المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: أسأل الله أن يجعل عواقب أمور إخواننا المسلمين في كل مكانٍ إلى خيرٍ، في سوريا ومصر، وفي غيرهما، اللهم آمين.
هذا هو اللقاء الثامن من المجموعة الثانية من التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة، وهو الجزء الخامس في موضوع تربية وإرشاد الشباب.
وستكون حلقة الأسبوع القادم -بإذن الله - حلقةً استثنائيةً بناءً على ترتيب البرنامج الخاص الذي رتَّبه الإخوة -جزاهم الله خيرًا- بعنوان: "أرحنا بها يا بلال"، نتكلم فيها عن القضايا النفسية والتربوية للصلاة في ساعةٍ إلا ربعًا، ثم في الأسبوع الذي يليه نستكمل -إن شاء الله تعالى- الأجزاء المتعلقة بتربية وإرشاد الشباب، والصلاة لا شكَّ أنها جزءٌ أساسيٌّ من تربية الشباب، لكن حسب طلب الإخوة بسبب أن عندهم برنامجًا حول الصلاة مع ندواتٍ ومُحاضراتٍ أخرى لبعض الفُضلاء، فكانت المُشاركة الأسبوع القادم -بإذن الله - بهذا العنوان.
وفي هذا الجزء الخامس سنُكمل ما يتعلق بتربية الشباب وإرشادهم.
وكنا في اللقاء الماضي قد تكلمنا عن الصفات التي يحتاجها الشخص المُربي، أو المُوجه المُرشد أيًّا كان: أبًا، أو مُعلمًا، ذكرًا أو أنثى، وأيًّا كان توجيهه، ما دام أنه يُخالط هذه المرحلة، وهي مرحلة الشباب.
وتحدثنا كيف نُهيِّئ الشباب إلى أن يقبلوا منا التوجيه والإرشاد والتربية؟ وسنُكمل هذا المشوار، وهو مشوارٌ طويلٌ، ولعلنا نصل إلى حلقةٍ نقف عندها، ثم يكتب الله خيرًا في موضوعاتٍ أخرى، وكلها -بإذن الله - موضوعاتٌ مُفيدةٌ ونافعةٌ -إن شاء الله-، وكلها تُستقى من كتاب الله وسنة النبي ، وحول قضايا تربوية ونفسية، فنحن بأمس الحاجة إليها.
وسنُخصص جزءًا من الوقت للإجابة عن مجموعةٍ من الأسئلة، ونسأل الله أن يُبارك في الوقت ويُعين.
مساعدة الشباب في اتِّخاذ القرار
مساعدة الشباب في اتِّخاذ قراراتهم من خلال تربيتهم وإرشادهم هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، ويأتي الشاب في بعض الأحيان إلى دائرةٍ مُعينةٍ ومعه مَن هو أكبر منه: كأخيه، أو أبيه، أو أحدٍ من الناس الكبار، أو صاحب الخبرة، وهو الذي يتكلم عنه.
وقد رأيتُ أحد الشباب وإذا بزميله يتكلم نيابةً عنه، فقلتُ له: هل أنت صاحب الحاجة؟ فقال: لا. قلت: أليس له لسانٌ؟! دعه يتكلم.
فنحن حين نُساعد الشاب في اتِّخاذ قراره، وأن يثق بنفسه، ويحلّ مُشكلاته بموضوعيةٍ؛ فإننا نُنَمِّي شخصيته بطريقةٍ سليمةٍ، ونُنَمِّي الجانب الشخصي والاجتماعي والتربوي والمهني والعبادي لديه، ونُنَمِّي هذه الشخصية بحيث تتكامل بطريقةٍ سليمةٍ.
والمشروع مشروعٌ تراكُميٌّ أيها الإخوة والأخوات، وليست القضية قضية موقفٍ أو مُقابلةٍ شخصيةٍ لأجل الاختيار: يُناسب، أو لا يُناسب، وإنما القضية مشروعٌ مُتكاملٌ يحتاج إلى صبرٍ وتحمُّلٍ.
فهناك فرقٌ بين أبٍ اتَّخذ التربية حدثًا عابرًا، أو موقفًا عابرًا، وأبٍ آخر التربية عنده على أساسٍ علميٍّ: لها أهدافها، وإجراءاتها، وبرامجها.
ولذلك لا يمكن أن تكون التربية تربيةً ناجحةً إذا كانت عبارةً عن شيءٍ عابرٍ من فضول الكلام والوقت، وإنما لا بد أن تكون تربيةً مبنيةً على أسسٍ وقضايا واهتماماتٍ عمليةٍ وإجراءاتٍ.
فالذهن مشغولٌ يُفكِّر: ماذا يُريد أن يُقدم لهؤلاء الشباب؟ والإجراءات والاهتمامات موجودةٌ، وليست قضيةً عابرةً، فهذا معنًى مهمٌّ جدًّا؛ ولذلك التربية والإرشاد ليست كلامًا، وإنما عمليةٌ لها إجراءاتها واهتماماتها ووقتها وأهدافها كما قلنا، وليست قضيةً عابرةً؛ ولكي ننجح نحتاج أن نضع هذا الاعتبار في أذهاننا.
مساعدة الشاب في حلِّ مُشكلاته
القضية الثانية: أن عملية التربية والإرشاد للشباب قضيةٌ تعليميةٌ، بمعنى: أنني لا أُقدم له شيئًا جاهزًا، وأحلّ له مشكلاته، وإنما أُعلمه كيف يحلّ المشكلات؟ وكيف يكتشف أن عنده مشكلةً، أو ليست عنده مشكلةٌ؟ وكيف يكتشف ذاته ويفهم نفسه؟
فالقضية فيها تعليمٌ؛ ولذلك قضية التعليم فيها أهدافٌ وإجراءاتٌ، وليست قضيةً اعتباطيةً وعابرةً، وإنما فيها تعليمٌ.
فإذا أردتَ أيها الأب وأيها المعلم -ذكرًا أو أنثى- ومَن يُخالط الشباب -صديقًا وغيره- أن تُدرك: هل أنت ناجحٌ في تربية هؤلاء الشباب، أو في إرشادهم؟ وهل أنت علَّمتَه فعلًا؟ فليس المعيار أن تُخلِّصه من المشكلة، أو من الموقف المُحرج، وإنما تُعلِّمه أنه لو حصلت له المشكلة مرةً أخرى يتخلص منها.
فلا بد إذن أن يتعلم كيف يُنَمِّي نفسه؟ وكيف يَقِي نفسه من الشرور والمشكلات؟ وكيف يستطيع أن يُعالج المشكلات؟
فلا شكَّ أن هذه القضية أكثر تعبًا وفائدةً ونفعًا، والبعض يفهم التربية أنها عبارةٌ عن توجيه الكلام فقط: صَلِّ، وذاكر، وقلتُ له: الله الله بالأصدقاء الطيبين، وانتهت القضية، فقط كلمةٌ رماها -يعني: شفرة- وانتهت القضية، وكأنه قد رَبَّى وأرشد!
فلا بد من الجانب التعليمي، ولا بد من تعليمهم كيف ينمون أنفسهم؟ وكيف يحلُّون مشكلاتهم؟ وكيف يعرفون جوانب القوة والضعف في شخصياتهم؟
فموضوع التربية والإرشاد للشباب قضية مُساعدةٍ، وهذه القضية -كما يقول أهل الاختصاص- من القضايا المهمة جدًّا، يعني: أنت تُساعد هذا الشاب، والنفس البشرية مفطورةٌ على حبِّ مَن يُساعدها، فإذا أردتَ أن تملك قلب ابنك الشاب، وابنتك الفتاة، وابنتُكِ الطالبة في هذه المرحلة؛ فقدِّم له المُساعدة، فالتربية والإرشاد قضية مساعدةٍ، وليست قضية أوامر، أو كما قلنا: عبارةٌ عن رسائل شفهية وتنتهي التربية والإرشاد.
العلاقة الحميمية والمُشاركة الوجدانية
أيضًا موضوع التربية والإرشاد قائمٌ على علاقاتٍ حميميةٍ، ومُشاركةٍ وجدانيةٍ، وهذا أيضًا مهمٌّ جدًا، فلا يمكن أن تكون مُربيًا ومُؤثرًا في هؤلاء الشباب إلا إذا كانت هناك علاقةٌ حميميةٌ، ومُشاركةٌ وجدانيةٌ، كما يقولون: ضع نفسك في محلِّ الشاب. يُسمُّون هذا في الاختصاص: "الفهم مع المُسترشد" يعني: ضع نفسك أيها المُربي -أبًا كنت أو أمًّا- في مكان الشاب الذي يطلب مَن يُعينه، ماذا ستحتاج؟ وماذا سيحتاج هذا الشاب؟ ثم عِشْ مشاعره، فهذه هي المُشاركة الحميمية والأُلفة والقُرب المادي الجسدي والمعنوي النفسي، ولا شكَّ أنه يُؤثر كثيرًا، وهي قضيةٌ أساسيةٌ في التربية والإرشاد.
وأيضًا كلما كان المُربي مُتدربًا وعنده الجانب المهني والتوجيهي في الإرشاد والتربية كان أفضل.
قد يقول قائلٌ: هل تقصد أن يكون المُربي مُتخصِّصًا؟
نقول: مَن سنحت له الفرصة أن يتخصص فليتخصص، وسيجد أثر التخصص في هذا الجانب، وإذا لم يستطع أن يتخصص فليدخل دوراتٍ تُنَمِّيه، وتدخل الأم والمُعلمة دوراتٍ تُنَمِّيها؛ حتى يعرفون خصائص هذه المرحلة، وهي مرحلة الشباب، وكيف يتعامل المُربي مع هذه المرحلة؟
وتجدون الفرق بين مَن يقرأ ويحضر دوراتٍ ويحصل على شهادةٍ بجِدٍّ واجتهادٍ، ومَن ليس عنده هذا الاهتمام أبدًا، قد يكون اهتمامه بالقضايا الدنيوية البحتة، لكن ما يتعلق بارتقاء هؤلاء الشباب -ذكورًا وإناثًا- وحلِّ مُشكلاتهم -للأسف- تجد أن عنده إشكاليةً كبيرةً جدًّا؛ ولذلك نحتاج أن نُدرك أيضًا أن من عناصر التربية والإرشاد: الجانب المهني والتدريبي، فكلما كانت التربية قائمةً على أسسٍ عمليةٍ علميةٍ، وليست قضيةً عابرةً، وفيها مُساعدةٌ، وقائمةٌ على علاقات الأُلفة والمودة والمُشاركة الوجدانية، والشخص المُربي قد تدرب على هذه المهارات؛ استطاع أن ينجح في تربية الشباب وإرشادهم.
تعامُل المنهج الإسلامي مع حاجات الإنسان
لما نأتي للمنهج الإسلامي، هذا المنهج العظيم، وننظر: كيف وَجَّه؟ وكيف قدَّم رؤيةً عن النفس البشرية، وخاصةً عند الشباب؟ وقد أشرنا إلى شيءٍ من هذا القبيل، ولو وقفنا عند حاجات الشباب، والحاجات قضيةٌ مُقلقةٌ جدًّا، وعنصرٌ مهمٌّ، فالحاجات قد تكون عضويةً، وهي المُرتبطة بالجانب البيولوجي والفسيولوجي، ويحتاجها الشاب، ولا بد أن نُدرك هذه القضية، فهو يحتاج إلى غذاءٍ وأكلٍ وراحةٍ ونومٍ وإشباع الغريزة بالحلال، هذا جانبٌ عضويٌّ.
والجانب النفسي يحتاج إلى تقديرٍ واحترامٍ، وأن يُمارس دوره، ويحتاج إلى الراحة والأمن.
فهذه الحاجات إذا صار بينها وبين الشاب حائلٌ وعقبةٌ ولم تُشبع؛ حصل الاضطراب النفسي والجسمي.
فالجوع يُشير إلى الحاجة إلى الطعام، والإرهاق يُشير إلى الحاجة إلى النوم والراحة، والخوف يُشير إلى الحاجة إلى الأمان، فيحتاج إلى أمنٍ حتى لا يخاف، والشعور بالوحدة يعني: أنه يحتاج إلى الرُّفقة، وهكذا، فإذا ما تحقق النوم والطعام والأمن والرُّفقة سيحصل اضطرابٌ، فمثلًا: إذا فقد النوم سيكون هناك انهيارٌ في الجسم وإرهاقٌ؛ ولذلك فرقٌ بين الطالب الذي يأتي المدرسة وقد أخذ قسطه من الراحة، والطالب الذي ما أخذ قسطه من الراحة: إما بسببه، أو بسبب غيره.
وفرقٌ بين الابن الذي تريد أن تُربيه، وهو مرتاحٌ، والابن الذي لم يرتح، أقصد من الناحية الجسمية، وكذلك إذا ما حصل الأمن جاء القلق والخوف.
وأنا أقول لكم شيئًا أيها الإخوة: مستوى القلق والتوتر في مرحلة الشباب مُرتفعٌ، والدراسة الأخيرة في نوفمبر 2011م -يعني: خلال 11 شهرًا- ذكرت أن نصف مليون من السعوديين والسعوديات يرتادون العيادات النفسية، وأن أكثر من 60% منهم من الشباب!
فهذه المرحلة قابليتها للقلق والتوتر أكبر؛ لذلك فالشاب يحتاج إلى الأمن النفسي، فمَن الذي يُكسبه الأمن النفسي؟ هل الأصدقاء المُضطربون نفسيًّا يُكسبونه الأمن النفسي؟! وهل ما يتلقَّاه عبر التقنية وهو يُخالف فِكره وقِيَمه، ويجعله يتصارع مع نفسه، ويكون غير مُنسجمٍ؛ هو الذي يُكسبه الأمن النفسي؟! فكيف يكون شخصًا مُستقرًّا وآمنًا نفسيًّا؟! سيكون قلقًا ومُضطربًا.
من دلائل الاضطراب: عدم التوازن بين النظرية والتطبيق
ومن دلائل الاضطراب: عدم التوازن بين الجانب القِيَمي من الناحية النظرية والجانب التطبيقي، بين توجُّهاته وتطبيقاته، فيقول: أنا مسلمٌ، لكن قِيَمه التي مارس بعضها لا تُمثل الإسلام!
ويقول: أنا مؤمنٌ بقضية الأمانة، ولكن عنده خيانةٌ، فيعيش اضطرابًا ذاتيًّا ومُجتمعيًّا، ويتولد القلق والتوتر، وبفقد الرُّفقة سيحصل عنده اضطرابٌ ووحشةٌ؛ ولذلك تحصل اضطراباتٌ بسبب فقد هذه الحاجات، فنحتاج أن نقف مع الحاجات وقفةً قويةً.
الحاجة إلى الأمن والطمأنينة
انظر مثلًا: الحاجة إلى الأمن والطُّمأنينة، يقول الله : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ هذا الجانب العضوي، وَالْخَوْفِ الجانب النفسي، بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
فالشباب من أهم حاجاتهم: الحاجة إلى الأمن والطُّمأنينة، فإذا اطمأنوا وأمنوا تستطيع أن تُوجِّههم كيفما شئتَ.
ويقول الرسول : مَن أصبح منكم مُعافًى في جسده، آمنًا في سِرْبِه، عنده قُوت يومه؛ فكأنما حِيزَت له الدنيا[1]أخرجه ابن ماجه (4141)، والترمذي (2346)، وحسنه الألباني.، فإذا اضطربت هذه الأشياء اضطرب الأمن.
الحاجة إلى الحب
وخذ مثلًا: حاجته إلى الحب، والمقصود هنا: حب الآخرين له، فالشاب عنده هذه الحاجة، فكما أنه يحتاج إلى الأمن النفسي والطُّمأنينة حتى يستقر نفسيًّا، فهو كذلك يحتاج إلى أن يُحبه الآخرون، فهذه حاجةٌ عنده، يقول الله : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، فانظروا أيها الإخوة ماذا فعل الأنصار بالمُهاجرين؟
اغترب المُهاجرون، ومنهم فئة الشباب، فما كان من الأنصار إلا أن قاموا بإجراءاتٍ وأعمالٍ لإخوانهم المُهاجرين؛ محبةً من الأنصار للمُهاجرين، وقبولًا لهم، وتأييدًا ومُؤازرةً، إلى درجة أن مَن كانت لديه زوجتان عرض على أخيه أن يُطلق إحدى زوجتيه ليتزوجها أخوه، والسبب في ذلك أنها حاجةٌ مهمةٌ جدًّا.
فالمُهاجرون -سبحان الله!- وجدوا تعزيزًا قويًّا حينما رأوا إخوانهم من الأنصار يُحبونهم هذا الحب، ويُؤثِرون على أنفسهم ولو كانت بهم خَصاصةٌ، فالحب حاجةٌ نفسيةٌ، يقول الرسول : لا تدخلون الجنة حتى تُؤمنوا، ولا تُؤمنوا حتى تحابُّوا، أولا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتُم؟ أفشوا السلام بينكم[2]أخرجه مسلم (54)..
انظر إلى الشاب لما تمرُّ عليه وتقول له: "السلام عليكم" كيف يرتاح؟ ولما يُسلم عليه زميلُه الشاب الآخر.
وصارت عندنا إشكاليةٌ كبيرةٌ الآن، وهي قضية شعور الشاب بأن السلام خاصٌّ لمَن تعرف، وأصبحت مثل الثقافة، وهذا خطيرٌ جدًّا.
وكنتُ أتكلم مع طلابي قريبًا حول هذه القضية، وقلتُ: إن من المُمارسات العملية التي يحتاج أن يتربى الإنسان عليها: أن يُسَلِّم على مَن يعرف ومَن لا يعرف، وينظر إنجازه في هذه القضية، فهذه صورةٌ من صور المحبة: أولا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم، فالشاب يشعر بالمحبة عند إبراز هذه الهدية البسيطة، وهي مهمةٌ وثمينةٌ.
والإسلام أتى بدائرةٍ واسعةٍ جدًّا في الحاجات، والحاجات قد يسَّر الله بحثها ميدانيًّا على مرحلة الشباب في رسالة (الماجستير)، وقد أكَّدت الدراسات الميدانية على حاجة الشباب إليها، كدراسة الدكتور عمر المُفَدَّى على مستوى الخليج العربي، فقدَّم دراسةً رائعةً جدًّا عن الشباب وحاجاته النفسية، ونشرها مكتب التربية لدول الخليج العربي.
والدكتور عبدالعزيز النغيمشي في رسالته الرائعة حول المُراهقين تكلم عن حاجات هؤلاء المُراهقين، وصنَّفها تصنيفًا رائعًا جدًّا.
ويسَّر الله لي بحثًا في إشباع الحاجات النفسية وعلاقتها بالتديُّن لمرحلة الشباب في رسالة (الماجستير).
فكلُّ هذه الدراسات أكَّدت على هذه القضية، وأن الإسلام والمنهج الإسلامي يختلف عن النظريات الغربية في مُنطلقه، ويختلف في تأكيد بعض الحاجات التي ما أكَّد عليها المنهج الغربي، ويختلف في طريقة إشباعه للحاجات، نعم، هناك أشياء مُشتركة، لكن الإسلام تميَّز بمُنطلقه في تلبية هذه الحاجات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فالمقصود في تربيتنا وإرشادنا للشباب -ذكورًا وإناثًا- أن نُعبِّدهم لله، ما الفائدة في أن يُصبح طبيبًا، وصاحب شهادة (دكتوراه)، أو مُهندسًا، أو مُوظَّفًا، وهو لم يقم بحقِّ العبودية لله ؟! والله اتركه جاهلًا خيرٌ من ذلك.
فبهذا المُنطلق تميَّز المنهج الإسلامي؛ ولهذا تجد المنهج الغربي لا يذكر بعض الحاجات، مثل: الحاجة إلى الهداية والتوبة وأشباهها.
وانظروا إلى هذه الآية العظيمة، يقول الله : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28، 29]، فما علاقة هذه الآية بالكلام الذي نقوله؟
نظرة الإسلام الشُّمولية للإنسان
الإسلام ينظر للإنسان على أنه مادةٌ وروحٌ، وهذا التصور الشُّمولي التَّكامُلي ليس موجودًا بالمنهج الغربي، فالمنهج الغربي ينظر للإنسان -ومنه فئة الشباب- نظرةً ماديةً وغريزيةً؛ ولذلك تجدهم يضرب بعضُهم بعضًا، فيردّ بعضُهم على بعضٍ، فتتسع الدائرة بشيءٍ معقولٍ، وشيءٍ غير معقولٍ، ويأتي هذا ويرد على ذاك؛ لأن قضيتهم ماديةٌ بحتة، لا حدودَ لها، لا (ماسلو)، ولا (بافلوف)، ولا (اسكنر)، ولا (فرويد)، ولا غيرهم يُعطيك حدودًا لهذه القضية البتة، ولا غير هؤلاء من المدارس، وإنما هو كلامٌ نظريٌّ فلسفيٌّ بشريٌّ، جزءٌ منه مقبولٌ، وجزءٌ منه غير مقبولٍ، وتختلف النسبة بين النظرية والنظرية، لكن هناك أجزاءٌ فيها مشكلةٌ كبيرةٌ وتحتاج إلى وقفاتٍ.
أما المنهج الإسلامي فهو من عند الله، والله أعلم بمَن خلق، وقد بيَّن أن الإنسان هو قبضه من طين الأرض؛ ولذلك هناك حاجاتٌ عضويةٌ، وهي ما تُعرف بالجانب البيولوجي والفسيولوجي، وهو أيضًا نفخةٌ من الروح، وهو الجانب الروحي، فهناك حاجاتٌ روحيةٌ مُرتبطةٌ بالوعي والإدراك والعقل والإرادة والعاطفة والوجدان.
فهذه النظرة التَّكامُلية الشُّمولية ما تجدها بهذه الصورة إلا في المنهج الإسلامي، فانظر كيف قال الله عن هذا الإنسان، ومنه الشاب -ذكرًا أو أنثى-: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]؟
ففي الإنسان ثِقلٌ، وهذا من طبيعة النفس البشرية لكونها من الطين، ففيها هذا الضعف، ومن هذا الضعف أنه عجولٌ، فتستطيع ألا تكون عجولًا، ومن ذلك: حُبُّ المال حبًّا جَمًّا، فتستطيع أن تكون مُعتدلًا في هذه القضية، وكذلك النفس أمَّارةٌ بالسوء، وتستطيع أن تضبط هذه النفس، لكن هذا ليس تبريرًا، وإنما هو تفسيرٌ وتشخيصٌ للإنسان وبيانٌ، فيُمكن أن يقع الإنسان في ذلك، فهذه صورةٌ بيَّنها الله .
وخذ مثلًا: قول الله : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، هذه صورةٌ إيجابيةٌ، ومثل: قول الله : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، فعندهم طعامٌ، وهم مُتعلِّقون به، ومع ذلك يُطعمون المسكين واليتيم والأسير من باب الإيثار.
ومن باب تصوير النفس البشرية: ذلك الموقف الذي حصل في معركة القادسية للكبار العُظماء الذين كان كل واحدٍ منهم في أَمَسِّ الحاجة إلى أن يشرب ما يروي عطشه، وهو على شفا أن تُزْهَق روحه، ويسمع صاحبه فيطلب من الساقي أن يُحوِّل الماء إلى صاحبه ليشرب قبله، حتى تعود الدائرة إلى الأول فيجده الساقي قد مات، ثم الثاني قد مات، ثم الثالث، وهكذا.
فهذه صورةٌ من الصور التي يُبين الله فيها أن نفوسًا البشرية يمكن أن تصل لهذا المستوى، كما أن هناك نفوسًا أمَّارةً بالسوء، فهذه قريبةٌ إلى الطين قبضة الأرض، وتلك قريبةٌ إلى الروح التي خلقها الله .
فهذه الصورة التي تُبين هذه النفسية نحتاج أن نقف عندها.
الحاجة للهداية
ومن الحاجات مثلًا: الحاجة للهداية، فطبيعة الشباب أنهم يحتاجون إلى أن يتعرَّفوا إلى الخالق البارئ ، فالشاب مُعرَّضٌ -كما يقولون- للشك الفلسفي في قضايا: الألوهية، والوحي، والبعث، والنُّشور، ويُسبب له ذلك قلقًا روحيًّا وعقليًّا، وهشاشةً في التفكير، فإذا تعرَّض للشبهات التي سَدَّها النبي مع عمر -وهو عمر- يمكن أن يزلَّ.
فالشاب يحصل عنده هذا القلق في الذات الإلهية، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ، خاصةً إذا ما وجد مَن يأوي إليه.
والرجل الذي أتى النبيَّ وقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه -يعرض بالشيء- لأن يكون حُمَمَةً أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة[3]أخرجه أبو داود (5112)، وصححه الألباني.، وفي روايةٍ: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلم به. قال: وقد وجدتُموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان[4]أخرجه مسلم (132)..
إذن هذا خطرت في نفسه خواطر سلبيةٌ، فأتى إلى النبي يريد أن ينفكَّ من هذه الخواطر السلبية، وظاهر الأمر أنها كانت في الذات الإلهية، فذهب إلى المُربي الأول، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
فالشباب يحتاجون إلى مَن يعودون إليه، وإذا ابتعد عنهم المُربون في مثل هذه القضايا المُتعلقة بحاجة الهداية والتوجيه في حقِّ الله ، وتوحيد الألوهية، والربوبية، والأسماء والصِّفات؛ ضلُّوا، وربما حصل عندهم الاضطراب، خاصةً مع الوسائل الحديثة اليوم، والتي صاروا يسمعون فيها كل شيءٍ، ويرون كل شيءٍ إلا مَن رحم الله .
ومَن مِن الشباب اليوم عنده المنهج الذي عند عمر بن الخطاب الذي التزم بأمر الرسول ، ولم يُعرِّض فكرَه للأفكار المُنحرفة؟
وتحمد الله حين يأتيك الشابُّ ويسألك عن قضيةٍ قرأها فيها إشكاليةٌ مُتعلقةٌ بالذات الإلهية، أو الدين، أو غير ذلك، فأنت تحمد الله على مثل هذا الشاب؛ لذلك من أشد ما يحتاجه الشباب: الحاجة إلى الهداية، يقول الله : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، ويقول: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، فالهداية والإيمان نعمةٌ كالطعام والشراب والهواء؛ لأن بها تطمئن القلوب، وتمتلئ النفوس والجوارح بما يُرضِي الله ، وإلا سيكون مُقابلها التِّيه والضَّياع.
ويمكن أن تقوم باختبارٍ بطريقةٍ غير مباشرةٍ للشباب الذين تتعامل معهم -أبناء أو طلاب- واسألهم هذا السؤال: ما أُمنيتك في الحياة؟ وحاول أن يكون هذا السؤال عن طريق غيرك؛ لأن بعض الشباب يُجامل حين يرى سَمْتَ السائل التديُّن، وطمئنهم بأن الأسماء غير معروفةٍ، وانظر النتائج المُتعلقة بقضية الأُمنيات.
وكانت هناك دراسةٌ على الشباب السعودي من سِنِّ 18 إلى 25 حول هدف الشاب في هذه الحياة، فدلَّت على أن رقم واحدٍ كانت حاجة غير الحاجة إلى الهداية، يعني: ضعف الجانب المُتعلق بالهداية، والانهماك في الجانب المادي الدنيوي.
فهذا يدل على أننا في برامجنا بأمس الحاجة إلى أن نسلك مسلك تلبية وإشباع الحاجة إلى الهداية؛ أن يكون الشاب -ابني وطالبي وأحد أفراد المجتمع- مُهتديًا.
والرسول يقول: سبعةٌ يُظلهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظله: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه[5]أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031(.، ولم يقل: الشاب الذي يُصبح طبيبًا، أو مُهندسًا، أو مشهورًا، أو مُخترعًا، تلك أمورٌ تُنبيك عن خيرٍ، لكن إذا لم يكن رأس المال موجودًا، والهداية لا قيمةَ لها، ولا هذه الأمور والمعايير والموازين في ميزان تربية الشباب وإرشادهم، وفي محاضننا التربوية الأسرية والإعلامية والمُجتمعية والمدرسية؛ سيكونون في تِيهٍ وضياعٍ، وسيكثر القلق والتوتر الذي هو من مُستلزمات التِّيه والضَّياع.
ونلحظ في طلابنا التِّيه والضياع والقلق والتوتر وعدم الاتِّزان، ولا تهدأ النفس إلا بالاستقرار النفسي الذي لا يمكن أن يكون إلا بمعرفة حقيقة هدفه في هذه الحياة، ومُمارسة ذلك عمليًّا؛ لأنه حتى لو عرف حقيقة هدفه في الحياة، وأجاب عنه في الاختبار، وكانت إجابةً صحيحةً، وتكلم عنه المعلم والمعلمة والأب وغيرهم، لكن الواقع يُخالف ذلك؛ حصل الاضطراب النفسي، وعدم التوازن بين الجانب النظري والتطبيقي، فيحصل القلق والتوتر الذي هو من دلائل التِّيه والضياع والبُعد عن طريق الهداية.
الأسئلة
لعلنا نُكمل -إن شاء الله تعالى- باقي الحاجات في اللِّقاءات القادمة، والآن نُجيب عن أسئلة الإخوة؛ لأنها تحتاج إلى وقتٍ، ونسأل الله العون والسَّداد.
تغيير البيئة السلبية
يقول السائل: إذا كانت بيئة أهلي ومَن حولي غير إيجابيةٍ، فهل أسكن بعيدًا حتى أُربِّي أبنائي بالقدوة بعيدًا عن المُؤثرين السَّلبيين؟
الجواب: نعم، إذا كان الوصف كما ذكرتَ أخي الكريم فلا شكَّ أن هذا إجراءٌ طيبٌ، وما دمتَ -الحمد لله- مُتأهِّلًا فهذا ما يشفع لك، فاخرج إلى سكنٍ مُستقلٍّ، وأَعِنْ نفسك وأهلك على الاستقلال في السكن؛ لأن هذا سيُساعد في ابتعاد المُؤثرات السلبية بلا شكٍّ.
وإذا كانت المُؤثرات السلبية من قِبَل الوالدين فنُوصيك بالرِّفق بهما، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فالمُصاحبة في المعروف في كل حالٍ هذا لا نقاشَ فيه، لكن إذا كانت هناك مُؤثراتٌ سلبيةٌ فرأس المال لا بد أن يُحافظ عليه: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، ولا مُجاملة هنا، ولا تُخالف برّ الوالدين، ولا بد أن تكون هوية الإنسان واضحةً عند أسرته، لا يذوب في ظلِّ الأسرة.
وليس المقصود هنا أن يخرج عن الأب والأم بدون رضاهم، وإنما يُقنعهم ويُرضيهم بأي طريقةٍ ما دام أنه وصف الحال بهذه الصورة؛ لأن المُؤثرات السلبية الأسرية خاصةً لها أثرٌ كبيرٌ على الأبناء.
والنبي في قضية الأعراض يقول: الحمو الموت[6]أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).، والحمو: قريب الزوج.
وكثيرٌ من الناس يتساهلون، يقول بعضهم: قريب الزوج أو الزوجة دعه يُسَلِّم عليها بطريقةٍ عاديةٍ جدًّا، ويسكن جنبها، والرسول قال: الحمو الموت؛ لأنه كلما كانت العلاقة أكبر تنكسر الحواجز، فيكون التأثير -إذا كان سلبيًّا- أشد.
وتأتيني إشكالاتٌ من بعض الإخوة، يقول أحدهم: نُعاني من اللقاء الأُسري، فماذا نفعل؟ واللقاءات الأُسرية لا بد منها.
إذا كنتُ أعلم أن اللقاء الأُسري يُكسبهم أشياء سلبيةً، فلا بد أن أكون صاحب هُويةٍ وشخصيةٍ واضحةٍ، ولي رأيي المُستقل فيما أُومن به، وإلا سيذوب أبنائي.
وليس المقصود من هذا المُقاطعة، فهنا لا بد من المُحافظة على رأس المال، والله يقول: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا، فهؤلاء ستُسأل عنهم أمام الله .
فإذا كانت القضية كما ذكرتَ أيها السائل، والمُؤثرات سلبيةٌ؛ فلا بد من الانتباه:
متى يبلغ البُنيان يومًا تمامه | إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدِمُ[7]البيت لصالح بن عبدالقدوس كما في "الأمالي في لغة العرب" (2/ 96)، و"أمالي القالي" (2/ 94). |
فما دمتَ تُربِّي أبناءك فحافظ على أسلوبك في التربية، واجعلها مُنطلقةً من الكتاب والسنة، واجتهد، نعم هناك مُعاناةٌ: إن الدين بدأ غريبًا، ويرجع غريبًا، فطُوبى للغُرباء الذين يُصْلِحون ما أفسد الناس[8]أخرجه الترمذي (2630).، فلا بد من تعبٍ، ولا بد من إقناع الوالد والوالدة، وقد يغضبان، لكن ما دام في القضية إرضاء الله، فلو تعارض رضا الله مع رضا الوالدين يُقدَّم رضا الله ، وفي الحديث: مَن التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومَن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس[9]أخرجه الترمذي (2414)، وصححه الألباني.، فسيرضى الوالدان بعد ذلك، أهم شيءٍ حُسن الأسلوب، فليس معنى هذا الكلام أن أغلظ في الأسلوب، حاشا، فالرسول في هذا الحديث لم يذكر إلا هذين القسمين، وهذا وعدٌ ووعيدٌ، يعني: هو شيءٌ سنجده أمام أعيننا، لكن مَن عنده اليقين؟ المُستعجلون، أو أصحاب الثَّمرات المُستعجلة، والذين لا يُفكرون فيما عند الله!
فدائمًا المُرتبط بالله يحتاج إلى نفسٍ طويلٍ في ظلِّ هذه المُتغيرات، أما المُستعجل فيتحمل مسؤولية التَّغير الاجتماعي الخطير الموجود اليوم، ومن ذلك التأثير الأُسري.
فلا بد من مُجاهدةٍ، حتى لو كانت مع الآباء، أهم شيءٍ: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، حتى الكافر يحتاج إلى إحسان الكلام معه، فكيف ببرِّ الوالدين؟
لكن ليس معنى هذا الكلام أن أرضى بالأمر الذي لا يرضاه الله من الوالدين، فهذه قضيةٌ محسومةٌ ومُنتهيةٌ، وهي من الابتلاء الذي يتطلب مُجاهدةً وصبرًا.
وهذه المعاني سنأتي إليها في كلامنا عن بقية الحاجات -إن شاء الله تعالى-، وهي معاني: الابتلاء والمُجاهدة والصبر، فكم نحن بأمس الحاجة إليها في ظلِّ منظومة التربية والإرشاد.
أولادي لا يُصلون في المسجد
يقول: عندي ثلاثة أولادٍ أعمارهم من عشرين سنةً، ولا يُصلون في المسجد، وما تركتُ وسيلةً إلا فعلتُها، ولكن لا جدوى، ماذا أفعل؟
الجواب: هذه مُعاناةٌ عظيمةٌ، فأسأل الله أن يُعين هذا الأخ أو هذه الأخت، خاصةً فيما يتعلق بالصلاة، فنحن نُشارك وجدانيًّا هذا الأخ، والله يُعين.
والأمر الثاني: قد يكون سبب ذلك إهمالهم منذ الصِّغر، فنحن أحيانًا نحصد ما نزرع، ولا أريد أن أدخل في تحقيقٍ مع هذا الأخ أو هذه الأخت، فإجابتنا عامَّة؛ حتى يستفيد منها أكثر من شخصٍ في أكثر من احتمالٍ، يعني: الذي وُفِّق للتربية المُبكرة لا شكَّ أن هذا مُؤثرٌ.
قد يقول قائلٌ: أنا قمتُ بها. فإذا قام بالتربية منذ الصِّغر فقد عُذِرَ أمام الله .
وأنا مرةً كنتُ في لقاءٍ في أحد المساجد، وبعد الصلاة أتى واحدٌ من كبار السن مُتَحَسِّرًا على أحد أبنائه، وشعرتُ من الكلام وممن كانوا موجودين أن المشكلة من الأب نفسه، فقلتُ له: عسى الله أن يهدي ابنك ... إلى آخره، فهل عندك ابنٌ ثانٍ؟ فقال: نعم، عندي ابنٌ ثانٍ في المرحلة الابتدائية. فقلتُ: الله الله فيه، جزاك الله خيرًا، فاحرص عليه، ورَبِّهِ تربيةً صحيحةً؛ حتى لا يضيع -إن شاء الله-، وقصدتُ بهذا الكلام أننا قد نكون نحن السبب، وفي نفس الوقت ما يأتي النَّدم إلا حين تأتي المشكلة والمُفاجآت.
وأتصور أن لهذه مُقدماتٍ، فليَعُدِ المُربي باللوم على نفسه، ولا عيبَ في ذلك، والمُربي الناجح يكون كما قال ابن مسعودٍ : "إذا سمعتَ الله يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأَصْغِ لها سمعَك، فإنه خيرٌ تُؤْمَر به، أو شرٌّ تُصرف عنه"[10]"التفسير من سنن سعيد بن منصور" (1/ 52).، فهذا منهجٌ.
وللأسف عندنا ثقافة: أنني أقدر أن أتخلص، ولا أقول: أنا المُخطئ!
يا أخي، اتَّهم نفسك، قد تكون المُخطئ؛ لأن هذه وسيلةُ من وسائل الوصول للصواب وتشخيص الحالة.
ونرجع إلى نمط التربية في الحياة والتفاعل: هل كانت قائمةً على الدلال؟ فهذه مشكلةٌ، وقد يكون جزءٌ من ضريبتها هذا الواقع المُؤلم، وهل هي قائمةٌ على القسوة؟ فهذه مشكلةٌ، فالدلال والدلع والقسوة كلها قد تُؤدي إلى النُّفور، لكن لو كان وُدٌّ وحزمٌ -كما أشرنا سابقًا في أساليب التربية- وعلاقاتٌ حميميةٌ ... إلى آخره، فلا شكَّ أن هذا سيُبعد الأبناء عن أن يصلوا لمثل هذا المستوى، وأن نُعاني في سنِّ العشرين من أنهم لا يُصلون في المسجد، ويذهبون يمنةً ويسرةً.
وأذكر أحد الطلاب طلبتُ منه أن يُقدِّم لي برنامجًا بعدما أتى إليَّ في مركز التوجيه والإرشاد يشتكي من قضيةٍ نفسيةٍ عنده، فقلتُ له: اكتب لي جدولك، ماذا تفعل في الأسبوع؟ فلما كتب لي جدوله جعلتُ أبحث عن صلاته -والله يا إخوة- فلا أجدها، فقلتُ: لعله لم يذكرها، لكن تأكَّدتُ، فوجدتُ أنه يعود فينام بعد صلاة الظهر، ولا يقوم إلا بعد العشاء، ويوم الأربعاء يذهب إلى سوقٍ من الأسواق ويقضي فيه ستّ ساعاتٍ يلفُّ فيه يمنةً ويسرةً.
فقلتُ: يا أخي الكريم، أنا أسألك بالله، وأنا ناصحٌ لك، أين الصلاة في الجدول؟ قال: الله يتوب علينا، مُقصِّرٌ. فقلتُ: كم يبعد عنك المسجد؟ -وأنا أعرف أنه يسكن بالقُرب من الكلية- لو مشيتَ إلى المسجد مشيًا كم يأخذ منك؟ قال: دقيقة ونصف. فقلتُ: وأنت تذهب إلى السوق الفلاني الذي يستغرق الذهاب إليه دقائق مُضاعفة بالسيارة، ثم تمشي ستّ ساعاتٍ وتلفّ فيه! وما سألتُك: ماذا يحصل في هذه الساعات الست؟! والنِّداء يقول لك: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، وهنا مكان الراحة والطمأنينة النفسية التي هي علاجٌ لمشكلتك واضطرابك النفسي، فتُوثِّق علاقتك بالله ، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
فنحن نحتاج أن نفهم أننا لا بد أن نكون قريبين من أبنائنا جدًّا، ولا بد من النظر في الأصدقاء، فانظر أخي الكريم إلى أصدقاء أبنائك، فلا بد أن تعرف مَن هم؟ وليس المقصود هنا عسكريةً وتفتيشًا، فنرجع إذا كانت منظومة التربية خطأً.
ولذلك أقول: مَن أدرك التربية من وقتٍ مُبكرٍ، وأجاد وصحح الخطأ الذي عنده، إن شاء الله لن يتعب، وأما أن نترك التربية فعندئذٍ تصير عندنا قضايا تراكُميةٌ، ويُصبح عند الابن سياجٌ، ولا يقدر أحدٌ أن يتدخل فيه، ولا أن يعرف خباياه، لكن تستطيع ذلك إن كانت علاقتك حميميةً بالأبناء والشباب، ولك علاقةٌ حميميةٌ حتى بأصدقائه، وتدعوهم عندك، وتصير بينكم معرفةٌ، وتعرف أشياء عنهم، فثق تمامًا عندئذٍ أنك تُربي ابنك بسندٍ قويٍّ، وهم أصدقاء تعرفهم ويعرفونك، وتكون بينكم علاقةٌ.
وتسأل بعض الآباء عن صديق ابنه فيقول: الحمد لله، والله سلَّم عليَّ وهو مُبتسمٌ.
طيب، حتى صاحب المُخدرات يمكن أن يبتسم لك؟ قال: والله شكله تمامٌ، إن شاء الله. فقلت: شكله عندك، لكن هل تعرف شخصيته بالضبط؟ شكله وهِندامه وسيارته وكلامه حلوٌ، هذا ما يكفي، فالإنسان يحتاج أن يفحص الكهرباء وأدوات البيت؛ كي لا تحصل عنده إشكاليةٌ في الكهرباء، أو في السباكة، أو غيرها، ويحتاج أن يفحص رأس المال، وعلاقات رأس المال، وأصدقاء رأس المال، وهم الأبناء.
فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، والجانب الإيماني مهمٌّ جدًّا عند هؤلاء، فأثِّروا في أبنائكم إيمانيًّا، فالبذرة موجودةٌ، فقط تحتاج إلى مَن يعتني بها، فإن استطعتَ قُمْ بها بالطريقة المُباشرة، أو غير المُباشرة، أو مَن يستطيع؛ لأنه لا يمكن أن يستقيم على قضايا العبادة والأمور التي فيها كُلْفَةٌ -ومنها الصلاة- إلا بهذا.
وعن عبدالله بن بُسْر: أن أعرابيًّا قال لرسول الله : إن شرائع الإسلام قد كثرتْ عليَّ، فأنبئني منها بشيءٍ أتشبَّث به. قال: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله [11]أخرجه ابن ماجه (3793)، والترمذي (3375)، وصححه الألباني..
فانظر إلى هذا الصحابي الذي تربَّى على عينه ، وفي هذا المجتمع العظيم، ما سأل التَّخفيف، ولكنه سأل شيئًا يتشبَّث به، فقال: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله .
فأين أبناؤنا من الذكر؟ فالذكر من الحاجات التي جاءت في المنهج الإسلامي، فأين أبناؤنا من هذه المُمارسة؟
تجد بعض الشباب يحفظ الأغاني، ويُردد كلامًا بذيئًا، واليوم في أحد المُقررات قلتُ للشباب: ما العادات المُنتشرة عند الشباب؟ وعندنا في علم النفس فصلٌ عن السلوك الاعتيادي وتكوين العادات الإيجابية، أو العادات السلبية، والتخلص من السلبيات، فقلتُ: ما العادات السلبية المُنتشرة عند الشباب؟ فقالوا: الكذب، واللَّعن، والألفاظ السيئة. فقلت: هذه موجودةٌ أو مُنتشرةٌ؟ قالوا: نعم مُنتشرةٌ. وتوجد أشياء أخرى.
فنحتاج أن نُؤثر في الشاب إيمانيًّا، والإيمان هو الذي يستطيع أن يُؤثر فيه ويجعله بعد ذلك -إذا هداه الله- صالحًا، نافعًا.
فإذا حرصنا على إشباع هذه الحاجة، وهي الحاجة إلى الهداية والإيمان، وأثَّرنا في قلبه؛ صارت عنده هدايةٌ، ومن ثَمَّ يتَّجه بنفسه إلى الله، ولا تقل بعد ذلك: صلَّيتَ أو ما صلَّيتَ؟ فهو الذي يُتابعك، ويُؤكد عليك: أيقظني للصلاة. وهو الذي يقول: والدي مُقَصِّرٌ في الصلاة. فيتحول الشابُّ إلى مُرَبٍّ بعد أن كان مُتربِّيًا.
ودعاء الوالد لولده مُستجابٌ، فلنُكثر من هذه القضية أيضًا فهي مهمةٌ.
ثم حاور هؤلاء الأبناء، كل واحدٍ على حدةٍ، وأنت أدرى بأبنائك، والأصل أن يكون كل واحدٍ على حدةٍ، أو حاورهم جماعيًّا إذا كانت علاقتك بهم حميميةً، ولا يخرب بعضُهم على بعضٍ، وافتح مجالًا للحوار حتى تكسر بعض الأمور؛ لأن وجود الحواجز وعدم فتح مجالٍ للأخذ والعطاء جزءٌ من الإسرار على العادات السيئة.
والتعاون مع المدرسة قضيةٌ مهمةٌ أيضًا؛ حتى تستطيع أن تختصر الطريق، ففي المدرسة معلمون، وبعض المعلمين ناجحون، ويُعلِّمون موادًّا فيها تأثيرٌ، وكذلك من خلال الأنشطة تستطيع أن تفعل شيئًا ربما لا تستطيع أن تفعله في البيت، ومُراجعة الوضع التربوي المتعلِّق بالأسرة.
فكل هذه المنظومة لعلها تكون خيرًا وبركةً، إن شاء الله تعالى.
انتهى الوقت.
أسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يُصلح أبناءنا وذُرياتنا، وأن يُصلح أحوال الشباب -ذكورًا وإناثًا-، والله تعالى أعلم.
ونُذَكِّر بأن اللقاء القادم كما هو، لكنه سيكون استثنائيًّا فقط فيما يتعلق بالصلاة وبعض الوقفات التربوية والنفسية؛ نظرًا للبرنامج الخاص الذي أقامه الإخوةُ في الجامع عن الصلاة، ثم نُكمل -إن شاء الله تعالى- ما يتعلق بالشباب وإرشادهم وتربيتهم في اللِّقاءات التي بعده، بإذن الله .
وجزاكم الله خيرًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↑1 | أخرجه ابن ماجه (4141)، والترمذي (2346)، وحسنه الألباني. |
---|---|
↑2 | أخرجه مسلم (54). |
↑3 | أخرجه أبو داود (5112)، وصححه الألباني. |
↑4 | أخرجه مسلم (132). |
↑5 | أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031(. |
↑6 | أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172). |
↑7 | البيت لصالح بن عبدالقدوس كما في "الأمالي في لغة العرب" (2/ 96)، و"أمالي القالي" (2/ 94). |
↑8 | أخرجه الترمذي (2630). |
↑9 | أخرجه الترمذي (2414)، وصححه الألباني. |
↑10 | "التفسير من سنن سعيد بن منصور" (1/ 52). |
↑11 | أخرجه ابن ماجه (3793)، والترمذي (3375)، وصححه الألباني. |