنت عندك عين، أعطاك الله إياها، وغيرك مكفوف البصر، ما النِّعَم العظيمة التي جاءت بسبب وجود هذه الجارحة؟
فالمقصود هنا عقد المقارنة بين ما تشعر به من جوانب سلبية مُنغِّصة لحياتك، ووضعها في كِفَّةٍ، وجوانب النِّعَم الأخرى في كِفَّةٍ، وفي الغالب ستجد نِعم الله أثقل، لكن تحتاج إلى عقلٍ، وتحتاج إلى حزمٍ ومُجاهدةٍ، حتى يفكر الإنسان، فهناك ناس لا يفكرون، تذهب عقولهم، وهذه مشكلة، وهي عدم وجود قدرة على الضبط الذاتي، مثل: قضية الانفعالات، كما سبق أن أخذنا سلسلةً في الانفعالات، مثل: قضية الغضب، واليوم كنت أتكلم مع الطلاب في مقرر "مبادئ علم النفس" عن علم الغضب -كمثال- والانفعالات.
فالعلماء فرقوا في قضية الغضب في الطلاق -كمثال- بين ثلاثة أنواع، ويمكن للشيخ أن يُصحح لنا هذه القضية -كمثال-؛ لأني اطلعتُ عليها منذ فترةٍ.
فهناك ثلاثة أوجه في الغضب:
واحدٌ يُدرك ما يقوله وهو غضبان، يُدرك ما يقوله تمامًا، لكن عنده غضب، وحسبما قرأت عند بعض أهل العلم: أن الراجح في هذه الحالة أن الطلاق يقع.
وفي المقابل هناك مَن لا يُدرك ما يقول، ويصبح خارج التغطية، فلا عقلَ له، فهذا لا يقع منه الطلاق.
واختلفوا في الذي عنده غضب شديد، لكن لا يصل لمستوى ذهاب العقل، ولا يكون من الغضب الطبيعي، أقصد: الغضب المعقول، أو شيء من هذا القبيل، لكنه شديدٌ، فاختلفوا: بعضهم يقول: يقع. وبعضهم يقول: لا يقع.
نفس الكلام عندنا: فهناك ناس عندهم قدرة -مثل النقطة التي ذكرناها قبل قليل في الاسترسال- على أن يقول الواحد منهم: "أعوذ بالله"، ويجاهد نفسه بالوسائل التي أشرنا إليها قبل قليل، وهناك أُناس لا، في هذه اللحظة التي استرسل فيها مع الأوهام يستسلم لها.
لذلك أقول هذا الكلام نُصحًا لنفسي أولًا ثم لأحبتي، وهذا الكلام مهم جدًّا، فلا بد من تربية الأنفس على تفعيل الطاقة الذاتية، وتفعيل القوة الذاتية، وتفعيل الضبط الذاتي (Self Control)، هذه مهمة جدًّا، وأدبيات الشريعة نصت على ذلك، لم نأتِ بشيء خارج نطاق الشريعة، الحمد لله، الله ربط التغير المجتمعي بالتغير الذاتي: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، فتغيير النفس جاء من تلقاء الإنسان، فأنت مثل الطالب في اختباره: أنجز مهمتك، وأثبت جدارتك، فالذي يذاكر ويجتهد -والذي كان أصلًا يذاكر بشكل مستمر- سيُبدع في اختباره وفي مادته، والآخر سيكون أقلّ، وأقلّ، وهكذا، بل إن بعضهم حتى لو رسب -جاءت أسئلة ولم يُجِبْ عنها- ما عنده إشكالية، مُتبلد الحس، وستجد ناسًا مُتبلدي الحس، يعني: هو نفسه قد يرى الرسوب ما فيه مشكلة، دعني أنام على الأوهام، هو مريض، فمستوى المرض ومستوى الضعف يجعله يكاد لا يحس بمشكلته التي هو فيها.
ولذلك ينبغي ألَّا نُقيّم بناءً على رأي الإنسان وما يتعلق به، فبعض الناس لا يُدركون أنهم على خطأ، وأنهم في مشكلة، لا بد أن نُعرِّفهم بالمشكلة وحصولها، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال: "وبضدِّها تتميز الأشياء"، هؤلاء فقدوا معاني السعادة، ولذة السعادة، فيحتاجون إلى مَن يُعيدهم إلى مثل هذا الطريق، حتى يُعينهم الله على تغيير حالهم.
إذن هذه القضية الأولى: المقارنة بين المخاوف والأوهام والكدر، والنِّعَم: ظاهرةً وباطنةً.
أثر الاحتمالات السلبية
وكذلك يقول الشيخ: "بين ما يخافه من حدوث ضرر عليه، وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها، فلا يدع الاحتمال الضعيف يغلب الكثيرة القوية، وبذلك يزول همه وخوفه".
المشكلة عندنا أن بعض الأنفس الضعيفة التي تعيش قابلةً للتعاسة يفكر الواحد منهم في الغالب في المستقبل في الاحتمالات الضعيفة والسيئة، لا يفكر في الاحتمالات الكبيرة، فهو يفكر في كونه قد لا يُقبل في هذه المقابلة، وأنهم يردونه في الخطبة -خطبة امرأة-، وأنه كذا. وكلها احتمالات سلبية، فلماذا تفكر في هذا الاحتمال السلبي؟!
فكِّر في الاحتمال الإيجابي، اجعله موجودًا، يعني: هذا خطاب من النفس للنفس، إقناع، يُقنع الإنسان نفسه؛ ولذلك ينبغي أن يخرج مما يُسمّونه بالإيحاءات النفسية السلبية؛ لكونه يعيش إيحاءات نفسية سلبية تعوَّد عليها: إما بمُؤثرات خارجية كبيئة حياته، أو بضعفٍ عنده في النفس، أو كلاهما، فهو لديه رسائل سلبية: لا، أنا ما أظن أنني أفلح.
وكم من شبابٍ نعرفهم تركوا فُرصًا ثمينةً لهم في هذه الحياة بسبب هذه الإيحاءات النفسية السلبية، ولديهم قدرات ما وُفِّقوا لاستخدامها من أجل هذه العقبة التي بينهم وبين إنجاز هذه المهام من خلال الإيحاءات النفسية السلبية.
إذن المطلوب هو الإيحاءات الإيجابية فقط، اجعل عندك إيحاءات إيجابية، أعطِ نفسك احتمالات إيجابية، خاصةً عندما نتكلم عن المستقبل، تفاءل، أليس الرسول كان يُعجبه الفأل في أموره كلها[5]أخرجه البخاري (5756)، ومسلم (2224). عليه الصلاة والسلام؟ ومن الفأل: أن أجعل هناك تفاؤلًا بأن الأمر سيتحقق.
يا أخي، يأتيك واحدٌ يقول لك: يا شيخ، أين يتحقق هذا؟! لا يمكن أبدًا أن يحصل هذا الكلام!
تفاءل يا أخي، وبإذن الله يتحقق، دعني أتفاءل.
وقلنا أيضًا: من الوسائل التي لا بد منها: أن أفرض أسوأ الاحتمالات، فأنا سأعيش بين التفاؤل وأسوأ الاحتمالات، ما عندي إشكالية، لكن حينما آتي بواحدةٍ وأترك الأخرى هنا ستُصبح القضية فيها مشكلة؛ فلذلك أنا سأقارن بين المخاوف وضررها، وبين الاحتمالات الكبيرة الإيجابية المتوقعة، الحمد لله، بإذن الله الأمور إلى الخير.
فقد يفكر في احتمال ليس موجودًا، لكن هناك احتمالات أخرى، وتعويد النفس على هذا الجانب وهذا الفعل ليس من المغالطة، والكلام على الوضع الطبيعي، اترك الاحتمالات الضعيفة جدًّا، وطبيعي أنني إذا كان عندي احتمال ضعيف فلن أُقدم عليه، لكن لا بد أن يكون مدروسًا، لا يكون عبارةً عن أوهامٍ، فكلامنا كله هنا في دائرة الأوهام.
ولذلك يجب على الإنسان أن يستشير أهل الخبرة، وقبل ذلك يعود إلى الله كما جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما ندم مَن استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره"[6]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص112).، فمَن فعل ذلك فلن يندم؛ لأنَّه أخذ خبرةً من البشر، وأسند أمره لله، ثم تثبَّت في أمره وعزم، وانتهت القضية.
والإشارة الأخيرة في هذه المقولة: "وثبت في أمره"، هذا قطعٌ لدابر التردد الذي يُوجده الاضطراب، واضحة الفكرة؟ "ما ندم مَن استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره".
هناك مَن يستخير ويُشاور ثم يقع في الاضطراب، ينتظر شيئًا يأتيه، يا أخي، تثبَّت في أمرك، الذي تُقدم عليه هو خِيرة رب العالمين.
وهذه لاحظتها في عددٍ من الأشخاص: عندما يستخير ويشاور يضطرب، كأنه ينتظر وحيًا ينزل عليه، أو آراء، .. إلخ، أنت أخذت الآراء، والآراء قطعًا لن تكون موحدةً، ستكون مُختلفة، فهل تريد أن تجعل أمرك للآراء المضطربة أم لله ؟
فالله ما سيُقدّره لك سيأتيك، انتهى، هذا معنى الاستخارة؛ ولذلك لا بد من التثبت في الأمر، لا يقعد الواحد فيقول: ما استفدنا من الاستخارة، ولا استفدنا من الاستشارة!
فهذه التَّعاملات مع النفس تحتاج إلى قدوات وقوة إرادة بلا شكٍّ، وهذا هو التوجيه الرباني والتوجيه الشرعي في تفعيل قوة الإرادة، لا بد أن نعلم أننا ملزمون به، نحتاج إليه، خاصةً إذا كان في واجبات فعلًا، ومحرمات تركًا، ما فيه كلام، فنحتاج إلى قوة الإرادة، وهكذا في الأمور الأخرى من باب الاستحباب.
استبدل الإيحاء السلبي بإيجابي
يقول الشيخ: "وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها، فلا يدع الاحتمال الضعيف يغلب الاحتمالات الكثيرة القوية، وبذلك يزول همه وخوفه، ويُقدّر أعظم ما يكون من الاحتمالات التي يمكن أن تُصيبه، فيُوطّن نفسه لحدوثها إن حدثت، ويسعى في دفع ما لم يقع منها، وفي رفع ما وقع أو تخفيفه".
وقد سبقت الإشارة إلى هذا الكلام في كلام سابق من كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
هنا نؤكد على عقد المقارنات، وهذا أيضًا تعامل الإنسان مع نفسه، ومحاولة إيقاف الإيحاءات النفسية السالبة، ووضع الجوانب والرسائل الإيجابية محلها، خاصةً التي تتكلم عن احتمالات قائمة في المستقبل نحن لا ندري عنها.
فالقضية -بإذن الله - أن الله سيُقدّر ما هو خير، وليس هناك ما يدل على كثرة الاحتمالات السلبية، ولو كانت كذلك فالمفترض أننا ما ندخل فيها، وكذلك من دلائل ذلك ما جاء في قضية الفأل وما يرتبط بهذا الموضوع.
أذية الناس لا تضرك
ونختم بالنقطة السادسة عشرة: "أذية الناس عليهم ما لم تنشغل بها"، وهذه قضية مهمة جدًّا، وبها نختم هذا اللقاء، بإذن الله .
يقول الشيخ: "16- ومن الأمور النافعة: أن تعرف أن أذية الناس لك -وخصوصًا في الأقوال السيئة- لا تضرك، بل تضرهم، إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها، وسوَّغت لها أن تملك مشاعرك، فعند ذلك تضرك كما ضرتهم، فإن أنت لم تضع لها بالًا لم تضرك شيئًا".
وهذه تحتاج إلى قناعة ومجاهدة، فنحن متفقون على أن الكلام السيئ الذي يرد من الطرف الآخر يضره هو، لكن المشكلة في أثر هذا الكلام عليَّ أنا، أنا الذي قيل فيَّ هذا الكلام، هذه هي القضية هنا، وهنا النِّداء والخطاب لنا نحن الذين نُؤذى بكلامٍ نسمعه من هنا، أو تصرف نتصرفه، فأحد أمرين:
إما أنني سأتعامل مع هذه الأذية من حيث إنني أعيش مشاعرها من الأسى والحسرة، وعندئذٍ تساويت مع الطرف الآخر في الضرر، هو ضرَّ نفسه، ويستحقّ الضرر، حتى لو ما شعر به كما شعرت أنا به، لكن أنا أضررت بنفسي، فلماذا أضرُّ نفسي؟!
مَن الذي سيعيش الضر؟ هو وأنت أيضًا، فتجاوز هذه القضية بقوة إرادتك.
ولذلك لا بد من (التَّطنيش) والإهمال والإغفال، يقولون: "طَنِّشْ تَعِشْ".
وهذا الذي عنده قدرة في هذا الجانب، وعنده قدرة في امتلاك النفس ليس معناه أنه لا يغضب، عنده انفعال، لا بد أن يكون موجودًا، لكنه قادر على ضبطه، وفي نفس الوقت قادر على تجاوزه.
هناك من الناس مَن تجد شنطة المآسي والأحزان معه، ينقلها من المدرسة إلى العمل، إلى الشارع، إلى المسجد، إلى البيت، ومصدرها ربما لا يكون واحدًا من هذه، وإنما مصدرها حين ركب الطائرة، فجاءت المعاناة هناك، ونقلها إلى كل هذه الأشياء، فهذه مشكلة أنت الذي حمَّلتَ نفسك إياها، تقول: كيف أطردها؟
سهلة جدًّا، اذهب إلى صيدلية من الصيدليات واطلب كبسولة طرد ضرر الآخرين، سيُعطيك إياها الصيدلي، وما هي إلا حبَّة في اليوم وتسعد! هل هذا موجود؟
لو كان موجودًا لذهبنا كلنا لأخذها.
فجزء من القضية لا بدَّ أن نفهمه في ابتلائنا وخلقنا في هذه الدنيا: أن الله يريد أن يبتلينا ويختبرنا في قدرتنا على التغيير: حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، هذه القضية الأساسية، وإلا ما أسهل الاستسلام! وما أسهل الترك! وما أسهل أن الواحد يفعل! فيمكن ألَّا تُداوم غدًا، ولا أحد يُداوم، ما رأيكم ألَّا نُداوم ونقعد لا نُصلي الفجر، هل هذا الرأي يصلح؟!
لا يمكن أبدًا بحالٍ من الأحوال أن نقول: إنه يصلح.
ونفس هذا الكلام من حيث المنطقية ينبغي أن يكون عند التعامل مع مثل هذه الأشياء: لا بد من إقناع الذات، لماذا أسحب ضرر الآخرين على نفسي؟!
هو يتحملها يا أخي، فلماذا أعاني؟!
وبعض الناس -خاصةً الذي يكون عنده شعور مثلًا- تجده يُحمّل نفسه فوق الطاقة، فهو حزين وكئيب أكثر من حزن أولئك الذين حصلت لهم المصيبة، والمؤمنون كالجسد الواحد، فالرسول يقول: إن العين تدمع، والقلب يحزن[7]أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315) بلفظ: «تدمع العين، ويحزن القلب».، وانتهينا.
فتجد هذا الرجل مسكينًا؛ لأن عنده ضعفًا في استقبال قوة الوارد، وضعف المستقبل الوارد الذي هو المثير، لا بد أن نتوقع قوة الوارد، نحن في أمنٍ وأمانٍ، لكن هناك ناس مساكين، كانوا في أمنٍ وأمانٍ، وأصبحوا في حروبٍ -قوة واردة-، ما كانوا يتوقعون هذا الأمر.
وهكذا يجب على الإنسان أن يتوقع أي شيء، وفي المقابل ما هي مشكلة قوة الوارد؟ لأن كل واحد مُعرَّضٌ لشيء وارد: خبر مفاجئ، يقوم في يوم فيجد أن أعزَّ عزيز لديه توفي، هذه قوة الوارد، لكن ليست مشكلتنا في قوة الوارد، مشكلتنا في ضعف المستقبل، وقوته الوعاء الذي هو القلب والنفس، هل هو قابل أن يستقبل هذه أم لا؟
لذلك كما قلنا سابقًا في قضية الحزن، عندما تحدثنا عن الانفعالات، وذكرنا مثالًا على ذلك الخنساء: الخنساء في صورتها الأولى قبل الإسلام، والخنساء في صورتها الثانية بعد الإسلام، ماذا فعلت حين مات أخوها صخر؟
ولولت، وفعلت، وقالت، واعترضت على قضاء الله وقدره، وهو أخوها.
وعندما أصبحت مسلمةً مات لها أربعة أبناء مرةً واحدةً، فماذا قالت؟ "الحمد لله"! هي نفسها الخنساء أولًا وثانيًا، هي هي من حيث الجسد والجانب العضوي، لكن تغيرت تركيبتها النفسية وطريقة تفكيرها بلا شك بسبب عامل الدين والإسلام الذي دخلت فيه.