المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفعني وإياكم، وأن ينفع بنا وبكم، وأن يُعيننا وإياكم على أنفسنا.
فهذا هو الدرس التاسع من المجموعة الثانية من "الوقفات والتطبيقات النفسية والتربوية من الكتاب والسنة"، وقد خُصص لموضوع "الصلاة" كما ذكر الشيخ، جزاه الله خيرًا.
أهمية هذا الموضوع
بادئ ذي بدء نقول: إن المتتبع لأحوال الأجيال -ذكورًا وإناثًا- يرى الحاجة الماسة جدًّا لهذا الموضوع، والمتتبع أيضًا لحاجة التوجيه من أجل البناء والوقاية من الوقوع في المشكلات، ومن أجل علاج المشكلات -هذه القضايا الثلاث في الإرشاد والتوجيه والنُّصح في الأسرة والأفراد- يؤكد أهمية الحديث عن الصلاة.
وربما نفرح بطريقةٍ أو فائدةٍ معينةٍ عند إحدى المدارس النفسية أو التربوية في مشارق الأرض أو مغاربها، ونغفل عن قضيةٍ أساسيةٍ وهي "الصلاة" كجانبٍ من جوانب رعاية هذه النفس وتربيتها، والخلوص من المشكلات التي نُعاني منها.
والموضوع -أيها الإخوة- واسعٌ وصعبٌ، وفي وقتٍ ضيقٍ، خاصةً إذا كنا نرغب في أن نأتي على كل القضايا المتعلقة بالجوانب التربوية والنفسية.
وقد ترددتُ كثيرًا: هل نأخذ وقفاتٍ مع بعض الآيات والأحاديث -وهذا مجالٌ واسعٌ أيضًا-، أو نتكلم عن العنوان الذي اقترحه الإخوة؟
فاخترتُ هذا العنوان: "أرحنا بها يا بلال" كما اختاره الإخوة، ولعلنا نقف وقفاتٍ حول هذا الموضوع مع آياتٍ وأحاديث، والكتاب والسنة مُمتلآن جدًّا بما يتعلق بالصلاة، وكذا الاستنباطات والتطبيقات التربوية والنفسية.
وتقصيرنا وتقصير الأجيال كبيرٌ جدًّا، والله المستعان، خاصةً مع هذه الشعيرة التي هي ميزةٌ أساسيةٌ للمسلمين، وعمود الإسلام.
ولذلك أرجو أن يكون هذا الكلام نافعًا لي أنا أولًا، ثم لإخواني، فنحن بأمسِّ الحاجة إلى ذلك.
يعني: لما نجد أنفسنا ربما كما يقول أحد الإخوة: كأس شاي يُؤخرنا عن الصلاة! والآن نقول: (تويتر) أو (فيس بوك) أو غيرهما يُؤخرنا عن الصلاة! هذا ممن وُفِّقَ إلى الصلاة، فكيف بالذين هم بعيدون عن الصلاة؟!
فالقضية تحتاج إلى رعايةٍ واهتمامٍ، وكم سَأَلَنَا الشبابُ، وكم تأتينا استشاراتٌ من النساء والفتيات، فنجد أن الصلاة هي السبب في كل هذه المشاكل.
وأنا أسأل -في الغالب- في الاستشارات النفسية والتربوية عن حاله مع الصلاة، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وتُعطيك دلالةً كبيرةً جدًّا على قضية القُرب والبُعد من المشكلات والراحة النفسية.
وسألتُ أحد الشباب ممن سِيماه التدين، ولكني أعرف أنه يشتكي من قضية عدم الانضباط في صلاة الجماعة من حيث التبكير، وعدم أداء السُّنن الرواتب، فقلتُ له: أسألك بالله، لو كنتَ في حالةٍ مُستقرةٍ، وليس عندك أي قواطع، وأنت مُتوضئ، وليس هناك جهاز تلفاز وقنواتٍ، ولا جوَّال، ولا (إنترنت)، ولا (لاب توب)، ولا (آيباد)، وليس هناك إلا الجدار، وليس هناك من أحدٍ يتصل بك، وأنت جاهزٌ للذهاب إلى الصلاة، ثم أذَّن المُؤذن للصلاة، وليس عندك أي حاجةٍ لأي تواصلٍ، ولا حاجة لدورة مياه، ولا أكل، ولا شرب، ماذا ستفعل؟ قال: تريد إجابةً بصدقٍ؟ قلتُ: نعم. وهو شابٌّ في أوائل العشرين، أو قبل العشرين، فقال لي: سأنتظر حتى تُقام الصلاة، وسيفوتني جزءٌ من الصلاة!
ولا يوجد معنا وقتٌ لنقرأ كلام ابن القيم في كتابه الرائع "أسرار الصلاة"، فقد ناقش الصورتين: الإيجابية، والسلبية؛ الذين يشعرون بالجنة وهم يأتون إلى المسجد والصلاة، والآخرون الذين يشعرون أنهم في سجنٍ، فتجد هذا الشاب وأمثاله ما تنفك الصلاة إلا ويُغادر بعجلٍ، وتذهب إليه في الخارج وهو جالسٌ ربما ساعةً يُحلل مباراة كرة قدمٍ.
وأسمع اليوم بعد صلاة المغرب في مسجدنا أناسًا ليسوا صغارًا، وكنتُ جالسًا بعد الصلاة لأداء الأذكار كالعادة -مثلي مثل غيري-، وإذا بخمسةٍ أو ستةٍ جالسين في الخلف يُحللون مباراة اليوم، ثم تطورت إلى أن دخلوا في مباريات الأندية، والكلام عن اللاعب الفلاني، ... إلى آخره، وأنا أريد أن أُكمل الأذكار ولا أقدر، فصارعتُ نفسي: ماذا أفعل؟! فسلمتُ عليهم من بُعدٍ، وقلتُ لهم: يا إخواني، تذكرت حديث النبي للأعرابي: إن هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله ، والصلاة، وقراءة القرآن[1]أخرجه مسلم (285).، وإن كان النبي قد قال هذا فيما يتعلق بقضية البول -أكرمكم الله-، ولكن أيضًا كما ذكر فهذه المساجد للذكر والصلاة، وما شابه ذلك.
فقلتُ لهم: يا إخوة، الرياضة يمكن أن نُدركها. ولو سألتهم عن السنة لوجدتهم ما صلوا السنة، ولو سألتهم عن الأذكار فربما قَصَّروا في الأذكار، نعم، أدوا صلاة الفريضة.
وبعض الشباب تصل بهم الحالة في بعض الأحيان إلى منتهى الضيق، ويكون السبب أنه مُقصِّرٌ في الصلاة، وربما لا يُصلي، وتُحدثه نفسه من خلال مُثيرٍ داخليٍّ وفَّقه الله إليه، أو شخصٍ نصحه فذهب ليتوضأ ويُصلي.
فاسأله عن مشاعره حينما ذهب إلى الصلاة، وهذه تكاثرت وتواطأت من الذين دخلوا في الإسلام، ومن الذين توجَّهوا إلى الخير بعد أن كانوا في ضلالةٍ، حتى مع وجود انحرافٍ فكريٍّ، أو عَقَديٍّ، أو سلوكيٍّ، تجد البعض لا ينفك عن التأثر عندما يجد لذَّة الصلاة.
وأعرف بعض الأشخاص عندهم تصوراتٌ فكريةٌ وعقائديةٌ مُنحرفةٌ وخطيرةٌ، ومع ذلك لأنه يشعر بحاجته إلى الراحة والأمن النفسي، وقد وجد ذلك في الصلاة؛ فتجده ربما يكون أفضل من بعض الذين ظاهرهم التدين والالتزام بالصلاة، وهذا يُفسر الراحة والطمأنينة والأمن النفسي.
وانظر إلى الصفوف في الصلاة، والنظام فيها، ومعروفٌ عنا -نحن العرب- أننا أناسٌ غير منظمين، فإذا جئنا ووقفنا في انتظار شيءٍ معينٍ تجد الصورة غير مُنضبطةٍ، لكن في الصلاة -ما شاء الله- منضبطون.
ولما ترى مشهد الحرم المكي، أو الحرم المدني، أو المساجد الضخمة تجد انتظامًا عجيبًا في الصلاة، والإمام يقول لهم: استووا، واعتدلوا. ثم ينتظمون، والنبي يقول: لتسون صفوفكم، أو ليُخالفن الله بين وجوهكم[2]أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436).، فهذا من التماسك الجماعي.
وانظروا وقت الإفطار في الحرمين -وخاصةً في الحرم المدني-، حيث يُقدمون الوجبات عند الإفطار في رمضان، ثم في دقائق معدودةٍ كل شيءٍ يُزال، وتنتظم الصفوف، والجميع يسكت، ثم تجد الهدوء، ثم تجد المتابعة: إنما جُعل الإمام ليُؤتَمَّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمَن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون، وأقيموا الصفَّ في الصلاة، فإن إقامة الصف من حُسن الصلاة[3]أخرجه البخاري (722)، ومسلم (414).، أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرجاتٍ للشيطان، ومَن وصل صفًّا وصله الله، ومَن قطع صفًّا قطعه الله[4]أخرجه أبو داود (666)، وصححه الألباني..
فهذه الصورة العظيمة ما فكرنا فيها، ونحن نقول: إننا غير مُنظمين! والإمام يُنظم آلاف الناس بكلمةٍ، بل ربما لم يقل حتى: استووا. والناس من أنفسهم ينتظمون، وندَّعي أننا غير قادرين على أن نُنظم أولادنا في الأسرة، وفي المجتمع، ألا تلفت هذه المظاهر في الأعياد وغيرها أنظارنا؟!
مُؤلفات يُستفاد منها في موضوع الصلاة
في هذا اللقاء سنستفيد من بعض الكتب، كـ"أسرار الصلاة" للعلامة ابن القيم، وهذا كتابٌ عظيمٌ جدًّا، وكتاب "تعظيم قدر الصلاة" للمروزي، و"رسالة في تعظيم شأن الصلاة" لابن باز، و"الصلاة وأثرها في زيادة الإيمان وتهذيب النفس" للعوايشة، و"صلاة المؤمن" لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، و"في التوجيه الإسلامي للإرشاد النفسي" للدكتور محمد محروس الشناوي، و"دراسات في التأصيل الإسلامي وعلم النفس" للدكتور صالح الصنيع، وبحث للدكتور عبدالعزيز المطوع بعنوان: "نظرية إسلامية في العلاج والإرشاد النفسي"، وكذلك مقالتين رائعتين بعنوان: "أسرار الشفاء بالصلاة" لعبدالدائم الكحيل، ومقالة أخرى لزميلنا الدكتور أحمد شركسي -أستاذ التربية الخاصة والإرشاد النفسي بجامعة الدمام- عن الصلاة وأثرها على النفس والوجدان.
فسنحاول -إن شاء الله تعالى- الاستفادة مما كتبوا، رحم الله مَن تُوفي منهم، ووفَّق الله مَن بقي منهم.
منزلة الصلاة في الدين
أقول: لا نستغرب أن تكون الصلاة مصدرًا للراحة والأمن النفسي، كما قال النبي : يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها[5]أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني.، فمنزلة الصلاة أنها عمود الدين، وأول ما يُحاسَب عليه العبد، وآخر ما يُفقد من الدين، وآخر وصيةٍ أوصى بها النبي ، ومدح الله القائمين بها، وذمَّ الله المُضيعين لها والمُتكاسلين، وهي أعظم أركان الإسلام، فرضها الله بدون واسطةٍ، فُرضت خمسين صلاةً، وافتتح الله أعمال المُفلحين بها فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، وأمر الله محمدًا وأتباعه أن يأمروا بها، وأُمِر الناسي والنائم والمُغْمَ عليه -الثلاثة- بالقضاء.
وأيضًا لا نستغرب حينما تكون هذه الصلاة مصدرًا للراحة والأمن النفسي، وحينما يكون من خصائصها في الإسلام: أن الله سمَّاها: إيمانًا، وخصَّها بالذكر من بين شرائع الإسلام، وقُرِنت في القرآن بكثيرٍ من العبادات، وأمر الله نبيه أن يصطبر عليها فقال: وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، وأوجبها الله على كل حالٍ فرض عينٍ، واشترط الله لها أكمل الأحوال، واستعمل فيها جميع أعضاء الإنسان، ونهى أن يشتغل فيها بغيرها، حتى الخطرة واللفظة والفكرة، يُفرغ نفسه للصلاة.
وأيضًا هذه الصلاة هي دين الله الذي يدين به أهل السماوات، وقُرنت كذلك بالتصديق، فكيف لا تكون كذلك ومن فضلها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي أفضل الأعمال بعد الشهادتين، وتغسل الخطايا غسلًا، وتُكفر الخطايا، ونورٌ لصاحبها في الدنيا والآخرة، وترفع الدَّرجات، وتحط الخطايا، ومن أعظم أسباب دخول الجنة مع النبي ، والمشي إليها تُكتب به الحسنات، وتُحط به الخطايا، وتُرفع الدرجات؟
وهي سبب الضيافة في الجنة، وغُفران الذنوب، وتُكَفِّرُ ما قبلها، وتُصلي الملائكة على صاحبها ما دام في مُصلاه، وانتظارها رباطٌ في سبيل الله، وأجر مَن خرج إليها كأجر الحاج والمُحرِم، ومَن سبق بها وهو من أهلها فله مثل أجر مَن حضرها، وإذا تطهر وخرج إليها فهو في صلاةٍ حتى يرجع.
وكيف لا تكون الصلاة كذلك وهي مصدرٌ للراحة والأمن النفسي؟! وحاجة الأجيال إلى أن يتربوا عليها حاجةٌ شديدةٌ؛ لأن فيها هذه الخصائص والفضائل والمنازل التي ذكرت قبل قليلٍ.
وانظر لكلام ابن عباسٍ رضي الله عنهما، يقول سعيد بن جبير: سُئل ابن عباسٍ: أتبكي السماء والأرض على أحدٍ؟ قال: "نعم، إنه ليس من الخلائق أحدٌ إلا له بابٌ من السماء -أو بابٌ في السماء- يصعد فيه عمله، وينزل فيه رزقه، فإذا مات المؤمن بكت عليه معادنه من الأرض التي كان يذكر الله فيها، ويُصلي فيها، وبكى عليه بابه الذي كان يصعد فيه عمله، وأما قوم فرعون فلم يكن لهم في الأرض آثارٌ صالحةٌ، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خيرٌ، فلم تبكِ عليهم السماء والأرض"، قال أبو عبدالله: يريد قوله: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضُ [الدخان:29][6]"تعظيم قدر الصلاة" لمحمد بن نصر المروزي (1/ 335)..
فالسماء والأرض تبكي على الإنسان المؤمن، هذه الأرض التي صلَّى عليها تبكي من فراقه.
وجاء في أثرٍ عن أبي هريرة قال: "يُحشر الناس يوم القيامة على قدر صنيعهم في الصلاة"[7]"تعظيم قدر الصلاة" لمحمد بن نصر المروزي (1/ 338)..
فكيف لا تكون هذه القضية هي موطن اهتمامٍ وعنايةٍ، والنبي -بأبي هو وأمي- إلى آخر لحظةٍ من حياته يقول: الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم[8]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (26483)، وقال مُحققوه: حديثٌ صحيحٌ لغيره.؟
للعبد موقفان يوم القيامة
ابن القيم -رحمه الله- في "الفوائد" يقول: "للعبد بين يدي الله موقفان: موقفٌ بين يديه في الصلاة، وموقفٌ بين يديه يوم لقائه، فمَن قام بحق الموقف الأول هوَّن عليه الموقف الآخر، ومَن استهان بهذا الموقف، ولم يُوفه حقَّه؛ شدد عليه ذلك الموقف، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:26، 27]"[9]"الفوائد" لابن القيم (ص200)..
فسبحان الله العظيم! ما أعظم هذه اللفتة العظيمة من كلام ابن القيم! فإن الإنسان يقف بين يدي الله في الصلاة، وسيقف بين يديه يوم القيامة، فالإحسان له يوم القيامة على حسب إحسانه في وقوفه بين يدي الله ، والتشديد هناك على حسب التضييع هنا في الوقوف بين يدي الله .
نسأل الله أن يعفو عنا وعنكم.
أهمية التربية على الصلاة
الدنيا هي العقبة الكؤود بين الإنسان وراحته في العبادات، وكنتُ سألتُ رجلًا -رحمه الله- في مسجدنا في حيٍّ سابقٍ، وهو أبو محمد -رحمة الله عليه-، وليس مُلتحيًا، ومُسبل الثوب، غفر الله له، ولكنه -والله الذي لا إله إلا هو- كان قدوةً لنا في الصلاة، فلا ندخل المسجد أبدًا إلا نجده قبلنا، ونحن نتأخر، ويعتب علينا، ونخرج وإذا به يتسنن، ويذكر الله ، ويبقى على ما هو عليه، فسألته مرةً فقلت: يا أبا محمد، كيف أتيت بهذا الشيء؟ يعني: كيف وصلتَ إلى هذا الأمر؟ فنحن مُطاوعة -كما يقال- وأحيانًا -نسأل الله العفو والسلامة- عندنا من التقصير ما الله به عليم! هكذا يقول الناس، فقال لي: يا أبا عبدالرحمن، نحن تربينا من صغرنا على هذا، ربَّانا آباؤنا على هذه القضية، حتى أصبحت جزءًا أساسيًّا من حياتنا، ومصدر سعادتنا.
فالإنسان الذي يشعر أن هذا الأمر مصدر سعادةٍ له يستمر عليه؛ ولذلك القضية تأتي بالمُجاهدة، والعقبة الكؤود هي الدنيا، ولننظر أين نحن من الآخرة؟ وأين نحن من الدنيا؟ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27].
قال رجلٌ من خزاعة -وانظر كيف كان السلف؟!-: ليتني صليتُ فاسترحتُ. فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله يقول: يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها[10]أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني..
إذن هناك أناسٌ فعلًا الصلاة مصدر راحتهم، وهناك أناسٌ يستغربون كما استغرب بعض هؤلاء الذين حول هذا الرجل من خزاعة، فكأنهم عابوا ذلك، ولكنه علَّمهم؛ لأن هذا هو منهج الرسول ، يقول الله : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فهذه الصلاة يكفيها شرفًا أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ لأن الفحشاء والمنكر عقباتٌ في طريق الله ، وكلٌّ منا مُتلبسٌ بشيءٍ من هذا القبيل، لكن تأتي الصلاة فتغسل.
ولابن القيم كلامٌ جميلٌ في "أسرار الصلاة" حول هذا الموضوع، فإذا بقي معنا وقتٌ كثيرٌ نقرأه -إن شاء الله-؛ لأنه من جميل كلامه في هذا الكتاب الرائع "أسرار الصلاة"، وأنصح حقًّا بالنظر فيه، فالصلاة الخاشعة الصحيحة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
أصحاب الصلوات والمساجد مع تقصيرهم هم أقلّ عيوبًا وذنوبًا من غيرهم بلا نقاشٍ، وقد دلَّت الدراسات على ذلك، حتى الدراسات الغربية دلَّت على أثر العبادات والصلاة على الاستقرار النفسي، كما سيأتي معنا بعد قليلٍ، بإذن الله .
يقول النبي : إن أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيءٌ، قال الرب عزَّ وجلَّ: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك[11]أخرجه الترمذي ت: شاكر (413)، وأبو داود (864)، وابن ماجه (1425)، وصححه الألباني..
إذن هي نهتني عن الفحشاء والمنكر، والحمد لله، والبعض يقول: يا أخي، أنا أريد أن أتخلص من هذا، مؤمنٌ بأن هذا حرامٌ، لكن ما الحل؟
الحل أن تحسن صلاتك وقوفًا بين يدي الله؛ حتى تكون راحةً لنا، وتنهانا عن الفحشاء والمُنكر.
وأعجبني أحد الدعاة في لقاءٍ شبابيٍّ مع الشباب المُهتدين، وكنتُ حاضرًا في هذا اللقاء، فسُئل عن النظر الحرام، واستخدام العادة السرية -أكرمكم الله- والزنا -والعياذ بالله-، وقضايا الأغاني، وأشياء كثيرةٍ، فقال: إلى متى ونحن نُسأل هذه الأسئلة؟! كلما أتينا إلى شبابٍ سألونا هذه الأسئلة! فهذه الأسئلة تتكرر، والحل شيءٌ واحدٌ: الزم الصلاة والوقوف بين يدي الله ، وستجد أن الصلاة تنهى عن هذه الأشياء كلها.
إذن فالصلاة تستحق أن تكون موطن عنايةٍ واهتمامٍ، ومجلبةً للراحة النفسية؛ لأن بها يصلح باقي العمل، وإذا فسدت فسد سائر العمل، وهكذا سيكون الحال يوم القيامة، نسأل الله العافية والسلامة.
وفي حديث سعدٍ : قال رسول الله : إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم[12]أخرجه النسائي (3178)، وصححه الألباني.، ونحن الآن نتكلم عن نصرٍ، وليس مجرد أمنٍ نفسيٍّ ذاتيٍّ، فإذا كان هذا عنده أمنٌ نفسيٌّ، وهذا عنده أمنٌ نفسيٌّ، وهذا عنده أمنٌ نفسيٌّ، صار عندنا أمنٌ اجتماعيٌّ، والأمن الاجتماعي معناه: أن هناك أمةً قائمةً بأمر الله تستطيع أن تنتصر: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد:7].
ويُظهر الحديث أهمية الدعاء والصلاة والإخلاص، والله يقول: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:27، 28]، ولا شك أن الصلاة هي ذكرٌ لله ، بل هي من أعظم الذكر لله ، فبذكر الله تطمئن القلوب؛ ولذلك ففي الصلاة تربيةٌ للنفس، وفيها فضائل كثيرةٌ، ومع ذلك فهي أيضًا تُذهب الحزن، والنبي كان إذا حزبه أمرٌ، أو ضاق عليه أمرٌ، وهو رسول الله ؛ يفزع إلى الصلاة.
ومعنى هذا: أن هذا الذي أتاه عليه الصلاة والسلام -كما يأتي أي بشرٍ- حلُّه في الصلاة؛ لأن النبي كما قال في حديثٍ آخر: حُبب إليَّ من الدنيا: النساء والطِّيب، وجُعل قُرَّة عيني في الصلاة[13]أخرجه النسائي (3939)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ..
مراتب الناس في الصلاة
لابن القيم كلامٌ جميلٌ جدًّا، وهو: أن الناس في الصلاة مراتب، فهؤلاء الذين يُصلون، والصلاة عندهم قُرَّة العين؛ هم الذين فعلًا يشعرون باللَّذة والمُتعة، وهنيئًا لهم والله، لكن أيضًا قبلها مراحل لمَن يُجاهد نفسه حتى يصل إلى هذه المرحلة، والرسول كان يقول: يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها[14]أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني..
وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي : أنه ذكر الصلاة يومًا بين أصحابه فقال: مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة[15]أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (6576)، وقال مُحققوه: إسناده حسنٌ..
فانظروا إلى الألفاظ: كانت له نورًا، فالله أكبر، وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة.
وأما مَن لم يُحافظ عليها لم يكن له نورٌ، ولا برهانٌ، ولا نجاةٌ، وحُشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأُبَي بن خلف، كما قال : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22]، والناس يُحشرون على أشباههم ونظائرهم.
الصلاة والأمن النفسي
لما نأتي لقضية الأمن النفسي، فأهل الاختصاص تكلموا عن هذه القضية، خاصةً الذين أصَّلوا القضية تأصيلًا إسلاميًّا، ونقف عند بعضهم الآن، ونستمد حتى من غير المسلمين، فقد ذكروا بعض القضايا المتعلقة بهذا الجانب.
فمثلًا وقف الشناوي -رحمة الله عليه- وهو أستاذٌ في الصحة النفسية، وهو رجلٌ فَذٌّ -رحمه الله-، وصاحب الكتب الكبيرة في علم النفس، والمُؤصلة تأصيلًا إسلاميًّا، ذكر في بحثٍ صغيرٍ قضية الأمن النفسي، فكان مما ذكر هذه الآيات -قفوا عند هذه الآيات يا إخوة، واربطوا القضية بالصلاة- يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ما الجزاء؟ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]، وما الفرق بين الخوف والحزن؟
قال الله: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الخوف غير الحزن، الخوف من شيءٍ في المستقبل، والحزن على شيءٍ ماضٍ، إذن الأمر فيه استقرارٌ كاملٌ لما سبق ولما مضى.
البعض قد يكون اقترف شيئًا في الماضي فيحزن، ويأتي معه اكتئابٌ خفيفٌ، أو متوسطٌ، أو اكتئابٌ شديدٌ كما يقول أهل التخصص، أو يحصل له خوفٌ في المستقبل؛ فيُصاب بالقلق والتوتر الذي هو مرض العصر اليوم، قد يكون بسيطًا، وقد يكون متوسطًا، وقد يكون شديدًا، طيب، ما الحل؟
الحل هو الاستقامة: الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثم ماذا؟ استقاموا، وأعظم صورةٍ من صور الاستقامة هي الصلاة بلا شكٍّ.
ويقول الله : يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27- 30]، فهذه هي النفس المُطمئنة التي سلكت مسلك عباد الرحمن، وعلى رأسه الصلاة.
ويقول الله : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7- 10].
فهل الذي يُصلي ويُبَكِّر إليها، ويشعر بأُنسٍ، وينجذب إليها، ويبكي حينما يفقد هذه الصلاة، أو يتألم، ويُعزِّي نفسه، ويُعزِّي بعضُهم بعضًا، مثل مَن يبكي على انهزام فريقٍ، أو عدم تحقيق البطل في الفيلم لمُبتغاه؟!
لا شك أن هناك فرقًا بين الاثنين، فالأول الذي قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، والثاني الذي قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا.
ويقول الله : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، فهذه هي الحياة، وهذه هي الراحة والأمن النفسي، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فقد حاز السعادة في الدنيا والآخرة، ومطلب كل أحدٍ -حتى الملاحدة- هو: السعادة في الدنيا، أن يكون الإنسان سعيدًا، لكن هؤلاء جمعوا بين سعادة الدنيا والآخرة، لكن لا بد لهم من عملٍ صالحٍ، وهم مؤمنون، وعلى رأس ذلك الصلاة، فهي قُربةٌ وصِلةٌ بين الإنسان وربه.
استراتيجيات الأمن النفسي
أيضًا الدكتور صالح الصنيع -وفَّقه الله- في التأصيل الإسلامي لعلم النفس تكلم عن استراتيجيات خطط الأمن النفسي، خاصةً عند الأزمات، ومن الأزمات: القلق والتوتر والاكتئاب والحروب والفقر والمصائب، والرسول -كما قلنا- إذا حَزَبَه أمرٌ واحدٌ فزع إلى الصلاة.
وأنا أقول: ضعوا النموذج السوري -نسأل الله أن ينصر إخواننا هناك عاجلًا غير آجلٍ-، فانظروا كيف ابتهج المسلمون العقلاء بعودتهم إلى الله ، ورفع شعار الخير والحق، ولجوئهم إلى الله ؟ لأن الذي لا يعرف الله في الأزمات، ولم يستفد من هذا الطريق في العودة إلى الله ؛ لن يعرف الله .
ولا شك أن الثبات على ذلك أمرٌ آخر ومهمٌّ، وكل واحدٍ منا مُعرَّضٌ لما فيه خوفٌ وقلقٌ وحزنٌ واكتئابٌ، وما شابه ذلك.
قوة الإيمان من استراتيجيات الأمن النفسي
قوة الإيمان من الاستراتيجيات التي ذكرها الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فهؤلاء لهم الأمن المُطلق، وهم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ، أي: بشِركٍ.
والإنسان حينما يكون مُخلصًا لله في صلاته، ومُتوجِّهًا لله، فهذه من أرقى الأعمال، والله جمع بين التوحيد والصلاة؛ لأنها من أرقى شعائر ومظاهر التوحيد لله .
يقول أحد الذين وقفوا عند هذه الآية من المُفسرين: "الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله لا يخلطون بهذا الإيمان شركًا في عبادةٍ، ولا طاعةٍ، ولا اتجاهٍ، هؤلاء لهم الأمن، وهؤلاء هم المُهتدون"[16]"في ظلال القرآن" (2/ 1142)..
فعلى كل مسلمٍ تقوية إيمانه ليأمن به في الدنيا، وينجو به في الآخرة من النار.
والصلاة -أيها الإخوة- هي علامة تقوية الإيمان الذي فيه النجاة والأمن في الدنيا، والنجاة يوم القيامة؛ ولذلك أقول: من المعايير في النظر لوضع الطلاب في المجتمع: لا بد أن نضع الصلاة مقياسًا ومعيارًا لمعرفة المُتقدم والمُتأخر، ومعرفة نجاح برامجنا، يعني: هل البرامج التي نُقدمها داخل الأسرة وفي مركز الحي -جزاهم الله خيرًا- مثل هذه الحملة "صلاتك نجاتك" ... إلى آخره، هل أثَّرت في موضوع الصلاة؟ وهل الأبناء على ما هم عليه في الصلاة أم أن هناك تقدمًا؟
كالسؤال الذي جاءنا الأسبوع الماضي من الأخت، أو الأخ الذي عنده ابنان فوق العشرين سنةً، ولا يُصليان في المسجد، ويُعاني من ذلك، وكم نجد من معاناة الآباء في الاتصالات الهاتفية حول القضية.
فهذه الأشياء لا شك أن لها أثرًا في التربية منذ الطفولة؛ لأن ضعف التربية في مرحلة الطفولة مؤثرٌ، كما سيأتي معنا في نهاية اللقاء حول بعض القضايا المهمة من الناحية التربوية والتطبيقية.
اللجوء للعبادة العملية
من الاستراتيجيات: اللجوء للعبادة العملية؛ لأجل تخفيف حِدَّة التوتر والاضطراب، والخروج من الأزمات النفسية، يقول الله: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:19- 23]، ثم أكمل الله أوصافهم.
ويقول الله : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة:45]؛ ولذلك النبي -كما قلنا- كان يلجأ إلى الصلاة إذا حزبه أمرٌ، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: مَن صلَّى الصبح فهو في ذمَّة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمَّته بشيءٍ فيُدركه فيكبه في نار جهنم[17]أخرجه مسلم (657).، فهو في ذمَّة الله، وفي رعايته.
إذن اللجوء للعبادات مع قوة الإيمان والصلاة من العبادات، وأيضًا طريقٌ لقوة الإيمان، فهذه لا شك أنها من الاستراتيجيات المهمة في قضية الخروج من الأزمات النفسية، ووجود الراحة والاستقرار النفسي الذاتي والمجتمعي.
وقد تكون أنت مُستقرًّا نفسيًّا، فهنيئًا لك، لكن أبناءك -يا أخي- وجيرانك والمجتمع، فعندنا مسؤوليةٌ ذاتيةٌ: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، ومسؤوليةٌ جماعيةٌ: وكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[18]أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829).، فأنت قد تُوفق في قضية وجود الراحة في الصلاة، لكن أبناءك ليسوا من أهل الصلاة، أو مُقصِّرون في الصلاة، أو الذين تختلط معهم عندهم هذا الجانب، فانقل هذا الخير لنفسك ولهم.
صدق التوكل على الله
ومن الاستراتيجيات لمَن يريد أن يخرج من أزمةٍ: أن يكون مُتوكلًا على الله، وهذا واضحٌ جدًّا في الصلاة، والرسول يحزبه الأمر فيفزع إلى الصلاة.
فإذا شعر الإنسان بضيقٍ فليذهب ليتوضأ، ثم يتَّجه إلى الصلاة، وهذا معناه: أن عنده صدق التوكل على الله.
وبعضنا -للأسف الشديد- يذهب يمنةً ويسرةً، ويدخل في المواقع ويستشير، هو سأل، جيدٌ، لكنه ينسى الله ، فلو صدق اللجوء إلى الله من خلال الصلاة -وهي وسيلةٌ- لا شك أنه سيجد الحلَّ قريبًا.
الدعاء والذكر
ذكر الله والدعاء أيضًا من الاستراتيجيات، والصلاة ذكرٌ، وفيها دعاءٌ: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ كما قلنا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، والرضا بالقدر: بالشكر في السَّراء، والصبر في الضَّراء، فالذي يلجأ إلى الصلاة فهذه علامةٌ من علامات الإيمان بالقضاء والقدر، وهو لا شك أنه يربط قلبه بالصلاة، ويغلب الجانب الأخروي.
وكما قال النبي : مَن كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمةٌ، ومَن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قدر له[19]أخرجه الترمذي (2465)، وصححه الألباني..
انظروا يا جماعة إلى التعبير والأمن النفسي، واربطوا القضية بالصلاة كوسيلةٍ للوصول للآخرة، فهذا الإنسان ليس مشغولًا بالدنيا التي هي المشكلة: وجمع له شمله، هذا الشعور بالأمن والراحة.
الاقتداء بالرسول
ومن الاستراتيجيات أيضًا التي ذكرها: الاقتداء بالرسول والسلف الصالح، يقول الله : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
وهنا قضيةٌ مهمةٌ؛ فالصلاة لا يمكن أن تتأتى فوائدها ونصل لنتائجها إلا إذا كنا مُتَّبعين للنبي في الصلاة، كما قال عليه الصلاة والسلام: صلوا كما رأيتُموني أُصلي[20]أخرجه البخاري (631).، في حديث مالك بن الحويرث مع النفر العشرة الذين كانوا معه، ورأوا صلاة النبي ، ثم أذن لهم النبي أن يذهبوا ويعودوا إلى أهليهم، فقال لهم النبي : صلوا كما رأيتموني أصلي، فنقلوا صلاة النبي .
فنحن نحتاج إلى مثل هذه الاستراتيجية أيضًا حتى نحصل من الصلاة على قضية الأمن والراحة النفسية والاستقامة، يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] كما ذكرنا قبل قليلٍ، والصلاة وسيلةٌ ومصدرٌ لذلك.
الاستغفار والتوبة
وفي الصلاة استغفارٌ وتوبةٌ، فبين السجدتين كان النبي يقول: ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي[21]أخرجه ابن ماجه (897)، وأبو داود (874)، وصححه الألباني.، وبعد الصلاة أول ما يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.
فهذه عبادةٌ، لكن الإنسان يُقصر، وفيها التوبة والدعاء عمومًا، والتحيات، ... إلى آخره.
هذا موطنٌ عظيمٌ جدًّا، يقول الله : أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126]، ويقول: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا [هود:3]، ويقول الرسول : مَن لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب[22]أخرجه ابن ماجه (3819)، وأبو داود (1518)، وضعفه الألباني..
إذن الصلاة فيها الاستغفار والدعاء والتوبة؛ ولذلك لا غرابةَ أن النبي تكون الصلاة عنده هي قُرَّة عينه، ويرتاح فيها، وهو عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ فزع إليها.
بعض فوائد الصلاة
يقول الكاتب فارس علوان في كتابه "وفي الصلاة صحةٌ ووقايةٌ" كما نقل الدكتور أحمد شركسي: "يُشير لما تُضيفه الصلاة على المسلم من أمنٍ واستقرارٍ نفسيٍّ، وتوازنٍ عصبيٍّ، وانسجامٍ عقليٍّ، كلها ممزوجةٌ براحة الضمير، والشعور بالسعادة، وإشباعٍ في العاطفة، ولذةٍ في الروح لا تُعادلها لذَّة، فهذه المعاني السامية يحسبها غير المُصلي هُراءً، ويعدها معانٍ جوفاء، فيبقى محرومًا منها مهما أُوتي من مالٍ أو علمٍ أو ترفٍ" أي والله محرومون.
فهنيئًا لمَن تلذذ بهذه الصلاة، واستمتع بها، وهذا التَّلذذ يأتي بالمُجاهدة، كما يقول ثابت البناني: "كابدتُ الصلاة عشرين سنةً، وتنعَّمتُ بها عشرين سنةً"[23]"إتحاف السادة المتقين" (4/ 557).، وهو من السلف، من القرون المُفضلة، فكيف بحالنا؟!
يقول أحد المُختصين: إن الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية وشعور الأمن والاستقرار الذي تُضيفه الصلاة في قلوب التُّقاة، وألباب الخاشعين؛ تجعل الأمراض النفسية والشعور بالخوف والقلق والغضب والحزن والوحدة القاتلة والأمراض العقلية -كالخرف وغيره- نادرة الحدوث في مجتمع المُصلين.
وأين أهل التخصص وعلم النفس والتربية من سماع ما قاله عبدالرؤوف المناوي صاحب كتاب "فيض القدير" وهو يشرح حديثًا؟ لكن الحديث موضوعٌ، وأقلّ ما يقال فيه: ضعيفٌ، لكن كلامه مفيدٌ ونافعٌ ومهمٌّ.
يقول -رحمه الله-: "فإن في الصلاة شفاءً من الأمراض القلبية والبدنية والهموم والغموم"، وهذا ليس (جان ديوي) أو (ماسلو) أو (بافلوف)، ... إلى آخره، وإنما من العلماء السابقين، يقول: "شفاء من الأمراض القلبية والبدنية والهموم والغموم، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]".
ويقول -رحمه الله-: "ولهذا كان النبي إذا حزبه أمرٌ فزع إليها، والصلاة مجلبةٌ للرزق، حافظةٌ للصحة، دافعةٌ للأذى، مطردةٌ للداء، مقويةٌ للقلب، مُفرحةٌ للنفس، مُذهبةٌ للكسل، مُنشطةٌ للجوارح، مُمدَّةٌ للقوى، شارحةٌ للصدر، مُغذيةٌ للروح، مُنورةٌ للقلب، مُبيضةٌ للوجه، حافظةٌ للنعمة، دافعةٌ للنقمة، جالبةٌ للبركة، مُبعدةٌ للشيطان، مُقربةٌ من الرحمن، وبالجملة فلها تأثيرٌ عجيبٌ في حفظ صحة القلب والبدن"[24]"فيض القدير" (4/ 527)..
وفي مقالٍ للأستاذ عبدالدائم الكحيل في "أسرار الشفاء بالصلاة" شيءٌ عجيبٌ، وكذلك الدكتور أحمد الشركسي في "الصلاة وأثرها على النفس والوجدان"، ففي هذين شيءٌ عجيبٌ في حفظ صحة القلب والبدن وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، لا سيما إذا وفيت حقَّها من التكميل، فما استدفعت أذى الدارين، واستجلبت مصالحهما بمثلها، وسرُّها أنها صِلةٌ بين العبد وربه، كما قال ابن القيم في كتابه "أسرار الصلاة".
يقول ابن القيم: "ولهذا لم يقل النبي : جُعلت قُرَّة عيني في الصوم، ولا في الحج والعمرة، ولا في شيءٍ من هذه الأعمال، وإنما قال: وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة، وتأمل قوله: وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة، ولم يقل: "بالصلاة"؛ إعلامًا منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله، كما تقر عين المُحب بمُلابسته لمحبوبه، وتقر عين الخائف بدخولٍ في محل أُنسه وأمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أتم وأكمل من قُرَّة العين به قبل الدخول فيه"[25]"أسرار الصلاة" (ص30، 31)..
وهذا كلامٌ جميلٌ رائعٌ في أسرار الصلاة، وسرها أنها صِلةٌ بين العبد وربه، وبقدر الوصلة يفتح الخير، وتُفاض النِّعَم، وتُدفع النِّقَم.
يقول أيضًا فارس علوان -وهو من الناس المهتمين بالجوانب النفسية وما يتعلق بذلك-: "في الصلاة لذَّةٌ لا يشعر بها إلا مَن أخلص وجهه لله، ومتعةٌ لا يتذوقها إلا مَن استقرت حلاوة الإيمان في قلبه، وراحةٌ نفسيةٌ قلما توجد إلا عند مَن خضعت جبهته ذليلةً ساجدةً لله".
ويقول الدكتور محمد نجاتي -رحمه الله- صاحب كتاب "الحديث وعلم النفس" و"القرآن وعلم النفس"، وهو من الذين أصَّلوا التأصيل الإسلامي في هذين الكتابين: "للصلاة تأثيرٌ فعَّالٌ في علاج الإنسان من الهم والقلق، فوقوف الإنسان في الصلاة أمام ربه في خشوعٍ واستسلامٍ، وفي تجردٍ كاملٍ عن مشاغل الحياة ومشكلاتها؛ إنما يبعث في نفس الإنسان الهدوء والسكينة والاطمئنان، ويقضي على القلق وتوتر الأعصاب".
وقد قلنا: إن خمسمئة ألف سعودي وسعودية في 2011م سجَّلوا في العيادات النفسية -غير الذين لم يُسجلوا- في أحد عشر شهرًا فقط، أي: نصف مليون، والنسبة العظمى كانت من الشباب -ذكورًا وإناثًا-، ولو حافظوا على الصلاة لقلَّ التوتر والقلق فيهم.
"ويقضي على القلق وتوتر الأعصاب الذي أحدثته ضغوط الحياة ومشكلاتها، وتؤثر الطاقة الروحية التي تُطلقها الصلاة فتبعث في النفس الأمل، وتُقوي فيها العزم، وتُعلي فيها الهمَّة، وتُطلق فيها قدراتٍ هائلةً تجعلها أكثر استعدادًا لقبول العلم والمعرفة والحكمة، وللصلاة تأثيرٌ هامٌّ في علاج الشعور بالذنب الذي يُسبب القلق، والذي يُعتبر الأصل الذي ينشأ عنه المرض النفسي.
وعلى الجملة: فإن للصلاة فوائد عظيمةً كثيرةً، فهي تبعث في النفس الهدوء والطمأنينة، وتخلص الإنسان من الشعور بالذنب، وتقضي على الخوف والقلق، وتمد الإنسان بطاقةٍ روحيةٍ هائلةٍ تُساعد على شفائه من أمراضه البدنية والنفسية، وتُزوده بالحيوية والنشاط، وبقدرةٍ كبيرةٍ تُمكنه من القيام بجليل الأعمال، وتُنور القلب، وتُهيئه لتلقي النَّفحات الإلهية".
فهذا كلام النفسيين يا إخوة، والدكتور عبدالعزيز المطوع في "نحو نظريةٍ إسلاميةٍ في الإرشاد النفسي" ذكر قريبًا من هذا الكلام، وذكر ما يُحصل الصِّلة بين الإنسان المسلم وبين ربِّه، فيبوح المسلم بمكنونات الضيق والهم والضغط، وقدَّم استراتيجيات التخلص من ضغوطات الحياة، ويُسمونه: الاحتراق النفسي.
ومن شدة ضغوطات الحياة يبدو الإنسان كأنه يحترق، فيلجأ إلى ركنٍ شديدٍ، وهو الله ، وأكبر وسيلةٍ للركن الشديد هي الصِّلة بالله من خلال الصلاة، فيهمس إلى مَن يسمع السر وأخفى، فيضع سرَّه عند الله الذي يسمع السر وأخفى.
ولفت بعض المُختصين إلى أن العالَم اليوم يفتقر إلى هذا الهدوء النفسي والتوازن الوجداني والسكينة الروحية؛ لأن أكثر الناس شذُّوا عن طريق الفطرة: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، فأكثر الناس ليسوا بمؤمنين، وشذُّوا عن طريق الفطرة.
وأذكر كلامًا لأحد العلماء الأوروبيين: إن أوروبا لما تركت إلهها القديم -على طريقة النصارى وتحريفها- واتَّجهت إلى إلهها الجديد -وهو العلم الإلحادي العلماني المادي البحت- بدأ الأوروبيون يعيشون في قلقٍ دائمٍ.
وبعد أن دخلت العلمانية بإلحادها وبماديتها -بهذين المسارين- وهي سمات العلمانية بعد الثورة الصناعية الفرنسية الحديثة، والتي أُرِّخ فيها للعصر الحديث؛ كثر القلق والاضطرابات النفسية والتوتر؛ لأن أكثر الناس شذُّوا عن طريق الفطرة، وتاهوا في سراديب المادة، وخاضوا حتى آذانهم في خِضم الحياة الفانية، تأخذهم أمواجها تارةً ذات اليمين، وتارةً ذات الشمال.
وهناك أناسٌ من المسلمين كذلك اليوم؛ مُنهمكون جدًّا في الدنيا، وابتعدوا عن الصلاة، وإذا صلَّى أحدهم صلَّى بلا تعقلٍ!
فالقضية ليست إقامة الصلاة، وإنما لا بد من الخشوع الذي أثنى الله على أصحابه، فبعد أن قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] قال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، واتَّجهوا تارةً ذات اليمين، وتارةً ذات الشمال، واضطربوا نفسيًّا، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا هذا الإعراض عن الصلاة وروحها: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124- 126].
أما المؤمنون الذين أخبتوا وجوههم لله تبارك وتعالى، وآمنوا بما جاء به محمدٌ ، ولم يضنوا بعمل الصالحات، فيقول الله تعالى عنهم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
بقي معنا من الوقت عشر دقائق، سنحاول -بإذن الله - أن ننتهي من معظم النقاط المهمة.
يقول الدكتور (توماس هايسلوب): "إن من أهم مُقومات النوم التي عرفتها في خلال سنين طويلةٍ من الخبرة والبحث: الصلاة، وأنا أُلقي هذا القول بوصفي طبيبًا، فإن الصلاة هي أهم وسيلةٍ عرفها الإنسان تبث الطمأنينة في نفسه، والهدوء في أعصابه"[26]"فوائد الصلاة الطبية" (ص4).، يقول هذا الكلام وهو غير مسلمٍ، وهذا في صلاة المسلمين الناقصة، فكيف بالذي يُصلي صلاةً حقيقيةً؟!
والدكتور (ألكسيس كاريل) صاحب كتاب "الإنسان ذلك المجهول"، وهو طبيبٌ فسيولوجيٌّ، وحائزٌ على جائزة (نوبل) في الطب يقول عن الصلاة: "إنها تُحدث نشاطًا عجيبًا في أجهزة الجسم وأعضائه، بل هي أعظم مُولدٍ للنشاط عُرف إلى يومنا هذا، وقد رأيتُ كثيرًا من المرضى الذين أخفقت العقاقير في علاجهم، كيف تدخلت الصلاة فأبرأتهم تمامًا من عِللهم؟"[27]"فوائد الصلاة الطبية" (ص4)..
و(ألكسيس كاريل) هذا رجلٌ مشهورٌ جدًّا، وله كتبٌ، ككتاب "الإنسان ذلك المجهول"، وفي كتابه هذا يقول: "تساؤلاتنا كثيرةٌ عن أمورٍ طبيةٍ، وما عرفنا أن نُجيب عليها، وهذا يدل على أن جهلنا بالإنسان مُطبقٌ، وأن هذه الحياة وراءها خالقٌ، وهو الله ".
يقول: "إن الصلاة كمعدن (الراديوم) مصدر للإشعاع، ومُولد ذاتي للنشاط، ولقد شاهدتُ تأثير الصلاة في مُداواة أمراضٍ مختلفةٍ، مثل: (التيدرن البريتوني)، والتهاب العظام والجروح المُتقيحة، والسرطان، وغيره"[28]"فوائد الصلاة الطبية" (ص4).، وهو طبيبٌ فسيولوجيٌّ غير مسلمٍ، ويذكر هذا الجانب المتعلق بقضية الصلاة، فكيف بأهل الإسلام؟!
وأخيرًا نؤكد على خمسة عناصر.
التربية الذاتية من خلال الصلاة
العنصر الأول: التربية الذاتية في مجال الصلاة، وأعظم وسيلةٍ للتربية الذاتية في الصلاة هي صلاة النافلة، وعلى رأسها قيام الليل، وكما جاء في الحديث الصحيح: عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قُربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد[29]أخرجه الترمذي (3472)، وضعفه الألباني..
فصلاة الليل والنوافل والمحافظة على السنن الرواتب هذه تنقص أجيالنا، وتتبعوا أجيال الشباب والمُصلين عمومًا، وانظروا كم منهم يُصلي السنن الرواتب؟ والذين يُصلون النوافل في بيوتهم قد يكونون قِلَّةً، وشكَّ أن صلاة النافلة أفضل في البيت، ولكن الشاهد: أنه ثبت من خلال اللقاءات والتصريح في هذه القضية: أن هناك نقصًا وعجزًا عند كثيرٍ من الناس، فإذا أردنا أن تكون الصلاة راحةً وأمنًا نفسيًّا لا بد أن نعيشها ذاتيًّا، ومن أكبر التربية الذاتية: المُحافظة على النوافل، وعلى رأسها قيام الليل.
والرسول لما علم أن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وهو الرجل المُتبع لسنة النبي - عنده ضعفٌ وتقصيرٌ في قيام الليل، قال -بأبي وأمي هو عليه الصلاة والسلام-: نِعْم الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل، يقول الراوي: "فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلًا"[30]أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479).، يعني: بعد هذا التوجيه النبوي.
فالتربية الذاتية تكون في الصلاة، وهي أمرٌ بين الإنسان وربه، وهذا لا يكون إلا من خلال قيام الليل بالدرجة الأولى، ولو بركعةٍ، فكيف لو طال القيام؟!
وطول القيام هي من علامات الاتباع في قيام الليل، وكذلك النوافل المُقيدة مثل: السنن الرواتب، والنوافل المُطلقة.
وأنا أعرف أحد القضاة لا يدخل مكتبه إلا ويُصلي ركعتين قبل الضُّحى، وأصبح ذلك عادةً مُلازمةً له.
وقد كنتُ مُسافرًا مع أحد الأشخاص، وكنتُ مُنهكًا، وكنا نريد أن نصل إلى مكانٍ، وما نريد أن نتأخر، فإذا به يقف، فقلت له: خيرًا! ما بك؟! قال: أريد أن أُصلي صلاة الضحى؛ لمُحافظته عليها، فهذا من التربية الذاتية.
التربية الجماعية
العنصر الثاني: التربية الجماعية من خلال صلاة الجماعة؛ ولذلك من فضل الله أنه أوجب علينا صلاة الجماعة، ولستُ بصدد الكلام عن الحكم، فهذا عند أهل الشريعة، ولكن قد قال لنا الله : وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].
ويقول النبي : والذي نفسي بيده، لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ يحتطب، ثم آمر بالصلاة فيُؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدكم أنه يجد عَرْقًا سمينًا أو مِرْمَاتين حسنتين لشهد العشاء[31]أخرجه البخاري (7224)، ومسلم (651)..
فهذه كلها تؤكد صلاة الجماعة؛ فلذلك كما قال ابن مسعودٍ : "فإن الله شرع لنبيكم سُنن الهدى، وإنهن من سُنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يُصلي هذا المُتخلِّف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهر فيُحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجدٍ من هذه المساجد؛ إلا كتب الله له بكل خطوةٍ يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجةً، ويحطُّ عنه بها سيئةً، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا مُنافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصفِّ"[32]أخرجه مسلم (654)..
والبعض يقول: أنا أُصلي جماعةً، لكن مع أصحابي في المدرسة!
والقول الراجح من كلام المُحققين كما يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله- في رسالته "في تعظيم شأن الصلاة" وغيرها: إن الصلاة في المسجد الذي تُقام فيه الجماعة، والجماعة الأولى أفضل؛ حتى لا يتراخى الإنسان في صلاة الجماعة.
إذن هذا المعلم الثاني بعد التربية الذاتية، وهو: التربية الجماعية.
الاقتداء
العنصر الثالث: الاقتداء كما قال : وصلوا كما رأيتموني أُصلي[33]أخرجه البخاري (631).، فيتبع الإنسان هديه في الصلاة، وأن يكون هو قدوة للأجيال، فلما ينشأ الأطفال وينظرون لآبائهم وأمهاتهم يُصلون على طريقة النبي لن يُعانوا في تربيتهم، لكن نغفل نحن أصلًا عن هذه التربية، وقد قال لي أحد الشباب: كيف تُريدنا أن نُصلي وآباؤنا لا يُصلون؟! وهذا كلامٌ منطقيٌّ، لكنه ليس مُبرِّرًا له؛ لأنه مُحاسَبٌ ومُخاطَبٌ بخطابٍ شرعيٍّ.
التربية الأُسرية
العنصر الرابع: التربية الأسرية من خلال قول النبي : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع[34]أخرجه أبو داود (495)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ..
ولاحظوا: قبل الأمر كانت القدوة موجودةً، فكيف سينشأ أطفالٌ آباؤهم وأمهاتهم مُقصِّرون في الصلاة، أو حتى لا يُصلون؟! مشكلةٌ كبيرةٌ، وهذا مما يُفسر وجود أجيال مُقصرين، أو تاركين للصلاة، نسأل الله العافية والسلامة.
إذن هذه القضية مُتعلقة بالتربية الأسرية، وكما قال النبي في حديثه لأبي هريرة : رحم الله رجلًا قام من الليل فصلَّى، وأيقظ امرأته، فإن أبت -لاحظ: مع أنها سنةٌ- نَضَحَ في وجهها الماء، رحم الله امرأةً قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها، فإن أبى -وهو زوجٌ- نَضَحَتْ في وجهه الماء[35]أخرجه أبو داود (1308)، وابن ماجه (1336)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ..
فهذه صورةٌ من صور التربية الأسرية على الصلاة، كما قال الله : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، ومن الاصطبار أن نقول لهم: "صلوا" إذا بلغوا سبعًا إلى عشرٍ، ونضربهم عليها بعد ذلك، وقبل ذلك القدوة، ويحصل بين الزوجين مثل هذه اللَّفتات التربوية الرائعة.
الخشوع
العنصر الخامس: أخيرًا: الخشوع، وهو معلمٌ مهمٌّ، ولا نستطيع أن نأتي عليه، والخشوع هو لُبُّ الصلاة وروحها، وفي التربية الذاتية وقيام الليل والنوافل، والتربية الجماعية وصلاة الجماعة، في كل هذه الأشياء لا بد أن نُؤكد على استحضار القلب والخشوع في الصلاة، وأن يطرح الإنسان كل ما في الدنيا، ويُجاهد نفسه حتى يصل إلى أن تكون الصلاة قُرَّة عينه، فيأنس بصلاته ويسعد، والإنسان يستطيع أن يُجاهد: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
وكنت أتمنى أن أقرأ كلامًا لابن القيم، لكن سأقرأه في لقاءاتٍ أخرى؛ لأنه نفيسٌ، وهو في كتاب "أسرار الصلاة"، فارجعوا إليه، وانظروا كيف قارن بين الذين كانت الصلاة لهم راحةً وجمالًا وأُنْسًا في مقابل غيرهم؟
ووقوفه أيضًا عند قول الرسول : يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها[36]أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني.، وكذلك عند قوله: وجُعل قُرَّة عيني في الصلاة[37]أخرجه النسائي (3939)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ..
وأسأل الله أن يجعل الصلاة لنا ولكم راحةً وأمنًا نفسيًّا وطُمأنينةً.
وأسأله التوفيق والسداد، وأن يُعيننا على تربية الأجيال على ذلك، وأن يُصلح الجميع، وأن يُعيننا وإياكم على ما أوجب علينا من أمر الصلاة، وأن يجعلها حُجَّةً لنا لا علينا.
وأعتذر عن الإجابة عن الأسئلة، ولكننا -إن شاء الله- في اللِّقاءات القادمة نُجيب عن هذه الأسئلة في وقتها، إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه مسلم (285). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436). |
↑3 | أخرجه البخاري (722)، ومسلم (414). |
↑4 | أخرجه أبو داود (666)، وصححه الألباني. |
↑5 | أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني. |
↑6 | "تعظيم قدر الصلاة" لمحمد بن نصر المروزي (1/ 335). |
↑7 | "تعظيم قدر الصلاة" لمحمد بن نصر المروزي (1/ 338). |
↑8 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (26483)، وقال مُحققوه: حديثٌ صحيحٌ لغيره. |
↑9 | "الفوائد" لابن القيم (ص200). |
↑10 | أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني. |
↑11 | أخرجه الترمذي ت: شاكر (413)، وأبو داود (864)، وابن ماجه (1425)، وصححه الألباني. |
↑12 | أخرجه النسائي (3178)، وصححه الألباني. |
↑13 | أخرجه النسائي (3939)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ. |
↑14 | أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني. |
↑15 | أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة (6576)، وقال مُحققوه: إسناده حسنٌ. |
↑16 | "في ظلال القرآن" (2/ 1142). |
↑17 | أخرجه مسلم (657). |
↑18 | أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829). |
↑19 | أخرجه الترمذي (2465)، وصححه الألباني. |
↑20 | أخرجه البخاري (631). |
↑21 | أخرجه ابن ماجه (897)، وأبو داود (874)، وصححه الألباني. |
↑22 | أخرجه ابن ماجه (3819)، وأبو داود (1518)، وضعفه الألباني. |
↑23 | "إتحاف السادة المتقين" (4/ 557). |
↑24 | "فيض القدير" (4/ 527). |
↑25 | "أسرار الصلاة" (ص30، 31). |
↑26 | "فوائد الصلاة الطبية" (ص4). |
↑27 | "فوائد الصلاة الطبية" (ص4). |
↑28 | "فوائد الصلاة الطبية" (ص4). |
↑29 | أخرجه الترمذي (3472)، وضعفه الألباني. |
↑30 | أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479). |
↑31 | أخرجه البخاري (7224)، ومسلم (651). |
↑32 | أخرجه مسلم (654). |
↑33 | أخرجه البخاري (631). |
↑34 | أخرجه أبو داود (495)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ. |
↑35 | أخرجه أبو داود (1308)، وابن ماجه (1336)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ. |
↑36 | أخرجه أبو داود (4985)، وصححه الألباني. |
↑37 | أخرجه النسائي (3939)، وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ. |