المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: بحمد الله هذا هو الدرس الثاني والثلاثون من هذه السلسلة، وهو الحلقة الثامنة من هذه المجموعة الثالثة، ونحن في الجزء الثاني من تربية القيم والأخلاق، ونسأل الله العون والتوفيق والسَّداد.
وكنا قد تحدثنا عن إطلالةٍ سريعةٍ حول القيم والأخلاق، وعن التعريف اللغوي والاصطلاحي والتربوي للأخلاق، وأخذنا مجموعةً من الوقفات في اللقاء الماضي، وفي هذا اللقاء نأخذ آيةً وحديثًا للنبي عليه الصلاة والسلام.
أما الآية فهي قول الله : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، وأما الحديث فهو قول النبي : يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك[1]أخرجه البخاري برقم (5376)، ومسلم برقم (2022)..
الفرق بين منهجنا التربوي الإسلامي والمنهج الغربي
حينما نربط هذين التوجيهين في هذه الآية والحديث فيما يتعلق بقضية القيم والأخلاق نُدرك أمرًا مهمًّا -ربما أشرنا إليه إشارةً سريعةً في اللقاء الماضي-، وهو ما يتعلق بالفرق بين المنهج الإسلامي والمنهج الغربي التربوي والنفسي، فمنهجنا الإسلامي يربط القيم والأخلاق بالله ، فمصدر القيم والأخلاق من الله ، والتوجه في القيم والأخلاق إلى الله ورسوله ، وهذا هو الفرق بيننا وبين غيرنا من غير المسلمين؛ ولذلك ينبغي أن تكون القيم والأخلاق التي نتربى عليها مصدرها هو كتاب الله وسنة النبي .
ففي هذه الآية يقول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، فالقراءة إذا كانت باسم الله تعالى تكون قيمةً عظيمةً ومهمةً، وهناك مَن يقرأ لكن ليس باسم الله ، فتكون قراءته مصدرًا للانحراف الفكري أو السلوكي، فتجده وهو يقرأ مثلًا يمتص من الشبهات كالإسفنجة، وكذلك يكتسب من السلوكيات المُنحرفة -والعياذ بالله-، فقراءته ليست لله.
والنبي يقول للغلام: سَمِّ الله، فهذا أدبٌ من آداب الأكل، فالإنسان أول ما يبدأ هذه القيمة أو هذا الأدب عليه أن يُسمي الله.
فنحن قيمنا وأخلاقنا مصدريتها من الوحي، وأما القيم والأخلاق التي عند غير المسلمين فهي من البشر، ومن الأمثلة الواضحة في ذلك: المثلية -والعياذ بالله-، وقضية الجندر، وآخر مَن أقرَّها البريطانيون قريبًا في نظامهم، فيتزوج الذكرُ -والعياذ بالله- الذكرَ، والأنثى تتزوج الأنثى، وقبلها أمريكا وعددٌ من البلدان.
ومثل الاتفاقيات الدولية أيضًا: كاتفاقية (السيداو) وأمثالها التي تعُجُّ اليوم في عالم المسلمين، فما جاء في مثل هذه الاتفاقيات هو من صُنع غير المسلمين، ولم ينطلقوا فيه من أمر الله وأمر رسوله ؛ ولذلك حصل فيها الانحراف الفكري والسلوكي الشديد، وهذه لها أثرٌ على أجيالنا وبناتنا.
وقد قرأتُ (تغريدةً) في (تويتر) لامرأةٍ عن ضرب النساء، وتكلمت عن الحجاب والنِّقاب، وأنه ليس أمرًا مشروعًا من الله، وإنما هو عبارةٌ عن عاداتٍ، وتستدل بقولها: إن المرأة المُحرمة نُهِيَت عن الانتقاب، وهذا دليلٌ على أن النقاب والحجاب ليس من الشرع.
فصارت لدى البعض اليوم من الناحية السلوكية والفكرية قابليةٌ لامتصاص قيمٍ وأخلاقٍ ليست من منهجنا؛ ولذلك ينبغي أن تكون قيمنا وأخلاقنا مصدرها الوحي من الكتاب والسنة، فهذا مصدرنا نحن المسلمين.
قيمنا وأخلاقنا ثابتةٌ ومُستمرةٌ
إن قيمنا وأخلاقنا ثابتةٌ، وليست مُتغيرةً، مهما تغيرت الأزمنة والأحوال فهي ثابتةٌ، فيها صفة الثبوتية؛ ولذلك الذين يأخذون من غير المنهج الإسلامي في الغالب لا يثبتون إلا نادرًا، فتجدهم يضطربون كثيرًا.
والنظريات النفسية والسلوكية الغربية مثلًا ما جاءت إلا ردة فعلٍ من نظرية التحرير النفسي، والنظرية المعرفية ما جاءت إلا ردة فعلٍ من النظرية السلوكية؛ لأنها كلها بشريةٌ.
و(جاك فرويد) قال كلامًا لم يُعجب (إيدلر) تلميذه؛ فاخترع له نظريةً، وفلانٌ ما أعجبه كلام (إيدلر) فأخرج نظريةً، وكل نظريةٍ فيها قيمٌ وأخلاقٌ، وقد يكون بعضها إيجابيًّا، لكن فيها قيمٌ وأخلاقٌ كثيرةٌ سلبيةٌ؛ ولذلك أقول: ينبغي أن نُدرك أهمية الثبوتية والاستمرارية في التربية على القيم والأخلاق، وهذا لا يتأتى إلا من خلال منهج الوحي: القرآن والسُّنة.
إخلاص العمل لله
أيضًا لا بد من إخلاص النية لله ، فالإنسان عندما يفعل قيمةً يتذكر أنه يفعلها لله، وليس لغيره، فإذا قرأ قرأ لله، ولا يقرأ لشيءٍ آخر، حتى لو كان يقرأ علمًا شرعيًّا فهو يقرأ لله؛ لأنه يمكن أن يقرأ شيئًا نظيفًا فكريًّا وسلوكيًّا، ولكن لا يقرأه لله ، وإنما لرياءٍ، أو ما شابه ذلك.
وهذه الآية أيضًا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1] تُذكرنا أن يكون عملنا لله ، ثم بعد ذلك تُصبح هذه القيمة قيمةً ثبوتيةً، أي: ثابتةً لا تتزعزع، رجلٌ يحترم قيمة القراءة، ولو قصَّر يقول: أنا قصرتُ. وهكذا بالنسبة لآداب الأكل والشرب، ولا يتلون، فإذا كان مع أناسٍ يأكلون بشمالهم أو في الخارج مثلًا أكل بشماله، أو ما شابه ذلك، ويتأثر باللقطات والصور في ذلك، فهذه مشكلةٌ في برامج الإعلام، وقد أُريتُ قريبًا (فيديو فلاش)، وهو برنامجٌ قيميٌّ رائعٌ، مع أنه مأخوذٌ (قصّ ولصق) من الخارج، لكنه وُجِّه توجيهًا إيجابيًّا رائعًا، فكانت فيه لقطة إنسانٍ يشرب بشماله، وقد يُقال: لا أحد ينتبه لها. لكن الحقيقة أن ذلك غير لائقٍ، كما سيأتي معنا بعد قليلٍ.
تعريف القيم والأخلاق الإسلامية
في مرحلة الطفولة يبدأ الطفل في تلقي القيم والأخلاق، فينبغي أن ننتبه لهذه المرحلة؛ ولذلك يُعرِّف البعضُ القيم والأخلاق الإسلامية بأنها "مجموعة المبادئ والقواعد المُنظمة للسلوك الإنساني"، فالقراءة سلوكٌ، وآداب الأكل سلوكٌ، وغيرها من الأشياء التي ذكرناها سابقًا من الاحترام، والتماسُك، والرعاية، وبرِّ الوالدين، ... إلى آخره، كل ذلك من القيم والأخلاق.
وقد قلنا: إن هذا بابٌ عظيمٌ جدًّا في منهجنا، يكاد أن يكون بحرًا لا ساحلَ له، فهي مجموعة المبادئ والقواعد المُنظمة للسلوك الإنساني، والتي يُحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان؛ لأن في الوحي السعادة، وإذا ابتعد الناس عن الوحي سيحصل التَّخبط.
نعم هناك قيمٌ مُشتركةٌ، وقد جاء في حديث النبي أنه قال: إنما بُعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق[2]أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" برقم (20782)، وأحمد في "المسند"، ط. الرسالة، برقم (8952) بلفظ: صالح الأخلاق، وصححه … Continue reading، ففي الجاهلية كانت هناك أمورٌ مُعتبرةٌ، ولها قيمٌ إيجابيةٌ، فجاء النبي وأتمَّها، وكان من تتميمها أن ربطها بقضية الإخلاص لله ، وأتى بأمورٍ أخرى لم تأتِ بها الجاهلية، وكذلك وظَّف هذه الأمور ونمَّاها بطريقةٍ يُحبها الله .
فالقيم والأخلاق: هي مجموعة المبادئ والقواعد المُنظِّمة للسلوك الإنساني، والتي يُحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان، وتحديد علاقته بغيره على نحوٍ يُحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجهٍ.
فالأطباء بعضهم عندهم ما يُسمَّى بالميثاق الأخلاقي، يضعون ميثاقًا، وأذكر أنني دخلتُ إحدى العيادات فوجدتُ فيها ميثاقًا رائعًا جدًّا، لو التزم به الأطباء فأنعم وأكرم بهذا المثال.
فهذه المواثيق مهمةٌ؛ لأنها مبادئ وقواعد تُنظِّم؛ ولذلك ينبغي في أُسرنا وبيئتنا التربوية وأحيائنا ... إلى آخره أن تُصدَّر القيم والأخلاق من خلال مجموعة مبادئ وقواعد تضعها مثل هذه الاتفاقيات التجارية والمؤسسية، وما شابه ذلك، حتى تكون مرجعيةً للقيم والأخلاق تضبط السلوك الإنساني، والأصل عندنا أن هذه مأخوذةٌ من الكتاب والسنة، وإذا كانت هذه القيم والأخلاق مأخوذةً من الوحي فستُنظِّم السلوك الإنساني بطريقةٍ إيجابيةٍ وصحيحةٍ.
النَّظرة للكون والحياة والإنسان
هناك تحدٍّ مهمٌّ جدًّا، وفارقٌ كبيرٌ بين منهجنا الإسلامي التربوي والمنهج غير الإسلامي، ألا وهو: النظرة للكون والحياة والإنسان، وعلى حسب هذه النظرة تكون القيم، فالذي ينظر إلى الحياة نظرةً دنيويةً بحتةً بالتأكيد ستكون قِيَمُه ماديةً بحتةً، مُرتبطةً بتحقيق هذا الهدف الذي يراه.
والإسلام ينظر إلى الحياة الدنيا على أنها مزرعةٌ للآخرة؛ ولذلك ستكون القيم مُتعلقةً بالله، كما ربطها الله في قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، والنبي في قوله: يا غلام، سَمِّ الله[3]أخرجه البخاري برقم (5376)، ومسلم برقم (2022).، إذن سترتبط بالله ، وبمعاني الأجر والاجتهاد والإخلاص والسعادة في الدنيا والآخرة، وسيُصبح هناك فرقٌ كبيرٌ جدًّا بينها وبين النظرة الأخرى.
فالذي يُربي نفسه وغيره على قضية النظرة إلى الدنيا فقط، ستكون تربيتُه فاشلةً، والواجب التربية على النظرة إلى الدنيا على أنها مزرعةٌ للآخرة، كما قال تعالى: إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، وعندئذٍ سنصل إلى المعايير التي تضبط القيم، وتنشأ القيم الإسلامية السليمة الصحيحة، ولا تكون مجرد إجاباتٍ على ورقٍ، أو خطبٍ على المنابر، كما هو واقع بعض المسلمين للأسف، إذ صارت القيم والأخلاق لا تُمثل حقيقة دينهم.
والنظرة الصحيحة للكون قيمةٌ، فهذا الكون خُلق لغايةٍ، قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، وقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:164]، فالتفاعل بين الإنسان والكون قائمٌ، والنبي يقول عن جبل أُحُدٍ: أُحد جبلٌ يُحبنا ونُحبه[4]أخرجه البخاري برقم (1482)، ومسلم برقم (1393).، فهذا دليلٌ على أن هذا الكون مخلوقٌ ومُسخَّرٌ من الله .
و(نوبل) اخترع (الديناميت)، وعمل جائزةً سُميت: جائزة (نوبل) للسلام، وهذه التفجيرات والبلايا والقنابل هو رأس حربةٍ فيها، وهذه القيم الحربية والجرائم التي أُصيب فيها خلقٌ كثيرٌ عبر السنوات لـ(نوبل) النصيب منها.
حين تقرأ مثلًا للسباعي في أخلاقنا الحربية كمسلمين تجد القضية مُختلفةً جدًّا، فالنبي نهى عن قتل المرأة والصبي، وعن قطع الشجر، ... إلى آخره، فأين هذه المعاني في المنهج الغربي؟!
والذين يقتلون الناس ويُرعبونهم بعداوةٍ وغيرها، ربما يكون هذا لمقصدٍ يرونه صوابًا، لكنه ولَّدَ مصائب لآخرين.
فكل هذه قضايا مُنحرفةٌ تُعتبر خلاف النظر لعلاقة الإنسان بالكون بطريقةٍ سليمةٍ.
وكذلك النظرة للإنسان، فهناك فرقٌ بين مَن ينظر إليه على أنه مادةٌ، ومَن ينظر إليه على أنه مادةٌ وروحٌ وعقلٌ، وفي بعض النظريات النفسية الغربية ينظرون للإنسان على أنه آلةٌ، مثل المكينة، يسألون عن إنتاجه فقط، ونفس الكلام ينطبق على التربية عندنا حين تقوم على الإنتاج المادي فقط، فتكون تربيةً ماديةً بحتةً.
لكن حين يُنْظَر للإنسان على أنه روحٌ وعقلٌ سنحرص على الأفكار التي تُغَذِّي العقل، والمشاعر التي تُغذِّي الوجدان والروح، والإيمانيات التي تُغذِّي الأرواح.
فهناك فرقٌ بين نظرة المنهج الإسلامي للكون والحياة والإنسان، ونظرة المنهج غير الإسلامي.
وفرقٌ بين المُلحدين ومَن يجعل الله ثالث ثلاثةٍ، والذين هم شُركاء مُتشاكسون، لهم أكثر من إلهٍ، ومن ذلك: الهوى، كما قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]، وبين الذي يُوحِّد الله ويعبده وحده؛ فالذي يُوحِّد الله تكون القيم والأخلاق عنده مختلفةً عمَّن لم يكن كذلك، وهذه القيم كلها كما صوَّرها الإسلام، وتتكون لدى الفرد والمجتمع من خلال التفاعل مع المواقف والخبرات الحياتية المختلفة، وليست هي فقط قيمًا وأخلاقًا نظريةً، كما كانت تصورات أفلاطون وأرسطو والعقلانيين والناس الذين تكلَّموا عن المدينة الفاضلة، ولكنه في واقع الأمر غير مُنفَّذٍ، وهذه مشكلةٌ عند بعض المسلمين أيضًا.
فالمقصود أن القيم في المنهج الإسلامي تتكون من خلال التفاعل في الحياة والخبرة الحياتية؛ لأن القيم والأخلاق إن لم تكن عمليةً فهي لا تُمثل القيم والأخلاق؛ ولذلك عندما نريد أن نُربي أبناءنا على الصدق لا بد أن يكون ذلك بالممارسة، بأن نُمارس نحن الصدق، وإذا أردنا أن نُربي أبناءنا على قيمة الاحترام لا بد أن يروا قيمة الاحترام أمامهم واقعًا، وإذا أردنا أن نُربي أبناءنا على القراءة فلا بد أن يروا نماذج تُمارس القراءة، ولا نتمنى أن نُعلِّم أبناءنا القراءة ولم نفعل شيئًا، هل فعلنا مسابقةً في القراءة؟
وإذا أردنا أن نُربي أبناءنا على تقدير الله تعالى؛ حتى لا يكونوا من الذين قصدهم الله في قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، فأين هذا التقدير عند ربِّ الأسرة الذي لا يُقدِّر الله حقَّ قدره، ويرونه ليل نهار يُخالف أمر الله ، حتى ولو كان من أهل الصلاة مثلًا، أو يتكلم عن ذلك، لكنه يُخالف هذه التوجيهات؟!
وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ في كون هذه القيم إنما تتكون لدى الفرد والمجتمع من خلال التفاعل مع المواقف والخبرات الحياتية المختلفة، وهذه فرصةٌ لتنمو فعلًا القيم والأخلاق، ونحن سمعنا بأن الدعوة مثلًا في شرق آسيا لم تنتشر إلا من خلال التُّجار، حتى يُقال الآن: إنه ربما رجع هذا الأمر كما كان من قبل، فيحمل لواء ذلك بعض التُّجار الذين ليسوا أهل حديثٍ شرعيٍّ من حيث العلم، ولا من أهل التخصصات الشرعية، وإنما ذهابهم إلى تلك البلدان من أجل الرزق، ولكنَّهم أثَّروا في غيرهم من خلال قِيَمهم وأخلاقهم.
وهناك مأساةٌ كبيرةٌ حينما يُفضِّل بعضنا أن يتعامل مع غير المسلمين من العمالة عن أن يتعامل مع المسلمين، بحجة أن المسلمين غير صادقين وغشَّاشون، فيقول مثلًا: أنا أُفضِّل الجنسية الفلانية من غير المسلمين؛ لأنني أجد فيهم الأمانة، وأجد فيهم كذا وكذا. وقد ينطبق هذا على بعض مَن يتعامل معهم من المسلمين، لكن لا ينبغي أن تنتكس الفطرةُ إلى هذا المستوى؛ حتى تتغير النظرة والرؤية والفكر للمسلمين لهذا السبب؛ ولذلك ينبغي أن نهتم بالقيم والأخلاق من الجانب العملي.
أزمتنا أزمة إيمانٍ وأخلاقٍ
صدق أحد المُربين -وهو الدكتور أبو الحسن النَّدوي رحمه الله- لما أرجع أزمتنا إلى "أزمة إيمانٍ وأخلاقٍ"، وقد ضمَّن هذا في كُتيبه الجميل "إلى الإسلام من جديد"، وهو عبارةٌ عن محاضرةٍ ذكر فيها أن أزماتنا كثيرةٌ ومُتنوعةٌ، منها: اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، لكن أزمتنا الحقيقية نحن المُربين أزمة إيمانٍ وأخلاقٍ فعلًا، ويقول: لو اهتممنا بها لهانت بعد ذلك الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها.
ولذلك ينبغي العناية بالجانب العملي، وتربية الأبناء والأجيال على الناحية العملية، وأن يروا ذلك عمليًّا عبر النموذج الحي الذي هو الأب، والأم، والأخ الكبير، والمعلم، والشاشة، والقنوات المُحافظة التي تُقدم النموذج الإيجابي؛ حتى يكتسبوا القيم والأخلاق الإيجابية.
فإذا صار الجيل واقعيًّا صارت أهدافه واقعيةً، وإلا أصبح الأمر مجرد أمنياتٍ، يقول أحدهم مثلًا: والله أريد أن أكون مُتديِّنًا. وبينه وبين التَّدين مفاوز، وتقول إحداهن: أريد أن أتحجب، أو أريد أن أكون مثل فلانة. وليس لها أهدافٌ واقعيةٌ؛ لأنها أصلًا لم تُمارس خبرات الحياة في الميدان الذي هو المحك في القيم والأخلاق.
وقد يأتي أحدهم ويُلقي عليك كلامًا عن التواضع، لكن تجده في تعامله غير مُتواضعٍ، فهو مُتكبرٌ، فكيف يُقبل منه هذا الكلام؟! حتى لو فُهِمَ من الناحية النظرية كيف سيُؤثر في غيره؟! لن يُؤثر أبدًا، وربما يتأثر به مَن لا يعرفه، لكن لن يكون أثره كالشخص المُتواضع في الواقع، فهذا حتى لو لم يتكلم فإنه مُؤثرٌ، فالقيمة تظهر في الواقع، وتكون مُؤثرةً أكثر.
فعلى المرء أن يختار الأهداف والتوجهات في الحياة بطريقةٍ سليمةٍ من خلال الاهتمامات والسلوك العملي بطريقةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ؛ حتى تُصبح هي اهتمامات الإنسان في الحياة.
ولذلك فإن مقاييس قيمنا وأخلاقنا اليوم تظهر من خلال اهتماماتنا، فإن كانت اهتماماتنا فعلًا على قدر القيم والأخلاق الإسلامية فهذا هو المطلوب، وإن كانت اهتماماتنا دنيويةً يكتسب المرء قيمًا جشعةً، وربما يُخادع، فإذا جاء في البيع والشراء خادع، مع أنه مُصَلٍّ ومُحافظٌ؛ لأن الاهتمامات هنا عبَّرت عن القيم والأخلاق.
أصول الفضائل وأصول الرذائل
ابن حزمٍ رحمه الله له كتابٌ رائعٌ جدًّا، أنصح بقراءته، وإن كان ثقيلًا، لكنه للمُتمرس على القراءة من أجود الكتب في القيم والأخلاق ومُداواة النفوس، والكتاب يصلح للتَّخصصات النفسية المُهتمة بالجوانب النفسية ومُداواة النفوس، وناقش هذا الموضوع نقاشًا رائعًا جدًّا، ومن كلامه الذي نستفيد منه في دروسنا قوله: "أصول الفضائل كلها أربعةٌ، عنها تتركب كل فضيلةٍ، وهي: العدل، والفهم، والنَّجدة، والجود. وأصول الرذائل كلها أربعةٌ، عنها تتركب كل رذيلةٍ، وهي أضداد الذي ذكرنا، وهي: الجور، والجهل، والجُبن، والشح. الأمانة والعفَّة نوعان من أنواع العدل والجود"[5]"الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص127، 128)..
والفائدة من كلام ابن حزم في موضوع التربية على القيم والأخلاق: أنه جعل منظومةً جميلةً جدًّا، حيث قال: كل الفضائل والقيم والأخلاق الإيجابية تنتمي لأربعة أصولٍ وقيمٍ وأخلاقٍ كبرى، وهي: العدل، ... إلى آخره، وعكسها هي أصول الرذائل، فعكس العدل: الجور، وعكس الفهم: الجهل، وعكس النَّجدة: الجُبن، فالشجاعة قيمةٌ مهمةٌ فعلًا، وتدخل فيها أشياء عديدةٌ، وعكس الجود: الشُّح والبُخل، حتى قال أبياتًا جميلةً، وهي:
إنما العقلُ أساسٌ | فوقه الأخلاقُ سورُ |
فحُلِيُّ العقل بالعلـ | ـم وإلا فهو بورُ |
جاهل الأشياء أعمى | لا يرى كيف يدورُ |
وتمام العلم بالعد | ل وإلا فهو زورُ[6]"الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص128). |
فذكر الأصول الإيجابية والسلبية، فالعلم إذا لم يكن بالعدل صار زورًا، والعدل إذا لم يكن بالجود صار جَورًا.
ومِلاك الجود بالنَّجـ | ـدة والجُبْن غرورُ |
عِف إن كنتَ غيورًا | ما زنى قط غيورُ[7]"الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص128). |
وكمال الكل بالتقـ | ـوى وقول الحق نورُ |
ذي أصولُ الفضل عنها | حدثت بعد البذور[8]"الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص129). |
فذكر كمال الكل، وهذا أصل الفضائل والقيم والأخلاق، وهي التقوى: "وقول الحق نورُ"، "ذي" يعني: هذه "أصول الفضل عنها حدثت بعد البذور".
ويقول أيضًا:
زمام أصول جميع الفضائل | عدلٌ وفهمٌ وجودٌ وباسُ |
فمِن هذه رُكِّبت غيرها | فمَن حازها فَهْو في الناس راسُ |
كذا الرأس فيه الأمور التي | بإحساسها يُكْشف الالتباس[9]"الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص129). |
فنستطيع من خلال هذه الفضائل أن نعرف الصحيح من الخطأ؛ ولذلك كلما استطعنا أن نُربي فعلًا على العدل والعلم والشجاعة والبذل والجود، فإن القيم والأخلاق الأخرى في الغالب تتبعها.
ولذلك أرى أنه ينبغي العناية بمثل هذه التقسيمات التي يجتهد فيها بعض العلماء: كابن حزمٍ وغيره، والتي فيها حصرٌ لأمهات القيم والأخلاق، فيُركز الإنسان مثلًا على مثل هذه المعاني: العدل، والعلم، والشجاعة، والجود، وتدخل فيها أشياء عديدةٌ جدًّا، في مُقابل البُعد عن عكس هذه الأشياء.
أهمية غرس القيم في مرحلة الطفولة
لا بد أن نهتم بمرحلة الطفولة في غرس القيم والأخلاق؛ لكون الطفولة هي المرحلة التي فيها الغرس والبذر للقيم والأخلاق، وكلما استطعنا أن نغرس في أبنائنا القيم والأخلاق منذ نعومة الأظفار استطعنا أن نُوفر على أنفسنا وقتًا وجهدًا كبيرًا في المستقبل، والمُعاناة التي يُعاني منها كثيرٌ من المُربين -آباء وغيرهم- في مرحلة المُراهقة هي بسبب إهمال مرحلة الطفولة.
ولذلك ينبغي أن يُعضَّ على مرحلة الطفولة بالنَّواجِذ، وكم هي مرحلةٌ يُزهد فيها لصغر سنِّ الأطفال، وكونهم لا يُدركون كالكبار، مع أنها مرحلة التأسيس، وربما أشرنا إلى ذلك في لقاءاتٍ سابقةٍ.
فمثلًا لو أخذنا من سنِّ الثانية إلى سن السابعة، ويُسمونها: مرحلة ما قبل المدرسة، يعني: بعد الرضاعة، فيظهر في هذه المرحلة تكوين القيم والاتجاهات والميول، يعني: إن هذه المرحلة هي بداية تكوين القيم والاتجاهات والميول، وهذا كلام المُختصين، وتتكون في هذه المرحلة المفاهيم الأساسية للطفل عن الدين والحياة والمعرفة؛ ولذلك النبي علَّم الغلام في هذه المرحلة، وقال له: يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك[10]أخرجه البخاري برقم (5376)، ومسلم برقم (2022).، فالقضية واضحةٌ جدًّا.
وأما الذين يقولون: إنه لا يزال طفلًا صغيرًا، ولا نشغله بمثل هذه الأمور، وإنما نجعله في عالم الترفيه واللعب! وسيأتينا ما يتعلق باللعب، فنحن لا نُربيهم على اللعب من أجل اللعب فقط، وإنما نُربيهم على اللعب من أجل القيم والأخلاق.
وفي كلامٍ عن هذه المرحلة لبعض المُختصين في المنهج الإسلامي في التربية وعلم النفس يقولون: إن هذه المرحلة هي مرحلة التوجيه وتكوين المفاهيم الأساسية عن الدين والمعرفة؛ ولهذا يجب على الأسرة أن تهتم بالطفل في هذه المرحلة، والنبي يقول: ما من مولودٍ إلا ويُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه[11]أخرجه البخاري برقم (1358)، ومسلم برقم (2658)..
فالطفل أول ما ينشأ هو مولودٌ على الفطرة، ثم يبدأ بعد ذلك إما المُحافظة على الفطرة، وهذا الدور الواجب على الأسرة؛ ولذلك الذين يُجرمون في حقِّ أطفالهم، ويجعلونهم لُقمةً سائغةً لدى الإعلام الهابط والمُنحرف، هم في الحقيقة يُمارسون هذه القضية التي بيَّنها النبي في هذا الحديث فيما يرتبط بانحراف الأبناء والأجيال عن الفطرة السليمة، وهي فطرة التوحيد: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، فمَن الذي أجرم في حقِّ هؤلاء؟
هم الذين تحملوا مسؤولية تربيتهم، ولكنهم لم يُحسنوا التربية، بينما نجد أناسًا آخرين نجحوا، فحافظوا على هذه الفطرة، وبعضهم لا يُفكر في تربية الطفل إلا حين يكبر، فيبدأ في الاهتمام به، مع أن بداية المُحافظة على الفطرة تكون قبل ذلك، فإما أن يُحافظ على فطرته، وإما أن ينحرف: فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه.
والأسرة هي التي تُوفر المناخ المُناسب لنمو الطفل الجسمي والعقلي والاجتماعي، وتُتيح له فرصةً للعب والمزاح والمرح، ويكتسب منها المعرفة والسلوك.
وكل هذه المعاني ذكرها أهل الاختصاص في مراحل النمو ما بين سنِّ الثانية وسنِّ السابعة، فكيف بالمرحلة ما بين سن السابعة إلى مرحلة المراهقة، والتي تُسمى: مرحلة الابتدائية، ويُسمونها: مرحلة الطفولة المتوسطة والمُتأخرة؟!
ويغيب عن الأُسَر -للأسف الشديد- أهمية رعاية القيم والأخلاق في مثل هذه المراحل: مرحلة ما قبل المدرسة، فالطفل ما زال في البيت، وفي رعاية ومسؤولية الأسرة، ثم يدخل مرحلة التَّمييز من سنِّ سبع سنوات فما فوق، إلى نهاية المرحلة الابتدائية مثلًا، ولها أيضًا نقاشٌ وحوارٌ حول القيم والأخلاق لهذه المرحلة، وكيف نغفل عن خصائص هذه المرحلة ومطالبها؟ والتي نحن بأمس الحاجة للوقوف عندها؛ حتى نستثمر مع الأطفال، حتى نُكْسِبهم القيم والأخلاق.
فما أجمل أن أرى طفلًا لا أعرفه في السوق، أو في الطريق، أو في أي مكانٍ، وهو في سنِّ الثانية إلى السابعة، وأُكْسبه قيمةً وأخلاقًا! فأقول له مثلًا: ما شاء الله، تبارك الله، بارك الله فيك، اشرب باليمين، ... إلى آخره.
وكم منا مَن يرى مثل هذه الأشياء السلبية عند الأطفال؟! فكيف لو كان هو طفلك أو طفلي، ومَن نحن مسؤولون عن رعايته وتربيته؟!
فموضوع القيم والأخلاق من الموضوعات الطويلة، وسنأخذ منه على أيَّة حالٍ من المفاهيم والقيم والتطبيقات القدر المُستطاع، وإلا فكما قلتُ لكم: هو بحرٌ لا ساحلَ له، وقد قلتُ لكم أيضًا: توجد موسوعة جديرة بالعناية والاطلاع، وهي موسوعة "نضرة النعيم في مكارم أخلاق النبي الكريم عليه الصلاة والسلام" في الصفات والقيم والأخلاق المحمودة والمذمومة، وهذه الموسوعة الرائعة في مجلداتٍ عديدةٍ، أظنها قاربت العشرين مجلدًا.
وسنأخذ منها ما نستطيع من القيم؛ لأننا لا نستطيع إكمالها في درسٍ أسبوعيٍّ في ساعةٍ إلا ربع، وهي في الحقيقة جديرةٌ بالاهتمام.
وقد قلتُ لكم: إن القيم والأخلاق مهمةٌ، وميدان التطبيق والعمل أهم، بحيث لا تُصبح قضايا مُجردةً، ويمكن إدخال الأطفال في ألعابٍ وقنواتٍ فضائيةٍ سليمةٍ، وبرامج و(فلاشات) وأصدقاء، مثل: برامج حلقات القرآن في المساجد والمراكز والأحياء، ومن خلال كل هذا يكتسبون القيم والأخلاق.
فكل هذه الأمور عبارةٌ عن وسائط وبيئاتٍ وأساليب تعزيزٍ وتحفيزٍ وتشجيعٍ، ... إلى آخره، وكلٌّ يأخذ منها ما يجتهد من خلاله ويبذل جهده حتى يستطيع أن يُنمِّي هذه القضايا القيمية والأخلاقية الإسلامية في نفسه وغيره.
أسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يرزقنا وإياكم وأبناءنا وأهلينا القيم والأخلاق الإسلامية، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري برقم (5376)، ومسلم برقم (2022). |
---|---|
↑2 | أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" برقم (20782)، وأحمد في "المسند"، ط. الرسالة، برقم (8952) بلفظ: صالح الأخلاق، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم (45). |
↑3 | أخرجه البخاري برقم (5376)، ومسلم برقم (2022). |
↑4 | أخرجه البخاري برقم (1482)، ومسلم برقم (1393). |
↑5 | "الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص127، 128). |
↑6 | "الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص128). |
↑7 | "الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص128). |
↑8 | "الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص129). |
↑9 | "الأخلاق والسير" لابن حزم الأندلسي (ص129). |
↑10 | أخرجه البخاري برقم (5376)، ومسلم برقم (2022). |
↑11 | أخرجه البخاري برقم (1358)، ومسلم برقم (2658). |