المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا بعونٍ من الله وتوفيقه هو الدرس التاسع من المجموعة العاشرة من سلسلة التَّطبيقات النَّفسية والتربوية من الكتاب والسُّنة، ونحن مع رسالة العلَّامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي "الوسائل المفيدة للحياة السَّعيدة"، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى مثل هذه الوسائل؛ حتى نسعد في حياتنا، وتكون الحياةُ حياةً مُستقرَّةً هنيئةً في الدنيا، ثم تتلوها السَّعادة الأبدية يوم القيامة.
وكثيرٌ منا بين مُقِلٍّ أو مُكْثِرٍ يتعرَّض للعناء والنَّكد والضيق، فتأتي مثل هذه الوسائل الرائعة المهمة لتكشف الغُمَّة عمَّن يحصل لهم مثل هذه القضايا؛ ولذلك نحتاجها لنُعالج أنفسنا، ونُعالج غيرنا.
وأيضًا نحتاجها لنقي أنفسنا وغيرنا؛ لأنَّ الإنسان مُعرَّضٌ إلى آخر لحظةٍ في حياته إلى أن يحصل لديه ما يُنَغِّص عليه هذه الحياة: من حزنٍ، أو قلقٍ، أو توترٍ، أو نكدٍ، أو همٍّ، أو غمٍّ، وما شابه ذلك.
فهذه الوسائل هي محل العناية والاهتمام المُفترض أن يكون لدى كل واحدٍ منا ومن الأسر المسلمة، لعلَّ الله أن يلطف بنا، وأن نعيش سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
وفي اللِّقاء السابق كنا مع النقطة الحادية عشرة والثانية عشرة فيما يتعلق بقوة القلب وانزعاجه، والتَّوكل، وتحدثنا عن الشَّجاعة القلبية، وما يرتبط بها مما يتعلق بضعف الإنسان، فهو يَكِلُ أمره لله .
العناية بأعمال القلوب
وهنا أتذكر ما يرتبط بالقوة القلبية والمعنوية في مقابل القوة الجسدية عندما أتذكر هذا الرجل العظيم الذي حمل وعاء العلم، وكان من رواة حديث النبي ، وكان إذا صعد على شجرةٍ ضحك بعضُ الصحابة من دِقَّة ساقيه رضي الله عنه وأرضاه: عبدالله بن مسعود.
هذا الرجل بهذا الوصف كان موقفه في غزوة بدرٍ عندما وضع رِجْلَه على رأس الكفر أبي جهل، وأبو جهل ينظر إليه ويقول: "لقد ارتقيتَ مُرْتَقًى صعبًا يا رُوَيعِي الغنم!"، فيحزّ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه وأرضاه رأس أبي جهل، ويفصله عن جسده، ويأتي يُدحرجه بين يدي النبي ، فيقول له النبيُّ عليه الصلاة والسلام: آلله الذي لا إله غيره؟!، يعني: هل هذا هو أبو جهل؟ قال: والله الذي لا إله غيره. قال: آلله الذي لا إله غيره؟! قال: والله الذي لا إله غيره[1]انظر: "مغازي الواقدي" (1/ 89-90)، و"سيرة ابن هشام" ت: السقا (1/ 636)، و"الروض الأنف" ت: السلامي (5/ 99)، و"الرحيق المختوم" … Continue reading. يعني: نعم، هو رأس أبي جهل. كررها النبي ثلاثًا، وكان ابن مسعودٍ يرد كذلك.
هذا الوعاء الذي يحمل عمق التوكل على الله ، ويحمل الشَّجاعة القلبية التي تجعله بمثل هذه المثابة التي صدق فيها أبو جهل عندما قال: "لقد ارتقيتَ مُرْتَقًى صعبًا"، أي: بالمنظور الدنيوي، بالمنظور الحسيّ: "لقد ارتقيتَ مُرْتَقًى صعبًا".
قال: "يا رُوَيْعِي الغنم"، فأبو جهل رأس الكفر وسيد قريش، وابن مسعودٍ كان راعي غنمٍ فعلًا.
فليست القضيةُ بالمظاهر والهندام، وليست بالشكل، وإنما بما وقر في القلب، والذي يكون كذلك هي أعمال القلوب التي أشرنا إليها في اللِّقاءات السَّابقة، وأيضًا تأتينا في اللِّقاءات القادمة بإذن الله.
ولذلك فالعناية بقضية أمراض القلوب من الأهمية بمكان، فكلنا في أمسِّ الحاجة إلى مُراجعة أعمال القلوب؛ لأنَّها هي المؤشر الحقيقي على عُمق الصِّلة بين العبد وربِّه، فحينما يكون هذا القلب مُمتلئًا بمحبة الله، مشغولًا برجاء ما عند الله، وللخوف من الله ثقله في هذا القلب، فإنَّ الله يجازيه على ذلك.
وهكذا يكون الإنسانُ مثل الطائر: رأسه المحبة، وجناحاه: الخوف والرجاء.
وهذا التَّشبيه الذي شبَّهه العلماء يتعلق بأصول أعمال القلوب الثلاثة: محبَّة الله، ورجاء ثواب الله، والخوف من عقاب الله . وهذا لا يمكن أن يكون إلا من صاحب القلب الحيّ، المتوكل على الله ، الذي يكون قلبه قويًّا كما قال الشيخ هنا، وعندئذٍ تجده متوكلًا على الله .
ولذلك أقول: إنَّ من مدلولات وجود الضيق والأمراض المتعلقة بالتَّعاسة والشَّقاء -يعني: قوةً وضعفًا- من مدلولات ذلك: ضعف أعمال القلوب؛ لأنَّه كلما كان الإنسانُ أقرب إلى الله عَلِمَ كيف يركن إلى ركنٍ شديدٍ من خلال اعتماده على الله ، ما دام لديه هذا العمل القلبي القوي، وإذا ضعف في هذه القضية سيضعف، وعندئذٍ بدل أن يكون مُستنده الله ، سيكون مُستنده نفسه أو البشر، يقول ابنُ القيم رحمه الله: "مَن وُكِلَ إِلى شيءٍ غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب"[2]"طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص12)..
وحصلت لي قصّةٌ لن أذكرها، لكنني أتحدّث بمشاعرها، فهي تُعطيك دلالةً فعليةً مفادها: أنَّ مَن وُكِلَ إلى عبدٍ من العباد خُذِلَ، لكن عندما يكون الأمرُ لله ، ويكل أمرَه لله ، وتكون الأمور الأخرى تبعًا، وهي من الأسباب المادية؛ سيُوفّقك الله إلى ذلك.
ننتقل الآن إلى الكتاب (صفحة 23 حسب هذا الطبعة) يوجد فصل بعنوان: "توطين النفس على تحمّل عيوب الآخرين".
تحمّل عيوب الآخرين
قال الشيخ رحمه الله تعالى: "13- وفي قول النبي : لا يَفْرَك مؤمنٌ مُؤمنةً، إن كره منها خُلُقًا رضي منها آخر. رواه مسلم[3]أخرجه مسلم (1469). فائدتان عظيمتان".
النبي يقول هنا: لا يَفْرَك، ومعنى "يفرك" أي: يبغض، يعني: لا يبغض مؤمنٌ مُؤمنةً، فهنا -يعني- شخصان: مؤمن ومؤمنة، وليس المقصود أنها مُقتصرة على الذكر والأنثى، بمعنى: أنَّه لا يتصور إعمال هذا الحديث إلا بذكرٍ وأنثى، وإنما أيّ علاقة إنسانية كما ذكر الشيخ ابن سعدي بعد قليلٍ.
وذكر أيضًا في كتابه "الرياض النَّاضرة"[4]انظر: "الرياض الناضرة" (ص73). في شرحه لهذا الحديث: أنَّ أيّ علاقة إنسانية تنطبق عليها هذه القاعدة المهمة للسَّعادة في العلاقات بين الناس، ومنها: العلاقات الأسرية، ومنها: علاقات الأب مع الأبناء، ومنها: العلاقات في البيئة التَّعليمية، والعلاقات في البيئة المُجتمعية.
إن كره منها خُلُقًا رضي منها آخر، يقول الشيخ: "فائدتان عظيمتان".
ما هما؟
"إحداهما: الإرشاد إلى مُعاملة الزوجة، والقريب، والصَّاحب، والمعامل، وكلّ مَن بينك وبينه علقة واتِّصال".
فهنا الشيخ يُدخل كلّ مَن له علاقة بك في موضوع هذا الحديث، وتوجيه هذا الحديث، ما المطلوب؟
يقول: "وأنه ينبغي أن تُوطّن نفسك على أنَّه لا بدَّ أن يكون فيه عيبٌ، أو نقصٌ، أو أمرٌ تكرهه"، هذه أول قضيةٍ مهمةٍ في التعامل مع بني البشر: الزوج مع زوجته، والأب مع ابنه، والمعلم مع الطالب، والمرؤوس مع الرئيس، والرئيس مع المرؤوس، إلى آخره. لا بدَّ أن تتوقع النَّقص، وأنَّك ستجد شيئًا تكرهه منه؛ لأنَّ هذا من طبيعة البشر؛ ولذلك لا بدَّ أن نُوطن أنفسنا؛ لأننا إذا لم نُوطّن أنفسنا قد نتّجه إلى المثالية، ونتجه إلى التركيز على الجانب السَّلبي فقط، دون النَّظر للجانب الإيجابي.
وهذه النقطة التي أتبعها الشيخُ رحمه الله بقوله: "فإذا وجدتَ ذلك فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك -أو ينبغي لك- من قوة الاتصال، والإبقاء على المحبة، بتذكر ما فيه من المحاسن والمقاصد الخاصَّة والعامَّة، وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن تدوم الصُّحبة والاتِّصال، وتتم الراحة وتحصل لك".
إذن في هذه الفائدة الأولى فائدتان، وهما:
الفائدة الأولى: على الإنسان أن يُوطّن نفسه؛ لأنَّ النقص في البشر موجود، فسأجد منه ما أكره من هذا الشعور حين يكون عند الزوج، أو عند الزوجة، أو عند الأبناء، أو عند الصّديق، لا شك أنَّه سيُخفف من هذه القضية؛ لأنَّ هذه طبيعة موجودة.
الفائدة الثانية: انظر لوزن هذا الأمر السَّلبي مع الجوانب الأخرى الإيجابية، يعني: كثيرًا ما سنجد -لو تمعَّنَّا- أنَّ الجانب الإيجابي في طبائع البشر موجود وكثير، وحين ننتبه له يثقل ميزانه وكفّته في مقابل كفّة الجانب السَّلبي الذي أثَّر عليَّ كوني أكرهه، أو أراني شيئًا أكرهه، صحيحٌ أنَّه مُؤلم، لكن كما قال الشيخ: تدوم العلاقات، وتحصل السعادة، ولا يكون الضيق الذي ينكد على الإنسان عيشه.
يعني: تصور هذا الكلام يحصل بين أقرب الناس في هذه الحياة: الزوج وزوجته، بين أقرب الناس مودَّةً، بين الآباء والأبناء، بين الصّديق والصّديق، عندما يحصل ما يتعلق بالوقوف عند الخطأ والزلل، وما وجده منه مما يكرهه، دون توقّع هذه القضية، ودون النَّظر للإيجابيات في مقابل هذه السَّلبية، سيعيش الإنسانُ في نكدٍ وضيقٍ؛ لأنَّه سيخسر أقرب الناس إليه.
وانظر مشاعر الزوج أو الزوجة حينما تحصل الخلافات بينهما، ومشاعر الآباء والأبناء حينما تحصل الخلافات، ومشاعر الأصدقاء حينما تحصل الخلافات، وهكذا الرئيس والمرؤوس.
لذلك الجدير بالسَّعادة، والمُوفّق للسَّعادة، والمُوفّق للتواصل الإيجابي بين البشر؛ هو الذي يُعمل هذه القاعدة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التَّسليم-، وهو توقّع الشيء السيئ.
فوطّن نفسك على حصول هذا الشيء السيئ، وقارن بين هذا الشيء السيئ والأشياء الإيجابية لديه، عندئذٍ تأتيك بعد ذلك الفائدة الثانية كما قال الشيخ: "وهي: زوال الهمِّ والقلق، وبقاء الصَّفاء، والمُداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمُستحبّة، وحصول الراحة بين الطَّرفين".
فانظر إلى الأوصاف الرائعة التي هي ناتجة عن إعمال كلام النبي وتوجيهه في العلاقات، وهو توقع الشيء السيئ من البشر، من الطرف الآخر، وتوطين النفس على ذلك: أن يُقارن بين هذا الأمر السيئ والأمور الأخرى الإيجابية.
انظروا الوصف ماذا سيكون؟
زوال الهمِّ والغمِّ، وهل هناك أحدٌ يريد الهمَّ والغمَّ؟!
هذه وسيلة رائعة وقوية جدًّا لزوال الهمِّ والغمِّ، وكلٌّ منا يُدرك نفسه في حالةٍ من الحالات التي تخاصمنا فيها مع آخرين أيًّا كانوا، وخاصةً الأقربين إلى الإنسان، فيشعر بأنَّ الهمَّ والغمَّ الذي يحصل عنده والقلق يكون أشدّ مع أقرب الناس إليه: سواء كانت زوجةً، أو ابنًا، أو صديقًا، يكون مستوى ذلك عاليًا في مقابل البشر غير المقربين، فالشخص العادي غير المُقرَّب تكون الوطأة منه على الإنسان أقلّ، لكن حين يكون ذلك من المُقرّبين فهو أشدّ.
فهو كلما دخل بيته وبينه وبين زوجته مشاكل، وبينه وبين أبنائه مشاكل، وبينه وبين صديقه مشاكل، فتكون هذه القضية محلًّا للقلق والهمِّ.
لذلك لا بدَّ من الابتعاد عن أسباب ذلك من خلال إعمال ما ذكرناه قبل قليلٍ في الفائدة الأولى التي فيها جزئيتان يحصل بهما زوال الهمِّ، وزوال القلق، وبقاء الصَّفاء؛ لأنَّ الأصل في هذه العلاقات أنها صافية، الأصل أنَّها علاقات إيجابية طيبة، تواصل إيجابي قائم على قضية الحقوق والواجبات كما قال الشيخ: "والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمُستحبَّة"، يعني: الشيء المطلوب الواجب، وكذلك المُستحبّ من باب التَّفضل والإحسان؛ فلذلك هذه القضايا كلّها ستحصل للإنسان حين يُطبّق مثل هذه القاعدة.
وحصول الوصف المتعلق بالطمأنينة، المتعلق بالسكن، المتعلق بالحياة الطيبة: "وحصول الراحة بين الطرفين" هذا الوصف الرائع الجميل هو مُبتغى السَّعادة، وهو الذي نحتاجه، وليس هناك عاقل -مهما كان أمره- إلا ويتمنى أن يعيش بعيدًا عن الهمِّ والقلق، ويشعر بالصَّفاء، ويقوم بالواجب الذي عليه، ويتفضّل بالمُستحبِّ من قضية الحقوق، ويشعر بالراحة، والراحة تكون بين الطرفين، وحين تكون الراحة بين الطرفين ما أجملها!
ولذلك ينبغي أن نحرص على مثل هذا الأمر، ونحاول أن نسعى إلى تطبيق القاعدة النبوية التي ذكرها عليه الصلاة والسلام.
ماذا يحصل لو كان عكس ذلك؟
في صفحة (24) يقول الشيخ: "ومَن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي ، بل عكس القضية؛ فلحظ المساوئ"، يعني: وقف عند المساوئ، وركَّز عليها، وتعمَّق فيها، "وعمي عن المحاسن"، هنا غفل عن المحاسن، "فلا بدَّ أن يقلق"، فهي مصدرٌ من مصادر التَّعاسة وضيق النفس، "ولا بدَّ أن يتكدّر ما بينه وبين مَن يتَّصل به من المحبَّة"؛ لأنَّ الرابط الآن في العلاقة هو المساوئ.
فكوني أغفل عن المحاسن وأُركِّز على المساوئ يجعل القضية التي تربط بيني وبين ابني، أو بيني وبين زوجتي .. إلى آخره هي قضية المساوئ، وعندئذٍ لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن أكون طبيعيًّا، سيكون عندي قلقٌ، ولدي ضيقٌ وكدرٌ؛ بسبب عدم وجود المحبَّة بين الطَّرفين.
"ويتقطع كثيرٌ من الحقوق التي على كلٍّ منهما المُحافظة عليها" عندئذٍ -لاحظ هذه النتيجة الصعبة جدًّا!- تبدأ الحقوق تضيع، وهذا مدخل من مداخل الشيطان، لا تنفلت السَّبحة إلا وتجد الظلم يتبع هذه القضية، فعند عدم وجود العلاقة الحميمية بين الطرفين تجد أنَّ الذي يترتب عليها مُباشرةً هو تضييع الحقوق، فهذا ينتقم لنفسه، وهذا ما له مزاج، وهذا ... إلخ.
نعم، أنا مؤمن بأنَّه واجبٌ عليَّ، لكنني لا أكاد أُطيق!
وتأتيك قصص ومواقف شديدة جدًّا مُتعلقة بالواجب الشَّرعي الذي يلزم الطرفين، أو أحدهما، ويتخلَّى عنه، وهو يعرف أنَّه واجبٌ شرعي، وقد يكون مُتدينًا من أهل الصَّلاة، لكن بسبب الكدر والضيق يُضحِّي به؛ لذلك نحن لا نحتاج أن نوجد الكدر والجو (المكهرب)، وإذا وُجد ينبغي ألَّا يدوم، يعني: قد وُجد في بيئة محمدٍ ، في البيئة الأسرية، وُجد شيء مما يعتري الإنسان، لكن سرعان ما انتهى الموضوع بحكمة النبي ، وفتح مجال الحوار، و ...، و ... إلى آخره.
وأيضًا بقاء الحقوق وما يتعلق بها، فالبعض يُقاطع فلا يكلم، والبعض يكون عنده حقٌّ، مثلًا: عليه حقٌّ مالي، أو حقٌّ لآخر، فلا يفي بالحقِّ الذي عليه للطرف الآخر؛ لأنَّ بينهما خصومة، والقضية في حالة كدرٍ.
لا علاقةَ لها يا أخي، أرسل له المبلغ، أعطه حقَّه، أعطها حقَّها في النَّفقة، وليس لذلك علاقة بقضية أنَّ بينكما مشاكل، فيُرتّب شيئًا على شيءٍ بسبب هذا الكدر وهذا الضّيق الذي يعيشه، أو تعيشه، أو يعيشونه جميعًا.
صاحب الهمَّة يُوطِّن نفسه عند الكوارث
يقول رحمه الله: "وكثيرٌ من الناس ذوي الهمم العالية يُوطِّنون أنفسَهم عند وقوع الكوارث والمُزعجات على الصَّبر والطُّمأنينة".
هو يصف الآن ناسًا بأنَّهم يُوطِّنون أنفسَهم إذا وقعت الكوارث والمُزعجات، لكن مشكلتهم أنَّهم "عند الأمور التافهة البسيطة" أي: في العلاقات "يقلقون، ويتكدّر الصَّفاء، والسبب في هذا أنَّهم وطَّنوا نفوسهم عند الأمور الكبار، وتركوها عند الأمور الصِّغار، فضرّتهم وأثّرت في راحتهم"، يعني: هو يمكن أن يتحمل مُصيبةً كبيرةً في أزمةٍ ماليةٍ مثلًا، يتحمّل في حصول اعتداء من هذا القبيل، لكن لا يتحمل في علاقةٍ هي دون هذه القضية.
فالخطأ واردٌ من الزوجة، وهي دون مشكلة الأزمة المالية، ودون مشكلة اعتداء مُعين مثلًا، ماذا حصل؟!
تجد أنَّه لا يُوطّن نفسه، يعني: أنَّه ضعيفٌ، لا يستطيع أن يتحمّل ويصبر؛ ولذلك أقول: يتنبه، يعني: يلحظ أنَّ الناس أصحاب العلاقات القريبة جدًّا يكون جانب الكدر والضيق معهم أسرع من غيره وأقرب؛ لأنَّه كما يُقال: العلاقات قريبة، و(الميانة) كما يقولون موجودة، والعلاقة كبيرة بحكم أنَّها علاقة تواصلية مُستمرة، بل فيها خصوصيات، مثلًا: بين الزوجين، وفي الأسرة مع الأبناء، وما شابه ذلك، ستجد أنَّ ردّة الفعل شديدة جدًّا، مع أنَّ الخطأ الموجود ليس كبيرًا، يمكن أن يحصل مثل هذا الخطأ في الشركة، لكن تجد أنَّه لا يصدر منه الانفعال الذي صدر مع زوجته، ومع ابنه؛ لأنَّه مُتسلّط، وله القوامة، له السُّلطة.
أقصد القوامة بحكم أنَّه رجل، ليس أن تصرفه هذا من القوامة، لكن هناك في الشركة لا، إلا إذا كان مُديرًا، وأيضًا حتى لو كان مُديرًا ربما تجده أيضًا عنده شيء من الضبط؛ لأنَّه يخاف من كلام الناس، وتحصل عليه أشياء، وتحصل مُؤثرات تجعله يتعامل بحذرٍ، فيضبط القضية لديه.
إذن عنده قُدرة، لكن مع العلاقة التَّواصلية القريبة، وبوجود السلطة بحكم أنَّه الأكبر، أو القوامة، أو مثلًا: الأستاذية كالمعلم، وما شابه ذلك، قد يحصل هذا الأمر؛ ولذلك تجد الناس يقبلون ربما الظلم من باب أنَّه ما يريد أن يُغضب الأستاذ، أو من باب أنَّ هذه الشَّكوى إلى الله، وهذا والدي، وما شابه ذلك.
لذلك قد تجد فعلًا هذه الصورة التي ذكرها الشيخ رحمة الله عليه عند بعض الناس، لكنَّه في أتفه الأسباب تجده شيئًا آخر.
فكما أننا نحسب حسابًا لمُعطيات مُعينة حين نكون في عملنا، وفي الشركة، لا بدَّ أن نحسب حسابًا أيضًا حين نكون مع أهلنا، وما شابه ذلك بأي طريقةٍ من الطرق التي تُساعدنا على قضية ضبط الانفعال وما يرتبط بهذا الجانب، هذه قضية مهمة جدًّا.
ولذلك تجدون الأثر حتى في الجانب الدعوي والتأثيري، تجد الأثر على الأبناء من خارج الأسرة أكثر من الأثر من داخل الأسرة، وهذا -يعني- ربما أقول: إنَّه بالاطراد والمُتابعة والاستقراء تجده واضحًا، هذا قد يُفسر بشيءٍ مما ذكرتُه قبل قليلٍ؛ لأجل قضية العلاقة المباشرة التي تكون مدعاةً -كما قلت- مثلًا لعدم التَّقبل في جوانب مُعينة، أو ردّة الفعل السَّلبية في جوانب مُعينة.
ولكن المُوفّق هو مَن استطاع أن يكون مُؤثرًا، مُربِّيًا، داعيًا في أسرته، محبوبًا، رجلًا، قادرًا على امتصاص الأخطاء، وقادرًا على النَّظر إلى الجوانب الإيجابية في مقابل الجوانب السَّلبية.
إبراز الجانب الإيجابي في التَّوجيه:
يقول الشيخ رحمه الله: "فالحازم يُوطِّن نفسَه على الأمور القليلة والكبيرة، ويسأل الله الإعانة عليها، وألَّا يكله إلى نفسه طرفةَ عينٍ، فعند ذلك يسهل عليه الصَّغير، كما سهل عليه الكبير، ويبقى مُطمئنَّ النَّفس، ساكنَ القلب، مُستريحًا".
وهذا هو مُنتج التواصل الذي نُريده، وهو وجود السَّعادة من خلال هذا التواصل الإيجابي والإشارة التي أشارها النبي .
دعونا نأخذ بعض الأمثلة التي جاءت في التراث الإسلامي المهمة جدًّا، والتي نحتاج أن نقف عندها، من هذه الأمثلة: قصّة الرجل شريب الخمر رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان مُبتلى بشرب الخمر، فكان يُؤتى به ويُجلد ، وذات مرةٍ وهو يُجلد أمام النبي قال أحدُ الصحابة: ما له؟ أخزاه الله! فقال رسولُ الله : لا تكونوا عونَ الشيطان على أخيكم[5]أخرجه البخاري (6781)..
الآن القضية التي عنده غير مقبولةٍ، وأيضًا كبيرة، فهي أمّ الخبائث، وأيضًا وصف الصَّحابي له حين قال: "ما أكثر ما يُؤتى به!" صحيح، ومع ذلك فالنبي لم يقبل قوله: "أخزاه الله!"، مع "ما أكثر ما يُؤتى به!"، وكذا لم يقبل لعنه كما في روايةٍ أخرى: أنَّ رجلًا من القوم قال: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي : لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنَّه يُحبّ الله ورسوله[6]أخرجه البخاري (6780)..
يعني: الآن المُبتلى الذي يحزم معه، والحزم هنا في تطبيق الحدِّ، الحزم موجودٌ، وأمام الملأ، ليس هناك تنازل عن الحزم، الحزم حاصلٌ؛ ولذلك لك حقٌّ أنت في الأسرة، فإذا كان نظامُك الذي تضعه مشروعًا ومفيدًا ضعه بحزمٍ، فوجود النظام هذا حزمٌ، لكن لا يعني أن أنسى المحاسن إذا لم يلتزم أحدٌ بالنظام، أو شيء من هذا القبيل.
الرسول عليه الصلاة والسلام أبرز جانبًا إيجابيًّا لهذا الصَّحابي فقال: إنَّه يُحبّ الله ورسوله.
وفي قصّة عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لما رأى رؤية مُفزعة فقال: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار. رأى ناسًا يعرفهم في النار، فقام وقصَّها على أخته حفصة رضي الله عنها -زوج النبي -، فقال النبي بعدها: نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يُصلِّي من الليل[7]أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479)..
فهنا جاء التوجيه للجانب السَّلبي الذي يتَّضح أنَّه تفسير أو تأويل للرؤيا، لكن في ذكر المحاسن، وهو من خلال كلمة: نِعم الرجل عبدالله، فذكر المحاسن الواقعة عند النفس البشرية والإيجابيات مهمٌّ جدًّا؛ لأجل أنَّ تلك النفس تقبل التوجيه، تقبل تعديل السلوك، تقبل الخروج من المشكلة، حتى نستطيع أن نصل لما يُنغّص الحياة منه أو منا نحن جميعًا.
وأيضًا الرجل الذي جاء ودخل على الصفِّ وهو راكع، فقال له النبي : زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ[8]أخرجه البخاري (783)..
فهذه الأمثلة من باب إبراز الجانب الإيجابي في سياق التوجيه؛ لأجل حلّ الجانب السَّلبي، أو حتى لا يكون هناك تركيزٌ على الجانب السَّلبي، فأبو بكرة أخطأ في طريقة دخوله وانضمامه إلى الصلاة، والرسول كان يمكن أن يقول: "لا تعد" وتصل الرسالة، وكان يمكن أن يقول لعبدالله بن عمر: "صلِّ بالليل" وانتهت القضية، توجيه؛ لأنَّ فيه نقصًا، هنا يوجد قصور في اتِّباع السنة والهدي، فالرسول أبرز جانبًا إيجابيًّا فقال: زادك الله حرصًا يعني: إثبات أنَّه ما فعل هذا إلا من حرصٍ، فتبيين هذه القضية يُخفف عليَّ وعليه، فيكون توجيهي مُناسبًا، والطرف الثاني يقبله.
فهذه الأمور في قضايا المشكلات والعلاقات الإنسانية مهمة جدًّا، حتى لا نُركز على السَّلبية، وليس معنى ذلك أن أغفل عن توجيهي لتعديل السلوك، يعني: هل سأقبل السَّلبي؟! لن أقبله، أنا سأُعدّله في زوجتي، أو في أبنائي، لكن لا أجعله مصدر قلقٍ وتوترٍ من خلال التركيز عليه.
أنا ابن جَلا وطَلَّاع الثَّنايا | متى أضع العمامةَ تعرفوني[9]انظر: "البيان والتبيين" (2/ 210)، و"عيون الأخبار" (2/ 265)، و"العقد الفريد" (5/ 278)، و"مجمع الأمثال" (1/ 31). |
كأنَّه لا يوجد في القضية التي حصلت الآن إلا هذه المشكلة المعينة التي قد لا يكون حجمها يُساوي 5%، أو 10%، طيب و90% الأخرى، الأشياء الأخرى الإيجابية التي تصل إلى 70%!
فلا بدَّ أن نحاول في حواراتنا ونقاشاتنا ومواقفنا -خاصةً التي فيها مشادات، والتي فيها انفعالات- أن ننتبه لمثل هذه القضية، خاصةً حين يصدر الخطأ حقيقةً، وتنكسر النفسُ عند صدور الخطأ، هنا يُحتاج إلى هذا المنهج النبوي: لا يَفْرَك مُؤمنٌ مُؤمنةً، إذا سخط منها خُلُقًا رضي منها آخر، هذا يُسمّى بـ"تخفيف المحلول"، فحمض الكبريتيك مُركّز، فتضع عليه الماء فيخفّ، وهذا أيضًا يُساعد على تخفيف الحدّة ووطأة الأمر.
أسئلة:
في الخلافات لا تنسوا الفضلَ بينكم
خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي[10]أخرجه الترمذي (3895)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، وابن ماجه (1977)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3314). هذا لأنَّك تحتاج إلى مُجاهدةٍ أكبر، وكل واحدٍ منا يعرف نفسه، ويُدرك حاله في هذا: أنَّ الدائرة القريبة أدعى إلى التأثير أكثر، وأدعى كذلك إلى الامتحان أكثر فيما لو أننا ما قمنا بما يجب علينا في التأثير؛ نظرًا لوجود القرب، وما شابه ذلك؛ ولذلك الله وجّه: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237] يعني: قد تحصل أشياء كثيرة، لكن لا تنسوا معها فضائل موجودة بينكم.
ولذلك تأتيك أشياء معينة بعد أربعين سنة، أو ثلاثين سنة، بين الزوجين، فتُصبح القضية الموجودة الآن سوداوية تمامًا، أو كثيرًا، فهنا يحتاج إلى الرجوع إلى المحاسن، ولو كانت قديمةً، ولا يمكن أن يكون تسريحُهم بإحسانٍ إلا بهذا -لو حصل تسريحٌ بإحسانٍ-، ومن باب أوْلى لا يمكن أن يكون إمساكٌ بمعروفٍ إلا بهذا، حتى لو كان هذا الأمر المتعلق بالجانب الإيجابي والنظر الإيجابي قد تغير في الزوجة، أو تغير في الزوج، أو تغير في الابن خلال فترةٍ من الزمن لسببٍ أو لآخر، لكن ألم تكن هناك إيجابيات سابقة في هذه الجزئية؟ فربما تجد أنَّ فيها إيجابية كانت ضخمةً جدًّا.
والمُوفّق من الله هو مَن أُعين على نفسه في هذه الممارسة الرائعة في العلاقات، خاصةً في الأسرة وغيرها؛ لأنَّ النفوس ضعيفة، قد يحصل فيها جانبٌ من الإقبال والإدبار، لكن العودة إلى الصواب والحقِّ ومُحاولة التَّصحيح هو المنهج مهما كانت النَّفس ضعيفةً.
وصف المشكلة ليس تبريرًا لوقوعها
وصف المشكلة ليس تبريرًا لوقوعها، إنما سيكون تفسيرًا للحال؛ لأنَّه إذا كانت هناك قُدرة على الضبط فإنَّ الإنسان يمكن أن يتسلى بهذا الأمر من أجل أن يتجاوز أشياء مُعينة في الطَّبيعة، فالطبيعة الأنثوية مثلًا فيها كذا .. إلى آخره.
وهذا من الأشياء التي تُساعد الإنسان في توقع الخطأ من الطرف الآخر، ففي الطُّفولة مثلًا تتوقع منه أن يكسر ويعبث و.. و.. إلخ. فإذا حصلت مشكلة ما لماذا أجعله لا يُساوي شيئًا، وأضربه أسداسًا وأخماسًا، ويفقد الثِّقة في نفسه، ويخاف؟!
ولدي قصص في الميدان تُريك أثر مثل هذا الضرب ومثل هذا التَّصرف من سنوات ماضية أيام صغرهم، وما شابه ذلك، ولو توقعت وقلت لنفسي: هذه القضية طبيعية.
يأتيك اثنان، واحد يقول: ماذا فيه؟ والثاني يقول: طبيعي، طفل، أُعلّمه مثلما قال النبي للطفل: كخ، كخ[11]أخرجه البخاري (1491 و 3072)، ومسلم (1069).، ومثلما قال: يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك[12]أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022)..
فالتَّعليم مطلوبٌ، ولا نتركهم، بل نُوجّههم، لكن لا تستفزنا هذه الأمور وننسى أشياء لا نُوطّن أنفسنا عليها، أقصد حينما يعملون الجانب السلبي سيُصبحون في خبر كان.
ولذلك مما نُعانيه في الاستشارات أنَّه عندما تكون هناك قضية لا بدَّ أنَّ الأب يعرفها مثلًا، أو أحد الأسرة، فإذا لم يكن الأبُ صاحب عقلٍ راجحٍ فهذه مشكلة كبيرة، فمن الصَّعب تدخل بعض الآباء أو تدخل بعض الأشخاص وهو شديد الانفعال، ولو عرف هذه القضية يمكن أن تكون المفاسد المُترتبة على ذلك أكثر من المفسدة الموجودة نفسها، فنحاول أن نبحث عن طريقٍ آخر، أو نقول لهم: الشَّكوى إلى الله!
يعني: إذا كان الأب أو المسؤول من هذا النوع فلا تُكلِّموه، وهذا حصل في قضيةٍ قريبةٍ حصلت فيها استشارة.
فإذا كان من هذا النوع فلا تُكلِّموه، فليس لكم إلا هذا الأمر؛ لأنَّ تكليمه لا ينفع.
بالأمس القريب كانت هناك قضية معينة: ابنٌ مُدخّن جاء لأحد الأساتذة، وهو يُحبّه، وذكر له أنَّه يُدخن، لكنَّ تعامل والده أثَّر في حياته، ويظهر لي أنَّ الأب شديد، غليظ، مع أنَّه شخصٌ مُتدين، لكن طريقته هي القسوة والشّدة والغِلظة الشَّديدة إلى مستوى الضَّرب المُبرح المُؤذي، يعني: العنف الشديد، كما قال الله : وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فيقول لي هذا الأخ الأستاذ المُشرف: هل نُبلغ والده؟ ما رأيك؟
الأمر يستدعي؛ لأنَّه كان له ارتباط بأشياء مُعينة، وكان في حاجةٍ إلى إدخال الوالد في هذا الموضوع، وهذا الإدخال سيلزم منه ذكر التدخين، قلت: كيف الوالد؟ فذكر لي أنَّ الوالد هذا وضعه كذا، فقلت: أبدًا، لا يدخل البتة، إنما الابن يكتب كتابةً يستعطف فيها والده، ويضع معها هديةً، وتُساعده أنت على ذلك؛ لأجل استخدام الأسلوب الطّيب الحسن؛ ليلطف شيئًا من الجو بينه وبين أبيه.
فالابن يبحث عن فرصة أنَّ أباه يتقبّله، مع أنَّ أباه هو المُخطئ في التَّعامل، وقد يكون الأبُ قد وقعت منه ردّات فعلٍ مُعينة، لكن المُفترض أن يكون الأب أحكم من الابن.
وأذكر في قصّة من القصص دخل أحدُ المشايخ الفُضلاء -وكنتُ داخلًا معه- في قضية طلاقٍ ومحاولة الإصلاح، فكان الشخص هذا الذي يُحاول معه أن يعود لزوجته يقول للشيخ: هي التي (بهدلت) حياتي، أنا والدي لا يُكلّمني الآن، وأريدك يا شيخ إذا استطعت أن تدخل مع والدي حتى أسمع كلامه، وما شابه ذلك، فأطمئنّ وأرتاح، وموضوع الزوجة وما يتعلق بالطَّلاق إليه ينظر فيه بعد ذلك. فهذا مُؤثّر حقيقةً في العلاقات بلا شكٍّ.
ولا شك أنَّ هذه ردَّات فعلٍ، فالأب مثلًا هذا الأخير رأى شيئًا سلبيًّا حسبما أذكر في القصّة، لكن لا يلزم منه أن أمسح الرجل تمامًا، يعني: أُقاطع الولد تمامًا وعنده جوانب إيجابية، خاصةً أنَّه أبٌ، ومن المُفترض أن يكون مُباشرًا له في التَّوجيه، وقريبًا من هذا، وهكذا الأب الآخر كذلك؛ ولذلك عندنا مُمارسات تحتاج إلى مُراجعة بالنسبة لتصرف بعض الآباء مع أبنائهم.
أثر الدعم بالجانب الإيجابي عند التَّوجيه
عندما نُركز على الجانب السَّلبي في العلاقة مع الشخص العزيز ويظهر منه الجانب السَّلبي، ماذا سيحصل في الغالب؟
الانفعال والضيق، بغض النَّظر عن قضية: هل الانفعال مُنضبط، أو غير منضبط؟ لكن في داخل النفس يوجد كدر.
يعني: الواحد عندما يعلم أنَّ ولده يُدخن لا يمكن أن يقول: مُراهق، خلِّه، خلِّه. هذا مُتبلد الإحساس، أعوذ بالله.
وأنا حصلت لي بعض النِّقاشات مع بعض الآباء فوجدتهم كذلك، والله يا شيخ هؤلاء لا يُعوّل عليهم، هؤلاء يُتركون.
لكن لنَبْقَ في هذا: فيحصل هذا الجانب الذي سبَّب الكدر، لماذا أنت مهموم؟
قال: والله يا أخي ما كنت أتوقع أنَّ ولدي يُدخن، ما كنت أتوقع أنَّه كذا، ما كنت أتوقع أنَّه كذا.
إذن فقد حصل الكدر بسبب جانب سلبي، بغض النَّظر عن كنهه: هو كذا، وكذا، وكذا، احتمالات عديدة جدًّا، وسيختلف، فهناك تفاوت.
أما الجانب الإيجابي فسيكون هو الماء الذي قلنا قبل قليل أنَّه يُخفف حمض الكبريتيك المُركّز، فستخفّ قضية الانفعال عند النَّظر إلى الجانب الإيجابي؛ لأنَّه سيقول: ما شاء الله، عنده كذا، وعنده كذا.
والطرف الثاني كذلك عندما يُراد توجيهه في الخطأ الذي وقع فيه مثلما ذكرنا في بعض القصص؛ ستكون القابلية أكبر عندما يُدعم بالجانب الإيجابي الذي لديه، لو كان هناك حزم في التعامل معه فيما يرتبط بالجانب السَّلبي، والله تعالى أعلم.
الإنسان له مشاعر وقيم وأخلاق
الإنسان له مشاعر، وعنده عقل ووجدان، ويُسمّونه: جانبًا حركيًّا، وعقليًّا، ووجدانيًّا، فهذا الجانب موجود: السعادة، وهو لبّ الجانب الوجداني، وجانب المشاعر، وما يتعلق بذلك، وما يرتبط به.
والعلماء يُدخلون القيم والأخلاق كلَّها في هذا الجانب، وذكرنا هذا الكلام من قبل، فمبعثه من القلب، وما يرتبط به، وما يتعلق به، فقد تجد الإنسان من أذكى ما يكون كما ذكرنا سابقًا، وأيضًا كلام الشهرستاني، وأبي بكر الرازي، وأبي المعالي الجويني، الذين كانوا من أذكى الأذكياء، لكنَّهم فلاسفة، وأغرقوا في فلسفتهم، وعاشوا الضيق والنَّكد والهموم والغموم في معرفة الصواب والحقّ، وتابوا إلى الله ، ورزقهم الله التوبة قبل وفاتهم، وتجدهم بعد ذلك كيف كانت مشاعرهم في مقابل مشاعرهم السَّابقة؟
فالعقل قد يكون أقوى ما يكون، لكن المشاعر مُضطربة، فهنا المصدر الحقيقي؛ ولذلك كما قال شيخ الإسلام: "أنا جنتي وبُستاني في صدري"[13]نقله عنه تلميذه ابن القيم -رحمهما الله- كما في "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48).، ألا وإنَّ في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسدُ كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب[14]أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).، والله تعالى أعلم.
أثر الدَّافع الخارجي والداخلي في الشَّخص
المُثير الخارجي -العمل- هو الذي يضبط سلوك بعض الناس، فهو الذي جعله بهذه الصورة في مكان عمله، أما في البيت فيظهر نمط الشَّخصية الحقيقي؛ لأنَّه لا توجد لوائح، وليست هناك أشياء تضبط القضية؛ فالقضية تسير بالمُعايشة كما يُقال، فيظهر نمط الشَّخصية الحقيقي بانعدام الضَّغط والضبط الخارجي.
فالمُثير الخارجي هو الذي ضبطه؛ ولذلك هناك أناس غيريون أكثر من كونهم ذاتيين، يوجد ناس (External Control)، ويوجد آخرون (Internal Control)، فهناك ناس أصحاب ضبطٍ خارجي، وآخرون أصحاب ضبطٍ داخلي، يعني: هو ضبط شخصيته خارجي، فالذي يضبطه هو المثير الخارجي، فإذا ذهب المثير الخارجي ظهر على حقيقته، مثلما ذكرنا في قصة الساعات الثماني التي انقطعت فيها الكهرباء في أمريكا، فقد سجلت الولايات الأمريكية خمسة آلاف حالة سرقة في ذلك الوقت، ومن قبل كانت الأمور مضبوطة؛ لأنَّ الضبط الخارجي كان موجودًا: الكاميرات، ومُتابعة الجهات الأمنية ...، فهنا الضابط خارجي، وحين انطفت الأنوار ظهرت القضية على حقيقتها عند بعضهم؛ فلا يوجد ضبط ذاتي.
ولا شك أنَّ المتتبع لأدبيات الشَّريعة والنصوص والتوجيهات يُدرك أنَّ الضبط الداخلي (Internal Control) هو من أُسس التربية، ثم يكون الجانب الآخر مُؤثرًا بلا شك، لكن أن يكون العكس فهنا مُشكلة كبيرة جدًّا.
ولذلك تجد بعض هؤلاء مع الأخيار، لكنَّ أحدهم إذا انفرد بنفسه وخلا بمحارم الله انتهكها -والعياذ بالله-، فهذا عنده الجانب المتعلق بالضبط الذاتي ضعيف؛ لذلك قال الله : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، ثم استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، يقول الشيخ ابن سعدي في تفسيرها: "فبالأمرين الأوّلين يُكمل الإنسانُ نفسه، وبالأمرين الأخيرين يُكمل غيره"[15]تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن" (ص934)..
فهذه هي التربية الفردية والتربية الجماعية، التربية الذاتية والتربية الجماعية.
والله تعالى أعلم.
↑1 | انظر: "مغازي الواقدي" (1/ 89-90)، و"سيرة ابن هشام" ت: السقا (1/ 636)، و"الروض الأنف" ت: السلامي (5/ 99)، و"الرحيق المختوم" (ص200). |
---|---|
↑2 | "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص12). |
↑3 | أخرجه مسلم (1469). |
↑4 | انظر: "الرياض الناضرة" (ص73). |
↑5 | أخرجه البخاري (6781). |
↑6 | أخرجه البخاري (6780). |
↑7 | أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479). |
↑8 | أخرجه البخاري (783). |
↑9 | انظر: "البيان والتبيين" (2/ 210)، و"عيون الأخبار" (2/ 265)، و"العقد الفريد" (5/ 278)، و"مجمع الأمثال" (1/ 31). |
↑10 | أخرجه الترمذي (3895)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، وابن ماجه (1977)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3314). |
↑11 | أخرجه البخاري (1491 و 3072)، ومسلم (1069). |
↑12 | أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022). |
↑13 | نقله عنه تلميذه ابن القيم -رحمهما الله- كما في "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص48). |
↑14 | أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599). |
↑15 | تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن" (ص934). |