المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يُوفقنا وإياكم لما فيه الخير، وأن ينفع بمثل هذه اللقاءات، كما أسأله أن يلطف بإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وينصرهم، كما أسأله أن يغفر لموتى المسلمين، ويُسكنهم الجنة، ويخلف علينا بخيرٍ، اللهم آمين.
فهذه هي المجموعة الثالثة من هذه السلسلة "تطبيقات تربوية ونفسية من الكتاب والسنة"، وكنا قد ختمنا المجموعة الثانية بتوفيق الله باللقاء الثاني عشر، وقد أخذنا ثمانية لقاءاتٍ حول ما يتعلق بالشباب، وذكرنا في آخر لقاءٍ: أن موضوع الشباب موضوعٌ كبيرٌ يحتاج إلى إضافاتٍ؛ ولذلك سنستكمل الموضوع مع المجموعة الثالثة من هذه السلسلة، وسيكون كلامنا في هذا اللقاء -بإذن الله - عن "الشباب والغريزة".
وكالمعتاد سيكون لقاؤنا خمسًا وأربعين دقيقةً، بإذن الله ، ونسأل الله العون والتوفيق، وإذا احتجنا إلى إضافاتٍ أو استكمالٍ سيكون ذلك في اللقاء القادم، بإذنه .
موقف الإسلام من الغريزة
أولًا: لا بد أن نعرف موقف المنهج الإسلامي من قضية الغريزة بالنسبة للشباب.
فهذه قضيةٌ فطريةٌ فطر الله عليها عباده، بل هي حدٌّ واضحٌ بالنسبة للبلوغ وما يتعلق بقضية الغريزة الجنسية، وقد تلطخ كثيرٌ من أهل التوجيهات التربوية والنفسية بقضايا مُنحرفةٍ سلبًا -يمنةً ويسرةً- فيما يتعلق بهذه القضية خاصةً، ويُعاني بعض المُربين -ذكورًا وإناثًا- من الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات من الموقف تجاه هذه القضية، ولا يدرون ماذا يفعلون؟ وكيف يستطيعون أن يُهيئوا الأبناء والطلاب والشباب قبل أن يصلوا لمثل هذه المرحلة؟ ناهيك عن توجيه الشباب حينما يُصبحون في مثل هذه المرحلة، وهي مرحلة الشباب، ويُعانون من قضية الغريزة التي نحن بصددها، فلا بد أن نُدرك المنهج التربوي والنفسي الإسلامي من هذه القضية المهمة والمُلحة بشكلٍ كبيرٍ جدًّا.
وسأذكر فقط صورةً واحدةً من الصور التي لا تنقطع؛ لأنني لا أريد أن أُلوث مسامعكم.
جاءتني استشارةٌ من إحدى الفتيات قبل أيامٍ، وهذه الاستشارة مكتوبةٌ، وكانت حول الشباب والغريزة، ويكفي أن تعرف أن هذه الفتاة تُعاني مُعاناةً شديدةً جدًّا إلى مستوى أنها بعدما كانت ممن يعبد الله وعلى هُدًى مُستقيمٍ، أصبحت ضعيفةً في هذا الجانب، وبعد أن كانت مُتفوقةً دراسيًّا أصبحت ضعيفةً دراسيًّا، وبعد أن كان وضعها مع الأسرة إيجابيًّا أصبح الوضع في صورةٍ سلبيةٍ، إلى جانب الاضطراب في النوم، والقلق والتوتر الذي ينتابها.
وكل ذلك بسبب أنها فتحت لنفسها الطريق من خلال علاقةٍ عبر (البلاك بيري) مع أحد الشباب، وهذه العلاقة بقيت إلى لحظة الاستشارة سنةً وشهرين، ولم يلتقيا بعد، وإنما كلها عبارةٌ عن مُراسلاتٍ وصلت إلى مستوياتٍ جنونيةٍ حسبما وصفت، وقالت أنها لا تستطيع أن تُفارق هذا الشاب أبدًا، وتتكلم عن عالمٍ من الضياع والتيه، فأعطيتُها بعض الإجراءات، لكنها لم تفعل شيئًا، بل رجعت إلى مُراسلته بسبب ضعف إرادتها والضغط الشديد، وعدم التعامل مع هذه القضية بطريقةٍ سليمةٍ، ووصلت إلى مستوياتٍ -كما تقول عنها- جنونيةٍ؛ فهي إن سمعت أنه مريضٌ بكت وصاحت، وإن لم يُكلمها بكت وصاحت، ووصلت إلى مستوى -كما تقول- أنها تُراسله ويُراسلها في بعض الأحيان 24 ساعة، من أول اليوم إلى آخره! فكيف تريد من هذه الفتاة وأمثالها أن تكون مُستقرةً ذاتيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، أو أن تكون لديها إنتاجيةٌ في حياتها بصورةٍ إيجابيةٍ؟!
لا بد أيها الإخوة ونحن نرعى أنفسنا كشبابٍ -ذكورًا وإناثًا- أو نرعى الشباب كأولياء أمورٍ -ذكورًا وإناثًا- أن نفهم هذه القضية المُتعلقة بالشباب والغريزة الجنسية.
الغريزة الجنسية فطريةٌ
أولى هذه القضايا: أنْ نعلم أنَّ الله فطر الإنسان على حبِّ الغريزة الجنسية، فالجنس أصلًا ليس مشكلةً، ولا يقول أحدٌ: إنَّ قضية وجود غريزةٍ جنسيةٍ من حيث الفطرة فيها مشكلةٌ. لا يقول هذا عاقلٌ، والمنهج الإسلامي أقرَّ هذه القضية، ولكن المشكلة في الانحراف الذي يحصل في التعامل مع الغريزة، يعني: انحراف الشباب -ذكورًا وإناثًا- من خلال أنفسهم، أو من خلال غيرهم، وهذا الانحراف جاء بسببين:
السبب الأول: تفريط المسلمين والشباب أنفسهم، فالشاب يقود نفسه إلى مثل ذلك، ولا يُفعِّل الإرادة الذاتية والضبط الذاتي، ولا مُراقبة الله ، فإذا كان هذا هو حال الشاب والفتاة، فمعنى هذا أنهم سيتعاملون مع الغريزة بشكلٍ خاطئٍ.
فإذا ترك الشاب نفسه كأنه ورقةٌ في مَهَبِّ الريح، ليس له إرادةٌ، سيقع في المحظور، وهذا تصورٌ عن الإنسان ليس سليمًا؛ لأن الله أعطانا إرادةً وقدرةً على أن نُقبل أو نحجم، بل هذه حقيقة الابتلاء، فليس هناك مشكلةٌ إلا من خلال ذواتنا، والله يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[العنكبوت:69]، ويقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، فهذا هو السبب الأول.
السبب الثاني: هو من أعداء الفضيلة في الداخل والخارج، ومن الوسائل المُتعددة، فهم سببٌ في انحراف هذه الفطرة عند الشباب؛ ولذلك ينبغي -كما قلنا- تفعيل الإرادة الذاتية، وكلٌّ مسؤولٌ عن نفسه، فما دام أن الله جعل لهذا الإنسان عقلًا، وأصبح بالغًا -ذكرًا أو أنثى- فهو مسؤولٌ.
وكذلك ينبغي أن نعرف أعداء الفضيلة في الداخل والخارج، وما زالت بعض الأُسَر تُفاوض على بعض القنوات الفضائية، فإلى متى يُساوم بعض الشباب على علاقاتٍ مع شبابٍ لا حياءَ لهم؟! نسأل الله العافية والسلامة.
وإلى متى سنظل مجرد مُستقبلين لهذه القضايا، ونترك الحبل على الغارب للشباب، وكأنهم أصبحوا ناضجين واعين؟!
وليتذكر كل واحدٍ من القائمين على التربية نفسه حين كان شابًّا كيف كانت هذه القضية تضرب أطنابها في الإنسان؟ وكيف كانت نظرةٌ واحدةٌ تفتك بالإنسان؟! كما قال الشاعر:
كم نظرةٍ فتكت بقلب صاحبها | فتك السِّهام بلا قـوسٍ ولا وترِ |
يسر مُقلته ما ضــرَّ مُهجته | لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضَّرر[1]ذكرها ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص106) بلا نسبةٍ لقائلٍ. |
لا توجد أصلًا في المنهج الإسلامي مشكلةٌ تجاه قضية الغريزة، فهي قضيةٌ فطريةٌ، لكن إذا انحرفت فإن المنهج الإسلامي يقف الموقف الذي يحمي الإنسان من هذه الانزلاقات والانحرافات.
المنهج الإسلامي لا يستقذر الغريزة الجنسية
المنهج الإسلامي التربوي والنفسي لا يستقذر هذا الدافع في ذاته، بل إنه لا يكبته أصلًا، لكن يستقذر الجريمة والانحراف المُتعلق به، كالصورة التي ذكرتُها لكم قبل قليلٍ، وهي صورةٌ من صور العلاقات عبر التواصل، ولم يحصل لقاءٌ، ومع هذا حصل منها هذا المستوى الكبير من الضياع والتِّيه.
فالمنهج الإسلامي التربوي والنفسي يستقذر هذه الجرائم الخُلُقية، صغرت أو كبرت، والله يقول: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38].
ولاحظ اللفظ: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا، فالزنا له وسائله وخطواته كما جاء في حديث النبي : إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالةَ، فزنا العين النظر ...[2]أخرجه البخاري برقم (6243)، ومسلم برقم (2657)..
فكم من المسلمين اليوم من الشباب وأولياء الشباب -ذكورًا وإناثًا- مَن هم واقعون في هذا أمام الشباب وأمام الأجيال؟!
فالمشكلة فينا نحن؛ في تأويلنا، وفكرنا، ونظرنا، وإرادتنا، ويا ليتنا نعترف أن هذا خطأٌ، والله يتوب علينا، وإنما وصل الأمر بالبعض إلى تبرير هذه القضايا، ويُشَرِّع لها، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، ... إلى آخر ما ذكره النبي من الجوارح، ثم قال في الأخير عليه الصلاة والسلام: والفرج يُصدِّق ذلك كله ويُكذِّبه[3]أخرجه البخاري برقم (6243)، ومسلم برقم (2657)..
وهذه كلها مُستقذراتٌ، والمنهج الإسلامي يريد أن نعفَّ ونبتعد عنها، وأن يكون الشباب بعيدين عنها، وألَّا يُربَّى الصِّغار عليها: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38].
وانظروا إلى اللفظ: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا أي: لا تأتوا وسائله، والبعض حتى لو ما وقع في الزنا يقترب منه بفعل الأسباب المُؤدية إليه، وهذه الفتاة تقول: واعدني، يريد أن يلتقي معي. وتقول: كيف أتوب إلى الله ؟ وأخاف من الله. وتخاف من أبيها أن يعلم هذه المُراسلات، وتخشى على عشيقها!
فقلتُ لها: اتَّقِ الله ، لا ذكرَ للخوف من الله ولا للرقابة منه في كلماتك! هل يُعقل أن كل هذه الأمور مُسِحت من قلبك بسبب هذه الغريزة المُنحرفة؟! فأنتِ تقولين أنكِ كنتِ على خيرٍ في عبادتك لله !
فهذه صورةٌ من الصور، وهي مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا؛ ولذلك الله يقول: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، والله لا يكره شيئًا إلا وهو قذرٌ، ويستحق من النفس البشرية أن تستقذره، وتبتعد عنه، وتتأبى عليه.
فهذه إذن قضية الغريزة، وهي عبارةٌ عن فطرةٍ -كما قلنا- ودافعٍ موجودٍ، والنبي يقول: حُبب إليَّ من دنياكم: الطِّيب، والنساء، وجُعِلت قُرَّة عيني في الصلاة[4]أخرجه أبو داود برقم (4092)، وقال الألباني: صحيح الإسناد.، فهذه صورةٌ جميلةٌ جدًّا ورائعةٌ في إطار الحلال، فكيف لا يُحب الزوج زوجته؟! وكيف لا يكون هناك الميل الفطري للطرف الآخر بطريقةٍ يرضاها الله ؟!
ولا يُفهم من هذا الكلام العلاقات التي تكون قبل العقد والزواج، فقضية ميل الذكر للأنثى فُطِرَ الإنسان عليها، ولكن جعل الإسلامُ لها إطارًا حلالًا، وإذا سلك الإنسانُ وسائل أخرى غير مُنضبطةٍ فإن هذا مُستقذرٌ، مُحَرَّمٌ، ويُعَدُّ انحرافًا عن الفطرة؛ ولذلك يقول النبي : وفي بُضْع أحدكم صدقةٌ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ؟ أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ[5]أخرجه مسلم برقم (1006).، يعني: ما دام أنه سيأثم حينما يُشْبِع هذه الغريزة بوسيلةٍ مُحرَّمةٍ -والعياذ بالله-، كذلك يُؤجَر حينما يُشبعها بطريقةٍ مشروعةٍ في الحلال.
فانظروا إلى هذا المنهج العظيم، أين نجد مثله؟
ومع هذا أعداء الإسلام يدَّعون أن المنهج الإسلامي يكبت الغريزة! وهو يُقِرها ويعترف بها كما ذكرنا، ويرى أنها غريزةٌ نظيفةٌ في الأصل، بل إن الإنسان يُؤجَر عليها كما قال النبي ، وقد استنكر المنهج الإسلامي تحريمَها وكَبْتَها وإغلاق الطريق دونها.
كل هذا من المنهج الإسلامي التربوي والنفسي المُتعلق بإشباع هذه الحاجة النفسية العضوية، يقول الله : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]، فالذي يُحرِّم الحلال هذا أمرٌ خطيرٌ لا يجوز؛ ولذلك استنكر الله هذه القضية.
وفي حديث الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي ، فقال أحدهم: أصوم ولا أُفطر. وقال الثاني: أقوم ولا أنام. وقال الثالث: لا أتزوج النساء. فقال : أنتم الذين قُلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأُصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمَن رغب عن سنتي فليس مني[6]أخرجه البخاري برقم (5063)، ومسلم برقم (1401)..
فالغريزة الجنسية في المنهج الإسلامي مُعتبرةٌ ابتداءً، وطيبةٌ، ومُحبَّبةٌ، ومطلوبةٌ، بل يحرم استنكارها وكبتها وتحريمها، والمنهج الإسلامي جاء لتوجيه هذه الغريزة وضبطها: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ[البقرة:140]، فالله هو الذي خلقنا، وهو أعلم بما نحتاجه ، ونبيه مرسلٌ من الله، وهو المُوحى له بذلك، فهل نلتزم بهذه القضية أو لا نلتزم؟
هذه بعض الضوابط والتوجيهات فيما يتعلق بالتعامل مع الغريزة عند الشباب، وهذا الأمر هو الذي يُحقق خير الفرد والمجتمع والبشرية والنوع البشري، وبهذا نُدرك لماذا العالم اليوم يعيش في مصائب، ويشتكي من ويلات الأمراض الجنسية، والقلق، والتوتر، ومرض العصر النفسي المُستمر في الازدياد؟! وما ذكرتُه لكم ما هو إلا صورة من الصور.
وأذكر شابًّا دخل عليَّ مرةً في إحدى اللِّقاءات الاستشارية، وهو يتكلم بنفس كلام هذه البنت، فقد أحبَّ فتاةً ولم يرها، ولا يعرف أين هي؟ وإنما أحبَّها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي!
فهذه قلوبٌ تحتاج إلى مَن يعمرها بمحبة الله، لا بمحبة التُّرهات التي لا تأتي إلا بالشقاء والتعاسة؛ ولذلك ينبغي أن نُدرك القضايا التربوية والنفسية المتعلقة بهذا الجانب من خلال إدراك المنهج الإسلامي في هذه القضية.
منهج التربية الإسلامية في مُعالجة الغريزة
تميزت المنهجية الإسلامية في مُعالجة قضية الغريزة والشهوة الضَّاغطة على الشباب بالأمور الآتية:
أولًا: التربية على حُبِّ الله وخشيته
نحن أيها الشباب وأيها الإخوة القائمون على الشباب بأمس الحاجة إلى أن نُدرك أن حُبَّ الله وخشيته هما علاج الانحراف في هذه القضية؛ ولذلك كان من السبعة الذين يُظلهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظله: رجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجاذبيةٍ في الجانب المالي والشرف والجمال، فيوجد ميلٌ هنا، فماذا قال؟ إني أخاف الله[7]أخرجه البخاري برقم (660)، ومسلم برقم (1031).، فقال كلماتٍ بسيطةً جدًّا، لكن مَن الذي يستطيع أن يقولها؟
فهذه الفتاة كانت تقول: كنتُ مُتدينةً، وكنتُ على خيرٍ. وما استطاعت أن تقولها، وأبحث عنها فلا أجدها؛ ولما أخذتُ وأعطيتُ معها عبر الرسائل ما استطاعت أن تُنكر ذلك أصلًا؛ لأنها في عالمٍ غير العالم الذي كانت فيه من قبل، في عالمٍ خارج التغطية.
فلذلك التربية على الخوف من الله وخشيته وحبِّه مهمةٌ جدًّا، وماذا قال يوسف؟
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]، مع أن هناك مُثيراتٍ كثيرةً اجتمعت عليه.
وربما نقف مع قصة يوسف في اللقاء القادم -إن شاء الله تعالى- من خلال سورة يوسف.
فمَن كان خاوي القلب من محبة الله سيذهب -في الغالب- إلى مَن يملأ هذا القلب بالحب والجانب الوجداني، فهذه النفس فيها هذا الجانب، ولا بد منه، فإذا لم يُملأ ويكون حبُّ الله فوق حبِّ الآخرين؛ جاء الحب الآخر أيًّا كان: حبًّا محمودًا -أقصد في أصله- أو حبًّا مذمومًا؛ ولذلك البعض يُحب الوالدين أشد من حبِّ الله، ويُحب المال أشد من حُبِّ الله : وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، هذه السمة الإيمانية؛ ولذلك لا بد من التربية على العبادات المحضة، من: صلاةٍ، وصدقةٍ، وصيامٍ، وبرامج إيمانيةٍ، وتذكر الموت، وإدراكٍ لحقيقة القيامة، و(الفلاشات) والصور التي تزرع القضايا الإيمانية، وهي مُنتشرةٌ الآن بفضل الله في بعض المُنتديات وبعض مجالات التواصل، وتُؤثر في النفوس.
وقد رأيتُ قبل يومين مشهدًا موجودًا في (اليوتيوب) كان مُعَنْوَنًا بـ"المشهد الذي كان سببًا في توبة كثيرٍ من الشباب"، وهو مشهدٌ أجنبيٌّ، لكنه من مسلمين وباللغة الإنجليزية، ومُترجم، ولما رأيتُه وجدتُ أن هذا المشهد فعلًا رائعٌ جدًّا، وهو في دقائق بسيطةٍ يتكلم عن مثل هذه القضايا التي نُناقشها فيما يتعلق بالانحراف، ومنها: الانحراف المتعلق بالغريزة الجنسية، وربطها بقضية الموت، وسُوء الخاتمة أو حُسنها، وخاصةً سُوء الخاتمة، فكان في الحقيقة رائعًا.
فنحتاج إلى هذه القضايا مع جيل التقنية، فلماذا لا يكون عندنا اهتمامٌ بهذا الموضوع؟
فعندنا -بحمد الله- وسائل ما كانت موجودةً من قبل، وكان أبناء الصحابة والسابقون يقرؤون هذه الآيات العظيمة، ولا شك أن كتاب الله هو الذي أوجد هذه القوة الإيمانية لديهم، وحبّ الله وخشيته، لكن ما كانت عندهم هذه الوسائل، أما اليوم فعندنا وسائل مُؤثرةٌ: الصورة والصوت، فلا بد من استثمار هذه الفرص الكثيرة عند مُخاطبة الشباب في هذا الجانب، فإنها تُؤثر جدًّا، فإذا كان عندهم ثِقَلٌ في التواصل مع كتاب الله نترك هذه القضية لمرحلةٍ أخرى، ونتجه إلى القضايا التي يُحبها الشباب بالصورة والصوت، والتي تُغذِّي حبَّ الله وخشيته في أنفسهم، والقلوب ترى من فطرتها: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، لكن المشكلة أن تنحرف هذه الفطرة من خلال المُؤثرات الذاتية التي ذكرناها في البداية، أو المُؤثرات الخارجية: كأعداء الفضيلة في الداخل والخارج.
ثانيًا: القُدرة على الضبط
من منهجية الإسلام في مُعالجة الغريزة: تقوية الإرادة.
وتذكروا ما قلناه في لقاءاتٍ سابقةٍ، وما ذكره ابن القيم، فكان مما ذكره ما يتعلق بالموقف من الخواطر السلبية، فالذي يتكلم عن الغريزة الجنسية تأتيه خاطرةٌ سلبيةٌ تمرُّ في البال، وهل هناك أحدٌ معصومٌ من هذه الخواطر؟ لا يوجد أحدٌ معصومٌ، وقد مرَّت خواطر على مَن هم خيرٌ منا من السلف الصالح أكبر من هذه الخواطر، حتى في الذات الإلهية، لكنها مجرد خواطر.
فابن القيم يقول: هنا تأتي قضية القُدرة على الضبط الذاتي (self control)، وهذا حقيقةً من أفضل أساليب العلاج، ويعرفه أهل الإرشاد فيما يتعلق بقضية التربية على قوة الإرادة، ولا تتصور أنه لا بد أن يُساعدك أبوك أو أُستاذك أو المجتمع، وإنما لا بد من بناءٍ داخليٍّ، فإذا وُجِدَ حبُّ الله وخشيته ، والتصور الإيجابي، والعلم السليم، والمعرفة الصَّحيحة، ووُجِدَ الإخلاص، وأصبحت عندنا قوةٌ على التطبيق، فهذا معنى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
فلا تسترسل مع هذه الخاطرة؛ لأنك إذا استرسلتَ معها انتقلت إلى الفكرة، فتكون فكرةً، ومعناها: أنه يُفكر: هل أقدر على الوصول إليها أو لا أقدر؟ فصارت الآن فكرةً بعد أن كانت خاطرةً، ومَن سببها؟ أنت؛ لأنك استرسلتَ مع هذه الخاطرة فانتقلت إلى فكرةٍ.
فإذا استرسل جاءت العزيمة والإرادة، كما يقول ابن القيم، وصار الآن يريد أن يذهب ويشتري الجهاز، ويريد أن يُواعِد، ويريد كذا، ويُحاول أن ينظر كيف يصل إلى الهدف الفلاني؟ وكيف يدخل على الموقع الفلاني؟ فصارت عزيمةً أكثر من كونها فكرةً، وهي خطوةٌ ثانيةٌ بعد الفكرة، وبلا شكٍّ تتولد العزيمة والإرادة من الفكرة.
فلا بد ألا يسترسل ويستمر، وإنما يقطع وينتهي، كما قال النبي : فليستعذ بالله ولينتهِ[8]أخرجه البخاري برقم (3276)، ومسلم برقم (134).، فهذا منهجٌ عظيمٌ جدًّا في قطع هذه الخواطر: فليتعوَّذ بالله ولينتهِ، يقول: أعوذ بالله، ولينتهِ، فهنا الضبط والإرادة، والإرادة إذا كانت مُستمرةً وسلبيةً تُصبح عملًا، كما قال أحمد شوقي:
نَظرَةٌ فَابتِسامَةٌ فَسَلامٌ | فَكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ[9]"ديوان أحمد شوقي" دار نهضة مصر، القاهرة (ص42). |
فتُصبح عملًا، ثم تصير عادةً، فهذه الفتاة تقول: والله لمدة سنةٍ وشهرين لا ننفك عن بعضنا البعض يوميًّا، وفي بعض الأحيان نتواصل لمدة أربعٍ وعشرين ساعةً! شيءٌ عجيبٌ.
وهذه العادة السلبية في جانب الغريزة سببها عدم الخوف من الله والتوبة إلى الله ؛ لأنها استحكمت فيها، فأصبحت عادةً، كما قال الله : بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ[البقرة:81]، فانظر إلى البلاغ القرآني والوصف العظيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، فالأصل أن الإنسان هو الذي يُحيط الخطيئة، ولكن من شدة تملكه من هذه الخطيئة والغريزة أصبحت الخطيئة هي التي تحوطه، مثل: صاحبتنا هذه، هداها الله وأمثالها.
فهذا العنصر الثاني، ويظهر أننا سنحتاج أن نُكمل في الأسبوع القادم، خاصةً مع قصة يوسف -إن شاء الله تعالى-، ولا إشكالَ ما دام الدرس أسبوعيًّا.
ثالثًا: مُعالجة الغريزة عند الشباب
النقطة الثالثة في منهجية التربية الإسلامية هي: معالجة هذه الغريزة عند الشباب، وذلك بتحقيق الرغبة القوية المتعلقة برجولة الشاب وأنوثة الفتاة الناضجة.
ويشعر -للأسف الشديد- بعضُ الشباب -ذكورًا وإناثًا- أن الذين يتعاملون معهم من أولياء الأمور والمُوجهين والمُربين -أيًّا كانوا: كالأسرة والمدرسة- يتعاملون معهم على أنهم ما زالوا أطفالًا، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا في الجانب النفسي.
وتجد الأب إذا أراد أن يشتري لولده شيئًا -كقماشٍ أو حذاءٍ- أو أراد أن يفعل شيئًا في الأسرة يفعله دون استشارة هذا الابن، وهكذا بالنسبة للبنت، وما شابه ذلك.
وهذا الأمر علاقته بالجانب الغريزي أنه أصبح رجلًا، وهي أصبحت أُمًّا أو فتاةً أو أنثى ناضجةً من خلال البلوغ، ولما أصبح بالغًا، وأصبحت بالغةً وجبت عليهم التكاليف الشرعية من ربِّ العالمين: كالصلاة، والصيام، ... إلى آخره، وهذا معناه أنهم أصبحوا قادرين على تحمل المسؤولية، ولو كانوا غير قادرين لما كُلِّفوا بهذه الأعمال؛ ولذلك فهم يتحملون المسؤولية، فالولد أصبح رجلًا ببلوغه، والفتاة أصبحت أُمًّا وأنثى ناضجةً ببلوغها، ويكفي أنهم قد كُلِّفوا بالتكاليف الشرعية، وأصبحوا مُعرَّضين للثواب والعقاب، ألا يمكن أن يُكلَّفوا بالتكاليف الدنيوية؟!
وإذا كلَّفناهم بالتكاليف الدنيوية أصبحوا يشعرون بذواتهم، وأصبحوا فعلًا يستطيعون أن يُوظِّفوا طاقاتهم.
وليس المراد الفتاة الفارغة التي ما تربت على أعمال البيت ورعاية شؤون البيت، وكل الأمور على الشَّغالات، وعندئذٍ أصبح فراغها قاتلًا، والفراغ يُسبب مشاكل، وهكذا بالنسبة للشاب، مع احتياطاتنا المُتعلقة بالأصدقاء، وما شابه ذلك، وسيأتي معنا ذكر ذلك.
إذن لا بد أن يُتعامل مع الشاب -ذكرًا وأنثى- على أنه رجلٌ، وعلى أنها فتاةٌ، فهذا مهمٌّ جدًّا في قضية الموقف من الجانب الغريزي من الناحية النفسية، ناهيك عما يتبع ذلك من ضرورة إشغال هذه النفس البشرية -ذكرًا أو أنثى- بما يتعلق بالتكاليف الدنيوية، كما كلَّفها الله بالتكاليف الشرعية.
رابعًا: إشغال أوقات الشباب بالجوانب الإيجابية
النقطة الرابعة: إشغال الشاب والفتاة بالجوانب الإيجابية، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا، فإن الشهوة والغريزة تتحكم عند الفراغ، كما ذكر ابنُ القيم: خاطرة، ثم يسترسل فتصير فكرةً ...، لكن لو كان مشغولًا فلن يكون هناك مجالٌ للخواطر والأفكار.
وقد دلَّ الواقع والمنطق على أنَّ الشخص المشغول أقلّ انهزامًا عند الغريزة، وضبطها، وتوجيهها؛ لأنه مشغولٌ، وكل واحدٍ منا يعرف نفسه، فلو صار مشغولًا وعنده احترامٌ للإنتاجية والعمل فإنه ينصَب على شغله؛ ولذلك كانت هذه من الفوائد الكبيرة جدًّا في الحقيقة.
فهذا منهجٌ عظيمٌ، ولكن بسبب التقصير في التربية الإيمانية وحبِّ الله وخشيته، وعدم الحرص على رعاية الشباب وإشغال أوقات فراغهم حصل الخلل.
فينبغي أن نشغل وقت فراغ الشاب بالمُباح الدنيوي الذي يُجيده، وأنا أفرح حين يقول لي شابٌّ: والله ما عندي وقتٌ، مُنْهَكٌ. فأقول: الحمد لله. وإذا صار عنده فراغٌ وإجازةٌ، أو خرج من شغله، فاللهم سلِّم سلِّم، خاصةً إذا لم تكن عنده إرادةٌ قويةٌ.
فمن الطبيعي جدًّا أن نحتاج إلى هذا العامل المتعلق بإشغال وقت الفراغ، وهذا ينفع أيضًا في استقامة نومه وحياته.
وأنا أقول هذا أيضًا حتى في العلاج، وقد سبق أن جربتُ هذا مع نفسي.
وفي هذا إشارةٌ لطيفةٌ جدًّا، وهي: أن الإنسان إذا استرسل في شيءٍ، وأراد أن يفعل شيئًا مُعينًا، فما الذي يصرفه عن هذا الاسترسال؟
النبي صلى الله عليه وسلم طبَّق هذه القضية حين اختلف الصحابة فيما بينهم، حيث جعلهم يمشون حتى أنهكهم التعب، فناموا، وكذلك لما قام أحدُهم فقال: يا للأنصار. وقال الثاني: يا للمُهاجرين. فهذا علاجٌ نبويٌّ عظيمٌ جدًّا.
ومرةً كنتُ مُنْهَكًا بفكرةٍ ضغطت عليَّ، وأنا عند إشارة مرورٍ، فجعلتُ نفسي مُرشدًا ومُسترشدًا في آنٍ واحدٍ؛ فبدأتُ أسأل نفسي: هل أقدر أن أُعالج نفسي الآن؟ فصرتُ أنا المريض، وأنا المُعالج في نفس الوقت، فأخرجتُ قلمًا وورقةً، وسجَّلتُ نقاطًا سريعةً، وبمجرد أني فعلتُ هذا ذهب عني ما أجد، سبحان الله!
أقصد من هذا الكلام: أن الإنسان عندما يصرف نفسَه إلى شيءٍ يشغله، وهو مُباحٌ -ناهيك عن أن يكون مُحرَّمًا- فإنه سينصرف عن أمورٍ أخرى، فلو أشغلنا فتياننا -ذكورًا وإناثًا- لاستطعنا أن نُساعد على ضبط هذه القضية وتوجيهها بطريقةٍ سليمةٍ.
الوقت انتهى، نقف عند هذه النقطة، ونستكمل الأسبوع القادم.
فما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | ذكرها ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص106) بلا نسبةٍ لقائلٍ. |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري برقم (6243)، ومسلم برقم (2657). |
↑3 | أخرجه البخاري برقم (6243)، ومسلم برقم (2657). |
↑4 | أخرجه أبو داود برقم (4092)، وقال الألباني: صحيح الإسناد. |
↑5 | أخرجه مسلم برقم (1006). |
↑6 | أخرجه البخاري برقم (5063)، ومسلم برقم (1401). |
↑7 | أخرجه البخاري برقم (660)، ومسلم برقم (1031). |
↑8 | أخرجه البخاري برقم (3276)، ومسلم برقم (134). |
↑9 | "ديوان أحمد شوقي" دار نهضة مصر، القاهرة (ص42). |