المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذا -بحمد الله وتوفيقه- هو اللقاء الحادي عشر حول: دروس تربوية ونفسية من القصص النبوي، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وهي الحلقة التاسعة من المجموعة التاسعة لسلسلة: "التطبيقات التربوية والنفسية من الكتاب والسنة"، نسأل الله العون والتوفيق.
وسنحاول في هذا اللقاء أن نختصر قليلًا؛ نظرًا لوجود ارتباطٍ لازمٍ بعد ذلك، فأعتذر منكم لهذا الاختصار، بارك الله فيكم.
ملك الموت ونبي الله داود
معنا حديثٌ وقصةٌ رواها الإمام أحمد عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: كان داود النبي فيه غيرةٌ شديدةٌ، وكان إذا خرج أُغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحدٌ حتى يرجع، يعني: إذا خرج من البيت أغلق الأبواب، فمن المستحيل أن يدخل أحدٌ إلى بيته حتى يعود النبي داود .
قال: فخرج ذات يومٍ، وغُلِّقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار، فإذا رجلٌ قائمٌ وسط الدار، فقالت لمَن في البيت: مَن أين دخل هذا الرجل الدار، والدار مُغلقةٌ؟! والله لتُفضحنَّ بداود، يعني: إذا أتاكم داود سيفضحكم، يعني: كلمة وعيدٍ وتهديدٍ، والغريب أن الأبواب مُغلقةٌ، ولكن امرأة داود عليه الصلاة والسلام وجدت هذا الرجل داخل الدار!
فجاء داود فإذا الرجل قائمٌ وسط الدار يعني: ما زال موجودًا، فهذا شأنه غريبٌ: موجودٌ في بيت داود، وداود شديد الغيرة! وحين خرج أغلق الأبواب، وانتظر حتى مجيء داود!
فقال له داود: مَن أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا يمتنع مني الحُجَّاب؟ فقال داود: أنت والله ملك الموت، فمرحبًا بأمر الله. فرمل داود مكانه حيث قُبضت روحه حتى فرغ من شأنه يعني: بعدما قبض روح داود فرغ من كل الترتيبات بعد وفاته.
وطلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلي على داود، فأظلَّت عليه الطيرُ حتى أظلمت عليهم الأرض، فقال لها سليمان: اقبضي جناحًا جناحًا.
قال أبو هريرة : يُرينا رسول الله كيف فعلت الطير؟ يعني: رسول الله يُبين لهم كيف فعلت الطير بجناحيها لتُظلّ داود بعدما قُبضت روحه بأمرٍ من سليمان الذي علم منطق الطير؟
وقبض رسول الله ، وغلبت عليه يومئذٍ المصرخية [1]أخرجه أحمد في "المسند" (9432)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه المطلب بن عبدالله بن حنطب، وثقه أبو زرعة وغيره، … Continue reading.
هذه القصة رواها الإمام أحمد، وفيها عدة وقفاتٍ، نستفيد منها فيما يتعلق بقضايانا التربوية والنفسية والأسرية.
الغيرة على الأهل
يظهر جليًّا في هذه القصة ما يتعلق بقضية الغيرة على الأهل والأعراض، وقد كان داود -كما جاء في الحديث- شديد الغيرة، وهذه محمدةٌ: أن يكون الإنسان صاحب غيرةٍ على أهله، وزوجه، وعِرْضه.
وإن الإنسان ليعجب أشد العجب، ويتحسر أشد الحسرة حينما يرى واقع بعض المسلمين فيما يتعلق بهذه القضية، فربما تكون غيرة عنترة بن شداد الجاهلي أفضل من غيرته، فقد كان يقول:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي | حتى يُواري جارتي مأواها[2]"العقد الفريد" (6/ 3)، و"نهاية الأرب في فنون الأدب" (15/ 338). |
وهو جاهلي، تخرج جارته لغرضٍ فيغض طرفه، لا حجابَ ولا سترَ في ذاك الوقت؛ جاهلية، وإنما نخوة العرب، وقيم الشهامة، وهكذا العرب؛ فكيف بالإسلام الذي جاء ليُتمم مكارم الأخلاق: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق[3]أخرجه البزار في "مسنده" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (8949)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1165)، والبيهقي في "السنن … Continue reading؟
تعجب أشد العجب حينما تجد مثل هذا التصرف من عنترة، وتجد عكس ذلك من بعض المسلمين!
تعجب أشد العجب حينما تجد التساهل في قضية الأعراض عند بعض أولياء الأمور!
وأصبحت القضية كما جاء في حديث السفينة: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤذِ مَن فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا[4]أخرجه البخاري (2493)..
بدأت قضايا ضعف الغيرة بقبول ما لا يرضاه الله يُضخّ من خلال أجهزة الإعلام في البيوت، وماذا نتوقع من أجهزة إعلامٍ مُنحرفةٍ يتلقى منها أبناؤنا وبناتنا وأهلينا؟! ثم نقول: بناتنا يتثاقلن الحجاب والستر! نساؤنا يتثاقلن الحجاب والستر! مظاهر نسائنا تغيرت! لسنا كما كنا!
أنا أدعوكم إلى قراءة كتاب: "هل يكذب التاريخ؟" للشيخ عبدالله الداود[5]على هذا الرابط: https://cutt.us/89fDP.، فقد أثبت بالصور حال المرأة الأوروبية كيف كان؟ فقد كانت في حالٍ من الستر، وهي غير مسلمةٍ، وهي السمة الموجودة عند فئات المجتمع في أوروبا فيما يتعلق بقضية ستر الجسم كاملًا، ولا يخرج منها شيءٌ أبدًا، امرأةٌ مُنتقبةٌ، ونقابها كالنقاب الذي جاء فيه التوجيه الشرعي، وليس كنقاب بعض النساء في الفتنة، وهذه صورٌ رأيتها حقيقةً.
ومن يقرأ التاريخ، وخاصةً تاريخ مصر كمثالٍ، والتي كانت هي أوج الثورة العلمانية والتغريبية في بلاد المسلمين، كما قال الشيخ الفاضل القدير الدكتور الطبيب: محمد أحمد إسماعيل المُقدم -وهو مصري- في كتابه الرائع: "عودة الحجاب"، والذي يستقرئ فيه ما كان عليه الحال في مصر؛ يجد أن الحال اليوم يختلف عما كان عليه من قبل.
والذي يستقرئ ما كان عليه الحال في بعض البلدان التي أصبحت مظاهر كشف الوجه فيها هي الأساس يجد أن الأمر لم يكن كذلك، ناهيك بأشياء أخرى لم تكن كذلك.
الستر والعفاف فطرةٌ إنسانيةٌ
إذا كانت المرأة الأوروبية -وهذا هو السائد، وهي ليست مسلمةً- لا يظهر منها شيءٌ، ولا تلفت النظر، بل لا يميل إليها الرجال؛ لأنه ليس هناك شيءٌ يستهوي قلب الرجل، فحجابها حجابٌ فضفاضٌ وواسعٌ، ولا يخرج شيءٌ من جسد المرأة، فماذا يريد الرجل الذي ينظر ذات اليمين وذات الشمال؟ أما ما حصل بعد ذلك فشيءٌ فظيعٌ جدًّا.
بل كانت مثل هدى شعراوي، وهي التي قادت حركة تحرير المرأة، أقصد: تغريب المرأة، وقيل: سُمي ميدان التحرير في مصر بهذا الاسم بسبب تلك الحادثة المتعلقة بحرق حجاب المرأة.
وهذه المرأة -أقصد هدى شعراوي- في المؤتمرات الدولية التي كانت تُخطط لإسقاط المرأة كانت تحضر مُنتقبةً، إذن هذا كان الأمر السائد في واقع النساء آن ذاك.
ولا شك أن هناك فرقًا بين المرأة التي تنتقب على أن ذلك عادةٌ، والعادة قد تتغير، فإذا تغيرت فإنها جاهزةٌ للتغير، وبين التي تتحجب وتنتقب وتتستر عبادةً، فهناك فرقٌ بين الاتجاهين.
وهذا أمرٌ خطيرٌ جدًّا فيما يتعلق بهذا الموضوع، وحينما يكون الأمر عادةً يسهل تغييره، حتى لو كان صحيحًا، ولكن حينما يكون عبادةً يستحيل تغييره، مهما كانت المُؤثرات.
ولذلك تجدون بعض النساء الأوروبيات اللاتي يُسلمن في بيئاتٍ مُنحلةٍ -كفرنسا وغيرها- هن اللاتي يضربن بعد ذلك النموذج في الستر والعفاف، وتُنافس إحداهن النساء المسلمات في ذلك.
والغيرة تكون لدى الرجل؛ لأن المرأة محل العِرْض، فلو كانت غيرة الرجال بالمستوى المطلوب شرعًا لحققنا التخلية والتحلية، ولما سمح الرجل الغيور بالسفور لو كان عنده من غيرة عنترة، فكيف لو كان عنده من الغيرة التي يستقيها من كتاب الله وسنة النبي ؟
عندما يُبَثٌّ على الشاشة ما يكون نقيضًا لما يعلمه أهل الغيرة والعِرْض فإن الواحد منهم لا يأذن بذلك أبدًا، لكن عندما سمح بذلك، وتساهل في ذلك، وأصبحت لغة: هذه أخبارٌ، نريد أن نُرَفِّه عن أنفسنا؛ عمَّت به البلوى، فماذا تتوقع من بنتي وبنتك، وأختي وأختك، وزوجتي وزوجتك؟!
فمَن ابتُليت بهذا عليها أن يكون حالها أن تُحافظ على عِرْضها، والمرأة بطبيعتها ناقصة عقلٍ ودينٍ، عقلها يحتاج إلى سندٍ؛ ولذلك شهادتها نصف شهادة الرجل، وهذا ليس عيبًا فيها، وليس تنقيصًا لها، بل بالعكس؛ هو إدراكٌ لفطرتها وحقيقتها.
أما حين نتعامل معها كالرجل كما يُقال في دعوى المُساواة فهنا يقع الخلل، والله يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، وبعضنا يقول: الذكر كالأنثى!
فهي ناقصة عقلٍ، تحتاج إلى مُساندٍ، فإذا كان المساند ليس صاحب غيرةٍ ستضيع قراراتها، وناقصة دينٍ بسبب ما ينقصها من أمور شأنها في الدين بسبب الحيض وترك الصلوات والصيام؛ فهي لذلك بحاجةٍ إلى تتميم هذا الدين بالالتزام بأوامر الله .
ونحن بحاجةٍ شديدةٍ إلى مراجعة قضية العِفَّة والعِرْض، وحماية العِفَّة والأعراض والنساء، وهذا لا يتأتى إلا من خلال قيمة الغيرة.
ولا نفهم الغيرة بمفهوم الشك، أو الوسواس، فنكون إما مُنفلتين، أو مُوسوسين! لا، هناك منزلةٌ في الوسط، وهي التي يُريدها الله منا، ويُريدها النبي منا، هذه المنزلة التي تُؤكد أن الإنسان يحمي عِرْضَه.
كنت أقول لطلابي: لو كانت جدتك سبعين سنةً، أو ثمانين سنةً، ومُنتقبةٌ، ورأيت أحدًا من الشباب ينظر إليها، وكأنه يتوقع أنها فتاةٌ أو شيءٌ من هذا القبيل، ماذا تصنع به؟ هل تُوافق؟
قال: لا يمكن! وهذا مؤشرٌ من مُؤشرات الغيرة، فنقول له: فكيف توافق على أن ترى محارم الله كمثالٍ؟!
فنحتاج إلى الغيرة، بل إن بعض الحيوانات لديها من الغيرة ما ليس لدى العقلاء، مع كونهم لا يملكون العقل كما يملكه الرجل.
فبعض الحيوانات في مُزاولة القضايا المتعلقة بما لا تليق مُزاولته أمام الناس يُزاولونها بشيءٍ من الستر والتنحي، وهي حيوانات لا عقلَ لها.
ونحن في أمس الحاجة إلى استلهام هذا المعنى من موقف النبي داود ، كيف كانت غيرته شديدةً؟! ولذلك استغربت زوجته أن يكون هناك رجلٌ في الدار، لكن ما كان هذا الرجل رجلًا عاديًّا، وإنما كان ملك الموت، وهكذا فسرنا الحالة الغريبة عندما عرفنا أنه ملك الموت.
ولذلك لا بد من التربية على الغيرة، ويُعجبني شابٌّ ليس مُتدينًا، ولكنه يغار على أخواته، لا يمكن أن يرضى أن يذهبن إلى الأسواق بدون أن يكون هو معهن، ولا يرضى أن تكون الأنظار إليهن، ولا يرضى أن يكون فيهن ما يُلفت نظر الرجال.
فالغيرة مهمةٌ جدًّا، وعندما توجد الغيرة تحصل التخلية والتحلية، وسنبعد عن أعراضنا من النساء -صغيرات وكبيرات- أي مُؤثرٍ سلبيٍّ يُؤثر في العِرْض.
فلا يقبل شخصٌ منا بحالٍ من الأحوال أن يأتي مَن يتلاعب بعواطف زوجته، أو عواطف أخته، أو عواطف بنته، مهما كان شأنه في التدين.
ولو جلس شخصٌ في الشارع يتلاعب بعواطف النساء، فلا أحدَ يقبل هذا الكلام.
طيب، فكيف تضخ الشاشات برامج تتلاعب بعواطف بناتنا وأخواتنا وأهلينا، وكأن شيئًا لم يكن؟! أين الغيرة؟!
فالغيرة تحمي من أن نتلقى ما لا يرضاه الله ، ويُخالف هذه العِفَّة، ويُخالف هذه الغيرة، وتبني أشياء إيجابيةً في قضية الستر والعفاف والحصانة.
فنحن في أمس الحاجة إلى مثل هذا المعنى من مثل هذه القصة.
دور الزوجة في الأسرة
الزوجة هنا كانت قلقةً، واستغربت وجود هذا الرجل، فمَن هذا الرجل؟ مَن الذي يجرؤ على دخول البيت؟ ثم هددت: والله لتُفضحنَّ بداود.
هكذا المرأة تحفظ ستر زوجها، وبيت زوجها، وتحفظ كرامته وأسراره، هكذا تكون المرأة التي هي مُعينةٌ.
والنبي عندما حصل له ما حصل عليه الصلاة والسلام ما وجد مثل خديجة رضي الله عنها وأرضاها في تسليته حين رجع مهمومًا عليه الصلاة والسلام، فتُبين له أن الله لن يخذله، فقالت: كلا والله لا يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق[6]أخرجه البخاري (3، 4953، 6982)، ومسلم (160)..
هذه المرأة المُساندة التي تحفظ كيان الأسرة، وتحفظ عِفَّة الأسرة، وتحفظ أسرار الأسرة، وتحفظ مكانة الأسرة، هذه هي المرأة التي نحن بحاجةٍ إليها.
ولعل هذين الدرسين يكونا أظهر درسين في قصة وفاة النبي داود عليه الصلاة والسلام: الغيرة، ودور المرأة والزوجة.
نبيٌّ يحرق قرية نملٍ
القصة الثانية، وبها نختم:
روى البخاري عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرةٍ، فلدغته نملةٌ، فأمر بجهازه فأُخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأُحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة![7]أخرجه البخاري (3391)، ومسلم (2241)..
يعني: كان يكفي أن تقتل النملة التي لدغتك، فكيف تحرق أمةً كاملةً بسبب نملةٍ؟! وهو نبيٌّ يُستدرك عليه من الله .
وفي روايةٍ عند مسلم: عن أبي هريرة : أن نملةً قرصت نبيًّا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أَنْ قرصتك نملةٌ أهلكتَ أُمَّةً من الأمم تُسبح؟![8]أخرجه مسلم (2241)..
سنقف مع بعض الدروس في هذه القصة القصيرة، وهي من الغرائب جدًّا، ولكننا نستفيد من مثلها في حياتنا العملية.
تسبيح المخلوقات لربها
يقول الله : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
هكذا هو خلق الله ، يُسبح خلقُ الله لله ، ومنه مملكة النمل، وهي من أعجب الممالك.
ومَن أراد أن يطلع على عِظَم خلق الله فلينظر للنمل وما يتعلق به: كيف يكون؟ وكيف حال الملكة والشّغلات؟ وكيف تُبنى المملكة؟ وكيف يخدمون بعضهم البعض؟ وكيف يُقيمون جسرًا حتى يمشي بعضهم على بعضٍ؟ شيءٌ عجيبٌ! وعندما تُشاهد بعض الأفلام المتعلقة بهذا ترى عجبًا.
حتى إن أحد القادة المشاهير في التاريخ عمومًا ممن عُرف بالبأس الشديد -أظنه هولاكو أو تيمورلنك- كان في مغارته، وكان يتأمل في وقت راحته نملةً تصعد ثم تسقط، تصعد ثم تسقط، تصعد ثم تسقط، وكلما صعدت في المرة الثانية والثالثة كان صعودها أكثر من المرة التي قبلها، حتى وصلت إلى هدفها بعد مشقةٍ ومحاولاتٍ عديدةٍ.
فكان يتأمل ويقول: إذا كانت هذه النملة تعبت، وصبرت، وتحملت، وحاولت، وعاودت، ونظرت، وهي نملةٌ! فكيف لا أكون مثلها؟!
فأعطته قوةً في البأس من خلال مدرسة الحياة التي تعيشها هذه النملة، يعني: استفاد من هذه النملة في درس المُثابرة، والتَّحمل، والصبر، وعدم الاستعجال، والحرص على تحقيق الأهداف ولو بعد حينٍ.
فالنملة تُسبح، فما ذنب هذا النمل ليُقتل؟! بل أين الذين يقتلون الناس، ويُعذِّبون الناس، ويحرقون الناس، وهم يُسبحون الله ؟! أين هؤلاء الطواغيت الذين ابتُليت بهم أمة محمدٍ قديمًا وحديثًا؟!
إذا كان هذا أمر النمل، وهذا شأنه؛ نزل فيه الوحي من الله لنبيه ، فكيف بمَن عذَّب بني البشر، وأهلك بني البشر؟!
أسأل الله أن ينتقم من هؤلاء عاجلًا غير آجلٍ.
إذن هذه قضيةٌ من القضايا: فهلا نملة واحدة؟ فما ذنب البقية؟!
هذا درسٌ عظيمٌ جدًّا: أنه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، والبعض يأخذ موقفًا من الأسرة كلها، وحقيقة الأمر أن موقفه مع شخصٍ، مع ربِّ الأسرة، لكن ينقبض من أبنائه، وينقبض من أقاربه، ما ذنب الأبناء والأقارب؟! أنت مشكلتك مع (س) من الناس، فمن الخطأ التعميم، بل من الجور ومن الظلم، وليس من العدل بحالٍ.
فلذلك ينبغي أيضًا التَّنبه لمثل هذا الأمر: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
اطلاع الله على خلقه
والله هو أعلم بهذه الدواب، وما من دابةٍ إلا الله يعلم حالها، والله يعلم أحوالنا.
فقرصة نملةٍ اطلع الله عليها! وحرق قريةٍ من النمل دافع الله عنها! وكان الذي يُستدرك عليه نبيًّا، فما بالك بنا نحن؟! فالله مُطلعٌ علينا، وعلى سرائرنا، وعلى أحوالنا.
فينبغي أن نُدرك أن الله مُطَّلعٌ، ولا يرضى لعباده الظلم، والضيم، والجور بحالٍ من الأحوال.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يتنبه لمثل هذا الأمر، فهذا نبيٌّ ويُستدرك عليه، فمن باب أولى نحن، فعلينا أن نُراجع أنفسنا فيما يتعلق بتحقيق العدل في هذه الحياة.
وكون هذه حيوانات فمن باب أولى علينا أن نُراجع أنفسنا في تعاملنا مع بني البشر؛ حتى نكون من أهل العدل، ونستطيع أن نقوم بالواجب الذي أوجبه الله علينا.
هذا مُختصرٌ لهذه القصة، ولعل فيما ذُكِرَ كفايةً، ونُكمل -إن شاء الله تعالى- في اللقاء القادم مع قصةٍ للنبي سليمان عليه الصلاة والسلام، وغيرها بإذن الله .
فما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يُعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علَّمنا.
هذا، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه أحمد في "المسند" (9432)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه المطلب بن عبدالله بن حنطب، وثقه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال مُحققو المسند: "إسناده ضعيفٌ لانقطاعه". |
---|---|
↑2 | "العقد الفريد" (6/ 3)، و"نهاية الأرب في فنون الأدب" (15/ 338). |
↑3 | أخرجه البزار في "مسنده" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (8949)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1165)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (20782)، وأحمد في "مسنده" (8952) بلفظ: «إنما بُعثت لأُتمم صالح الأخلاق»، وقال مُحققوه: "صحيحٌ، وهذا إسنادٌ قويٌّ، رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عجلان، فقد روى له مسلمٌ متابعةً، وهو قوي الحديث"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (45). |
↑4 | أخرجه البخاري (2493). |
↑5 | على هذا الرابط: https://cutt.us/89fDP. |
↑6 | أخرجه البخاري (3، 4953، 6982)، ومسلم (160). |
↑7 | أخرجه البخاري (3391)، ومسلم (2241). |
↑8 | أخرجه مسلم (2241). |