المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بحمدٍ من الله وتوفيقه- هو اللقاء الثالث من المجموعة التاسعة من سلسلة: "تطبيقات تربوية ونفسية من الكتاب والسنة".
وكنا قد شرعنا معكم في اللقاءات الثلاثة السابقة وفي نهاية المجموعة الثامنة في الحديث حول أسلوب القصة كأسلوبٍ أساسيٍّ للتربية، وبدأنا بعد ذلك بسلسلةٍ من قصص النبي عليه الصلاة والسلام.
ونحن الآن في الحلقة الخامسة من القصص النبوي -على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم-، واستنباط بعض الدروس التربوية والنفسية منها.
إزالة الأذى من طريق الناس
جاء في البخاري ومسلمٍ عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجد غصن شوكٍ على الطريق، فأخَّره، فشكر الله له فغفر له[1]أخرجه البخاري (652، 2472)، ومسلم (1914)..
وفي روايةٍ أخرى: مَرَّ رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: والله لأُنَحِّيَنَّ هذا عن المسلمين لا يُؤذيهم، فأُدْخِل الجنة[2]أخرجه مسلم (1914)..
وفي روايةٍ: لقد رأيت رجلًا يتقلَّب في الجنة في شجرةٍ قطعها في ظهر الطريق كانت تُؤذي الناس[3]أخرجه مسلم (1914)..
هذه مواقف وقصصٌ يذكرها النبي ، فنستطيع من صحيح القصص النبوي أن نستفيد مجموعةً من الدروس:
عملٌ بسيطٌ جدًّا يكتب الله به خيرًا عظيمًا، وهذا يُبين أهمية التربية على فضائل الأعمال.
انظروا إلى سعة رحمة الله وعفوه وكرمه؛ يُعطي الكثير بالقليل، فبمجرد إزالة شيءٍ يُؤذي من الطريق كان مصير هذا الإنسان أن جُوزي بالجنة.
ينبغي أن نزرع هذا في نفوسنا حتى لا نستقلّ الأعمال، فحينما نكون في طريقٍ ونرى شيئًا نظن أنه سيُؤذي المسلمين علينا أن نقوم بإزالته، فهذا نصٌّ واضحٌ جدًّا على مثل هذه القضية وما يتعلق بها، وهو خُلُقٌ سامٍ ورفيعٌ.
وكذلك حينما نُعوِّد أبناءنا على مثل هذه الأشياء، وينظر المجتمع إلى القدوة الذي يُوقِف سيارته ليُزيل (كَفَرَ) سيارةٍ، أو خشبةً تعترض طريق الناس، فيُزيلها ويضعها جانبًا.
ما أجمل أن يتحلى الإنسان بتلك الأخلاق! ولذلك فإن هذه القضية فضيلةٌ عظيمةٌ جدًّا.
وفي هذا الحديث بجميع رواياته الحث على تنحية الأذى، وهذا أمرٌ ينبغي أن نعتني به، وهو: أن كل أذًى علينا أن نحرص على إزالته ما أمكن، أو التقليل منه، والشريعة الإسلامية جاءت -كما يقول أهل الأصول- بتحقيق المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.
فالمفاسد المطلوب فيها أحد أمرين: الأصل أن ندرأها، فنُزيل الأذى، وإن لم نستطع إزالته نُقلل منه، لكن لا يجوز أن نُبقيه.
هذا أذًى في الطريق، فكيف بالأذى الذي هو أشد من هذا الأذى؟! كيف بالأذى المعنوي الذي قد يكون أشد من الأذى الحسيّ؟!
الأذى المعنوي الذي يتألم منه الإنسان في داخل قلبه، والأذى الذي يُؤثر على العقل والتفكير بشرب المُخدرات، وحمل الأفكار السيئة والهدَّامة والمُنحرفة.
وكذلك الأذى الذي يحصل في الجانب الانفعالي في إيذاء النفس؛ ولذلك الله يقول: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، مع أن هذا الخطاب للذي في جهنم، فالله يُذلّه كما قال بعض العلماء، وهذا الأمر أشدّ عليه من أن تصله نار جهنم حسيًّا، فهذا الموقف معنويًّا عقوبته وإيذاؤه أشد من إيذاء جهنم -والعياذ بالله-، فيُقال له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، تهكُّمٌ عليه: أنت العزيز الكريم، ومع ذلك تُعاقَب! وهو ليس عزيزًا ولا كريمًا، لكنه إذلالٌ له.
فلذلك ينبغي أن نتنبه إلى مثل هذه القضايا وما يتعلق بها، فأي أذًى حسيٍّ -وهذا واضحٌ جدًّا في مثل هذه القصص- ينبغي أن نسعى لإزالته، ونُربي أنفسنا على إزالته، ونتواضع في إزالته، ونُربي أجيالنا على إزالته، ففيه فضلٌ عظيمٌ جدًّا، كما جاء في تلك الروايات: فغُفر له، فأُدخل الجنة، رأيت رجلًا يتقلب في الجنة، الله أكبر!
دور القُدوة في تربية النَّشء على إزالة الأذى
مثل هذه المشاريع عندما تكون عبارةً عن مشاريع تطوعيةٍ -فِرق التطوع الخيرية- يُمارس الشباب مثل هذا المفهوم بالتطبيق، وعندما يرون محل القدوة يفعل هذا الأمر، أو بالممارسة، أو كلاهما، فالممارسة بأن يُطبق هذا الأمر، ينزل مع فريق عملٍ تطوعيٍّ ويُمارس مثل هذه القضية: إبعاد الأذى عن المسلمين.
لذلك تجدون مثلًا مما تكشف مثل هذه الروايات وهذه القصص: ما يقع فيه بعض المسلمين -للأسف الشديد- في مُخالفتهم للتعاليم النبوية، فالنبي حينما يقول: "أزل"، وبعض الناس يضع الأذى، تجده يفتح السيارة ويرمي!
والابن الصغير إذا رأى أباه بهذه الصورة سيفعل مثله، وهي قضية ثقافةٍ، وكثيرٌ من المشاريع تقوم على الثقافة؛ لكونها مرتبطةً بشكلٍ كبيرٍ بالسلوك الذي يُمارس من خلال الأجيال حينما ينظرون إلى القدوات يُمارسون مثل هذا الجانب الثقافي الذي يُصبح ثقافةً لديهم، أيًّا كان: صحيحٌ أو خطأٌ، إيجابيٌّ أو سلبيٌّ.
فلذلك ينبغي أن نعرف مثل هذه القضايا وننتبه لها، فما المشكلة لديك في أن تضعها في نفاياتٍ صغيرةٍ ثم ترميها؟!
واليوم زرتُ بعض الأشخاص الفُضلاء في الخُبَر، وإذا به خارجٌ في سيارته مع ابنه الصغير، واستغربت أنه وقف، وظننت أنه يُريدني، فمشيتُ إليه، وإذا به وقف -أكرمكم الله- عند محل النفايات، وابنه الصغير يخرج من النافذة ويرمي النفاية والوسخ في هذه النفايات.
صورةٌ جميلةٌ، يعني: تكون هذه عبارةً عن مسلكٍ دائمٍ ومستمرٍّ، فعندئذٍ نستطيع أن نتعود على ذلك، فلا نُؤذي غيرنا، ناهيك عن أننا -مثلًا- نُزيل الأذى عن غيرنا، فلا نقبل أذًى على إخواننا، ولا نضع أذًى من باب أولى لإخواننا.
ولذلك ينبغي الانتباه لهذه القضية من الناحية الحسية، ومن الناحية المعنوية التي قد تكون أشد من الناحية الحسية، ومن الناحية القِيَمية التي قد تكون أشد من ناحية الأوساخ والقاذورات، ... إلى آخره.
فيجب أن نُدرك حاجتنا إلى مثل هذا الأمر حتى نستطيع أن نُحقق مقاصد الشريعة في إزالة الأذى أو تقليله.
التربية على المسؤولية الاجتماعية
ونستنبط من هذا ما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية، وما يتعلق بالتربية عليها، بحيث يشعر كل أحدٍ أنه مسؤولٌ، فليس صحيحًا أن يُقال: الشارع لا دخلَ لي به! بل لك دخلٌ به، هذا الوسخ لستُ أنا الذي وضعته! نعم، لستَ أنت مَن وضعه، لكنك قادرٌ على إزالته، وتكسب الأجر في ذلك، فتُذْهِب الأذى عن الناس، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا إذا تربى الشخص على ما يُسمّى بـ"المسؤولية الاجتماعية": كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[4]أخرجه البخاري (2558)، ومسلم (1829)..
أما أن يقول: لا دخل لي! أنا ما عليَّ من زوجتي، ولا عليَّ من أبنائي! لا، لك دخلٌ فيهم، وهناك مسؤوليةٌ اجتماعيةٌ ينبغي أن نتربى عليها، فالإنسان لا يعيش في هذه الحياة بما يُسمّى الـ"أنا" التي وقع فيها بعض روَّاد النظريات النفسية -للأسف الشديد-، وتتضخم عندهم الـ"أنا"، فكل القضية عندهم تحقيق الذات، بحيث يعيش مُتَمَحْوِرًا حول هذه القضية؛ لأنهم انطلقوا من مُنطلقاتٍ بشريةٍ، ورُؤًى بشريةٍ، فيُريد أن يستلذّ في هذه الحياة، فينظر إلى ما يُمتع نفسه ولو كان في هذا مهلكة غيره، ولو كان فيه إيذاءٌ لغيره، لا إشكالَ عنده!
وهذا الذي قامت عليه نظرية التحليل النفسي عند (فرويد) وغيرها من النظريات الأخرى.
فالتربية على المسؤولية الاجتماعية مهمةٌ، يقول الله مثلًا: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر].
والشافعي رحمه الله يقول كلمةً مشهورةً: "لو ما أنزل الله إلا هذه السورة لكفتهم"[5]"تفسير الإمام الشافعي" (3/ 1461)..
ونقل الحافظ ابن كثير عن الشافعي رحمهما الله أنه قال: "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم"[6]"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/ 203)..
يعني: تصور أنك فتحت المصحف فلم تجد فيه إلا سطرين: سورة العصر.
فالشافعي يرى بعُمق تفكيره وفهمه لهذه السورة أنها كافيةٌ لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة، وصَدَق.
وقد تكلم العلماء في هذه السورة، مثل: الشيخ ابن سعدي -رحمة الله عليه- في تفسيره، فقال: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هذا تكميل الإنسان لنفسه ... وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ هذا تكميل الإنسان لغيره"[7]"تفسير السعدي: تيسير الكريم الرحمن" (ص934)..
فهؤلاء هم الذين استثناهم الله من الخسارة، فالله بيَّن أن كل الناس في خسارةٍ، وهذا دليلٌ على أن معظم الناس في ضلالٍ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، لا نستغرب من ذلك؛ ولذلك: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، كل الناس في خسارةٍ، لكن استثنى، والاستثناء أقلّ مما قبله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، هذه يُسمّونها: تربيةً فرديةً، التي هي تكميل الإنسان بنفسه بالإيمان: صلاة، صوم، دعاء، ذكر في الخلوات، ... إلى آخره.
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ تربيةٌ فرديةٌ يُكمل الإنسان فيها نفسه بعلاقته بالله ، ولم ينتهِ دوره في الحياة، بل عنده شقٌّ آخر هو: وَتَوَاصَوْا مع الناس، هذه المسؤولية الاجتماعية التي ذكرناها قبل قليلٍ.
فلا يسلك الإنسان في هذه الحياة بسعادةٍ ونجاحٍ وربحٍ، ويُستثنى من الخسارة إلا إذا جمع بين التربية الفردية والتربية الجماعية أو الاجتماعية، فهو مسؤولٌ عن نفسه بأن يؤمن بالله ويعمل الصالحات: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ومسؤولٌ عن غيره، كلٌّ بحسبه: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، فهذا تكميلٌ لنفسه كما قال المُفسرون، وذاك تكميلٌ لغيره، وهذه هي المسؤولية الاجتماعية بالنسبة للشقِّ الثاني.
وهذه هي المُوازنة الرائعة فيما يتعلق بالتربية الفردية والتربية الجماعية، فهناك أُناسٌ ينحون إلى التربية الفردية فينعزلون عن المُجتمع، فتجد صِلتهم للرحم ضعيفةً، وتأثيرهم في الآخرين ضعيفًا، وهو في عمله مُنْطَوٍ لا يُحبّ الاختلاط، ... إلى آخره.
والنبي يقول: المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم، الأذى لا بد منه، فهو في طبيعة النفس البشرية، خيرٌ من المؤمن الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم[8]أخرجه الترمذي (2507)، وابن ماجه (4032)، وأحمد في "المسند" (5022)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال … Continue reading، قد يكون ناجحًا في شقٍّ، في وجهٍ من التربية الفردية: علاقته بالله قويةٌ، عنده إيمانٌ وعملٌ صالحٌ، وفَّقه الله لذلك، لكن عنده شِقٌّ آخر ناقصٌ، وهذا نقصٌ في التربية.
وكذلك العكس؛ هناك أُناسٌ تجد مهارات تواصلهم الاجتماعية عاليةً، فهو يُجيد العلاقات مع الناس، ... إلى آخره، لكنه فيما يتعلق بالتربية الفردية تجدها ضعيفةً بالنسبة إليه، الوقود الذاتي عنده ضعيفٌ، الإرادة الذاتية عنده ضعيفةٌ، يعني: الجانب الذاتي وبناء نفسه ضعيفٌ، وهذه أيضًا مشكلةٌ، وإنما الصحيح هو التوازن بين التربية الفردية والتربية الجماعية.
وهكذا ينبغي أن نُخرج من أجيالنا هؤلاء الذين يجمعون بين هذين النوعين من أنواع التربية.
هذه كلها تدل على أن الذي يُقْطَع هو المُؤذي، فلنبحث عن المُؤذي لنا ولغيرنا فنقطعه، فإن كان هذا المُؤذي سوَّاقًا في البيت نقطعه، وإن كانت شغَّالةً نقطعها، وإن كانت قناةً فضائيةً، أو صديقًا أو صديقةً للبنات نقطعها.
إذن لنبحث عن مصادر الإيذاء، أما أن نقطع عكس ذلك فهذا خلاف الفِطرة، للأسف!
هناك أناسٌ في تربيتهم هم مفاتيح للشر، مغاليق للخير.
والمؤمن ينبغي أن يكون مفتاحًا للخير، مِغْلَاقًا للشر؛ لذلك علينا أن نبحث عن الدور التربوي المطلوب من الوظيفة التربوية المطلوبة في أي بيئةٍ كنا فيها، خاصةً البيئة الأسرية، فنبحث: أين مصادر الإيذاء الحسي والمعنوي؟ وهذا مهمٌّ جدًّا: الحسي والمعنوي؛ لأن الحسي كثيرٌ منا قد يتنبه له ويخاف منه: وهو ما يتعلق بالصحة، وما شابه ذلك، وهذه مهمةٌ، لكن المشكلة في الجانب الآخر الذي يغفل عنه الكثير، وعند ذلك يرتبط الأمر بالصداقة: أصدقاء الأولاد، وأصدقاء البنات، وقضايا التعامل مع التقنية الحديثة، وقضايا التعامل مع القنوات الفضائية، وخذ من هذه القضايا وما يتعلق بها القيم، وما شابه ذلك.
أثر وجود الصالحين في المجتمع
القصة الأخرى جاءت عند البخاري ومسلمٍ في "صحيحيهما": عن أبي هريرة قال: قال لنا النبي : اشترى رجلٌ من رجلٍ عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّةً فيها ذهبٌ، فقال له الذي اشترى العقار: خُذْ ذهبك، فإني إنما اشتريتُ منك الأرض، يعني: أنا اشتريتُ الأرض، ولم أشترِ منك الذهب الذي فيها، فالجرَّة هذه لك أنت: قال: إنما اشتريتُ منك الأرض، ولم أبتعْ منك الذهب ما اشتريتُ منك الذهب، وقال الآخر: إنما بعتُك الأرض وما فيها.
الآن اختلفوا فيما فيه مصلحةٌ لكل واحدٍ منهما، كل واحدٍ سيُعطي الذهب للآخر، الله على هذه الأمانة!
وقال الذي له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها، تخاصموا الآن.
يقول الحديث: فتحاكما إلى رجلٍ، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ قال أحدُهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جاريةٌ، قال: أنكحوا الغلام هذه الجارية -زوِّجوهما- وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا[9]أخرجه البخاري (3472)، ومسلم (1721).، خذوا من هذه الجرَّة لهذا الزواج السعيد بين الجارية والغلام، والباقي تصدَّقوا به.
فهناك أناسٌ أصحاب أنفسٍ طاهرةٍ في المجتمعات، ووجودهم أمرٌ مهمٌّ جدًّا، يُبرزهم مثل هذا الحديث، ومثل هذه المواقف.
فنحن بحاجةٍ شديدةٍ إلى وجود الصالحين، الأتقياء، الأنقياء، فهؤلاء هم الشامة في البيوت والأُسَر، وهم الشامة في الأحياء، وهم الشامة في المدارس، وهم الشامة في الوظائف، وهم الشامة في المجتمع، فحينما يكثرون أنعم بهم وأكرم، وإلا ستكون الطامَّة الكبرى التي تُمثل الصورة العكسية التي سيكون الكلام على إثرها تَذَمُّرًا وتصويرًا للمجتمع بالخيانة، وأن هذا الأقرب للناس، والأمانة ضعيفةٌ، ونحن في آخر الزمان، إلى آخر الكلام الذي قد يكون جزءٌ منه صحيحًا، وقد يكون جزءٌ منه غير صحيحٍ.
إذن نحتاج أن نوجد من الأجيال مَن يكون مثل هؤلاء الصالحين، الأتقياء، الأنقياء، لا يتمحور حول ذاته.
إشباع الـ"أنا"
نرجع لقضية الذات الـ"أنا" التي انتفخت عند البعض، فشُغله الشاغل: أنا.
فعندما يتربى الابن ويتربى الطفل وتتربى البنت على هذه القضية، ويعيش على أنه يريد حقوقه، لكن لا يسأل عن واجباته التي عليه، فهو يريد أن يُشبع حقوقه، يُشبع الـ"أنا" عنده، يُشبع ذاته، فيتربى على ذلك؛ ستجده أنانيًّا، يطلب حقوقه ربما بطريقةٍ تعسفيةٍ، بل ربما يدَّعي أن له حقوقًا في قضايا معينةٍ، وليس له تلك الحقوق، فهو يريد أن يسلب حقوق الآخرين -قد يصل الأمر إلى هذا المستوى-، أما الواجب الذي عليه فقد لا تجده مُهتمًّا بهذا الأمر!
هذه صورة الرجلين: البائع والمُشتري هي الصورة التي نريدها في المجتمع لإيجاد الأنفس الطاهرة، الأنفس الصالحة، المُتقية، النَّقية: أخفياء، أتقياء، أنقياء، أوصافٌ ثلاثةٌ جميلةٌ: أخفياء، أتقياء، أنقياء، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
فالأمانة قيمةٌ عظيمةٌ جدًّا بلا شكٍّ، فهي تُدهش ألباب الناس: كيف يُمكنه أن يستفيد من هذه الجرَّة؟ والتأول في قضايا الأموال سهلٌ جدًّا، والناس يتأولون في قضايا الأموال: أنا اشتريته وهو يدري. بالتأكيد هو يدري، لا يحتاج أن أسأله!
وأعجب من ذلك حين ذهب هذا إلى الشخص يريد أن يُرجع الجرَّة، وذاك يقول له: أنا بعتُك الأرض وما فيها. ثم يختصمان!
فالقضية هنا في دائرة الحقوق التي لهم، أم الواجبات التي عليهم؟
في دائرة الواجبات التي عليهم، وهذه الدائرة هي التي ينبغي أن نعيش فيها وتعيش الأجيال فيها، فهي بمثابة المستوى الأول قبل الحقوق التي لنا، فالحقوق يمكن أن نتنازل عنها: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
فالحقوق يمكن أن أتنازل عنها، حتى لو شتمني وضربني، أنا حقي تنازلت عنه، حتى لو وقفت بين يدي القاضي، بل عند السياف في القتل يتنازل، هذا حقٌّ، لكن هل يجوز أن أتنازل عن الحقِّ الواجب عليَّ؟ يجوز لي أن أتنازل عن حقِّ زوجتي وأقول: هي راضيةٌ، إن شاء الله؟ وابني هل يجوز لي أن أتنازل عن حقِّه؟
لا يجوز لي أن أتنازل عن الواجب الذي عليَّ.
هؤلاء قضيتهم هي الواجب الذي عليهم؛ فالأول يخاف أن يأخذ الجرَّة وهي ليست من حقه، وأنها من حقِّ الآخر، وأن الواجب عليه أن يُرجعها.
والثاني يقول: هي لك؛ لأنه يخاف أنه قد باعها بما فيها، وأنها حقٌّ له، وواجبٌ عليه أن يُعطيه إياها، فحصلت الخصومة، خصومةٌ بريئةٌ، خصومة الابتسامة العريضة، خصومة الأُلفة والمحبة، خصومة الرحمة والأمانة، خصومة الصدق.
ولذلك الصدق مَنْجَاةٌ، والنبي عندما سُئل: هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون من ذلك[10]أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار- مسند علي" (3/ 135)، (224)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (ص69)، (127)، وقال العراقي: "رواه … Continue reading، هذا الآن خبرٌ، وليس حثًّا على الزنا، فيمكن أن تضعف نفس المؤمن ويزني، وهذا ليس تبريرًا، وإنما هو بيانٌ وتوضيحٌ وتفسيرٌ، وليس أيضًا تقليلًا وتهوينًا للمعصية، فقضية الزنى واضحةٌ جدًّا، وأنها فاحشةٌ.
فقيل له: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون من ذلك، قال: يا نبي الله، هل يكذب المؤمن؟ قال: لا[11]تمام الحديث السابق.، فالمؤمن لا يكذب.
القِيَم الإنسانية المُشتركة
فهذا الكلام الذي قاله النبي يُفسر المشكلة التي يقع فيها البعض فيما يتعلق بغير المسلمين عندما تظهر منهم قِيَمٌ مثل: قِيمة الصدق، قد يكون بعضهم أحسن من المسلمين، وهذا الذي يُفسر هذا الكلام.
فالمعدن الصافي لا يقبل أن يكذب، بغض النظر عن كونه مسلمًا أو كافرًا، قد يزني ويُعربد وهو كافرٌ، ويشرب، لكنه في التعامل صادقٌ معك.
وقد واجهنا عددًا من الذين درَّسوا لنا من الأساتذة في جامعة البترول وغيرها كانوا بهذه المثابة، مما يجعلك تُدْهَش، وفي بعض الأحيان تتمنى أن يكون بعض المسلمين مثلهم.
هذا تفسيرٌ للقضية الفطرية عند الإنسان، بغض النظر عن دينه وما يتعلق به؛ ولذلك الصدق قيمةٌ مشتركةٌ إنسانيةٌ.
واليوم كان عندنا في الكلية لطلاب مُعلمي الصفوف الأولية مقررٌ اسمه: "أخلاقيات التعليم في المملكة العربية السعودية"، يدرسه الطلاب من أجل التأهيل؛ كي يكونوا معلمين، فيُناقش قضية الأخلاقيات.
فكانت محاضرة اليوم ورشَ عملٍ متعلقةً بأخلاقيات المهنة في أدبيات الفكر الإسلامي، أخلاقيات المهنة في أدبيات الفكر العربي، وفي أدبيات الفكر الغربي.
وبعدما كانت المحاضرة مُوزَّعةً عليهم، وصارت نقاشاتٌ وأخذٌ وعطاءٌ، قلت لهم في النهاية: ماذا ترون من الأشياء المشتركة والأشياء المختلفة؟
أما المختلفة فهي واضحةٌ، وهي: المصدرية؛ فالفكر الإسلامي ينطلق من قِيَم الوحي، من الكتاب والسنة، وأولئك ينطلقون من النظرة البشرية التي قد انطلقت من بعض الناس العاقلين، مثل: قضية (كونفوشيوس)، يعني: أنت عندما ترى قيمة العمل عند اليابانيين وشرق آسيا مثلًا، وبعض الجوانب المتعلقة ببعض القِيَم، مثل: الأمانة، وبعض الجوانب، ... إلى آخره، حين ترجع إلى مرجعهم الأخلاقي تجد أنه الرجل الذي اسمه (كونفوشيوس)، ومثل: أصحاب اليونان والإغريق الذين أخذوا من أفلاطون وأرسطو، وما شابه ذلك.
ولا أريد أن أتعمق في هذا، لكن هذا من الأشياء المختلفة، فهناك فرقٌ بين هذا المصدر وهذا المصدر، فإنهم يُصيبون ويُخطئون، لكن قلت لهم: ما الأشياء التي لفت نظركم أنها مُشتركةٌ؟
هناك قِيَمٌ يشترك فيها الجميع: مسلمون وعربٌ وغربيون.
والعرب في الأصل مسلمون، لكن قد يكون بينهم مَن ليس كذلك، والغرب يقولون: "عرب" بحكم أن المُؤلفات عربيةٌ، و"مسلمون" بحكم أن ذلك حقبةٌ من التاريخ، وهذا خطأٌ: أن نجعل الإسلام حقبةٌ من التاريخ، لكن بغض النظر عن ذلك: كلهم يتَّفقون على قِيَمٍ واحدةٍ، فيتكلمون عن المعلم الصادق، ويتكلمون عن المعلم الأمين، ويتكلمون عن المعلم القدوة، ويتكلمون عن المعلم المُنتج، مَن يتكلم عن ذلك؟
كل أصحاب الأفكار من هذه الطوائف الثلاث تكلموا عنها، فهذه قضيةٌ مُشتركةٌ بين البشر.
استشارة الحُكماء
ثم رأي الحكيم واستشارته، فهؤلاء عندما تخاصموا هذه الخصومة الرائعة ذهبوا إلى شخصٍ يحكم بينهم، وهذا من الفطنة والحكمة والذكاء، فمبدأ الاستشارة في حياتنا الاجتماعية والتربوية مهمٌّ جدًّا، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى تربية الأجيال على الاستشارة، هذا من حيث المبدأ.
فالاستشارة مبدأٌ وقِيمةٌ مهمةٌ جدًّا، لكن من المهم أيضًا حُسن اختيار مَن يستشيرونه، وهذه قضيةٌ خطيرةٌ جدًّا اليوم: يستشيرون مَن؟
لقيتُ بعض الشباب في بعض القضايا، ومشكلتهم أنهم يعرضون قضاياهم ومشكلاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي على مجاهيل لا يعرفون مَن هم بالضبط؟!
فأحدهم يستحي أن يتكلم مع والده، أو يتكلم مع أستاذه، أو يتكلم مع مُستشارٍ، مع أنه يُمضي ست ساعاتٍ أو سبع ساعاتٍ يوميًّا في التقنية وما شابه ذلك، ثم يدخل ويعرض فكره الذي يسأل عنه: فكرةً معينةً، أو القضايا النفسية التي يُعاني منها، ... إلى آخره.
فيتكلم مَن هبَّ ودَبَّ بما صحَّ وما لم يصحّ؛ لذلك ينبغي أن نُربي الأجيال على حُسن الاستشارة، بمعنى: جودة اختيار المستشار.
وسبق أن ذكرنا قصة الذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا، وهي أول قصةٍ أخذناها قبل خمس لقاءاتٍ.
وهذا الذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا ذهب أولًا إلى راهبٍ، والراهب صاحب عبادةٍ بلا علمٍ، فقال: لا، ليس لك توبةٌ. هو جاء يريد أن يستشيره، فحين أفتاه بأنه ليس له توبةٌ قتله، وكمَّل به المئة؛ لأنه جنى على نفسه: "جنت على نفسها براقش" كما يقولون.
وحينما ذهب إلى عالمٍ اختلفت الفتوى؛ لاختلاف الشخصية، فقال: ومَن يحول بينه وبين التوبة؟![12]أخرجه البخاري (3470)، ومسلم (2766).، لا أحدَ يمنعك من التوبة، فالتوبة مفتوحةٌ، لكن نصحه، قال: إن أرضك أرض سوءٍ فاتركها، واذهب إلى الأرض الفلانية. ثم مات في الطريق، وحصل ما حصل من الخصومة بين المَلَكين، فكان قضاء الله له أن يكون من أهل الجنة.
فنحتاج أن نُعينهم على حُسن اختيار المستشار.
هذا يقول: هل لك من ولدٍ؟ فما علاقة السؤال بقصة الجَرَّة؟
الحكماء دائمًا تجدهم لا يستعجلون، ما عندهم الإجابة السريعة، ما عندهم الانفعال، ما عندهم اقطعها مباشرةً وخلص الموضوع، تشعر أنه رجلٌ عميقٌ، وصاحب تجربةٍ وخبرةٍ؛ لكونه مارس الحياة.
فالأجيال يحتاجون أن يتلقوا من هؤلاء؛ يتلقون من الكبير الحكمة، فالكبير مارس الحياة وتعب، فيُتلقى منه حتى في أمور الدنيا، وإن لم تأخذ الأجيال في أمور الدنيا من الكبار لا يُفلحون.
فلذلك أتى لهم بهذا الحل العظيم، ووجه هذه القضية، وأرضى الطرفين.
الشاهد هنا أنه حلَّ المشكلة، حلَّ الخصومة، وأرضى الطرفين.
قصة جريج عابد بني إسرائيل
ونختم بهذه القصة الثالثة:
روى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة ، عن النبي قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثةٌ: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجلٌ يُقال له: جُريج، كان يُصلي، فجاءته أمه فدعته، فقال: أُجيبها أو أُصلي؟ فهو يُصلي تطوعًا، وأمه دعته، فبقي مُترددًا: هل يُكمل صلاته، أو يقطع الصلاة ويُجيب أمه؟ فأكمل الصلاة.
هنا تأثرت الأم من الموقف، مع أن الرجل عابدٌ مشهورٌ بعبادته، صاحب ديانةٍ وعبادةٍ وحرصٍ، ولكنه وقع في الفخِّ، وأكبر فخٍّ هو فخ الوالدين، خاصةً الأم، ومَن الذي يملك مشاعر الأم؟!
ولذلك أقول: تعاملنا مع والدينا -أمدَّ الله في عمر الأحياء منهم وغفر للأموات- في قضايا التقنية وما يتعلق بها عندما نكون معهم ونُشْغَل بالجوال، يعني: هذا كان في صلاةٍ، ولم يكن معه جوالٌ، وصارع نفسه، وقد يُصارع صاحب الجوال نفسه أيضًا، وذاك استمر في صلاته فدعت عليه أمه -كما سيأتي معنا الآن-، ألا نخشى أن تدعو علينا أمهاتنا؟!
والله أنا سألتُ الوالدة -الله يحفظها- وقلت لها: يا أمي، هل تتأثرين؟ قالت: من الطبيعي أن أتأثر، فأنا جالسةٌ معكم، وأنتم تفتحون الجوال! وأنا جالسةٌ ما أفعل ذلك، فهل أفتح جوالي أنا أيضًا؟! يعني: الحل أن تُحضروا لي جوالًا حتى أنشغل به مثلما تنشغلون أنتم.
القضية خطيرةٌ، مع أن جُريجًا -جزمًا- لا يريد إهانة أمه أبدًا، فهو عابدٌ، وهل يريد الواحد منا أن يُهين أمه، والعياذ بالله؟!
أبدًا، ومع ذلك لم يسلم جريج من هذه الدعوة التي نخشى أن تُصيبنا بشيءٍ ينطلق من فم أمهاتنا دون أن نشعر.
فقالت: اللهم لا تُمته حتى تُرِيَه وجوه المُومِسات، أعوذ بالله، الدعوة من الأم، وقد اختارت أشد شيءٍ في الفتنة.
وكان جريج في صومعته؛ لأنه فعلًا صاحب عبادةٍ، فالفتنة عليه شديدةٌ، بخلاف (الملخبط) فإنه إذا تعرضت له مُومِسٌ لا ينجو منها غالبًا؛ لكونه (ملخبطًا) أصلًا.
وكان جريج في صومعته، فتعرَّضت له امرأةٌ جاءت هذه المُومِس، واستجاب الله الدعوة، وكلَّمته فأبى، الله حماه ونجَّاه لما عنده من الخير، لكنه كان موقفًا ذاق فيه الحسرات، فعرضت نفسها هذه المُومِس عليه فأبى.
فأتت راعيًا وكلَّمته عرضت عليه نفسها، فأمكنته من نفسها، فوقع الراعي عليها، فقد خططت لذلك، كانت عندها خطتان: إما أن تُغوي جريجًا فيزني بها، ووضعت في بالها أنه سيرفض، فوضعت خطةً ثانيةً، وهي: أن تتهمه إن أتت بولدٍ بأنه منه، فأمكنت نفسها من الراعي، فولدت غلامًا، ثم قالت: من جريج، وهذا الذي تريده هي؛ لكونه لم يفعل بها، فلا حلَّ إلا أن تتهمه.
فأتوه جاءوا إلى صومعته، فهدموا صومعته مباشرةً بمجرد مجيء الإشاعة؛ لشدة غيرتهم.
فكسروا صومعته وأنزلوه جرُّوه من الصومعة، وآذوه، وهذا كله بسبب الدعوة التي دعتها عليه أمه بسبب غفلته وعدم استجابته لها، وكان يُصلي، ما كان يلعب، لكن الله ثبَّته ولم يقع في الفاحشة، وهذا ابتلاءٌ وتمحيصٌ.
وأنزلوه وسبُّوه بالتأكيد لكونهم توقعوا أنه زنى بها.
فتوضأ فما فعل شيئًا إلا أنه قام وتوضأ، تركهم وتوضأ، وصلَّى، ثم أتى الغلام أي: جريج، فقال: مَن أبوك يا غلام؟ قال: الراعي فانكشفت القضية، أنطق الله الغلام الصغير بالحقِّ.
قالوا: نبني لك صومعتك من ذهبٍ؟ الآن هم يريدون أن يُكفِّروا عن خطيئتهم في الاستعجال، قال: لا، إلا من طينٍ[13]أخرجه البخاري (3436)، ومسلم (2550). يعني: ابنوها لكن من طينٍ.
فوائد من قصة جريج
في هذا الحديث مجموعةٌ من الفوائد:
الفائدة الأولى: بيان أثر عقوق الوالدين وترك برِّهما
وهذه قضيةٌ واضحةٌ جدًّا، نحتاج أن ننتبه، ففيها مُنتهى التحذير والتخويف لي ولك، صورة الانشغال بأمرٍ عظيمٍ جدًّا، ألا وهو الصلاة، وصورة الطلب الطبيعي جدًّا، وهو دعوة الأم، وصورة الصراع الذي يحصل، لكن مَن الذي يفوز؟
ثم بعد ذلك دعوة الأم التي نطقت بلسانها، مع ما استقرَّ في قلبها وفي مشاعرها.
وما الذي سيُمسك مشاعر الأم؟ ومَن الذي سيُوجه بوصلة الأم؟ هل نملك نحن مشاعر أمهاتنا؟!
لذلك ينبغي أن نعتني بمشاعر أمهاتنا وآبائنا، فالسعيد مَن وُفِّق إلى ذلك، ويا حظَّ مَن وُفِّق إلى هذا.
وأنا أتكلم الآن وفي عيني مجموعةٌ من الفُضلاء الذين أعرفهم ممن وفَّقهم الله إلى مثل هذا، والله إني لأغبطهم أشد الغبطة لأنهم وُفِّقوا إلى مثل هذا الأمر.
وأنا أذكر والدي -رحمة الله عليه- وهو على فراش الموت، وهو في آخر أيامه، وقبل وفاته بيومٍ يفيق ويرجع، ولسانه -رحمة الله عليه- يتكلم به ويُنادي باسم أحد إخواني، واسم إحدى أخواتي، وأنا أتمنى أن يُنادي اسمي فلا أسمعه، وإنما يقول: فلان، فلانة، فلان، فلانة، فلان، فلانة؛ لأن فلانًا وفلانةً وفَّقهم الله إلى برِّ الوالد، رحمة الله عليه.
فنقول: هنيئًا لمَن وُفِّق إلى مثل ذلك.
فإنجاء الله للعبد بصلاته وتقواه غير الذي عند العابد، الله حافظٌ له هذا الأمر؛ لأنه نجَّاه، تصور لو أنه وقع في هذا الفخ، فقد وقع في الفخ الأول، أعني: عدم الاستجابة لطلب الأم، لكن بعد ذلك حفظه الله من الوقوع في الفخ الآخر: أن يقع في الزنى بتلك المُومِس؛ لأن عنده رصيدًا من الطاعات والعبادات.
فكيف بحال مَن ليس عنده رصيدٌ من الطاعات والعبادات، وهو في التعامل مع الوالدين ضعيفٌ؟! كيف سيكون وضع هذا؟! كيف سيكون وضعه؟!
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، أنا أتوقع لهذا الإنسان أن تكون الخطيئة هي التي تُحيط به، يمشي في هذه الحياة بالخطيئة، ليس مُوَفَّقًا لعملٍ صالحٍ، ولا مُوَفَّقًا في طاعاتٍ وعباداتٍ مع الله ، ولا مُوَفَّقًا في برِّ الوالدين.
الفائدة الثانية: قُدرة الله
وهي قضيةٌ واضحةٌ جدًّا في استنطاق هذا الغلام لإظهار الحق، وهذا من نُصرة الله لجريج، مع أن جريجًا أخطأ، والقضية كلها مبنيةٌ على خطأ جريج في حقِّ أمه، لكن الله عدلٌ، يحفظ الحقَّ لأهله، فأجرى الله الحقَّ على لسان هذا الغلام.
الفائدة الثالثة: المُوازنة بين الأمور
لا شك أن القضية هنا واضحةٌ جدًّا، فينبغي أن تكون عندنا موازنةٌ صحيحةٌ فيما يجب أن نُربي الأجيال عليه: يا ولدي، ما الشيء الذي يجب أن نُقدّمه على الآخر؟ هل نُقدّم الشيء المُستحبّ والنافلة والتطوع على الواجب؟ لا، قدّم الواجب.
بل إن العلماء تكلَّموا في هذه القضية بأنه لا يجوز شرعًا أن يقوم الإنسان في الليل ويُصلي ويقرأ القرآن ويُحيي الليل على حساب صلاة الفجر، فإنه إذا غلب على ظنِّه أن هذا سيُؤدي إلى ضياع صلاة الفجر فهو آثمٌ في صلاته، وفي قراءته، وفي عمله، وفي اجتماعه الذي يريد به الخير للأمة والتطوع؛ لأن الواجب مُقدَّمٌ على المُستحبّ، وعندما تضيع البُوصلة ونجعل المُستحبّ هو الواجب، فالقضية خطيرةٌ جدًّا.
فجُريج يُصارع في المُستحبّ، وهذه فائدة: أهمية العلم والفقه، لا بد أن تظهر الصورة واضحةً؛ فهذه صلاة نفلٍ، ودعاء أمك أو أبيك واجبٌ، فاقطع صلاتك، هذا حكمٌ، لكن خذها أيضًا بأمثلتها الأخرى حتى تكون هناك مُوازنةٌ، فتنبغي التربية على المُوازنة في الحياة بين ما يجب، وما ليس بواجبٍ ولكنه مُستحبٌّ.
فلا يمكن أبدًا بحالٍ من الأحوال أن نُقدّم المُستحبّ على الواجب.
الفائدة الرابعة: عاقبة الابتلاء إلى خيرٍ عند الصبر
عاقبة الابتلاء -لا شكَّ- إلى خيرٍ، وينبغي للإنسان أن يُدرك هذه القضية: أي ابتلاءٍ يبتليك الله به اعلم أن عاقبته خيرٌ إذا وُفِّقْتَ إلى الصبر.
فجُريج أُوذي إيذاءً شديدًا فصبر، بغض النظر عن خطئه الأول، لكن ما حصل بعد ذلك من قِبَل المُومِس، ثم دعوى أن الغلام له، ثم إنزاله من الصومعة وهدمها وسبّه، كل هذا إيذاءٌ، وكل هذا ابتلاءٌ، ولكن صبر.
وسبحان الله العظيم! كل إناءٍ بالذي فيه ينضح، هو عوَّد نفسه الخير والصلاح، ففي الأزمات والابتلاء يتجه إلى ما تعوَّد عليه.
الفائدة الخامسة: الفزع إلى الصلاة
مشكلة جريج مع أمه ابتداءً كانت وهو يُصلي، فهو صاحب عبادةٍ؛ لذلك عندما حصلت الأزمة وأنزلوه وسبُّوه قام وتوضأ وصلَّى، وقد كان النبي إذا حزبه أمرٌ صلَّى[14]أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد في "المسند" (23299)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703).، إذا حزبه أمرٌ: اشتد عليه أمرٌ، ضاق عليه أمرٌ، فكان يتَّجه إلى الصلاة مُباشرةً، فهل هذا السلوك موجودٌ لدينا؟
ما أجمل أن ترى الأجيال ويرى الأبناء آباءهم إذا ضاقت نفوسهم يقول أحدهم: سأقوم وأُصلي ويُخفف الله عليَّ. خاصةً مع الأطفال! فإظهار هذه القضية مع الأطفال مهمٌّ؛ ليفهموا القضية، ويتعوَّدوا عليها.
لا تقل: "هذه عبادةٌ لا أُريد أن يطَّلع عليها أبنائي"؛ لأنك في محل الاقتداء الآن، وهذا طفلٌ أصلًا.
فإظهار هذا الجانب مهمٌّ؛ حتى يشعروا بأن هذا الإنسان بدل أن يذهب يُفكر ويُشغّل السيارة ويَهيم بها، ويشرب الدخان، مثلما يفعل بعض الناس، لماذا تشرب الدخان؟
يقول: (طفشان) وأريد أن (أُفرفش)!
يا أخي، هناك سلوكٌ واضحٌ جدًّا، وهو قضية أن تفزع إلى الصلاة.
وهذا الكلام سهلٌ أن نقوله، ونحن نختبر أنفسنا، وأولكم مُحدِّثكم، يعني: فعلًا نحتاج إلى هذه القضية؛ إلى أن نختبر أنفسنا في وقت الأزمة: لماذا لا نقف عند كل ذلك؟! ولا نحتاج إلى كلامٍ كثيرٍ وتفكيرٍ كثيرٍ، نفعل مثلما فعل جُريج، فجُريج لم يتكلم، سكت، مع أنهم سبُّوه وشتموه، وفعلوا به الأفاعيل، فتوضأ وصلَّى.
فنحن نحتاج إلى هذا المسلك الإيماني في التعامل مع الأزمات والابتلاءات؛ ولذلك يوجد عند البعض ثباتٌ ويقينٌ وحُسن ظنٍّ بالله حينما يُواجه الصِّعاب، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا إذا كان هناك مَعِينٌ إيمانيٌّ تربى عليه، خاصةً حينما يكون هناك من أهل الفجور مَن يريد بك الكيد، وهناك أناسٌ الكيد بالنسبة لهم ليس مجرد أنه جاري يكيد بي، ولا أحدَ سبق أن احتاج مني قضيةً معينةً عندما كنتُ مسؤولًا، هذا قد يكون من الكيد، لكن عندنا ناسٌ يكيدون حتى عبر الشاشة، عبر التقنية، عبر الجوال يكيدون.
الفائدة السادسة: حرص أعداء الدين على تشويه صورة الصالحين
نرجع إلى قضية الأذى الذي أشرنا إليه في البداية: فتنبغي العناية بردِّ كيد هؤلاء، خاصةً حينما يُريدون تشويه صفحة الصالحين، فهؤلاء أرادوا من هذه المُومِس أن تُشوه صفحة جُريج.
وهكذا الأعداء حينما يُريدون إسقاط الرموز الصالحة وتشويه أهل الصلاح؛ لئلا يتبعه الآخرون.
ولذلك ينبغي ألا نكون مثل قوم جريج في العجلة، وقبول الإشاعة، ومساعدة الفُجَّار في كيدهم، فهم لا يقصدون الكيد لجريج، فهم قومه، لكن أصبحوا مُساعدين لمَن يقصدون إيذاءه ومُعاداته، والسبب في ذلك: أنهم تلقفوا هذه الإشاعة من دون تثبتٍ: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا، وفي قراءةٍ صحيحةٍ: فتثبَّتوا، أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6]، سنُصيب قومًا بجهالةٍ إذا لم نتثبَّت، هذا أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا؛ ولذلك هؤلاء شعروا بالندم، وفكَّروا بأعلى مستوًى: "سنُعيد لك الصومعة ذهبًا"، لكن رجع هذا الإنسان لمعدنه فقال: "لا، إلا من طينٍ"؛ ولذلك لا يجوز التسرع في تصديق الإشاعة.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى أن يُوفِّقنا وإياكم لكل خيرٍ.
وما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (652، 2472)، ومسلم (1914). |
---|---|
↑2 | أخرجه مسلم (1914). |
↑3 | أخرجه مسلم (1914). |
↑4 | أخرجه البخاري (2558)، ومسلم (1829). |
↑5 | "تفسير الإمام الشافعي" (3/ 1461). |
↑6 | "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/ 203). |
↑7 | "تفسير السعدي: تيسير الكريم الرحمن" (ص934). |
↑8 | أخرجه الترمذي (2507)، وابن ماجه (4032)، وأحمد في "المسند" (5022)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ رجال الشيخين"، وصحح إسناده أيضًا الشيخ أحمد شاكر في تحقيق "المسند" بالرقم السابق، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6651). |
↑9 | أخرجه البخاري (3472)، ومسلم (1721). |
↑10 | أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار- مسند علي" (3/ 135)، (224)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (ص69)، (127)، وقال العراقي: "رواه ابن عبدالبر في "التمهيد" بسندٍ ضعيفٍ، ورواه ابن أبي الدنيا في "الصمت" مُقتصرًا على الكذب، وجعل السائل أبا الدرداء"، انظر: "تخريج أحاديث إحياء علوم الدين" (4/ 1707)، وقال بوضعه الألباني كما في "السلسلة الضعيفة" (5521). |
↑11 | تمام الحديث السابق. |
↑12 | أخرجه البخاري (3470)، ومسلم (2766). |
↑13 | أخرجه البخاري (3436)، ومسلم (2550). |
↑14 | أخرجه أبو داود (1319)، وأحمد في "المسند" (23299)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (4703). |