المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذا -بحمدٍ من الله وتوفيقه- هو اللقاء الثامن من المجموعة الثامنة من سلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة".
وكنا في اللقاءات الماضية من بداية هذه المجموعة الثامنة قد أنهينا -بتوفيق الله- الحديث حول التربية على علو الهمة في ثلاث لقاءات، ثم التربية على قوة الإرادة في أربع لقاءات.
هل نحن بحاجةٍ إلى تربيةٍ أم لا؟
سنخوض في موضوع معلوم بالضرورة كما يُقال، لكنه في عالم الفلسفات وفي عالم الاستعراضات يُطرح في بعض الأحيان هذا الموضوع: هل نحن بحاجةٍ إلى تربيةٍ أم لسنا بحاجةٍ إلى تربيةٍ؟
فالبعض يقول: نحن علينا أن نُعلِّم، أما أن نُربي فلا، وما شابه ذلك.
وهذه أزمةٌ كبيرةٌ حينما نُخلي الدور الأُسري والدور التعليمي والدور المُجتمعي من قضية التربية، فتأتي الجهات الوظيفية شغلها فقط مجرد ما يتعلق بالمُكافآت المالية والرواتب، وهذا هو الشغل الذي عندنا!
وتأتي الأسرة وتكون القضية التي هي محل اهتمام المُربين في الأسرة ما يرتبط بالإشباع المادي، والإشباع العضوي، والعناية بالصحة، وما يرتبط بقضية الجوانب الأساسية في الحياة من أكلٍ، وشربٍ، وصحةٍ، وما شابه ذلك.
ويأتي الجانب التعليمي وتكون القضية الأساسية هي ما يرتبط بقضية المعلومات والكم المعرفي وما يتعلق بقضية التخصصات، لكن نذهب إلى المُنتج هنا وهناك، وقد لا نرى الشخصية التي أنتجت في الأسرة، أو التي أنتجت في المجتمع، أو التي أنتجت في التعليم، أو التي أنتجت في الشركات، وما شابه ذلك؛ شخصيةً مُتربيةً.
وعندما نقول "مُتربية" نحتاج أن نفهم ماذا نقصد بموضوع التربية؟ حتى نفهم ماذا نريد؟
فعندما نأخذ المعنى اللغوي في قضية التربية عند أهل اللغة العربية سنجد -مثلًا- الألفاظ التالية: الإصلاح، النَّماء والزيادة، نشأ وترعرع، سَاسَه وتولى أمره، وما شابه ذلك.
هذه من المعاني اللغوية لقضية التربية، يعني: هناك معنًى من المعاني العميقة في موضوع التربية، فالإنسان ليس آلةً أُريد منه فقط أن يُنتج لي.
الفرق بين الإنسان والحيوان
الإنسان ليس حيوانًا مما يُعرف بأنه لا عقلَ له؛ فلذلك يُريد أن يُشبع نَهْمَتَه العضوية والجسمية: فيأكل ويشرب، والله قد ذكر في كتابه : يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، فشبَّه حال هؤلاء بالأنعام: يأكلون ويتمتعون، فهم لا فرقَ بينهم وبين الحيوانات؛ ولذلك حتى في مجال الانفعالات، وفي مجال إشباع الدوافع في النفس البشرية، يعني: يمكن أن يكون الإنسان مثل الحيوان، أكرمكم الله.
يعني: نحن نقول لطلابنا حين نُدرس هذا في مُقرر مبادئ علم النفس في الكلية عندنا أو في الجامعة: إن أهل التخصص يذكرون الفرق بين الإنسان والحيوان فيما يرتبط بقضية الانفعالات والدوافع، الفارق شيءٌ واحدٌ هو العقل، فالحيوان لا يملك قضية الإشباع المُنضبط، ولا يملك ضبط قضية الانفعالات، بينما الإنسان يملكها؛ لوجود العقل.
والذي لا يملكها من البشر، إذا وُجِدَ عندنا إنسانٌ لا يملك انفعالاته، ولا يضبط انفعالاته، ولا يستطيع أن يضبط إشباع حاجاته ودوافعه سيُشابه الأنعام؛ ولهذا قال الله : يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ.
فلذلك حتى في النظريات الإدارية الحديثة فرقٌ بين المدير الذي شغله في الإنتاج المادي -يعني: هو يجعل الإنسان كالآلة- وبين أن يكون مديرًا شغله فقط علاقات إنسانية، والمدير الناجح يقولون: هو الذي يحصل لديه الإنتاج والعلاقات الإيجابية الناجحة، والذي يجمع بين الأمرين.
لا بد من فهم الإنسان لجعله مُصلحًا
ينبغي أن نفهم الإنسان حتى نستطيع أن نجعله مُصلحًا، فهذا الشخص المُتربي في نماء وزيادة ينشأ في حياته ويتعلم، لا يقف عند حدٍّ معينٍ، ولا يمكن أن يكون هذا الكلام مع روتينية الحياة، لا بد أن يُلازمنا مفهوم التربية.
وخاصةً إذا أدخلنا في الجانب التربوي الشيء الأساسي الذي يرتبط بالتربية الدينية، التربية القِيَمية، التربية الأخلاقية، التربية الإيمانية، ولم نجعلها قاصرةً على التربية المتعلقة بالجانب المادي، مع أن الجانب المادي مُعتبرٌ، وسبق أن ناقشنا هذه القضية عندما تكلمنا عن نظرية الدوافع في النفس البشرية.
لما يأتيني ابن القيم وهو يتكلم عن أهمية التربية -رحمه الله-، وهو الشخص المُربي الذي نشأ في كَنَفِ مُرَبٍّ فاضلٍ هو شيخه ابن تيمية، يقول ابن القيم -رحمة الله عليهم جميعًا-: "كمال الإنسان إنما يتم بهذين النوعين: هِمَّة تُرقيه، وعلم يُبصِّره ويهديه"، أي: العلم والإرادة، "فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت من هاتين الجهتين أو إحداهما" ذكر هذا -رحمه الله- في "مفتاح دار السعادة"[1]"مفتاح دار السعادة" (1/ 46)..
يعني: هو الآن يقول: الإنسان المُنتج في هذه الحياة هو الإنسان السعيد، الإنسان المُفلح فعلًا الناجح في هذه الحياة هو الذي يُمسك هذين الخطين المُتوازيين: همَّة وإرادة تُرقيه، وعلم يُبصِّره ويهديه.
والمشكلة تحصل عند الإنسان إذا فاته هذان الأمران، أو فاته أحدهما، يعني: تصور إنسانًا لا إرادةَ له، ليست عنده همَّة ولا علم؛ فإنه يجهل، ضعيف الإرادة.
وقد تكلمنا عن الإرادة في اللقاءات الماضية، والهمَّة وعلو الهمَّة السابقة كذلك، وبينهما ارتباطٌ.
فماذا تتوقع من هذا الإنسان؟
عنده علمٌ ويفهم، لكن ضعيف الإرادة، هل يصلح؟
عنده إرادة قوية، لكنه جاهلٌ، هل يصلح؟
مشكلةٌ كبيرةٌ!
لذلك فتِّش عن نفسك، وفتِّش عمَّن حولك في أسرتك ومَن هم قريبون منك، أين هم من هذين الأمرين؟
التربية تُنتج لي صاحب الهمة وصاحب العلم، صاحب الإرادة وصاحب العلم.
لذلك كما جاء في حديث النبي : أصدق الأسماء إلى الله: حارث وهمَّام[2]أخرجه ابن وهب في "الجامع" ت: مصطفى أبو الخير (ص99)، (53)، وأبو داود (4950)، وأحمد في "المسند" (19032)، وصحح الألباني هذا … Continue reading.
حارث وهمام؛ صاحب الهمَّة الذي يحرث ويعمل، لا يحرث ويعمل وليست عنده همَّة وعلم، أو لديه همَّة ولكن لا عملَ له.
ولذلك الله لما استعاذ قال في سورة الفاتحة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، مَن هم المغضوب عليهم؟
اليهود.
بماذا تميز اليهود ومَن شابههم والنصارى؟
اليهود علمٌ بلا عمل، والنصارى عملٌ بلا علم.
ولذلك استعاذ الله من هذين المسلكين، فطريق: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، طريق الصراط المستقيم، طريق أهل الإسلام والإيمان هو الذي يجمع بين الأمرين؛ ولذلك لا بد من تربية النفس البشرية وتربية الأجيال على الجمع بين العلم والعمل، وهذه ركيزةٌ أساسيةٌ في التربية.
يأتي لي واحدٌ في البيت، وواحدٌ في المدرسة، وواحدٌ في الجامعة، وواحدٌ في المجتمع، وواحدٌ في الشركة، ... إلى آخره، أيًّا كان مجال العمل، فيُخرج لي مخزون معلومات، ومخزون شهادات، لكن إنتاجه ضعيفٌ!
ويأتي واحدٌ آخر -ما شاء الله- لديه طاقة رهيبة ومُنتج، لكنه ما عنده (كتالوج)، وما عنده علمٌ.
لا هذا سيُفلح، ولا هذا سيُفلح، وكلٌّ سيحصل عنده إشكالٌ بناءً على الموقف الموجود أو الحال الموجودة التي هو فيها؛ ولذلك ينبغي أن يُربى الأجيال على الهمَّة العالية، وعلى العلم الذي يُبصرهم؛ لأنه قد تكون عنده همَّة لكن على جهلٍ.
فهؤلاء الذين يقتلون الناس ويذبحونهم ويُفجرونهم عندهم همَّة أعلى من هِممنا كلنا، لكن المشكلة في الجهل، لا يوجد علمٌ يُبصرهم ويهديهم، بل شُبهات وظلمات بعضها فوق بعضٍ.
وقد تجد مَن لديه علمٌ وهو مُبْصِرٌ تمامًا يخلد إلى الكسل، فـاللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل[3]أخرجه البخاري (2823)، ومسلم (2706)..
العجز والكسل: فالعجز: لا يستطيع أن يفعل. والكسل: يقدر أن يفعل لكن لا يفعل.
فكلاهما قد يكون عنده علمٌ، فهو يعرف أنه من المُفترض أن يفعل هذا الفعل، لكنه يكسل ولا يعمل به.
فهو يُدرك أن صلاة الجماعة واجبةٌ، لكنه يُفوتها، ويُدرك أن هذا الفعل حرامٌ، لكنه يقترفه.
فأين أنا وأنت وأجيالنا من هذين الأمرين؟!
فالفَلَاح في العلم الصحيح والعمل الصالح، الفَلَاح في الهمَّة العالية والإرادة والعلم الذي يُبصِّرني وإياك، ويهديني وإياك الطريق المستقيم.
لذلك لا بد من النظر في هذين الأمرين.
أين مُنتجات الأسرة؟ المنتجات التعليمية، المنتجات المجتمعية؛ الحكومية والأهلية في مجتمعاتنا الإسلامية، أين هي من هذين الوصفين: الهمَّة التي تُرقيه، والعلم الذي يُبصِّره ويهديه؟ أين هم من العلم والإرادة؟
وستجد الخلل المُتعلق بالشخص ذاته وبالمجتمع مُرتبطًا -كما قال ابن القيم رحمه الله[4]انظر: "الجواب الكافي" (ص73).- بهذين الأمرين، والتقصير فيهما، أو التقصير في أحدهما، فالأمر واضحٌ جدًّا، وليست فلسفةً ولا قضايا.
تقرأ الكلام الموجود عند النظريات النفسية والنظريات التربوية العالمية فتجد أنك لا تسمع هذا الكلام النظيف، والكلام السهل، ويُدخلون الإنسان في حَيْصَ بَيْصَ، وشَذَرَ مَذَرَ، وتفكك العبارات حتى إنك تريد أن تفهمها ولا تستطيع.
وما أجمل الذين ينطلقون من كلام الله وسنة النبي بأسهل العبارات، ولكنها تحمل معانيَ عظيمةً جدًّا! وهي حقيقة التربية التي نريد أن نُربي أنفسنا وأجيالنا عليها.
الإجابة عن سؤال: هل التربية مهمة؟
عندما نأتي إلى الوقوف عند قضية التربية، عنونا نحن هذا اللقاء اليوم بـ: "هل التربية مهمة؟".
نعم مهمة، وألف مهمة، وقد ردَّ عليَّ أحد الإخوان -وهو زميلٌ لي في (الماجستير) وصاحب دُعابةٍ، وهو صحفيٌّ على أية حالٍ- فقال: ليست مهمةً، الآن ما في إلا كل واحدٍ ونفسه، ولا عليه من الآخرين.
يعني: هو جانبٌ من المُداعبة والاستفزاز التربوي أكثر منه شيءٌ آخر، ولكنه ينطق من خلال شريحةٍ من المجتمع موجودةٍ لا ترى قضية التربية بهذا المعنى الذي ذكره ابن القيم، وبهذه المعاني اللغوية التي فيها النَّماء والزيادة، والارتقاء الإيجابي، والإصلاح، ... إلى آخره، خاصةً بالمفهوم الإسلامي الذي فيه الاختبار والابتلاء: ترك المحبوبات ما دامت لا تُرضي الله، وفعل المكروهات ما دامت تُرضي الله.
هذه أشد الأشياء، لكن شغل (جون ديوي) في النظرية التربوية الحديثة وشغل النظريات النفسية المُتعددة مفتوح المجال، كما قال الله: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ، أهم شيءٍ أنك تُحقق نَهْمَتك ورغبتك وشهوتك في هذه الحياة!
ومع ذلك -وهذا العَجَب العُجاب- أقصد حينما يقف العقلاء، وإنما هي مفهومةٌ عندنا ومُدركةٌ من قبل، ومع ذلك تجد الشَّقاء ونِسب الانتحار، وتجد العناء عند هؤلاء، مع أن أبواب الشهوات ودائرة المحظورات عندهم غير موجودةٍ.
يعني: هم كما قال الرسول لما أتى إليه عمر بن الخطاب ، وكان الرسول على حصيرٍ، فرأى عمر أثرَ هذا الحصير على جسد النبي الطاهر ، فبكى عمر، فقال له النبي : ما يُبكيك يا عمر؟ فقال عمر : "والله ما أبكي إلا أن أكون أعلم أنك أكرم على الله من كسرى وقيصر، وهما يعيثان في الدنيا فيما يعيثان فيه، وأنت يا رسول الله بالمكان الذي أرى!".
فذكر شيئًا من الصورة الخيالية التي جاءت في ذهن عمر بين هذا النبي العظيم الذي يراه بأم عينه، وأولئك الذين يسمع عنهم ويعيشون الدنيا.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام -وانظروا كيف يكون أثر التربية حين يكون المُربي هو الذي يقف مع المعاني التربوية ويُطبِّقها ويعيش قِيَمها-: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟[5]أخرجه البخاري (4913)، ومسلم (1479)..
يعني: لتكن لهم الدنيا، ما المشكلة؟ ونحن يا ابن الخطاب لنا الآخرة.
مَن الذي يُربي أبناءه على هذا؟
أسأل والله نفسي أولًا قبل أن أسألكم: مَن الذي يُربي أبناءه على هذه المعاني؟ هل نُربي أجيالنا على هذه المعاني؟
ونأتي ونشتكي من أجيالنا: أخلاقيات، وانحرافات فكرية، وانحرافات سلوكية، والجيل تغير، والجيل لم يَعُد مثلما كان من قبل، وأتعبونا ... إلى آخره.
تدرون لماذا؟
بسبب هذا الموضوع الذي نطرحه الآن، ونطرحه سابقًا ولاحقًا، لكن اليوم أردنا أن نُركز؛ لأن التربية مهمةٌ، وقد أهملناها.
ثورة التقنية والمعلوماتية
جاءتنا التقنية وباغتتنا بثورتها المعلوماتية والنمو التقني الرهيب بالثواني والدقائق والساعات، ونحن في مكاننا في عالم التربية، فدخلت علينا التقنية وهي تتجدد وتتغير بكل أذرعتها، ونحن -إلا مَن رحم الله- في مكاننا في التربية.
أنا أجزم أنه لو جاءتنا التقنية مع قوةٍ في التربية لاستطعنا أن نجعل هذه التقنية وسيلةً للنجاح في هذه الحياة لمعظم أجيالنا، ولاستطاع أجيالنا أن يُدركوا كيف يستثمرونها ويُطبقونها علمًا وعملًا؟
هذا مثالٌ على قضية العلم والعمل، ومثالٌ على الهمَّة، وعلى العمل الذي يُبصِّر، فأجيالنا لديهم أجهزةٌ، بل حتى كبار السن الآن لديهم الأجهزة الذكية، وشبكات التواصل الاجتماعي بين أيديهم، أين العلم والإرادة؟
إن كان العلم الذي يُبصِّر ويهدي، ولا شكَّ أنه العلم بنور الله من خلال العلم الصحيح، والعلم الدنيوي الذي يُساعدني على استثمار هذه التقنية بما يُفيد فأنعم به وأكرم.
طيب، عندي علمٌ، أين الهمَّة في العمل؟
إن كانت الهمَّة موجودةً فإننا سنُصبح جيلًا مُتربيًا يستطيع أن يتعامل مع التقنية بطريقةٍ سليمةٍ، لكن جاءتنا التقنية بهذه الأذرعة وبهذا النمو مع ضعفٍ في التربية، فحصلت هناك هزَّةٌ شديدةٌ، ولم أرَ في حياتي شيئًا هزَّ قوام الأفراد في مجتمعنا وأُسرنا كما هزَّتها شبكات التواصل الاجتماعي، فلا تنفك استشارة، ولا ينفك مُلتقًى ولقاء وأُسرة ومجتمع صغير وكبير إلا وتجد قضية شبكات التواصل الاجتماعي على رأس القائمة في الاستشارات والمُعاناة.
ولذلك تجد هناك همَّةً قويةً عند البعض في استخدام التقنية، لكن -للأسف- حسب الإحصاءات: كل المُؤشرات إلى الترفيه رقم واحدٍ بفَنِّه، ورياضته، بحلاله، وحرامه، وإذا كنت تريدها أكثر تدخل على الألعاب الإلكترونية، ومن هذه المضامين المختلفة: تدخل على الأفلام، تدخل على المسلسلات التي أغلبها الأغاني بهذه الطريقة!
كان لدينا مُلتقًى بجامعة الدمام يوم الأربعاء الماضي على مستوى المنطقة الشرقية، وعلى مستوى المملكة، بعنوان: "شبكات التواصل الاجتماعي: الوعي والوقاية"، وكان الضيوف من مناطق وأماكن المملكة حاضرين، فكانوا يتحدثون، وكان أحدهم تخصصه إعلام جديد في كلية الإعلام والاتصال يتحدث عن أن الدراسات التي اطلع عليها كلها تُشير إلى ما ذكرتُه قبل قليلٍ.
وفعلًا أنا اطلعتُ على دراساتٍ عديدةٍ جدًّا كلها بهذا الاتجاه: همَّة عالية بمعدل أربع ساعات وقليل، والبعض يُمضي أكثر من أربع ساعات إلى ستِّ ساعات، فثَمَّ جهدٌ كبيرٌ وضخمٌ، وهمٌّ كبيرٌ وضخمٌ ولكنه بجهلٍ.
إما علمٌ موجودٌ لكنه بدون عملٍ، أو العلم ليس موجودًا، وهذا يكثر حتى عند بعض أهل التدين وغيرهم، وهو عدم إدراك بعض الجوانب الخطيرة التي ينبغي التَّنبه لها فكرًا وسلوكًا من خلال ما يتعلق بجانب التقنية.
أنا أردتُ أن أذكر مثالًا بشبكات التواصل الاجتماعي كنموذجٍ فيما يتعلق بإجابتنا قبل قليلٍ عن: هل نحن بحاجةٍ للتربية، أم لسنا بحاجةٍ للتربية؟ وهل التربية مهمةٌ أم لا؟ بناءً على المفهوم اللغوي والمفهوم الاصطلاحي الذي ذكره ابن القيم -رحمة الله عليه- في العلم والإرادة.
وظهر لنا من هذا الكلام الحاجة المُلحة لمثل قضية التربية، فهناك فرقٌ بين مَن يتعامل مع التقنية تقنيًّا، ولا يوجد جيلٌ مثل جيل اليوم -صغيرًا وكبيرًا- على مستوى مرحلة الشباب إلا وتجده لو دخل اختبارات معلوماتية دقيقة مُتعلقة باستخدام التقنية ربما حقق مستويات عالية من ناحية المعرفة، وأصبح هذا الجيل بينه وبين الجيل الكبير فجوةٌ معرفيةٌ كبيرةٌ.
وهذا خطيرٌ جدًّا من جهة أن جيل الكبار -الآباء- لا يُدركون حقائق الأمور المعرفية المتعلقة بالتقنية، إذن هم عندهم الجانب المعلوماتي، لكن -للأسف الشديد- حينما يكون هذا منفصلًا عما يتعلق بقضية الإنتاج الإيجابي الصحيح، وهذا الخطر الكبير جدًّا.
خطر التقنية مع ضعف التربية
قدر الله أن تأتينا التقنية مع ضعفٍ عندنا في التربية؛ ولذلك الأُسر الجديدة التي تنشأ، وأنا أنصح الناس القريبين المُقبلين على الزواج في المجتمعات العامَّة ... إلى آخره: أدركوا تلكم الأُسر التي ستنشأ بشكلٍ جديدٍ، أدركوا هذه الأشياء التي أفسدت البوصلة، أو ضاعت البوصلة عند عددٍ من الأُسر فيما يتعلق بعدم وجود نظامٍ داخل الأُسر، أو عدم وجود تربيةٍ جادَّةٍ، وعندئذٍ لما جاءت التقنية بدأنا نكون إما مُنهزمين، وإما مُتعاملين بصورةٍ مُقابلةٍ ليست إيجابيةً، ولم نستطع أن نُمسك في الطرف الأول الشيء السليم، ولا بالطرف الثاني الشيء السليم.
وتركنا أجيالنا وجعلونا نحن في الخلف واستمروا هم على ما هم عليه؛ لأنهم جيل التقنية.
فنحتاج إلى التَّنبه لهذه القضية؛ حتى نُدرك حقيقة التربية ودورها في مثل قضايا التقنية وفلكها عمومًا.
كم مرة قلتُ لكم حتى في العمل الدنيوي البَحْت المُنتجات التي تنتج في المصانع ... إلى آخره: فرقٌ بين الإنسان المُتربي، والإنسان غير المُتربي.
ولذلك الأخلاق، القيم، الإنتاج، العمل لله، وليس لأجل المدير، ولا المالك، كل هذه المعاني من المعاني العظيمة التي تكون مصحوبةً مع المُتربي الذي تعرَّض للتربية في أسرته، وفي مدرسته، وفي مجتمعه.
المقصود أنه تربى على كتاب الله ، تربى على هذه المعاني العظيمة بالقُدوات من خلال السيرة النبوية ... إلى آخره.
هذا الكلام نحن في أمس الحاجة إليه، وإلا فيمكن أن تكون هذه الأدوات وهذه الوسائل وهذه المجالات تُسخَّر بطريقةٍ غير إيجابيةٍ.
والإخوة الإعلاميون هؤلاء بجميع مجالات تخصصاتهم وإعلامهم: إخراجًا، وتصويرًا، ... إلى آخره، الذي تربى منهم وأدرك من معاني التربية أشياء عديدةً جدًّا تجد أنه مُحافظٌ على قِيَمه، ويسير عليها حتى لو أتته عروضٌ.
وأنا أعرف بعض هؤلاء تأتيه عروضٌ مُغريةٌ جدًّا، لكنه يقول: لا؛ لأنها تُخالف أمر الله وأمر النبي ، لكن غير المُتربي ستجد أن له وجهةً أخرى!
أبناؤنا جزءٌ؛ لأنه قد يخرج من أبنائنا الإعلامي، ومن طلابنا الإعلامي، وقد يخرج من أبنائنا التاجر، ومن طلابنا التاجر، وقد يخرج العالِم الذي يُفتي من غير علمٍ، أو يُفتي من أجل مصلحته الذاتية، ... إلى آخره.
وكذلك يأتي العالِم الآخر المُنضبط الإيجابي، وهكذا المُعلم الإيجابي المُربي، وقد يأتينا مُعلمٌ لا يرقب في أبنائنا إلًّا ولا ذِمَّةً، هَمُّه نفسه وراتبه، ويُضيع الأمانة.
كل هذا موجودٌ، والسر في ذلك هو إنجاز التربية مع مثل هؤلاء، وقد قصَّرنا والله يا أحبابي كثيرًا في موضوع التربية.
انجذاب الطلاب للمُربي
كنا في رحلةٍ لأعضاء هيئة التدريس في كلية التربية، وكنتُ أتحدث مع أحد الفُضلاء، وهو أستاذٌ هنديٌّ يُدرس اللغة الإنجليزية عندنا في الكلية، فكنا نتحدث حول مثل هذا الموضوع، وهو موضوع الطلاب، فكان يتكلم عن موضوع الطلاب ومَن يُحبون؟ الطلاب يُثنون على مَن؟ الطلاب يذهبون لمَن؟ الطلاب يكشفون أسرارهم لمَن؟ الطلاب يدعون لمَن؟ الطلاب يتلقون ممن؟ الطلاب ينتظرون مَن؟ الطلاب يتشوَّقون إلى مَن؟ ... إلى آخره.
وخذ مكان الطالب: الابن، البنت، الموظف.
لا يمكن أبدًا أن تكون الإجابة إلا للمُربي الذي وُفِّق للتربية.
ليس المعلم الذي همُّه فقط أن يُنجز مادةً والسلام، حتى لو انضبط في حضوره، واترك الذين يُضيعون الأمانة عندهم، فالأمانة حتى في الأمور الدنيوية ضائعة، لا، هذا تجده أمينًا في الناحية الدنيوية: يحضر في الوقت، يُقدم الذي عنده، ومع السلامة، وغير ذلك لا يوجد تواصلٌ، ولا علاقاتٌ، ولا اهتماماتٌ، ولا رعايةٌ، ولا حبٌّ، ولا رغبةٌ في حلِّ مشكلاتٍ، ولا نزولٌ لهم، ولا ما شابه ذلك.
تجد آباء يأنسون بأصحابهم ويتركون أبناءهم وزوجاتهم، وهذا أشد وأشد، فهو أبعد ما يكون عنهم، يأنس بأصحابه، ويأنس بمَن يلتقي معهم، بينما تجد أنه ليس بمثل هذه النفسية حينما يكون مع أسرته.
السر في ذلك هو التربية، السر في ذلك هو المُنتج التربوي؛ لذلك نحن في أمس الحاجة إلى التربية، فالتربية مهمةٌ، بل هي بالغة الأهمية، بل مفهوم التربية الشمولية أولًا عندما ندخل قضية التربية العقدية والتربية ... التربية أولًا.
الطعن في الدين من أبناء جِلْدَتنا
وأنا في طريقي إليكم كنتُ أقرأ لبعض الذين يقدحون في مناهجنا -للأسف الشديد-، ويتكلمون عن بعض الكتب العظيمة التي تربينا عليها: "ككتاب التوحيد" للشيخ محمد بن عبدالوهاب، ... إلى آخره، وأمثال هؤلاء.
والدين ليس مُرتبطًا بالشيخ محمد بن عبدالوهاب ... إلى آخره، لكن كما قال الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، يعني: إذا كان الأنبياء لهم أعداء من الإنس والجن، فمن باب أولى مثل هؤلاء يكون لهم أعداء.
فكنتُ أستغرب مثل هذا الطعن المُتتالي! وفي بعض الأحيان من بني جلدتنا! وتربوا على مثل هذه الأشياء في مدارسنا!
طيب، وأيش نفع العلم الذي أخذوه؟! وما نفع دراستهم لكتاب "التوحيد"؟! وما نفع دراستهم "للأصول الثلاثة"؟! وما نفع دراستهم لهذه القضايا؟!
هذا سؤالٌ كبيرٌ يا جماعة، ليس المقصود الآن مَن يتحمل المسؤولية؟ هو رجلٌ مُكلَّفٌ يتحمل مسؤولية نفسه بين يدي الله : وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، لكن أتكلم عن قضية فهمٍ للفرق بين البيئة التعليمية وبين التعليم والتربية؛ ولذلك ما أسهل أن نكون فقط مُوصلي معلومات! صحيحٌ قد نتفنن في أساليب توصيل المعلومات إذا كان الأستاذ لديه مهارات في طرائق التدريس، لكن القضية أكبر من ذلك، وهي بناء الإنسان في الموقف التعليمي، وبناء الإنسان في الموقف العبادي، وبناء الإنسان في الموقف الأُسري.
هل نحن فعلًا نبني إنسانًا؟ هل نبني صاحب الهمَّة وصاحب العلم؟ هل نبني الذي يجمع بين العلم والإرادة؟ هل نبني الذي يكون قادرًا على أن يُحقق مستوى كماله الذي أراده الله له؟
هذه القضية في مجالاتٍ عديدةٍ، هذا الذي نحن في أمس الحاجة إليه.
لذلك نحن نقول: تظهر الأهمية في أنه:
أولًا: أن العلم وحده لا يكفي، فلا بد من التربية.
ثانيًا: المُصنفات -للأسف الشديد- المُعادية للتربية الإسلامية من المُصنفات التربوية الغربية التي سبقتنا في مجال التربية، وعلم النفس، وعلم التربية، وعلم الاجتماع، وأمثالها، خاصةً هذه التخصصات، ولم أكن أود أن أدخل في هذا الموضوع.
ثالثًا: أنهم سبقونا في التدوين، والتأليف، والتنظير، ولكن من حيث المضامين سبقناهم، وهناك مَن قام ببعض الإجراءات في المُقارنات، فلما نأتي لنظرية (بافلوف) في الارتباط الشرطي في المدرسة السلوكية، وبعضكم يعرفها: وهي قصة اللُّعاب والكلب؛ فالكلب كان يُؤتى له بأكلٍ، وقبل أن يُعطى الأكل كان يسمع صوت الجرس، ثم مُنِع الأكل، وصار يسيل اللُّعاب عند سماع الجرس حتى ولو لم يُعط طعامًا.
المقصود: أنه صار عنده ارتباطٌ؛ فكلما سمع الجرس سال اللُّعاب، فالجرس ارتبط بقضية الأكل.
فلما نرجع إلى كلام أبي حامد الغزالي في القرن السادس نجده تكلم عن قضية سَيل اللُّعاب وما يتعلق بهذا الموضوع، وهذا موجودٌ في كتبه.
موقف الكنيسة في الغرب من العلم وظهور العلمانية
بعض الباحثين قام بدراسة ما طرحه (جون ديوي) وهو يُسمَّى بـ: "أبي التربية الحديثة"! والذين كانوا قبله ما موقفهم من هذه التسمية؟! لكن مشت؛ لأنهم اشتغلوا من جهةٍ، وألَّفوا من جهةٍ أخرى، لكن وجد أن عددًا من الأشياء قد أخذها من ابن خلدون في "مُقدمته" الشهيرة.
وأبو علم الاجتماع الحديث هو ابن خلدون، وأتحدى أن يُعطيني أحدًا شيئًا غير ذلك، ويُدرك أهل الاختصاص هذا الجانب عندما يطلعون على أُطروحات ابن خلدون في عهده وقرنه قبل أن يُدون علم الاجتماع وعلم التربية وعلم النفس بطريقته الحديثة التي سبق إليها الغربيون بلا شكٍّ، لكن من أين أخذوا ذلك؟!
وهذا يُذكرنا بالجامعات الإسلامية عندما كانت تحتضن الأوروبيين، فقد كانوا يأتون إلى الجامعات في الأندلس، فكانت البعثات عكس البعثات اليوم، فصاحب البعثة الشهيرة الذي يُشار إليه بالبَنَان كان الذي يُبتعث من أوروبا إلى الأندلس، فيرجع ويتكلم أول ما يتكلم: (ladies and gentlemen’s)، ثم يبدأ ويتكلم باللغة العربية مُفتخرًا، فقامت الكنيسة بتسميتهم: الشباب الرُّقعاء، وهددتهم!
وكان للكنيسة موقفٌ شنيعٌ جدًّا من قضية العلم والعلوم وما يرتبط بها من فهمها الانحرافي فيما يتعلق بهذه القضية؛ لأنها وجدت صدمة، وكانت هذه القضية سببًا في وجود العلمانية في المجتمع الأوروبي، ومع الأسف انتقلت لنا، مع أن الظروف تختلف، لكن انتقلت لنا بإرادةٍ أو بغير إرادةٍ إلى مجتمعاتنا العربية والإسلامية -للأسف الشديد-، وهو فصل الدين عن العلم وإيجاد العلمانية.
فسمَّتهم الكنيسة: الشباب الرُّقعاء، وهددتهم بالقتل إذا تكلم أحدهم بلُغته ثم عرج إلى اللغة العربية! وكانوا يفتخرون أنهم يتكلمون باللغة العربية.
نحن اليوم في صراعٍ!
وهذا كان في عصورٍ يُسميها الأوروبيون: العصور المُظلمة، ويقصدون بهذا الاسم: العصور التي كانت قبل العصر الحديث، وهي بالنسبة للإسلام العصور المُضيئة.
وهذا المصطلح -للأسف الشديد- موجودٌ في كتبنا! وبعض أساتذتنا يُدرسون هذا الكلام!
فهذه التسمية -للأسف- صارت على الكل! ويتكلمون عن العصور فيُقسمونها إلى ثلاثة أقسامٍ: العصر الحجري، وعصور الظلام، ثم العصر الحديث!
ووقع في ذلك بعض الأحبة -للأسف الشديد-، وهناك دراساتٌ موجودةٌ، وليست القضية اختراعًا من مُحدثكم، فهناك دراسات (ماجستير ودكتوراه) في هذه القضايا.
الرد على تقسيم العصور إلى ثلاثة أقسام
وهذا التقسيم ليس في كتاب الله، ولا في سنة النبي ، ولم يذكره أحدٌ من علماء المسلمين، هذا تقسيمٌ غربيٌّ، فعندما نأتي إلى العصر الحجري -الذي هو العصور البدائية- نجد الله يقول: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة:213]، يقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "كان بين نوحٍ وآدم عشرة قرون كلهم على شريعةٍ من الحق"[6]"تفسير الطبري" (3/ 621)، و"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/ 569)، والحاكم في "المستدرك" (4009) وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط … Continue reading، يعني: في بداية الخلق هم على التوحيد، فهي من أنصع الأزمنة والعصور، وهي العصور الأولى التي يُسمونها في التقسيم التربوي: العصور الحجرية المُتخلفة!
يقولون: العصور المُظلمة؛ لأنهم كانوا مُتخلِّفين ويحتاجون إلينا، وسرقوا بضاعةً من بضائعنا، واشتروا ذِمم عددٍ من المسلمين، وكانوا يأخذون منا رغم أنوفهم، ويأتون إلينا! فبالنسبة لهم كانت مُظلمةً، لكن بالنسبة لنا كانت عصورًا مُضيئةً.
والعصر الحديث مع الثورة الصناعية الفرنسية، وأُرخ العصر الحديث بما يتعلق بوجود الثورة الصناعية الفرنسية التي ظهر منها الفكر العلماني.
وبعض المسلمين سار في هذا الاتجاه كما يُقال: "مع الخيل يا شقراء"! معكم فقط، أعطونا العلوم التي عندكم! لا بد من تصفيةٍ.
التصدي للمُصنفات الغربية
النقطة الثانية في الأهمية: لا بد من التصدي للمُصنَّفات الغربية؛ لأن الذي يقرأ التربية بفكرٍ غربيٍّ وعنده نخوةٌ إسلاميةٌ وغيرةٌ إسلاميةٌ يقول: جعلنا لا نتربى! الذي يقرأ التربية باللغة الغربية ويقرأ الكتب يمكن أن يصل إلى مستوى أن يقول: لا نريد تربيةً!
ولذلك ما قدم في الأمور التربوية من كتابات ونظريات كثيرٌ منها على الطريقة الغربية؛ ولذلك حصل انكماشٌ، وخاصةً في علم النفس وعلم الاجتماع.
فلا بد من التصدي للمُصنفات الغربية؛ حتى نُعطي لما نقوله قيمةً؛ لشدة الحاجة إلى التربية، وأنها مهمةٌ جدًّا.
يُقال: لماذا تقولون بأن التربية مهمةٌ جدًّا وهي مليئةٌ بالخُزعبلات؟!
فيُجاب: بأن الذي أتى بالخُزعبلات هم الغرب، وليس نحن -المسلمين-، فنحن -المسلمين- عندنا كتاب الله تعالى، يفتح كتابَ الله أيُّ أحدٍ ويتربى عليه من فِطرته، لا تحتاج إلى أحدٍ يُعلمك، من فِطرتك.
خُذْ سورة الحجرات وتربَّى على الأخلاق، كل أحدٍ يفهم سورة الحجرات: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فكل أحدٍ يفهم هذا الكلام، وأنه صوَّر الغيبة كشخصٍ يأكل لحم أخيه: أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، كذلك الغيبة.
فيتربَّى الإنسان على النُّفور من الغيبة، هكذا يتربى الإنسان من كتاب الله، لا نحتاج (جون ديوي) ولا فلاسفة، وتقرأ صفحةً وصفحتين، والطلاب يُعانون من هذه القضايا؛ ولذلك هنا الجدارة: كيف نُقدم مراجع إسلامية من خلال مُختصين فاهمين يهتمون بالمنظور الإسلامي؟
لأن معظم المُؤلفات -للأسف- باللغة الأجنبية، وما كان باللغة العربية -للأسف الشديد- معظمه ليس على الجادة؛ ولذلك يَكْفَهِرُّ منها البعض ويهرب منها، وحُقَّ لهم.
أنا والله أقول: حُقَّ لهم، ولكن ليست هذه التربية، فالتربية ليست (جون ديوي)، التربية تربية محمدٍ ، التربية ليست معرفة (بافلوف وسكانر وماسلو ...) إلى آخره، هذه يمكن أن نستفيد منها، لكن لنا أرضيات سابقة موجودة في دعوة الأنبياء وكتاب الله وسنة النبي .
أنا لاحظتُ هذا بكل وضوحٍ مع طلابي عبر سنواتٍ طويلةٍ -بفضل الله - وغيري كذلك لاحظ، فما أجمل أن ننطلق مع طلابنا من المفاهيم التربوية والنفسية والاجتماعية في المادة الأكاديمية من خلال: قال الله، وقال رسوله ، وكلام العلماء! فهم يشعرون باللذة ويقولون: سبحان الله! هذا علم النفس! يُسميه بعض الطلاب: نكد النفس! ما المادة التي عندكم؟ يقول: نكد النفس!
وأنا أعذر بعضهم عندما يقرأ كتابًا في علم النفس، ولا يُوفَّق لأستاذٍ جيدٍ، ويُقدمه كأنه ببغاء من الفكر الغربي في قضية علم النفس! وهذا من أخطر ما يكون.
وبعض المسلمين إلى اليوم ما زال ببغاء في نظرية (فرويد)! مع العلم بأن أحد طلاب (فرويد) نفسه وهو (أدلر) استنكر ما قاله (فرويد) وردَّ عليه.
وما زال عندنا بعض الذين يُسمون: علماء نفسٍ ومُختصين، ولهم مُؤلفاتٌ، ويشتغلون بالتحليل النفسي، وما التحليل النفسي؟ ونظرية (فرويد)، وعُقدة (أوديب والترا)، وقضية الطفل الصغير الذي ينجذب لأبيه شهوةً وحبًّا جنسيًّا! والبنت تنجذب لأبيها شهوةً وجنسًا! والابن ينجذب لأمه شهوةً وجنسًا! وعنده قضيتان: الجنس والعدوان؛ الجنس يُبقي غريزة الحياة، والعدوان مُؤشِّرٌ لغريزة الموت!
هذا الكلام الفارغ، و(فرويد) -كما تقول إحدى الكاتبات الأمريكيات- كان يضع نظريته وهو يأكل الكوكايين!
وللأسف من علمائنا العرب -بعضهم قد يكون مسلمًا، لكن الغالب أنهم مسلمون- مَن لا زال إلى الآن عبارة عن صدًى لمثل هذه النظرية البائسة! وهي أقدم نظريةٍ نفسيةٍ، وما زال بعضهم إلى الآن يعتقدها! والغربيون أنفسهم ردُّوا عليها، ومنهم طلاب (فرويد).
إذن نحن في أزمةٍ كبيرةٍ، وسنضع عقبةً في طريق أجيالنا تجاه التربية والتعامل مع هذه القضايا!
وهذا واجب المُختصين التربويين والنفسيين والاجتماعيين، لكن أنا أقول هذا الكلام، صحيحٌ أنه لا يعنيكم كثيرًا أيها الإخوان الموجودون، لكن أنا أتكلم لأن هناك بثًّا وتوثيقًا، وهذا الكلام قد يُرى مرةً أخرى، فنقول هذا الكلام ليس فقط للإخوة الموجودين، وأيضًا لنُفسر لماذا الطلاب لا يُحبون مثل هذه المُقررات؟
لكن لو وُفِّقوا إلى مَن يربط هذه المُقررات بالمنهج الإسلامي بكتاب الله وسنة النبي : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، فكتاب الله لا فلسفةَ فيه، ولا ما شابه ذلك.
وتأثير بعض الذين كتبوا في التربية بتلك الأفكار الغربية -كما ذكرنا- عن طريق الترجمة والاقتباس، وهذا حصل من أيامٍ، حتى في نقل المعرفة من أيام العباسيين، وتولد الفكر الاعتزالي الذي يُقدم العقل على النقل، يُقدم عقله على كلام الله وكلام النبي ، ظهرت هذه النزعة في العصر العباسي عندما فُتح المجال للترجمات دون قيودٍ.
وكان عندنا أذكياء، لكنهم أصبحوا مُنحرفين، وهذا أخطر ما يكون على أجيالنا في زمن الشُّبَه اليوم، إن لم نُقَعِّدهم تقعيدًا سليمًا جدًّا تحصل هذه الطامَّة الكبرى؛ ولذلك على مَن يكتبون ويتكلمون في قضايا التربية وغيرها أن يتقوا الله .
وأعرف بعض الدورات هنا في الشرقية تم إيقافها -بحمد الله - في أكثر من مرةٍ، وأشياء قريبة قبل أكثر من ثلاثة أسابيع أو شهر ... إلى آخره، كما حدَّثني أحد مسؤولي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإمارة المنطقة الشرقية مشكورة أوقفتها.
حين ترى أنت الإعلان عن المُدرب الفلاني، والمُدربة الفلانية، وكذا، والنخبة، والسيرة الذاتية، لكن عندما تعرف بعض الحيثيات، والذين اختصُّوا في بعض القضايا كشفوا عورات بعض هذه الجوانب.
وأنا أُشيد بما قام به الشيخ: محمد المنجد -وفَّقه الله- في بعض الأُطروحات الموجودة في روابط حول النظر الشرعي في بعض الدورات التدريبية وما يتعلق بها، وقضايا الطاقة، وما الطاقة؟! ومثل هذه القضايا.
فلا بد أن نُدرك هذه القضية حتى نفهم، لا نُقدم لأجيالنا قضايا تجذبهم، ويُشدون إليها، وشيء جديد، ومرتبطة ببناء الإنسان، لكنها مُنحرفةٌ، هذه خطيرةٌ جدًّا جدًّا.
وإحدى الأخوات الدكتورة: فوز كردي، وهي في المدينة، من المُتابعات بقوةٍ، وكشفت عوار بعض هذه الدورات التدريبية من الناحية العقدية، فتخصصها في الجانب العقدي، وتكتب في هذا -جزاها الله خيرًا- باستمرارٍ، وتُناصح جهات مُعينة، وقد أوقفت عددًا من الدورات، أعرف ذلك عندنا في الشرقية، وفي غيرها.
وتجد في بعض الأحيان مَن يحمل شهادة دكتوراه أو عنده اهتمامٌ وتخصصٌ في هذا الجانب، لكن -للأسف- لا تُفرق بينه وبين الغربي.
وأنا حضرتُ إحدى الدورات لأحد الزملاء، حضرتُ حضورًا جزئيًّا، وسألتُ عن دورته في مكانٍ آخر، فقال لي أحد الإخوان ما لاحظتُه أنا، قال لي: حتى "بسم الله الرحمن الرحيم" ما قالها في البداية! دخل مُباشرةً، مع أنه شخصٌ مُلْتَحٍ، ورجلٌ فاضلٌ، لكنه نسخة (copy)، فهو تلقَّى هذا الكلام من شخصٍ بنفس الطريقة! وقد فتحتُ المُذكرة أبحث فيها عن مثالٍ أو شاهدٍ من آيةٍ فما وجدتُ! حتى كلمة "الله" لا توجد! وقد أبقى الأمثلة المُنحرفة كما هي!
فهذا الكلام لا يصلح، يُقال في نقل المعرفة: ينبغي أن ننقل المعرفة بناءً على ثقافتنا، وليس على ثقافة الآخرين.
هذا جزءٌ من الإشكالية الكبيرة التي وقع فيها ناسٌ من المُختصين بالتربية وعلم النفس والاجتماع، بل بعضهم ربما دمَّر أُسرًا! ودمَّر أشخاصًا! وأعرف بعض القصص بحكم مجال التخصص، وقد يكون يحمل شهادات عليا، لكن حدث ذلك بسبب أنه ليست لديه الهوية الإسلامية المُنضبطة؛ فورَّط نفسه، وورَّط غيره بسببٍ أو بآخر.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "مفتاح دار السعادة" (1/ 46). |
---|---|
↑2 | أخرجه ابن وهب في "الجامع" ت: مصطفى أبو الخير (ص99)، (53)، وأبو داود (4950)، وأحمد في "المسند" (19032)، وصحح الألباني هذا اللفظ من الحديث دون تمامه كما في "السلسلة الصحيحة" (1040). |
↑3 | أخرجه البخاري (2823)، ومسلم (2706). |
↑4 | انظر: "الجواب الكافي" (ص73). |
↑5 | أخرجه البخاري (4913)، ومسلم (1479). |
↑6 | "تفسير الطبري" (3/ 621)، و"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/ 569)، والحاكم في "المستدرك" (4009) وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط البخاري ولم يُخرجاه". |