المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يُبارك لنا ولكم.
وبعد هذا الانقطاع نعود -بعونٍ من الله وتوفيقه- إلى المجموعة الرابعة من "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسُّنة".
وقد أنهينا -بحمد الله- المجموعة الأولى باثني عشر درسًا، ثم المجموعة الثانية مثلها، والمجموعة الثالثة في الفصل الماضي بأربعة عشر درسًا، ولله الحمد والمِنَّة.
واستعرضنا مجموعةً من الموضوعات، وكان منها: النية، ثم القدوة، ثم الحوافز والدَّوافع، ثم تحدثنا عن الإنسان، ثم كانت هناك مجموعةٌ من الأسئلة المفتوحة، ثم تحدثنا عن فنِّ التعامل، وكان حديثنا حول الصلاة، ثم الشباب، وخاصةً الشباب والغريزة بعد أن استعرضنا مرحلة الشباب، ثم الاستقرار النفسي، ثم القيم والأخلاق.
هذه كانت موضوعات الثماني والثلاثين درسًا في المجموعات الثلاث -بحولٍ من الله وتوفيقه-، وبعضها استوعب أكثر من ثلاثة دروسٍ، نحو أربعة دروسٍ، أو قريبًا من ذلك.
وسنبدأ -بإذن الواحد الأحد- في هذا الدرس التاسع والثلاثين مع أول درسٍ من المجموعة الرابعة حول ما يتعلق بالانفعالات.
أهمية موضوع الانفعالات
لا بد أن نعلم ونحن نتعامل مع أنفسنا، ومع أُسرنا، ومع أبنائنا، ومع الطلاب، ومع المجتمع أن موضوع الانفعالات جزءٌ من شخصية الإنسان، فالإنسان نفسه: أنا وأنت، وابني وابنك، وصديقي وصديقك، والمعلم والطالب -ذكرًا وأنثى- يتكون من ثلاث قضايا رئيسةٍ:
- الجانب العقلي.
- الجانب الوجداني.
- الجانب المهاري الحركي.
هذه قضايا تكوين الشخصية، والانفعالات جزءٌ من الجانب الوجداني المتعلق بهذه الشخصية، بل إن بعض أهل الاختصاص يرى أن الانفعالات تُساوي الجانب الوجداني، وبعضهم يرى أن الانفعالات جزءٌ من الجانب الوجداني، وهو الصحيح.
فعندما نتكلم عن الغضب، والحزن، والخوف، والفرح سنتطرق لهذا -بإذن الله تعالى- وسنُخصص بعض اللِّقاءات حول هذه القضايا، وكيف تناولها الكتاب والسُّنة؟
ومما يُبين أهمية هذا الموضوع: أنه موضوعٌ مُرتبطٌ ببناء شخصية الإنسان، فكل إنسانٍ -ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا- يتكون من الجانب الوجداني الذي جزءٌ منه الانفعال.
وعلى الجانب الآخر دلَّت الدِّراسات وأدبيات الشريعة على أهمية الجانب الوجداني وأثره الكبير، كما قال الله : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
فالجانب الوجداني أكَّدت الدراسات على أنه أكبر عاملٍ في خصائص الشخصية يُؤثر في الآخرين، فإذا كان الأب يملك مجالاتٍ وجدانيةً، وجانب الانفعالات لديه إيجابيٌّ؛ يُؤثر في أبنائه أكثر مما يُؤثر في غيرهم، وهكذا المعلم، وهكذا الآخرون؛ لذلك سنتحدث عن هذه القضية ضمن قضية الوجدان، وهي من أشد الأشياء المُؤثرة في النفس البشرية.
فالإنسان يمكن أن يُعطيك فكرًا، لكنه يُعطيك إياه بنفسيةٍ ليست مُطمئنةً لك، وليست مُستريحةً، وليس هناك ودٌّ، فلا تقبل منه هذا الكلام.
وهذه الآية نزلت بعد غزوة أحدٍ عندما عصى مجموعةٌ من الصحابة النبيَّ ، ومع ذلك كان التوجيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ إلى آخر الآية [آل عمران:159].
هذه مُعطيات التعامل النفسي، والتعامل الوجداني، وهي مهمةٌ جدًّا، والانفعال جزءٌ منها.
الأمر الثالث الذي يُبين أهمية هذه القضية: أن مشكلتنا في الانفعالات أننا قد لا نضبط انفعالاتنا، وهذا الجانب -للأسف الشديد- يُلحظ على مُجتمعاتنا العربية، وفي بعض البيئات، وإن كانت قضية الانفعال موجودةً في المجتمعات العربية وغير العربية، لكن قضية الضبط في البيئات الصحراوية خاصةً تجد فيها إشكالياتٍ، مثل: شخص يُحب ولده، لكن إذا ضرب عنده (الأمبير) في الغضب -الله يُعينه- يخسر علاقته بولده، وهكذا المعلم، وهكذا بين الزوج وزوجته.
طيب، أكون أخرس، أصم، أبكم، ليس عندي أي إحساسٍ، ولا أغضب؟
لا، فهناك مستوًى من الانفعال طبيعيٌّ، بل الشخص الطبيعي يكون لديه انفعالٌ من الغضب مقبولٌ، لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الغضب، وكذلك بالنسبة للفرح، والحزن، وأي قضيةٍ متعلقةٍ بجانب الانفعال.
وهناك مشكلاتٌ كثيرةٌ ترد في الاستشارات تُعطي دلائل كبيرةً: أن هناك إشكاليةً بين بعض الأزواج، وبين بعض الآباء والأبناء، وبين بعض المُربين والمُتربين فيما يتعلق بالانفعال:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا | على ما كان عوَّده أبوه[1]انظر: "السحر الحلال في الحكم والأمثال" (ص112)، و"المرشد إلى فهم أشعار العرب" (4/ 883). |
في إحدى الجلسات الإرشادية سألتُ شخصًا -أو في الاستشارات الهاتفية-: هل في البيت أحدٌ غَضُوبٌ مثلك؟ فقال: أخذناها من الوالدين، أو من أحد الوالدين. وهذا مثالٌ، فتنتقل القضية من الآباء إلى الأبناء، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ، خاصةً في مرحلة الطفولة، وقد أشرنا إلى شيءٍ من هذا القبيل عندما تكلمنا عن قضية القيم والأخلاق، خاصةً في مرحلة الطفولة.
إذن نحن نتكلم عن موضوعٍ خطيرٍ نحتاجه، وستكون هناك مُقدِّمات، ثم نأخذ عناصر -بإذن الله - حول بعض الانفعالات المُنتشرة في مجتمعنا: كالغضب، وبعض الجوانب المتعلقة بشبه ذلك من أمورٍ انفعاليةٍ؛ مثل: الفرح، والخوف، والحزن، وما شابه ذلك.
أنا لا أريد أن أدخل في قضيةٍ أكاديميةٍ، لكن أُشير إشاراتٍ سريعةً جدًّا؛ لكوننا في مقدمةٍ حول الانفعالات، وأرى أن هذا الموضوع من الموضوعات البالغة الأهمية، وربما يأخذ منا قسطًا من الوقت، فمن المهم أن نقف معه.
طبيعة الانفعال
عندما يقول النبي : ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[2]أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).، فهذا التمييز للشخص الذي يكون مُتَّصفًا بهذا: بأنه صاحب قوةٍ مع نفسه، وليس بأنه يُصارع الآخرين، لا، فقدرتُك على ضبط نفسك وضبط انفعالاتك وضبط غضبك قضيةٌ مهمةٌ جدًّا.
يقولون: الانفعالات: حالةٌ جسميةٌ، نفسيةٌ، يُصاحبها توترٌ شديدٌ، مع اضطراباتٍ عضويةٍ تغشى أجهزة الإنسان الدموية، والتنفسية، والعضلية، والغُدَدية، والهضمية، مع كيانه العصبي عمومًا.
هذا التعريف أذكره لأُبين أن الانفعال يأخذ الغضب، والخوف، والحزن، والفرح، ... إلى آخره، فالانفعال يجمع بين هذه الأمور العديدة.
ففيه جانبٌ عضويٌّ جسديٌّ، فالانفعال يُؤثر في الجسد، وجانبٌ نفسيٌّ، ويدخل فيه الجانب العصبي، فهي حالةٌ فيها توترٌ.
فعندما نقول: محمود فيه غضبٌ. فهل معنى ذلك أن محمودًا عنده غضبٌ في كل وقته؟
لا، الطبيعي أن الإنسان في وضعٍ سَوِيٍّ، لكن إذا جاء ما يُثير الغضب سيكون غَضُوبًا، لكن قد يكون الغضب إيجابيًّا، وقد يكون الغضب سلبيًّا، وقد يكون فرحه إيجابيًّا، وقد يكون سلبيًّا، وكذا حزنه قد يكون إيجابيًّا، وقد يكون سلبيًّا، وكذا خوفه، وغير ذلك من الأمور.
إذن موضوع الانفعالات تدخل فيه جوانب من تركيبة الإنسان الفسيولوجية: العضوية، والنفسية، والعصبية، فهي قضيةٌ ليست سهلةً.
وهذا الذي يجعل الإنسان في بعض الأحيان خارج التغطية حينما يكون مُنفعلًا، لا يُفكِّر بنفسه، فيقول: هل يُعقل أني قلتُ هذا الكلام؟! نعم، قلتَه، يقول: سبحان الله! كنتُ مُنفعلًا. فيحصل أنه يتكلم بكلامٍ لا يُدركه، ولا يحسب حسابه.
ولا شكَّ أن هذا انفعالٌ سلبيٌّ، كيف يحصل؟ كيف يأتينا الانفعال؟ كيف يأتي لي ولك، ولزوجتي ولزوجتك، ولأهلي ولأهلك، وللطلاب، ولمَن نتعامل معهم في هذه الحياة؟ حتى ننتبه لهذه القضية.
كيف يحصل الانفعال؟
يحصل أو يأتي حينما لا تُشبع حاجةٌ ما، وتصير هناك إعاقةٌ لدافعٍ أساسيٍّ يحتاجه الطرف الآخر ولا يُلَبَّى.
فالأبناء -على سبيل المثال- يحتاجون إلى التقدير، أليس كذلك؟ فهل يوجد أحدٌ في الحياة -صغيرًا كان أو كبيرًا- لا يُحب أن يُقدره الناس؟!
الشخص السَّوي يُحب أن يقدره الناس، فإذا كان الأب لا يُقدِّر الأبناء، والأم لا تُقدِّر الأبناء -ذكورًا وإناثًا-، وهكذا المعلم؛ سيكون هذا سببًا لوجود الانفعال، والذي قد يكون غضبًا، وقد يكون خوفًا، وقد يكون حزنًا واكتئابًا.
إذن لا بد أن ننتبه لهذه القضية، فالطرف الآخر له حاجةٌ لا بد أن تُلَبَّى، فقد يأتي الولد لأبيه ويُخبره أنه يُريد أن يتزوج -وهذا الأمر مُنتشرٌ، فقد لمستُ ذلك من خلال احتكاكي بعددٍ من الشباب- فيقول الأب: بسم الله عليك! ما زلتَ صغيرًا.
أنا أقول لهؤلاء الشباب: إذا قال لك أبوك هذا القول فقل له: متى تزوجتَ يا أبتِ، جزاك الله خيرًا؟
وأعرف عددًا من الحالات آباؤهم تزوَّجوا في سنٍّ مُبكرٍ، أصغر من سنِّ الأبناء الذين يطلبون الزواج الآن، وإذا تحدث معهم أبناؤهم قالوا لهم: تمهلوا حتى تتخرجوا من الجامعة وتُؤسِّسوا أنفسكم! فهل تريد من ابنك أن يصير تاجرًا؟!
طيب، هو عنده حاجةٌ فسيولوجيةٌ: حاجةٌ عضويةٌ، وحاجةٌ نفسيةٌ في الزواج: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
فلا تقف حجر عَثْرَةٍ وتقول له: تمهل، أمامك أخوك محمد! طيب، إذا كان أخي محمد لا يريد الزواج، فما ذنبي؟!
ومن باب التحدث بنعمة الله : أنا أصغر إخواني، وأنا أول مَن تزوج منهم والحمد لله، تزوجتُ في المرحلة الجامعية، وما أُحب أن أتحدث عن نفسي، لكن من باب إثارة الموضوع عند الشباب؛ لأن الشباب يُعجبهم هذا الموضوع، فهم يعيشون في قفص (العزوبية).
وخذ مثالًا على ذلك من الطائفة الأخرى: البنات والنساء اللاتي قد تُعضل إحداهنَّ ويُؤخَّر زواجها بحججٍ ماديةٍ، وما شابه ذلك.
فأنت تُعيق، وأنتِ تُعيقين.
والمعلم عندما يقوم طالبٌ ويبذل جهده في شيءٍ معينٍ، لكن المعلم في نفسه تجاه هذا الطالب شيءٌ؛ فلا يشكره، ولا يُقدِّره، ما الذي يحصل؟ حاجةٌ لم تُشبع عنده، وهي دافعٌ أساسيٌّ لم يُقدَّر.
طالبٌ يرفع يده للأستاذ -خاصةً في المرحلة الابتدائية- ويقول: أحتاج -أكرمكم الله- إلى دورة المياه. فيقول الأستاذ: اقعد. وتسأل الأستاذ: لماذا؟ فيقول: هناك طلابٌ غير صادقين! طيب، إذا كان هناك غير صادقين، فمن المحتمل أن يكون هذا صادقًا، فما المشكلة؟
فيتصادم مع الدوافع: الأب مع أبنائه، والزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها، والمعلمون مع الطلاب، ... إلى آخره، يتصادمون مع دوافعهم الأساسية، مع احتياجاتهم؛ فيتولد الانفعال.
إذن لا بد أن نعرف سبب الانفعال؛ حتى لا يأتي الانفعال السَّلبي الذي لا نُريده، فهل تُحبون أن يكون في بيوتكم الغضب والصُّراخ؟ هل يريد أحدٌ ذلك؟ بالتأكيد لا.
وهل تُحبون أن تروا أبناءكم يتبوَّلون على أنفسهم لا إراديًّا إذا انطفأت الكهرباء؟ ولا يستطيع الابن أن يذهب إلى المطبخ ليشرب إذا انطفأت الكهرباء؛ لأنه يخاف من قصةٍ سمعها، أو فيلمٍ رآه في التلفاز، وتكوَّنت عنده رهبةٌ وخوفٌ، فهل نُحب أن يحدث هذا؟ بالتأكيد لا نُحب هذا، وهو انفعالٌ: جانبٌ وجدانيٌّ، وللأسف نحن في كثيرٍ من الأحيان نكون سببًا في ذلك.
وكان من المفترض أن أذكر الجانب الوجداني للانفعالات في بداية اللقاء؛ لأهمية هذا الموضوع، فنحن لا نلتفت إليه، وإنما نلتفت للجوانب الظاهرية: هِندامه، (كشخته)، كلامه، حركاته، مهاراته، وظيفته، موجودٌ، صاحٍ، نائمٌ، نهتم بالشيء الظاهري الذي هو جزءٌ من الشخصية، لكن الجزء الآخر من الشخصية -وهو الجانب الوجداني- قد لا يُلتفت إليه؛ لأنه غالبًا يكون مخفيًّا، غالبًا يكون داخليًّا، فهل يمكن أن يظهر هذا الجانب الوجداني؟
نعم، يمكن أن يظهر ويُقاس بشيءٍ من القياس، لكن تحصل فيه إشكاليةٌ.
مُسببات الانفعال
عندما يقول النبي : لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخر[3]أخرجه مسلم (1469).، يعني: هنا التعامل مهمٌّ جدًّا؛ لأنه إذا لم يُوجد هذا الميزان العقلي بين الزوجين سيتولد انفعالٌ، فالزوجة توجد عندها إيجابياتٌ يا أخي، والزوج عنده إيجابياتٌ يا أختي، فلماذا تقفان عند القضايا السلبية وتُضخِّمانها؟! وعندئذٍ يحصل الحزن، ويحصل الضيق، ويحصل الغضب، ويحصل كذا!
وأذكر أني ألقيتُ كلمةً في رمضان الماضي بأحد المساجد في شمال الدمام، فأتاني أحد الإخوان وقال لي: أنا الآن طلقتُ زوجتي، وعندي منها ولدٌ، وهي مُسافرةٌ؛ لأنها ليست من هذا البلد. فقلتُ له: ما السبب؟ قال: كنتُ أريد أن أتزوج زوجةً ثانيةً، فأخبرتُها بأني سأتزوج. قلت: لماذا تريد أن تتزوج؟ قال: مظهر زوجتي وشكلها لا يُريحني. قلت: هل نظرت النظرة الشرعية وقت الخطوبة؟ قال: نعم، نظرتُ. فعلَّقتُ بكلامٍ أقرَّه بهَزِّ الرأس، فقلت: سبحان الله العظيم! لا تنسَ أخي أن الله حرَّم على الإنسان أن ينظر إلى ما حرَّمه سبحانه فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، وقال: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ[النور:31]، فينظر الرجل إلى ما حرَّم الله، فيرى من النساء مَن هي أجمل من زوجته؛ فيزهد في زوجته.
فانظر لحكمة الله حين أوجب علينا غضَّ أبصارنا، وكذلك بالنسبة للإناث، فهو أقرَّ لي، وأدركتُ أنه وقع في هذا الإشكال.
أسأل الله أن يعفو عنا وعنكم، وعن جميع المسلمين.
فيتولد من خلال التفكير غير السَّوي وعدم تطبيق هذه القضية: اتِّخاذ قرارٍ بسبب الغضب، بسبب كذا، ... إلى آخره، بسبب إجراءٍ غير سليمٍ.
الجانب الثاني: عندما تحصل مُثيراتٌ واستثارةٌ في الدافع، فالنفس البشرية تتصف بصفةٍ مهمةٍ جدًّا ذكرها الله في كتابه فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، إذن فالله كرَّم بني آدم.
من استثارة الانفعال عند الطرف الآخر: حينما تُهينه، فهذه استثارةٌ للمشاعر، فيحصل إما الغضب، وإما الكبت والخوف، والتمرد بعد ذلك بطريقةٍ ما، وما شابه ذلك، وهذا موجودٌ في بعض أُسرنا بصورةٍ مشكلةٍ وواضحةٍ.
لذلك ينبغي أن نُحافظ على كرامتنا وكرامة غيرنا، فزوجتك لها كرامةٌ، وزوج المرأة له كرامةٌ، والأبناء لهم كرامةٌ، والآباء لهم كرامةٌ، والطلاب لهم كرامةٌ، والنفس البشرية لها كرامةٌ، حتى الكافر له كرامةٌ؛ ولذلك حفظت أحكامُ الشريعة حقوق الكافر وما يتعلق به.
فالقضية تحتاج إلى انتباهٍ؛ لأن هذا سيُولِّد انفعالًا، فإذا لم يحصل تقديرٌ لمثل هذا الأمر سيُستثار الطرف الآخر فيغضب، أو تتولد عنده مشكلةٌ انفعاليةٌ من غضبٍ أو غيره.
والوفاة أيضًا استثارةٌ يحصل بسببها انفعالٌ، لكنه انفعالٌ سلبيٌّ، وليس إيجابيًّا، والنبي قال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفُراقك يا إبراهيم لمحزونون[4]أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315)..
فهذا انفعالٌ، والحزن طبيعيٌّ، ويقع لكل إنسانٍ سَوِيٍّ، بل هذا الذي يُوصَف به الأسوياء من البشر، لكن لو أتى واحدٌ مُتَبَلِّدٌ حصل لقريبه مكروهٌ، ولم يتأثر أبدًا، هل يُقال: إن هذا رجلٌ مضبوطٌ في انفعالاته؟! أو يُقال: ما شاء الله عليه! ما بكى يا أخي! أو كذا؟!
هذا غير طبيعيٍّ، كما أنه لو بدأ ينوح ويتجاوز الحدَّ يكون انفعاله سلبيًّا، فجاءت الشريعة لضبط الإنسان في مثل هذه المواقف.
النقطة الثالثة والأخيرة فيما يتعلق بمُسببات الانفعال؛ حتى ننتبه لها في تربيتنا عمومًا: الأسرية، والمدرسية، والمجتمعية: حينما يُشبع الإنسان، وتحصل له مفاجأةٌ، مثل: شفاء مريضٍ من شيءٍ مفاجئٍ مثلًا، وقد نُدخل هنا الوفاة من جهةٍ أخرى، وما يتعلق بذلك.
فنحتاج هنا أيضًا إلى معرفة السلوك الصحيح للإنسان في كيفية التعامل مع هذه المواقف في قضية حمد الله ، وشكره، والصلاة له .
وجاء في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، ومنهم كعب بن مالك : أنه عندما جاءه خبر التوبة سجد لله شكرًا[5]أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).، ففرحه هذا انفعالٌ.
وأنت إذا فرحتَ بخبرٍ سعيدٍ تترقبه، أو كنتَ مريضًا بمرضٍ ما، وذهبتَ للمُتابعة مع الطبيب، فإذا بالمرض قد اختفى من جسدك، سبحان الله! فهذا الموطن من مُسببات الانفعال.
والبعض قد يتجاوزه بصورةٍ غير شرعيةٍ وغير واقعيةٍ، والبعض الآخر تجده مثل الجماد لا يتحرك، وكلا طرفي قصد الأمور ذميمُ.
والبعض لا يفرح، لكن يُوجِّه هذا الفرح بطريقةٍ إيجابيةٍ؛ فيسجد لله شكرًا، وما شابه ذلك.
هذا ما يتعلق بأسباب اختيار هذا الموضوع، والتعريف بالانفعالات، ومُسببات الانفعالات.
كيف يتكوَّن الانفعال؟
كيف يتكوَّن هذا الانفعال: غضبًا كان، أو حزنًا، أو فرحًا، أو ما شابه ذلك؟
من الطبيعي جدًّا ألا يحصل الانفعال إلا إذا وُجِدَ سببٌ أو مُثيرٌ، فلا بد من مثيرٍ، وهذا المُثير قد يكون داخل الإنسان، وقد يكون خارجه.
داخل الإنسان مثل: ألمٍ، أو مرضٍ، أو فكرةٍ مُعينةٍ، أو تفاعلٍ وجدانيٍّ قلبيٍّ معينٍ: إما حبٌّ إيجابيٌّ، أو حبٌّ سلبيٌّ؛ حبٌّ لله، أو علاقاتٌ مُحرَّمةٌ مثلًا. إذن هنا المُثير من الداخل.
أما المُثير الخارجي للشخص فهو الذي يُؤثر في هذا الشخص، مثلًا: وحشٌ مُفترسٌ يتعرض لهذا الإنسان، فبالتأكيد سيخاف هذا الإنسان من هذا الوحش، وما شابه ذلك. إذن هنا المُثير خارجيٌّ.
ويحصل بعد المُثير اضطرابٌ يشعر به الإنسان، وهذا سيأتينا في النقطة الرابعة.
فالشعور الداخلي: هو اضطرابٌ يحصل في الجانب الفسيولوجي داخل الإنسان، فيشعر بشيءٍ من عدم الاستقرار، بخلاف ما كان عليه قبل قليلٍ، فحين يحصل له مثير الانفعال -غضبًا كان، أو فرحًا، أو ... إلى آخره- ينظر في وضعه، فطبيعة وضعه تختلف، وهذا يُسمونه: الشعور الداخلي، داخل جسمه.
ويحصل سلوكٌ خارجيٌّ بعد ذلك: كتعبيرات الوجه، وكلمات، وحركات، فالرسول -على سبيل المثال- كان إذا غضب احمَرَّ وجهه[6]أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (753).، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
وكان لا يغضب إلا إذا انتُهِكَتْ محارم الله، لا يغضب لأجل ذاته ونفسه، وهذا هو الفرق بين الغضب المحمود وغير المحمود، وهذا سيأتي -إن شاء الله- عندما نتحدث بطريقةٍ مُفصلةٍ عن قضية الغضب.
ثم يحدث سلوكٌ داخليٌّ، داخل الإنسان، والذي هو تأثير هذا الجانب على القلب ونبضاته، والضغط، ... إلى آخره.
هناك دراسةٌ قام بها رجلٌ يُدْعَى: دولارد، عملها على عشرات الآلاف من جنود الحرب العالمية الثانية، وكان موضوع الدراسة ما يتعلق بآثار انفعال الخوف.
طيب، هم جنودٌ، وإذا كان الجندي خائفًا في المعركة فهذا لا يصلح.
وقد قام بهذه الدراسة عن طريق الاستفتاء؛ ليعرف الشخص المُناسب الذي يمكن أن يتم ترشيحه للدخول في الحرب.
فوجد مجموعةً من الآثار لانفعال الخوف على الجسد يمكن أن نستغربها، وجد تقريبًا ثلاث عشرة نقطة يُسببها الخوف، يعني: تغييرات حسية، وضربات قلب، وارتفاع الضغط، وتغير الجهاز العصبي، وحدقة العين، ودرجة الحساسية، وسيلان اللُّعاب -أكرمكم الله-، وتغير الجهاز الهضمي، وإفراز الهرمونات، وعدَّد نقاطًا كثيرةً كلها وُجدت من خلال الدراسة على هذه العينة التي فاقت عشرات الآلاف.
هذا كله يدل على أننا نحتاج إلى معرفة كيفية التعامل مع هذه الانفعالات، وكيف يمكن أن نضبطها؟
يعني: فعلًا قد يُعذر الإنسان؛ لأن هذا الانفعال يأتي في هذا الهيجان، وهذه الأمور المتعلقة بالجهاز العصبي، والمتعلقة بالجهاز الهضمي، والمتعلقة بالدم، وبالقلب، ... إلى آخره.
تقول: والله العملية ما هي بسهلةٍ، كما سيأتينا -إن شاء الله- لاحقًا، ربما اليوم، أو في الأسبوع القادم -إن شاء الله-، فسنتحدث عن مهارة ضبط النفس، وضبط الانفعال، وهي النقطة العملية الرئيسة التي نُريد أن نصل إليها.
فهل الانفعالات أيًّا كانت -خوفٌ، أو غضبٌ، أو ما إلى ذلك- تُؤثر على مهارات الإنسان وحركاته أو لا تُؤثر؟
ربما أشرنا إلى ذلك، لكن سنُشير إليه هنا بشكلٍ أكبر.
فهل يُقبل الخائف على المخوف منه، أو يهرب منه؟ يهرب منه.
وحينما تكون عند الابن هذه المشاعر، ويخاف من والده، هل نتوقع منه أنه سيُقبل على والده؟ أبدًا، وهذا يُفسر الهروب من البيوت.
وقد وُجدت بعض الاستقراءات المتعلقة بهروب الفتيات اليوم من البيوت، وهي ظاهرةٌ جديدةٌ قد يكون سببها بلا شكٍّ الخوف، أو هو جزءٌ من السبب.
وبغض النظر عن الهروب من البيت، فربما لا يصل الابن إلى مستوى الخوف؛ لأنه يخاف أن يهرب فيُسبب مشكلةً كبيرةً جدًّا، لكن يحصل هذا، ويكفي أنه لا يُحب أن يلتقي بوالده، ولا يُحب أن يتعامل معه.
وهكذا بالنسبة للطالب مع المعلم، والشخص مع الشخص الآخر؛ لأن هنا إشكاليةً مُتعلقةً بالخوف، والخوف سيُولد قضية الفرار.
سبحان الله! قال تعالى: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175]، يعني: أعظم ما يخاف منه الإنسان ويفرُّ إليه هو الله ، لكن هذا في حقِّ الله ، وليس في حقِّ البشر، فإذا لم توجد علاقة الودِّ والأمن النفسي لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يحصل التَّقبل، ومن ذلك حينما يحصل الخوف.
إذن الهروب الحركي -الهروب المكاني- هو جزءٌ مما يُنتجه الانفعال عند الإنسان.
خذ مثالًا: الغضبان، فالخائف سيهرب، والغضبان سيهجم؛ لذلك في التوجيه الإرشادي يأتيك أحيانًا شخصٌ غَضُوبٌ، فحتى يضبط برنامجه العلاجي يُنصح بألا يتقابل مع مُثير الغضب بالنسبة له، فإذا رآه مُقبلًا من طريقٍ عليه أن يُغيِّر طريقه؛ لأن من طبيعة الغَضُوب أنه يهجم؛ ولذلك جاء أن الواقف يقعد، والجالس يضطجع، ويملك نفسه.
طيب، يمكن أن يهجم الابنُ على أبيه، وتهجم البنت على أمها، وهذا شيءٌ مُزعجٌ وشاذٌّ، لكنه وصل إلى مستوى الغضب، فتسمع في حالاتٍ فرديةٍ أنه رفع يده، وما شابه ذلك.
مثال: الخادمات في البيوت: فجزءٌ من تفسير بعض حالات الانحراف عندهن في الاعتداء على أهل البيت -طفلًا أو أمًّا- قضية الغضب، والغضب الذي عند الخادمة من أين أتاها؟
أتاها من التعامل، وعدم إعطائها حقوقها، فكل هذا يتجمع في نفسها، وعندئذٍ تبحث عن طريقةٍ لتأخذ حقَّها، ولو بالانتقام.
ونفسية الانفعال هذه إذا لم تُضبط من خلال الضوابط الشرعية والعقلية تحصل طامَّةٌ كُبرى.
كذلك يُؤثر الانفعال في التفكير؛ فالغضبان إذا هدأ تجده يُفكر؛ لذلك من النصائح الطيبة عند غضب الواحد منا: أن يُعطي لنفسه مُهلةً لثوانٍ، لا يستعجل، فقط يهدأ قليلًا لثوانٍ أو دقائق، وهذا سيجعله في مجال اتِّخاذ القرار بطريقةٍ سليمةٍ؛ لأن فترة النَّشوة أو انفعال الغضب الشديد تكون فيها الجوانب الفسيولوجية والنفسية والعصبية في حالةٍ من الهيجان الشديد جدًّا، فيُمكن أن يقول كلامًا لا يحسب له حسابًا، ويمكن أن يتصرف تصرفًا لا يحسب له حسابًا.
لذلك لا يصلح للقاضي أن يقضي وهو غضبان، ولا يصلح للإنسان أن يُصلي وهو جوعان: لا صلاةَ بحضرة الطعام، ولا هو يُدافعه الأخبثان[7]أخرجه مسلم (560)..
فهذه أيضًا لا بد أن ننتبه لها؛ لأنه لا يمكن أن يخشع، فهو يُفكر في الكَبْسَة، والمرقوق، والمطازيز، والبطاطس، والكبدة، فهو جائعٌ، ماذا يفعل؟!
أو يبحث عن طريقةٍ للذهاب إلى دورة المياه -أكرمكم الله-، فالانفعال بلا شكٍّ يُؤثر في قضية التفكير.
ولا شك أن الانفعال يُؤثر في الصحة النفسية، وهذه قضيةٌ أساسيةٌ عندنا، ستظهر لنا بشكلٍ أكبر، وقد نُرجئ التفصيل فيها؛ لأنها ستكون مُستوعبةً أكثر فيما يتعلق ببعض المُعطيات التي سنأخذها لاحقًا -إن شاء الله- فيما يتعلق ببعض الانفعالات.
الانفعال المُتَّزن
نرجع إلى قضية الميزان، ونُؤكد على هذه القضية، أيًّا كان الانفعال: حزنٌ، فرحٌ، خوفٌ، ... إلى آخره، لا بد أن يكون الانفعال في وضعه الطبيعي، فمن الطبيعي أن تحزن، ومن الطبيعي أن تخاف، ومن الطبيعي أن تفرح، ومن الطبيعي أن تغضب، لكن إذا اتَّجه الانفعال إلى اتِّجاه الإفراط صار سلبيًّا؛ فالغَضوب يصير مُتهورًا فيُولِّد مشكلاتٍ، والحزين يصير مُقعدًا، لا يُحب أن يعمل، ضائقٌ صدره، والفَرِحُ يتطاول على الآخرين، والخائف يصير مُضطربًا في حياته، لا يسلك مسلك الطرق السليمة، هذا الاتِّجاه المُفْرِط.
أما الاتجاه الثاني فيتمثل في عدم وجود هذا الانفعال أصلًا، فهو يقول: مستحيل، وأتحدى أن يُغضبني أحدٌ! أنا شخصٌ مثل الحجر! فهذا شخصٌ غير سَوِيٍّ، وهؤلاء قِلَّة بالنسبة للفئتين الأُخرتين، والفئة السليمة هي الفئة الوسطى، والفئة التي نُعاني منها هي التي تنطر إلى ظاهر الأمور، فأحداث الأمة اليوم تُولِّد في الإنسان الانفعال حينما يُمْعِن في ظاهر الأمور، وفي توالي الأحداث ومصائبها، فيتولد في الإنسان انفعال الحزن، والضيق، والاكتئاب، يعني: قد يصل لهذا المستوى.
إذن ما أدرك حقائق الأمور، ولا تعامل مع الانفعال بطريقةٍ سليمةٍ، والرسول كان يقول: العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ[8]أخرجه مسلم (2948).، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة[9]أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد في "المسند" (23299)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703)..
فمَن منا مع أحداث الأمة اليوم؟! وأنا أولكم، أُحدِّث نفسي والله: مَنْ منا زاد رصيده في العبادة بفعله هو، بعد توفيق الله؛ حتى تهدأ نفسُه، ويشعر بالصحة النفسية التي نتكلم عنها الآن وأن الانفعال له أثرٌ على الصحة النفسية؟! سؤالٌ كبيرٌ.
يعني: يمكن أن نمضي وقتًا كبيرًا في المُتابعات السياسية، والتحليلات، و(تويتر)، و(فيس بوك)، و(واتس آب)، والروابط، شيءٌ مهولٌ، يمضي الإنسان فيه الساعة والساعتين والثلاث والأربع، ويحدث عنده خللٌ؛ لا يدري ما الصواب؟ ولا يعرف الحقَّ من الباطل! ولا يدري ما الذي يحدث من حوله؟ ومع ذلك يستمر.
وهذا في مقابل شخصٍ آخر خفَّف من هذه التَّبعات الدنيوية، ولجأ إلى الله، وصار منسوبه في وقت الفتن في علاقته بالله وفي العبادة أكثر مما كان عليه قبل ذلك، هذا هو الشخص الذي استطاع أن يضبط انفعاله.
فمن المستحيل أن يرى واحدٌ المناظر التي تقع في سوريا، والجرائم الكبرى المتتالية التي تقع هناك، كقضية السلاح الكيماوي، ... إلى آخره، ولا يتأثر!
وبعضهم يقول: خلاص تعوَّدنا! هذا شخصٌ ليس سَوِيًّا.
أيضًا يستحيل أن يضطرب اضطرابًا يصل إلى مستوى أنه لا يريد أن يسمع شيئًا، ويضيق صدره، ونفسيته تتغير، وتعامُله مع زوجته يكون سيئًا، ولا يُقيم حقوق الآخرين بسبب أنه ضاق صدره من الأحداث. لا، كن في الوسط الذي ذكرناه قبل قليلٍ؛ حتى يتعامل الإنسان بشكلٍ طبيعيٍّ جدًّا، ويُحقق هذه الانفعالات بمستواها الطبيعي السليم؛ فالحزن يجعله يرفع يده ويدعو لإخوانه، ويدعمهم بالمال، ويزيد من طاعته لله ، وهكذا.
والغضب الذي يقع له حينما يرى شيئًا يُنتهك من حُرمات الله يجعله يبحث عن كيفية إنقاذ هؤلاء من غرقهم، فيأتي ليُصلي صلاة العشاء -مثل صلاة اليوم- وهناك شبابٌ يجلسون في الحديقة وفي الممشى وقت صلاة العشاء -شبابٌ وليس نساء- ولم يُصلوا! فهذا الشيء إذا لم يُحرِّك فينا ساكنًا فعندنا إشكاليةٌ في الانفعال الطبيعي.
طيب، هل يمكن أن يكون هناك مَن ليس عنده انفعالٌ؟ هذه مشكلةٌ، ويمكن أن نقول: عنده انفعالٌ، لكن يسُب ويشتم، فهل هذا يصلح؟ لا، هذا يُسبب مشاكل، وأيضًا سيجعل الناس ينفرون من الخير، لكن الصواب أن يأتي لإمام المسجد، ويتحدث معه عن كيفية حلِّ هذه المشكلة، وكيف نستطيع أن نفعل هذا الأمر؟ وهذا أمرٌ لا يمكن أن نسكت عنه، فهؤلاء أبناؤنا، وإخواننا، لا بد أن نهتم بهم، ولا بد أن نفعل شيئًا، وكل واحدٍ منا كان على أشياء لا يرضاها الله من التَّضييع -والله يتوب علينا- ثم هداه الله ، وهكذا، وبهذه الصورة نستطيع أن نُدير الانفعال بطريقةٍ إيجابيةٍ.
إذن الانفعال يُؤثر على الصحة النفسية، والأمن النفسي، والأمن الذاتي، والأمن الأُسري، والأمن المجتمعي.
أثر الانفعال على الصحة الجسمية
كذلك الانفعال له أثرٌ على الصحة الجسمية، وربما أشرنا إليها، لكن من الأشياء التي تكثر عند الناس اليوم: القرحة المعوية مثلًا، والقرحة المعدية، فعددٌ من هؤلاء عندهم إشكاليةٌ في شدة الانفعال؛ فيُصاب بالقُرحة؛ ولذلك لها أثرٌ من ناحية الصحة البدنية، فإذا ما ضبطتَ انفعالك، وعلَّمتَ أبناءك كيف يضبطون انفعالهم؟ وإذا لم يتعلم الجيل كيف يضبطون الانفعال؟ ربما يخسر الإنسان من قوته الجسمية أيضًا، كما يخسر من قوته النفسية التي قلناها قبل قليلٍ، وقوته العقلية التي أشرنا إليها قبل قليلٍ كذلك.
الفرق بين الإنسان والحيوان في الانفعالات
ما الفرق بين الإنسان -بين البشر، بين أبنائنا، بيننا نحن، بين عالم البشر عمومًا- وبين الحيوان فيما يتعلق -أكرمكم الله- بقضية الانفعال؟
الحيوان عنده انفعالٌ، فما الفرق بين انفعالنا وانفعال الحيوانات؟
الإنسان عنده عقلٌ، وإذا كان عنده عقلٌ سيضبط انفعاله، إذن الإنسان قادرٌ على ضبط انفعاله، أما الحيوان فليس كذلك؛ لعدم وجود العقل.
هذا الآن كلامٌ نظريٌّ وجميلٌ، ومعلومةٌ إضافيةٌ، وشكرًا لك.
لكن عندما نقول: الذي لا يقدر على ضبط انفعاله سيكون -أكرمكم الله- فيه شَبَهٌ من الحيوان: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44].
ولذلك حتى نبقى على طبيعتنا البشرية نقول: أنت قادرٌ على ضبط انفعالاتك، لكن هذا هو الابتلاء، فقد يأتي واحدٌ ويقول: أنا غَضُوبٌ. أو يقول: أنا يا شيخ لي ثلاثون سنةً أشرب سجائر، ويستحيل أن أتركها! يعني: يتصور أنه يستحيل أن يترك السجائر، فهل يمكن أن يتركها أو لا يمكن؟ يمكن، لكنه هكذا أعطى نفسه الحكم.
نفس الكلام نقوله لمَن يقول: أنا غَضوبٌ. ما معنى هذا الكلام؟ هل تُعطي لنفسك تبريرًا أنك ستموت وأنت غَضُوبٌ؟
اضبط انفعالك، والناس يختلفون في ذلك: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
إذن هذا الأمر مهمٌّ جدًّا، وهذا الذي سندخل إليه -إن شاء الله- في اللِّقاءات القادمة، فلا بد أن ندرك هذا الفرق، وهو محل الابتلاء للبشر، وهو محل التَّنافس، وهو محل تمايُز الناس بعضهم عن بعضٍ، ومن ذلك قُدرتهم على ضبط انفعالاتهم: هل أنت قادرٌ على ضبط انفعالاتك، أو لستَ قادرًا على ذلك؟
نُكمل -إن شاء الله تعالى- في الأسبوع القادم، وأشكر الإخوان في جامع فيصل بن تركي، وعلى رأسهم الشيخ طارق، وفريق العمل -جزاهم الله خيرًا- والشباب جميعًا -جزاهم الله خيرًا- على حرصهم ومُتابعتهم لهذا البرنامج.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | انظر: "السحر الحلال في الحكم والأمثال" (ص112)، و"المرشد إلى فهم أشعار العرب" (4/ 883). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609). |
↑3 | أخرجه مسلم (1469). |
↑4 | أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315). |
↑5 | أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769). |
↑6 | أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (753). |
↑7 | أخرجه مسلم (560). |
↑8 | أخرجه مسلم (2948). |
↑9 | أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد في "المسند" (23299)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703). |