المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: هذه هي الحلقة الثالثة والأخيرة من الحلقات الخاصة بالشباب والغريزة التي بدأناها قبل أسبوعين بتوفيق الله، ولعلنا نختم اليوم بنموذجين نقف عندهما، بإذن الله ، ونستفيد بعض الدروس من هذين الموقفين.
قصة يوسف
النموذج الأول من القرآن، وهو قصة يوسف عليه الصلاة والسلام مع امرأة العزيز، وهذه القصة نحتاج أن نقف معها، وقبل ذلك نُذكر أنفسنا بالآيات، يقول الله : وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف:23- 35].
فهذه الآيات من هذه السورة تذكر ما حصل بين يوسف وامرأة العزيز، ومن أجمل مَن تحدَّث عن الوقفات الموجودة في هذه الآيات، أو التصوير الذي نحتاج إليه في الناحية التربوية والنفسية الشيخ عبدالرحمن بن السعدي في تفسيره، وأنا مُضطرٌّ أن أقرأه لأهميته؛ لأنه يُعطي صورةً عظيمةً.
وبعض الشباب -ذكورًا وإناثًا- حينما يكونون في موطن الفتنة والغريزة يقول أحدهم: أنا لا أقدر أن أُمسك نفسي، والمُثيرات كثيرةٌ، واليوم نحن في عصر المُثيرات! وينسى البيئة والواقع الذي عاشه يوسف، وما كان فيه من مُثيرات ومُغريات مع امرأة العزيز من خلال الآيات التي سمعناها.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: "هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته"[1]"تفسير السعدي" (ص396).، يعني: هذه المحنة التي بينه وبين امرأة العزيز أعظم من محنته التي حصلت بينه وبين إخوته، وهذا يُعطينا دلالةً على أن موضوع الغريزة موضوعٌ بالغ الأهمية؛ لأن المحنة والفتنة فيه قد تكون أشد من أن يكون بعيدًا عن أهله، كما كان يوسف غريبًا سنين طويلةً، وحصل ما حصل بينه وبين إخوته، لكن هذه المحنة أعظم.
يقول الشيخ رحمه الله: "وصبره عليها أعظم أجرًا"[2]"تفسير السعدي" (ص396).، وما دامت أعظم فلا شك أننا حينما نصبر عليها يكون الأجر أعظم.
أتذكرون كلامًا سبق أن ذكرناه في قول الله : أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3]؟ فالذي يميل إلى المعصية ويهواها ثم يتركها أجره عند الله أعظم من الذي لا يميل إليها، فكلاهما قد ترك المعصية، ويُؤجَر على ذلك، لكن الأول تركها مع رغبته فيها، والثاني ليس عنده رغبةٌ فيها، فيكون الأول مُبتلًى أشد من الثاني، ويكون أجره أعظم من أجر الثاني.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله: "لأنه صبر اختيارٍ، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع الفعل"[3]"تفسير السعدي" (ص396).، يعني: يوسف لما صبر في هذه الفتنة مع قوة الدواعي الكثيرة من امرأة العزيز صار أجره أعظم؛ لأن صبره اختياريٌّ، يعني: هو يستطيع ألا يصبر، وأن يستسلم لهذه الفتنة؛ فلذلك هنا الصبر يختلف عن الصبر الآخر.
يقول: "فقدَّم محبة الله عليها" يعني: يوسف قدَّم محبة الله على امرأة العزيز، "وأما محنته بإخوته فصبره صبر اضطرارٍ"، وليس له يدٌ في الموضوع، فقد وقع غصبًا عنه، "بمنزلة الأمراض والمكاره التي تُصيب العبد بغير اختياره، وليس له ملجأٌ إلا الصبر عليها"[4]"تفسير السعدي" (ص396).، فهذا صبرٌ اضطراريٌّ يُؤجر عليه، لكن ليس مثل صبر الاختيار؛ لأنه شابٌّ قادرٌ على أن يدخل عبر (البلاك بيري) و(الآيفون) و(الآيباد) ووسائل التواصل الجديدة إلى ما حرَّمه الله ، لكنه يتأبَّى، فصبره الآن صبرٌ اختياريٌّ، فأجره أعظم من الصبر الاضطراري.
وكذلك يقول الشيخ رحمه الله: "وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مُكرمًا في بيت العزيز"، وتأمل وصفه الآن لدواعي الفتنة التي اجتمعت ليوسف ومع ذلك صبر: "وكان له من الجمال"؛ لأن يوسف عليه الصلاة والسلام كما قال النبي : فإذا أنا بيوسف ، إذا هو قد أُعطي شطر الحُسن[5]أخرجه مسلم برقم (162)..
"وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك أن رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ"[6]"تفسير السعدي" (ص396).، يعني: هو مكرمٌ في بيت العزيز، ومقبولٌ، ومُحتفًى به، وعنده جمالٌ وبهاءٌ وكمالٌ وفتوَّة الشباب، فهذا الذي جعل امرأة العزيز تُفْتَن به.
"أي: هو غلامها"، وهذه أيضًا دواعٍ إضافيةٌ، فهي سيدته، "وتحت تدبيرها، والمسكن واحدٌ، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير شعور أحدٍ، ولا إحساس بشرٍ"، فلا أحد موجودٌ، "وزادت المُصيبة بأن غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ، وصار المحل خاليًا، وهما آمنان من دخول أحدٍ عليهما"؛ لأنها قد غلَّقت الأبواب "بسبب تغليق الأبواب، وقد دعته إلى نفسها: وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ".
فتأملوا كل هذه الدواعي، وتجد الشباب -ذكورًا وإناثًا- اليوم يقولون: ما نصبر، ولا نستطيع! فهذه الدواعي الكثيرة هل اجتمعت عندكم أيها الشباب -ذكورًا وإناثًا- مثلما اجتمعت عند يوسف؟ أبدًا، لم تجتمع بقوةٍ كما اجتمعت عند يوسف عليه الصلاة والسلام.
"وقد دعته إلى نفسها: وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ أي: افعل الأمر المكروه، وأقبل إليَّ، ومع هذا فهو غريبٌ" وليس من أهل الديار، "لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه"، فالشخص الغريب لا يخاف من أحدٍ، ليس مثل مَن كان في وطنه.
"وهو أسيرٌ تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شابٌّ عزبٌ"، فانظر، كل هذه أيضًا من الدواعي: "وقد توعدته إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن أو العذاب الأليم"، ومع هذا كله "فصبر عن معصية الله مع وجود الداعي القوي فيه؛ لأنه قد همَّ فيها همًّا تركه لله" كما قال بعض المُفسرين: هَمُّ النَّفس، وليس مثل همِّها هم الفعل، وفرقٌ بين الأمرين.
"وقدَّم مُراد الله على مُراد النفس الأمَّارة بالسوء"، وهنا الدروس والقدوة، الآن نقول للشباب -ذكورًا وإناثًا-: ضعوا يوسف محل القدوة فيما يتعلق بالموقف من الغريزة.
"ورأى من برهان ربِّه، وهو ما معه من العلم والإيمان المُوجب لترك كل ما حرَّم الله" يعني: ليس الأمر فقط لأنه نبيٌّ، وإنما لأن ما عنده من العلم والإيمان جعله يترك كل ما حرَّم الله؛ ولذلك لو ربينا الشباب على العلم الذي يفقهون به الصواب والخطأ، وعلمهم بالله، والخشية من الله والإيمان؛ يمكن أن يُحَصَّنوا من الوقوع في الرذائل.
يقول: "وهو ما معه" الذي هو البرهان "من العلم والإيمان المُوجب لترك كل ما حرَّم الله ما أوجب له البعد والانكفاف عن هذه المعصية الكبيرة" التي هي الزنا والفاحشة، "وقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح؛ لأنه مما يُسخط الله، ويُبعد عنه" هذا الأول في حقِّ الله، "ولأنه خيانةٌ في حقِّ سيدي" الذي هو العزيز الذي أكرمه، وهذا حقُّ العباد.
"الذي أكرم مثواي، فلا يليق بي أن أُقابله في أهله بأقبح مُقابلةٍ، وهذا من أعظم الظلم، والظالم لا يُفلِح"[7]"تفسير السعدي" (ص396)..
يقول الشيخ رحمة الله عليه: "والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله"، وهي الخصلة التي ذكرناها سابقًا في الكلام على أهمية التربية الإيمانية للشباب، والتربية على الحب لله ، والخوف من الله وخشيته، حتى يضبط هذا الموضوع المُتعلق بقضية الغريزة.
يقول: "ومُراعاة حقِّ سيده الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يُفلح مَن تعاطاه، وكذلك ما مَنَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر"[8]"تفسير السعدي" (ص396).، فإذا كان الإنسان تربى على الإتيان بالأوامر واجتناب الزواجر فهذا في الغالب يكون أدعى إلى أنه لا ينحرف في الغريزة، لكن إذا كان مُقصِّرًا في الصلاة وبرِّ الوالدين وإقامة حقِّ الله ، فلا تستبعد أبدًا أنه يلج أبواب النار -والعياذ بالله- بسبب ضغط الغريزة الجنسية على الشاب، ذكرًا أو أنثى.
ويقول الشيخ رحمه الله: "والجامع لذلك كله أنَّ الله صرف عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده المُخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصَّهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه"[9]"تفسير السعدي" (ص396).، يعني: انتصار الإنسان على نزوته هذا نجاحٌ وإنجازٌ عظيمٌ جدًّا، أما أن يُقدم محابَّ نفسه على محبة الله فهذه الهزيمة الحقيقية؛ ولذلك ينبغي أن ننظر: على ماذا تتربى أجيالنا؟ هل تربوا على الهوى وحبِّ الذات والنفس؟
الهدف من وجود الإنسان في النظريات النفسية الغربية
ذكرت النظريات النفسية الغربية -كنظرية (فرانكل)- الهوية، أو الهدف من وجود الإنسان في هذه الحياة، وقد أتى (فرانكل) بأشياء ما أتى بها الغربيون من قبل.
وكل هؤلاء في العموم أخطأوا في مسألة تحقيق الإنسان لنزوته وشهوته؛ لنظرتهم للإنسان نظرةً دنيويةً ماديةً بحتةً، ومَن قارب إلى بعض الجوانب الإيجابية شطَّ واضطرب بسبب عدم وضوح النظرة لحقيقة الإنسان، وأنه عبارةٌ عن مادةٍ وروحٍ، وأن الله جعل الميزان الشرعي: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، والإنسان إذا وجد مَن يُطلق له تحقيق ملذَّاته فهو سيُحقق ملذَّاته بما يريد، وعندئذٍ يتمحور حول نفسه، وعندئذٍ سيكون في الجانب القِيَمي والأخلاقي والعقدي من الضَّالين.
و(باتريسون) وصاحبه لهما كتابٌ قَيِّمٌ، وهو دراسةٌ رائعةٌ جدًّا عن المجتمع الأمريكي، وقد طُبِّقت على 2000 من المجتمع الأمريكي في كتاب "يوم اعترفت أمريكا بالحقيقة"، وهو كتابٌ مطبوعٌ، وترجمه الدكتور: محمد سعود البِشْر، وموجودٌ في المكتبات، وهو من أفضل الكتب التي تحكي واقع المجتمع الأمريكي من خلال بعض المُنصفين من أمثال (باتريسون) وصاحبه.
والكتاب عبارةٌ عن دراسةٍ طبَّقوها فيما يتعلق بالقيم الاجتماعية، فكانت نتيجة البحث التي وصلوا إليها: أن المجتمع الأمريكي آيلٌ للسقوط من الناحية القِيَمية، بينما -للأسف- الذين ينبهرون منا بهم تجدهم ينظرون نظرةً ماديةً، وقِيَم بناء الإنسان الاجتماعية منهارةٌ عندهم، وهذا من خلال المُنصفين الذين تحدثوا عن هذه القضية.
خطورة الاهتمام بالجانب المادي وحده في التربية
ينبغي أن نُعيد النظر في تربيتنا للشباب، وقد أشرنا إشاراتٍ سابقةً في هذا الموضوع فيما يتعلق بالشباب والغريزة وغيرها، وقلنا: من الخطأ تربيتنا لهم على القضايا الدنيوية، واهتمامنا بالقضايا المادية، فإن نتيجة ذلك أن ينشأوا على السعي لتحقيق رغباتهم ونزواتهم، فينظر الشاب إلى ما يشاء من الحرام، ويسمع ما يشاء، وما شابه ذلك، وفي الحديث: فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق[10]أخرجه البخاري برقم (6243)، ومسلم برقم (2657).، والغناء -كما قال العلماء- بريد الزنا[11]"الجواب الكافي لمَن سأل عن الدواء الشافي" ط. العلمية (ص33). ... إلى آخره.
كل الحوادث مبدأها من النـظر | ومعظم النَّار من مُستصغر الشَّررِ |
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها | فتك السِّهام بلا قـوسٍ ولا وترِ |
يسر مُقلته ما ضــرَّ مُهجته | لا بارك الله بسرورٍ جاء بالضرِّ[12]"ديوان الصبابة" لابن أبي حجلة (ص25). |
ثم مَن يدري إلى أين ستصل القضية؟ قد تصل إلى الابتزاز منه لها، أو العكس، من خلال الصور، أو التسجيلات، أو شيءٍ آخر، ولو أنه حصَّن نفسه وضبط هذه القضية لما وقع في الفخ، أو وقعت هي في الفخ.
وأذكر أنني كنتُ في أحد المراكز الصحية، ورأيتُ مشهدًا سيئًا في موقفٍ بين شابٍّ وامرأةٍ، ولا أريد أن أذكر ما رأيتُ، لكن تكفي الإشارة، ثم -سبحان الواحد الأحد!- إذا بي أجد هذا الذي رأيتُه في مناسبةٍ أخرى، وفي بيئةٍ تعليميةٍ، وما كان يحسب أنني سألتقي به، أو شيء من هذا القبيل، فاستحى، فكيف سيقف الإنسان بين يدي رب العالمين ليس بينه وبينه ترجمان؟!
يوسف يُفضِّل السجن على فعل الفاحشة
ثم لاحظ أن يوسف اختار السجن عن أن يفعل الفاحشة: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]، وهذا يدل على أن النسوة كان عندهن كيدٌ عظيمٌ؛ لأن النسوة جعلن -كما يقول الشيخ السعدي رحمة الله عليه- يُشرن على يوسف بمُطاوعة سيدته، وجعلن يَكِدْنَه في ذلك، فلما رأى ذلك فضَّل أن يذهب إلى السجن على أن يفعل الفاحشة، فمَن الذي يفعل هذا الفعل؟! ثم قال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف:33]، فهذا والله درسٌ لنا جميعًا.
ونحن نغتر بأنفسنا، ونثق بها ثقةً زائدةً! وكذا الآباء يثقون بأبنائهم، والأساتذة أو المُربون يثقون بطلابهم، وخاصةً في هذه القضايا، يقول أحدهم: لا، ولدي أعرفه جيدًا، فهو بعيدٌ عن هذا، وبنتي أعرفها جيدًا. أو الولد يقول: لن أفعل هذا أبدًا.
وناقشتُ أحدهم قريبًا وقد وقع في علاقاتٍ مُحرَّمةٍ، لكن على مستوى محدودٍ، فقال: أنا -الحمد لله- ضابطٌ لنفسي. فقلتُ: ما شاء الله! ضابطٌ لنفسك! وتقول هذه العبارة بثقةٍ؟! قال: والله يُحاولون معي إلى مستوى أن أدخل معهم على الخاص، وأنا أُنكر ذلك. وهو ربما دخل في مستوى من القاذورات يتعلق بمثل هذه الأشياء، ويتكلم وكأن عنده صكَّ نجاةٍ من الفتنة.
فيوسف يقول: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ، يقول الشيخ السعدي -رحمة الله عليه-: "أي: أمل إليهن، فإني ضعيفٌ عاجزٌ"[14]"تفسير السعدي" (ص397).، فيوسف يقول هكذا: أنا عاجزٌ، إن لم تدفع عني السوء أصب إليهن: وأكن مِنَ الْجَاهِلِينَ.
فأين هذا المنطق من شبابنا وفتياتنا، وآبائنا وأمهاتنا ومُجتمعنا؟!
إذا جاءت هذه القضايا قال الأب: لا نريد أن نشكَّ في أبنائنا، أو أنا واثقٌ من نفسي، أو واثقةٌ من نفسي، أو أنا أعرف أنني لا يمكن أن أدخل مع شخصٍ وآخذ وأُعطي ونيتي سيئةٌ، ولا يمكن أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، فمَن الذي يضمن ذلك؟!
يوسف سأل الله أن يصرف الكيد عنه، بل قال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ما في إلا هذه النتيجة: وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فإنَّ هذا جهلٌ كما يقول الشيخ؛ لأنه آثر لذَّةً قليلةً مُنغّصةً على لذاتٍ مُتتابعاتٍ وشهواتٍ مُتنوعاتٍ في جنات النعيم، يعني: الذي لا يضبط جانب الغريزة -ذكرًا أو أنثى- ويدخل بأي مستوًى من الدخول في هذه القضايا المُنحرفة هو في الحقيقة يُقدم لذَّته الآنية القليلة المُنغّصة على اللذات الدائمة، ويوسف ما يريد ذلك، فهو بطلٌ وشجاعٌ، ونحن نريد هذه الشجاعة، وهذا مُؤشرٌ من مُؤشرات الخوف، ومعرفة حقيقة الإنسان مَن هو؟
فيوسف على مصطلح النفسيين فاهمٌ نفسه بطريقةٍ صحيحةٍ، أما الناس المُغالطون فتجد أحدهم يتكلم مع امرأةٍ ليست محرمًا له، ويقول أنه لا يمكن أن يتأثر! مثلًا: مُضيفٌ مع مُضيفةٍ، فتنصحه، فيقول: زميلة عملٍ. ما شاء الله! والحمد لله ما حصل شيءٌ. يعني: ماذا تريد أن يحصل؟ يعني: أنت ما الذي في بالك أنه يمكن أن يحدث؟
فهذه مغالطةٌ للنفس، وعدم فهم الذات، وعدم فهم الآخرين، فلا بد أن أفهم نفسي، وأني مُعرَّضٌ للفتنة؛ لأن عندي هذه الغريزة، شئت أم أبيت، وعندي هذه الحاجة، شئت أم أبيت، وكذلك لا بد من فهم الآخر، وأثره عليَّ، وتأثره بي، والعلم والعقل أيضًا يدعوان إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللَّذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة.
الاعتصام بالله
هناك كلامٌ جميلٌ لأحد المُربين حول هذه الآية الأخيرة: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ يقول: وهي دعوة الإنسان العارف ببشريته الذي لا يغتر بمعصيته، فيريد مزيدًا من عناية الله وحياطته، يُعاونه على ما يعترضه من فتنةٍ وكيدٍ وإغراءٍ.
هذا منطق الإنسان السَّوي الصالح الذي يعرف بشريته، أما الآخر فيعرف أنه يمكن أن يضلَّ ويغترَّ بمعصيته، ويعرف أنه مُخطئٌ في معصيته، ومع ذلك يحاول أن يُبرر بأي طريقةٍ، فيقول: أنا ما يمكن أن أقع في هذا الشيء، ومستحيلٌ، والأمور -إن شاء الله تعالى- مضمونةٌ، ونحن عائلةٌ محافظةٌ ومعروفةٌ!
ما دخل العائلة المعروفة؟! أليس يوسف عليه الصلاة والسلام من عائلةٍ معروفةٍ؟! أنا دكتورٌ! ما دخل (الدكتوراة)؟! أنا مُثقفٌ! ما دخل التثقيف؟! هذه غريزةٌ ونفسٌ أمَّارةٌ بالسوء، والله أنزل في قومٍ قوله: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44].
فهذه مُغالطةٌ، ويوسف يريد مزيدًا من عناية الله وحياطته؛ لأنه يعرف أن هذه حاجةٌ ضاغطةٌ عليه، فمَن الذي سيُنقذه؟ إنه الله.
فأنت تحتاج أن تتجه إلى الله كما اتَّجه يوسف : وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فالله هو المُعين للعبد على ما يعترضه من فتنةٍ وكيدٍ وإغراءٍ، وهذا الكلام من قديمٍ، فكيف بنا اليوم؟
يوسف نبيٌّ ومُؤيَّدٌ ويلجأ إلى الله، ويخشى أن يقع في الفخ، وفي زمنٍ كانت وسائل الإغراء فيه قليلةً، وإن كانت تلك الوسائل قد اجتمعت بقوةٍ في موقف يوسف ، لكنها كانت قليلةً من حيث وسائلها في المجتمع، واليوم قضايا وسائل التقنية قرَّبت البعيد، فكيف لا نلجأ إلى الله، ونطلب العون، ونخشى على أنفسنا؟!
فما أجمل أن يكون للشاب والشابة علاقةٌ بالله ، يدعو الله: يا رب، أعني على نفسي، يا رب، زوِّجني، يا رب، حصِّني! وهكذا الأب يدعو لابنه، وما شابه ذلك.
فهذه القضايا من المهم جدًّا أن نُدركها.
قصة الشاب الذي جاء يستأذن النبي في الزنا
نقف في ربع الساعة المُتبقية من هذا الدرس عند قصة النبي -بأبي هو وأمي هذا المُربي الفذّ- مع الشاب الذي جاءه يستأذنه في الزنا، وسأقف مع هذه القصة في اثني عشر درسًا، وربما تزيد قليلًا، ويمكن أن نذكر بعضها في نهاية اللقاء سريعًا.
متن الحديث
هو حديثٌ رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي أمامة قال: "إن فتًى شابًّا أتى النبي فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه، مه. فقال : ادنُه، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أتُحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لأمهاتهم، قال: أفتُحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لبناتهم، قال: أفتُحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لأخواتهم، قال: أفتُحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لعماتهم، قال: أفتُحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يُحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيءٍ[15]أخرجه أحمد، ط. الرسالة، برقم (22211)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح"..
الدروس المُستفادة من الحديث
لنا وقفةٌ مع هذا الموقف النبوي العظيم مع شابٍّ ضغطت عليه قضية الغريزة إلى أن حصل هذا الموقف بينه وبين النبي .
كيفية التعامل مع قضية الغريزة
فمن الفوائد والدروس التي نستفيدها من الناحية العملية: كيفية التعامل مع قضية الغريزة: فمجيء هذا الشاب بحد ذاته إيجابيةٌ.
فيا أيها المُربي -أيًّا كنتَ: أبًا، أو أمًّا، أو معلمًا، أو صديقًا، أو غير ذلك- إذا أتاك الشاب الذي يُعاني هذه المعاناة فمجيئه هذا إيجابيٌّ، وهو أحسن من أن يذهب إلى مصدرٍ آخر، وأفضل من أنه لا يذهب أصلًا، فبعض الشباب يكتم هذه القضايا، ويستحي أن يسأل فيها، ويتكلم عنها.
إذن قضية المجيء شيءٌ إيجابيٌّ، وحين تكون التربية تُساعد الشاب -ذكرًا أو أنثى- على المجيء والإفصاح عما في نفسه تكون تربيةً ناجحةً في الأسرة والمجتمع.
ثم هذا الشاب ذهب إلى الرسول ، وهو القدوة عليه الصلاة والسلام، فنحن نحتاج إلى أن يذهب الشاب إلى مَن يُرشده إيجابيًّا، ولا يذهب إلى المُنتديات والأماكن المجهولة.
فإذا جاء الشاب وقال: أنا أُعاني من مشكلةٍ. فعلينا أن نسأله: ما مشكلتك يا فلان؟ فيبدأ في ذكر مشكلته، لكن أيضًا لا بد أن يذهب إلى مستشارٍ مضمونٍ مأمونٍ في مثل هذه القضايا كما ذهب هذا الشاب إلى النبي .
وأنا أقول للأب والأم والمعلم والمُربي والمُربية: إذا كنتَ قدوةً وأتى إليك الشابُّ يُفصح عما في نفسه من هذه القضايا، فأدرك أن هذا مؤشر نجاحٍ في التربية، لكن ليكن موقفك مثل موقف الرسول .
ويظهر الأدب في قوله: "يا رسول الله، ائذن لي بالزنا".
ولاحظ: مع أن هذا الأمر ضاغطٌ عليه إلا أن القيم تُساعد الإنسان في أن يتجه الاتجاه الإيجابي، وبعض شبابنا للأسف -ذكورًا وإناثًا- لا يتربون على القيم؛ ولذلك تجد الشاب أحيانًا لا يعرف ماذا يفعل حينما تأتي هذه الحاجة الضاغطة عليه، فيُشرِّق ويُغرِّب؟!
ولاحظ أيضًا هنا هذا الأدب، وهذا نعتبره من الأشياء التي تدل دلالةً واضحةً على حُسن منبع هذا الشاب وحُسن منبته، فرغم ما هو فيه من معاناةٍ إلا أن كلامه يدل على وجود تربيةٍ له.
ولاحظ أيضًا قوله: "ائذن لي بالزنا"، هو يعرف حكم الزنا؛ ولأنه يعرف ذلك طلب الإذن فيه.
ولذلك أحبتي العلم مهمٌّ في هذه القضايا، ولكن العلم لا يكفي إذا كانت الإرادة ضعيفةً، وهذه مشكلة أجيالنا، فالشاب تجده عارفًا أن العلاقات المُحرَّمة لا تجوز، ويمكن أن يُعطيك الدليل؛ ولذلك لا بد أن نعرف كيف عالج الرسول هذه القضية في الشباب؟
وقد يجهل بعض الشباب حكم بعض الأفعال مع وضوح حُرمتها، وقد لاحظتُ أن بعضهم يضع الصور المُتبرجة، مع أنهم درسوا أنها حرامٌ، وقد تأتي الفتاة وتقول: هذه ليست صورتي، هذه صورة واحدةٍ كافرةٍ. وتضع لها صورةً في مكانها، فلا شكَّ أن هذا جهلٌ يحتاج إلى تعليمٍ، لكن العلم أيضًا لا يكفي إذا كان بعيدًا عن الإرادة، فلا بد من قضية الإرادة.
يقول في الحديث: "فأقبل القومُ عليه فزجروه"، وهذا تصرفٌ إيجابيٌّ سلبيٌّ؛ لأن هذا طبيعيٌّ، مع أن الغيرة على حُرمات الله محمودةٌ، ومن طبيعة الفطرة، ولا يوجد في الحديث دلالةٌ على أنهم أخطأوا في الأسلوب، لكنهم لم يكونوا على الطريقة التي كان عليها النبي ، والذي كان أثره أقوى من أثرهم.
أقصد أن هذه الأشياء المتعلقة بهذه القاذورات لا شك أنها تحتاج إلى غيرةٍ، ونحن نُقدِّر هذه الغيرة، ونُقدِّر الذين يريدون أن يُحافظوا على الفطرة سليمةً من المُلوثات، فلا نتوقع أن يقول واحدٌ: شكرًا لك على ما تقوله. وإنما يقول: يا أخي الكريم، اتَّقِ الله ، أترضى هذا لأختك وأهلك؟!
وأنا جربتُ هذا مع بعض الشباب، فقلت في نفسي: دعني أُطبق هذا الأسلوب، فمررتُ على مجموعة شبابٍ وأنا في السيارة، وأخرجتُ رأسي من النافذة، وقلت: السلام عليكم، فقالوا: وعليكم السلام، فقلتُ: يا شباب، هل لكم أخواتٌ وأهلٌ؟ قالوا: نعم، فقلتُ: إذا كنتم ترضون لأخواتكم ما فعلتُموه ببنات الناس فافعلوا ما تشاؤون، السلام عليكم. ومشيتُ، ولما مشيتُ تبعوني بالسيارة، فقلت: الله يستر!
المقصود أنني استعنتُ بالله ووقفتُ، فجاءني أحدهم وشكرني شكرًا جزيلًا، وقال: نَعِدك أننا نعاهد الله على ترك هذا الأمر، وإنَّ كلمتك هذه أثَّرت فينا، فقلتُ: هذه ليست كلمتي، هذا موقف النبي الذي ربَّى مثلكم من الشباب عليه.
فأنا رأيي -والله تعالى أعلم- أن هذا الأسلوب النبوي هو أنفع أسلوبٍ تربويٍّ نفسيٍّ في هذه القضايا المتعلقة بالغريزة وانحرافها، وسأذكر طرفًا مما ذكره النفسيون فيما يتعلق بالأسلوب الذي فعله النبي بعد قليلٍ.
"قال: ادنُه، فدنا منه قريبًا"، وهذا القُرب المادي مع القُرب المعنوي مُؤثرٌ، فلا يكون المُربي بعيدًا عن المُتربي، يتكلم مع المُتربي وكأنه جالسٌ في برجٍ عاجيٍّ! فكلما كنتَ مع ابنك قريبًا وتأخذ وتُعطي معه فهذا القُرب المادي مُؤثرٌ.
وقد دلَّت الدراسات على أثر هذا على الناحية النفسية أكثر في الخصائص المهارية، وكذلك بالنسبة للقُرب المعنوي دلَّت الدراسات على أثر الخصائص الوجدانية، كما سيأتي معنا بعد قليلٍ في الجوانب الوجدانية التي هي القُرب المعنوي.
"فجلس" وهذا تكريمٌ واحترامٌ من النبي لهذا الشاب الذي جاء لهذه القضية التي ربما لو حصلت لواحدٍ منا لأزبد وأرعد، ومع ذلك يجلس بين يدي النبي ويُعطيه فرصته حتى يشعر بالطمأنينة، وهذا هو الجانب الوجداني النفسي.
ثم بدأ بهذا الحوار الرائع: أتُحبه لأمك؟ وهكذا لابنتك، وأختك، وعمَّتك، وخالتك، والشاب يردُّ، وهذا الرد يُسميه علماء النفس: "الأسلوب العقلاني الانفعالي"، وهذا من أروع الأساليب، وهو مُخاطبة العقل المُؤثر في المشاعر، كما قال الله في الغيبة: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ، ماذا قال؟ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فلم يقل الله في الآية: الغيبة حرامٌ، هكذا، وإنما استخدم التَّشبيه للتنفير من الغيبة: هل هناك أحدٌ يُحب أن يأكل لحم أخيه؟ فيتذكر الواحدُ أخاه محمدًا وإبراهيم وهو ميتٌ، وهو يأكل من لحمه، فتتقذر النفس من ذلك: فَكَرِهْتُمُوهُ، هذا هو الأسلوب العقلاني الانفعالي.
فالذي حصل عند هذا الشاب لما قال النبي : أتُحبه لأمك؟ أنه تخيل صورة أمه يُزنَى بها -والعياذ بالله-، فنفرت نفسه، قال: "لا، فداك أبي وأمي"، فقال: ولا الناس يُحبونه لأمهاتهم.
فبدأت القضية تتفاعل عقلًا ووجدانًا، وهذا من أنفع الأساليب، وهي مدرسةٌ -على أية حالٍ- نفسيةٌ معروفةٌ، وهي المدرسة العقلانية الانفعالية، وهي من الوسائل والأساليب الرائعة.
ثم كرر النبي بذكر الأم، والأخت، والبنت، والعمَّة، والخالة، طيب، ألم تكن تكفي واحدةٌ؟ بلى، تكفي واحدةٌ، ولكن ذلك لأهمية إدراك المشكلة ونوعها، وإدراك الشخص واختلافه عن الأشخاص الآخرين؛ إذ ليس الشباب -ذكورًا وإناثًا- في هذه القضايا المتعلقة بالانحراف أو المتعلقة بالمعاناة في الجانب الجنسي صنفًا واحدًا، فربما تكون هذه القضية ضاغطةً بشدةٍ عند هذا الشاب -والله تعالى أعلم-، فاحتاج النبي أن يُؤثر عليه بذكر وتعداد وتكرار الأمثلة هذه من الناحية الكمية والكيفية، واستخدام الأسلوب الذي ذكرناه قبل قليلٍ، الذي يُؤثرُ في العقل والوجدان.
"ثم وضع يدَه على هذا الشاب" أي: يد النبي الكريمة -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام-، وهذه مُراعاة المشاعر والأحاسيس وإشباع الجانب الوجداني، خاصةً وأن هذه القضية الغريزية مُرتبطةٌ بالجانب الوجداني، فلا بد أن تُشبع الجانب الوجداني من خلال العلاقة الحميمية.
ولذلك كما ذكر الدكتور عبدالكريم بكار في كتابه الجميل "التواصل الأُسري" أثبتت الدراسات أن الانحراف الذي يحصل في قضايا العلاقات والتعامل مع التقنية بما لا يرضاه الله من أسبابه: ضعف إشباع الجانب العاطفي في الأسرة في علاقة الأب بأبنائه، والأم بأبنائها، من خلال العاطفة التي فيها الإشباع والاحترام والمحبة والتقدير والقُرب والضم، فهذه الأشياء هي التي تُخفف من حدة الجانب المتعلق بالتعويض العاطفي.
ثم قال: اللهم اغفر ذنبه هذا دعاءٌ، ونلاحظ هنا جانبًا من التخلية والتحلية التي ذكرناها في الأسبوع الماضي، فالتخلية اغفر ذنبه؛ لأنه لا يمكن أن يستقيم الأمر إذا كان الذنب باقيًا، فهنا لا بد من غسيل الشيء المُؤثر سلبًا.
وقال: وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه، وكل هذه الأشياء قد تلوَّثت، فيحتاج أن يذهب الذنب، وأن يطهر القلب، وكذلك أن يجتنب الوقوع فيما حرَّم الله ؛ ولهذا قال: وحصِّن فرجه.
ثم في الأخير كانت النتيجة، وهي: "فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيءٍ" يعني: بعد كل هذا الاهتمام والرعاية والعناية كيف نتوقع أن تبقى عنده هذه القضية؟! لكن مَن يجد من شبابنا مثل هذه المواقف النبوية؟ ومَن تجد من فتياتنا مثل هذه المواقف النبوية ممن يستشيرونهم؟ وأين آباؤهم وأمهاتهم؟ وأين المُؤثرون إيجابيًّا كما كان النبي ؟ هذا هو السؤال الكبير الذي نحن بأمس الحاجة إليه.
ثم أيضًا الوضوح والصراحة مهمةٌ جدًّا، ونترك الشاب يتكلم، لا إشكالَ في ذلك.
ومن العجيب أنه صارت عند شبابنا -ذكورًا وإناثًا- إشكاليةٌ وتحرجٌ من أن يُصرِّحوا بالبلوغ، فيبلغ الولد والبنت وما عُلِّم، يقول الأب: أستحي! وتقول الأم: أستحي! طيب، مَن يُعلِّمهم؟ هل يُعلمهم (الإنترنت)؟!
فهذه مشكلةٌ، والمُفترض أن هذا دور الأب والأم في هذا الجانب خاصةً، ثم في المرتبة الثانية المعلم والمعلمة بمستوًى أقلّ نوعًا ما؛ لأنه بمحضرٍ من الطلاب والطالبات كمثالٍ، لكن الأب والأم واجبٌ عليهما التوجيه في هذه القضية والتهيئة لمثل هذا الأمر.
وأيضًا لا بد من وجود الرغبة في تعديل السلوك؛ إذ لا يمكن أن نؤثر إيجابيًّا في تعديل سلوك أحدٍ غير مرغوبٍ فيه، أو بتعزيز سلوكٍ مرغوبٍ فيه ويُطلب استمراره وزيادته، أو بإيجاد سلوكٍ مرغوبٍ فيه إلا إذا كانت هناك رغبةٌ؛ فلأجل أن يترك الدخان لا بد أن تكون هناك رغبةٌ، والرغبة كيف تأتي؟ تأتي من خلال منظومة البيئة التربوية؛ ولذلك هذا الشاب كانت عنده رغبةٌ؛ ولذلك أتى إلى النبي ليتخلص، مع شدة الضغط الذي عليه.
ثم أيضًا نقطةٌ أخيرةٌ: وهي الصبر والتحمل -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام-، فقد وقف هذا الموقف، وتحمل هذا الشاب، وصبر على ما هو عليه.
فنحن ينبغي أن نصبر حتى نُحقق الثمرة في توجيه الشباب وضبطهم في مثل هذه القضية من خلال السَّماع منهم، ومحاولة العلاج، خاصةً مَن ابتُلي -أو ابتُليت- ووقع في الفخِّ في هذه القضايا: صَغُرَ أو كَبُرَ، فينبغي الصبر والتحمل والدخول معه في المشروع العلاجي الذي خطَّ لنا النبي مساراته الرائعة في قصة هذا الشاب.
انتهى الوقت، فليعذرنا الإخوة، ونحن -كما هي العادة- نأخذ الأسئلة ونُجيب عنها في اللقاء القادم، بإذن الله.
فنسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، ونُكمل -إن شاء الله- في الأسبوع القادم، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "تفسير السعدي" (ص396). |
---|---|
↑2 | "تفسير السعدي" (ص396). |
↑3 | "تفسير السعدي" (ص396). |
↑4 | "تفسير السعدي" (ص396). |
↑5 | أخرجه مسلم برقم (162). |
↑6 | "تفسير السعدي" (ص396). |
↑7 | "تفسير السعدي" (ص396). |
↑8 | "تفسير السعدي" (ص396). |
↑9 | "تفسير السعدي" (ص396). |
↑10 | أخرجه البخاري برقم (6243)، ومسلم برقم (2657). |
↑11 | "الجواب الكافي لمَن سأل عن الدواء الشافي" ط. العلمية (ص33). |
↑12 | "ديوان الصبابة" لابن أبي حجلة (ص25). |
↑13 | أخرجه البخاري برقم (6243)، ومسلم برقم (2657). |
↑14 | "تفسير السعدي" (ص397). |
↑15 | أخرجه أحمد، ط. الرسالة، برقم (22211)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الصحيح". |