المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: نسأل الله أن يُوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن يمُنَّ علينا وعليكم بالعلم النافع والعمل الصالح.
كما نسأله تعالى أن يُخفف عن إخواننا في سوريا عاجلًا غير آجلٍ، اللهم آمين.
هذا هو اللقاء الحادي عشر -قبل الأخير- في سلسلة "الوقفات التربوية واللمسات النفسية"، ومع المعلم الرابع حول الدوافع والحوافز وأثرها في السلوك الإنساني.
كنا قد بدأنا الأسبوع الماضي الحديث حول المستوى العضوي والمستوى الدنيوي، وبالنسبة لقضية الدوافع فقد ذكرنا بعض التطبيقات التي تحتاجها الأسرة، وكذلك غير الأسرة فيما يتعلق بقضية ما يدفع الإنسان ليعمل عملًا في هذه الحياة، وهذه تُسمَّى: الدوافع التي تدفع الإنسان بحيث يعمل العمل المقصود، العمل الإيجابي، العمل الطيب، ويستمر هذا العمل ويزداد منه.
فطبيعة النفس البشرية أيها الإخوان أنها تتأثر وتندفع من خلال هذه الحوافز.
وقد وقفنا عند المستوى الأُخروي، وهو المستوى الثالث والأخير من المستويات المُتعلقة بالدَّوافع والحوافز، وهذا المستوى -كما ذكرنا سابقًا- لُبُّ الدوافع، ولُبُّ الحوافز، والذي ينتمي لهذا الدين.
أيها الإخوة، وأيتها الأخوات، الأسرة التي تريد السعادة في هذه الحياة إذا لم يكن دافع العمل عندها دافعًا أُخرويًّا فماذا سيكون؟
وذكرنا لكم سابقًا بعض المُؤشرات في مجتمعنا حول الاهتمامات المادية، وأثرها على العلاقة بين الزوجين، والعلاقة بين الآباء والأبناء، والعلاقة بين المعلمين والطلاب، وغير ذلك.
وأثبتت الدراسات أن هناك إشكاليةً في الدوافع الأخروية عندنا نحن المسلمين -للأسف الشديد-، والتي ينبغي أن يكون المنهج الإسلامي هو المُهيمن على مُستلزمات الدوافع الأُخروية، فهي التي تضبط الدوافع الدنيوية، وهي التي تضبط الدوافع العضوية، فالإنسان يأكل، لكن لا يأكل إلا حلالًا، ويترفه ويُسلي نفسه، لكن في الحلال، ويستطلع ويكتشف، لكن في الحلال.
الدافع الأخروي
فالدافع الأخروي الذي أتحدث عنه اليوم، ثم أنطلق إلى بعض أسئلتكم -إن شاء الله تعالى- هو أهم دافعٍ فيما يتعلق بالسلوك الإنساني.
فالإنسان يعمل حتى يطلب الأجر والمثوبة من الله، يعمل حتى تحصل له أنواع النعيم الأخروي في الجنة، يسعى ويعمل لينجو من أنواع العقاب في الآخرة.
هذه هي الدوافع الأخروية، وهذا هو المستوى الأخروي، يتعلق في عمله بما عند الله ، وليس بالشيء الذي يجده هنا في الدنيا، وإنما ما سيجده في الآخرة من تحصيل الثواب، والنجاة من العقاب، والخوف مما عند الله من العقوبة، وطلب المثوبة والنعيم من ربِّ العالمين.
لذلك تحدث العلماء عن الإيمان، وتحدثوا عن الإنسان، وأنه مثل الطير، له رأسٌ وجناحان؛ فرأس الإنسان: محبة الله ، والجناحان: الخوف والرجاء، ما يستقيم الطائر بدون رأسٍ جزمًا، فإذا لم يوجد الرأس لم يوجد الطائر، ولا يستقيم الطائر، ويسير بشكلٍ سليمٍ، ويطير بطريقةٍ سليمةٍ؛ إذا كان الجناحان غير مُستويان، أو على وضعٍ صحيحٍ.
هكذا يكون الإنسان في حياته، وهكذا تكون المرأة في حياتها، وهكذا تكون الأسرة في حياتها، والشباب ذكورًا وإناثًا، والأبناء الصغار يُربون على ذلك؛ يربون على أن يُحبوا الله ، ويرجون ما عند الله، ويخافون عذاب الله.
هذا هو الدافع الأخروي، وهذا سبب تفوق مَن تفوَّق في الدافع الأخروي؛ أن سلوكه كان فيه تقديم محابِّ الله على محابِّ النفس، فإذا كانت نفسي ترغب في فعل شيءٍ ما، لكن الله لا يُحبه، والله يريد أن أفعل شيئًا آخر، حتى لو كان ثقيلًا على نفسي، فيبدأ الصراع، وحين يأتي الدافع الأُخروي يحلُّ لك هذا الصراع الفاشل في الدافع الأخروي، الفاشل في الحافز الأخروي، يرسب في الاختبار.
وقد ذكرنا سابقًا قول عمر بن الخطاب في قول الله : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3]، أن هؤلاء الذين تميل نفوسهم إلى المعصية ولا يفعلونها، لكن نفوسهم تُحدِّثهم، كانوا يسمعون الأغاني، وتركوا ذلك، ثم بدأت نفوسهم تُحدثهم أن تسمع الأغاني، أو سمعت في الطريق فتذكرت، لكن يُجاهد نفسه، هؤلاء امتحن الله قلوبهم للتقوى؛ لأنهم يتركون هذا الأمر مع ميل النفس له؛ قُربةً لله .
وهذا الذي حصَّن يوسف من الوقوع في الفاحشة، أو أن يتأثر بهذا الموقف مع امرأة العزيز، فقال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، مَن الذي يقول هذا الكلام؟ لا يقوله إلا الذي يُفكر في الآخرة.
فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى هذا الدافع، وسنعرف بعد قليلٍ أثر هذا الدافع، وما يتميز به الدافع الأخروي عن غيره من الدوافع، فأصحاب الماديات ما يصلح لهم هذا الدافع، وهذه مشكلةٌ، لماذا؟ لأن هذا الدافع مُرتبطٌ بشيءٍ لا يُرى، يعني: هو يجتهد ويعمل ويتعب حتى يحصل الأجر يوم القيامة، يجتهد ويتعب حتى يجد النعيم يوم القيامة، يجتهد ويتعب حتى يقي نفسه من عذاب جهنم.
لذلك قيل للإمام أحمد: لِمَ تُتعب نفسك؟! يا الله! قال: راحتها أُريد[1]"الفوائد" لابن القيم (ص42).، لماذا تُتعب نفسك يا إمام في هذه الدنيا بالدروس وطلب العلم والعبادة والدعوة؟ قال: "راحتها أريد"، راحتها أين؟ في الآخرة، في دار المقام، في دار النعيم المُستمر، فمَن أمن في الدنيا لم يأمن في الآخرة، ومَن خاف في الدنيا أمن في الآخرة، هذه القضية مهمةٌ جدًّا، هذه المُعادلة التربوية النفسية لربط هذه النفوس بالدافع الأُخروي.
خصائص الدافع الأخروي
هنا بعض الخصائص وبعض الوقفات مع هذا الدافع الأخروي نريد أن نُشير إليها:
مناسبته للكبار أكثر من الصِّغار
أول قضيةٍ: أنه دافعٌ يتأكد جدًّا مع الكبار أكثر من الصِّغار، بمعنى: أن الكبار عندهم الإدراك والنظر، وعندهم المستوى العقلي أكثر من الصغار، فإقناعهم وإدراكهم لهذه المعاني الأُخروية أكثر من الصغير؛ لذلك ينبغي أن يقلَّ مستوى الحوافز التي ذكرناها من قبل عند الكبار: الحوافز الدنيوية، والحوافز المادية والمعنوية، وتضخم وتزداد عندهم الحوافز الأُخروية.
والله عيبٌ يا جماعة، نحن مثل أسناننا، الواحد منا يُفكر فقط في كيفية الحصول على المال حتى يعمل، ولا يشتغل إلا لأجل الحافز!
أنا ما أُنكر هذا، فحتى الكبار يحتاجون للحافز المادي والحافز المعنوي، فيحتاج الواحد أن يُقال له: أحسنتَ، جزاك الله خيرًا. ويحتاج أن يدخل مسابقةً مثلًا أو شيئًا من هذا القبيل حتى تحصل له جائزةٌ، لكن مع الذين أصبحوا بعمرٍ أكبر ونُضجٍ عقليٍّ أكبر تزيد الحاجة إلى الربط بالآخرة، هذا حافزٌ مهمٌّ جدًّا، فيتميز هذا في الكبار أكثر من الصغار.
وليس قصدنا هنا أن الصغار لا يُربون على الدافع الأخروي، والبعض عنده -للأسف- شطحٌ في هذا الجانب، يقول: كيف أقول للصغير: الله يُدخلك الجنة، أو أُعلِّمه علامات الساعة الكبرى، أو شيئًا من هذا القبيل؛ حتى يتعلق بالآخرة؟!
الصحابة كانوا يُقرئون أبناءهم ويُعلِّمونهم علامات الساعة؛ حتى ترتبط نفوسهم بأمرٍ غير الدنيا.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا | على ما كان عوَّده أبوه[2]انظر: "السحر الحلال في الحكم والأمثال" للهاشمي (ص112). |
وإذا قلنا للصغير كلما رأيناه: سوف تُصبح دكتورًا، أو مهندسًا، وتأتيك الأموال، ويأتيك كل شيءٍ، وعاش هذا الجو من الحوافز المادية التي ذكرناها سابقًا، وهو يحتاجها، فالصغير خاصةً يحتاج إلى الحوافز المادية، لكن لا بد أيضًا أن يُربى على الدوافع الأخروية، دعه يُدرك أن هناك شيئًا اسمه: جنة، وهو لا يُدركها مثلما يُدركها الكبير، لكن يتربى على ذلك، مثلما قال الرسول لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما: يا غلام، ولم يتجاوز تسع سنوات، إني أُعلِّمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك[3]أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5302)..
لماذا يُرْهَق الطفل الصغير بمثل هذه الأشياء؟
لو جئنا بنظرية بعض الناس المُتأثرين بالنظريات الغربية، أو الذين عندهم الفكر غير الديني أو الإسلامي في تعامُلهم مع النفس البشرية، كما هو موجودٌ -للأسف- عندنا، ويقول لك أحدهم: لماذا يُرْهَق الطفل الصغير بمثل هذه الأشياء؟
طيب، الرسول علَّم الغلام الصغير كلماتٍ عظيمةً جدًّا، الكبار -ذكورًا وإناثًا- يحتاجون للوقوف عندها: إني أُعلِّمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك معادلةٌ، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة ...[4]أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5302)..
فالطفل عنده أساسٌ في الجانب العقلي والانفعالي والاجتماعي، لكن يبدأ في النمو عنده من خلال التلقي، ومن خلال التربية، ومن ذلك النمو العقلي، فالإدراك عنده في مثل هذا الأمر يأتي شيئًا فشيئًا.
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيءٍ لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجَفَّت الصُّحُف[5]أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5302)..
لو رُبِّي أبناؤنا وأطفالنا على هذا، وكان ما يتلقونه من الإعلام بإرادتنا نحن، فأتينا لهم بالإعلام المُحافظ؛ حتى يتلقوا هذه المعاني؛ لوجدنا مُراهقين وشبابًا ليس همُّهم الهمَّ الدنيوي والمادي، إذا كانت الدوافع الأخروية هي التي تعتمل في نفوسهم، وتؤثر في سلوكياتهم: ذكورًا وإناثًا.
معلمة تفاجأ بأن كثيرًا من طالباتها لا يُصلين!
والله يا إخواني اتصلت بي إحدى الأخوات، وهي معلمةٌ في إحدى المراحل التعليمية، مرحلة سنِّ المُراهقة، تقول: ماذا أفعل؟ دُهشتُ عندما اكتشفتُ أن عددًا كبيرًا من الطالبات اللاتي أُدرس لهن لا يُصلين!
لا تقول هذا اعتباطًا، تقول هذا بعدما جلست مع فلانة وفلانة، وإذا بالقضية أصبحت: نعم، أنا لا أُصلي، أنا لا أُصلي، أنا لا أُصلي. وإحداهن تقول: أنا لا أصوم في رمضان؛ لأني لا أُصلي، يعني: ما شاء الله! أفتت نفسها. تقول: ما دمتُ لا أُصلي فالله لا يقبل مني الصيام؛ فأنا لا أصوم!
تقول: ماذا نفعل؟ دهشتُ، تقول: فوجئتُ بأناسٍ نشأوا على مناهج شرعيةٍ وبيئةٍ!
صحيحٌ أن الانفتاح مُؤثرٌ، وهي في مدرسةٍ فيها انفتاحٌ، تقول: لكن حين يصل الأمر إلى هذا المستوى، علامَ يدل ذلك؟ ماذا يُعطيك؟
وينشأ ناشئ الفتيان فينا | على ما كان عوَّده أبوه[6]انظر: "السحر الحلال في الحكم والأمثال" للهاشمي (ص112). |
أين التربية الإيمانية التي قلناها سابقًا؟! أين الدوافع الأخروية المربوطة بالأجر عند الله، والخوف من عقاب الله ؟! أين هي؟!
وهي تُدرك وتعرف، وقد أخذت في المناهج: أنها لو ماتت وهي مُكلَّفةٌ ولم تُصلِّ أنها -والعياذ بالله- كافرةٌ، ومع ذلك لا تُصلي! هذا الأمر هنا في هذا البلد عجيبٌ.
إذن أيها الإخوة عندنا إشكاليةٌ في معادلة الدوافع والحوافز، فنحتاج أن نُراجعها في تربية أنفسنا، وتربية أبنائنا وبناتنا، وتربية الطلاب والمجتمع عمومًا.
هذه النقطة الأولى: أنه يتناسب مع كبار الناس أكثر من صغارهم، مع أهمية توجيه الصِّغار.
الدوافع الأخروية تُنْشِئ الاندفاع الذاتي
النقطة الثانية: أن الدوافع الأخروية أيها الأحبة تُنْشِئ اندفاعًا ذاتيًّا عند الإنسان في جميع أحواله، فيُصبح عنده اندفاعٌ بذاته، لا ينتظر أحدًا ليُؤثر عليه، فلو كان بمفرده لوجدتَه على الهدى والصراط المُستقيم، ولو كان في العلن أمام الناس، وفي الخفاء خلف الناس، هو هذا الذي يتقي الله فعلًا، لماذا؟
لأن الدافع الأُخروي عنده قويٌّ، أما مَن كان الدافع الأُخروي عنده ضعيفًا، فإنك تجده أمام الناس لطيفًا، ظريفًا، مُحافظًا، لكنه إذا خلا بمحارم الله انتهكها، فتجده مع أسرته كأنه شخصٌ آخر، تجد له صورتين وشخصيتين، لكن عند رب العالمين ما يصلح هذا الكلام يا جماعة، هذا يمشي على الناس، ويمشي على المسؤول، ويمشي على المدير، ويمشي على الملك، ويمشي على العالِم، ويمشي على الأب، ويمشي على الابن، ويمشي على البشر، لكن هذا الكلام لا يمشي على رب العالمين أبدًا.
فإذا عززنا هذا الأمر في أبنائنا سنجعل لهم فرصةً ثمينةً جدًّا، ولأنفسنا أن يكون دافعنا للعمل الذاتي دائمًا: أنا عندي هذه الانطلاقة الذاتية في أن أعمل الخيرات، وأن ألتزم بالأخلاق والقيم، وأن أفعل أشياء ربما لا يعلم عنها إلا الله ، فيكون ظاهري مثل باطني، ويكون علني مثل سرِّي، وحالتي الخاصة مثل حالتي العامَّة بشكلٍ عامٍّ.
ولا شك أن الإنسان يتأثر بالآخرين في الناحية الإيجابية أكثر إذا كان حريصًا على الجانب الإيجابي، لكن لا يعني هذا أنه إذا ذهب بمُفرده أصبح شخصًا آخر، فالدافع الأُخروي يبقى مع الإنسان، فيجعله مُندفعًا؛ لأنه يُفكر في الجنة، ويُفكر في الآخرة، ويُفكر في رضى الله ، ويخاف: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَاي [يوسف:23]، يخاف أن تُنتهك حُرمات الله .
يقول النبي : يأتي أقوامٌ من أمتي بحسناتٍ كجبال تِهامة بيضاء، يجعلها الله هباءً منثورًا.
تصور واحدًا عنده مثل جبال تهامة، أنتم تعرفون أن جبال تهامة ضخمةٌ جدًّا، عنده من الحسنات مثل جبال تهامة، فيجعلها الله هباءً منثورًا.
قال ثوبان: صِفهم لنا يا رسول الله. جَلِّهم لنا، أعطنا مُواصفاتهم، قال: هم منكم، ويُصلون كما تُصلون، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها[7]أخرجه ابن ماجه في "سننه" (4245)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5026).، فالدافع الأخروي عند هؤلاء ضعيفٌ.
التربية من خلال الدوافع الأُخروية
إذا أردتَ أيها الأب أن تطمئن كيف يتعامل ابنك مع التقنية إذا صار بمُفرده، ولا يدخل في أمورٍ لا يريدها الله ؟ فعليك بتربيته من خلال الدوافع الأخروية، أما أن تُربيه على الدوافع الدنيوية، بينما الأخروية يأخذها في الشارع، أو في المدرسة، والأسرة ضعيفةٌ في هذا الجانب، فلا شك أنه سيُصبح مُشوشًا في هذه الحياة.
ولم تعد القضية اليوم مُتعلقةً بالصغار فقط، بل بالشباب أيضا، حتى كبار السن -ذكورًا وإناثًا- يخترقون محارم الله، علموا أم لم يعلموا، وهذا الكلام موجودٌ، وكلما زادت الفتنة بالمُثيرات -مثل: التقنية اليوم- كلما انتُهكت المحارم، مثل: هذا الشايب صاحب الخمس والثمانين سنةً، أو الثمانين سنةً، فقد قال لأسرته: لا يأتيني أحدٌ اليوم؛ لأنه جالسٌ يُتابع الحلقة رقم مئة وثلاثٍ وعشرين في المسلسل التركي! ذاك الذي دوَّخ عقول الناس، دوَّخ عقل صاحب الخمس والثمانين سنةً، فكيف الحال بابن الثلاث عشرة، أو الخمس عشرة: ذكورًا وإناثًا؟! كيف سيكون المُنتج؟!
وأصحاب الدافع الأخروي لا يمكن أن تنظر أعينهم إلى مثل هذه الأشياء، ولا يمكن أن تقعد اهتماماتهم ونفوسهم، وإذا -لا سمح الله- صار لأحدهم ظرفٌ اتصل قائلًا: سجِّلوها بـ(الفيديو)، لا تتركوها، والصلوات سجّلها بكذا، ودعوا هذه فهي ملحوقةٌ، إن شاء الله تعالى.
فصاحب الدافع الأخروي يعرف ماذا يفعل؟ وماذا يَذَر؟ وماذا يُقبل عليه؟ وماذا يترك؟
هذه القضية مهمةٌ جدًّا يا جماعة.
أين أُسرنا من التربية على الدوافع الأخروية؟
لذلك لا بد أن نسأل أنفسنا السؤال الذي قلناه في المعلم الأول المتعلق بالجانب الإيماني، فنقول: أين أُسرنا اليوم أيها الإخوة والأخوات من التحفيز والتربية على الدوافع الأخروية؟!
أيضًا أقول نفس الكلام الذي قلتُه من قبل: لنكن صُرحاء، نحن عندنا ثقافة المُجاملات مع أنفسنا، ومع غيرنا، فثقافة المُجاملات كبيرةٌ في مجتمعنا هذا، وقد نُجامل في أمورٍ لا تستحق ذلك، نقول: نحن أحسن من غيرنا، نحن أفضل من غيرنا، إن شاء الله، أمورنا ممتازةٌ. وهذه كلها أُمنياتٌ، لكن قد يكون الواقع ليس كذلك.
الرسول لم يقل لك: أنت في القضايا الأخروية أحسن من غيرك. وإنما أرشد إلى النظر لمَن هو خيرٌ منك؛ حتى تصير مثله، وانظر إلى واقعك أنت، وانظر إلى واقعي أنا، هل نحن مُقاربون؟! هل نحن قريبون أم بعيدون؟!
الدافع الأخروي يتميز بامتداده واستمراره
النقطة الثالثة من خصائص المستوى الأخروي والدافع الأخروي الذي يُعين على عمل سلوكٍ أيًّا كان: معرفيًّا، أو وجدانيًّا، أو مهاريًّا في الحياة: أن هذا الدافع له مدًى واسعٌ، لا يقف.
فمثلًا: الهدية الدنيوية بمجرد أن يأخذها صاحبُها تنتهي، أخذ عصيرًا فشربه، فانتهى، أعطوه ساعةً جائزةً فخربت، كم جاء من هديةٍ يا شيخ؟ الآن عندك هدايا خربةٌ، صحيحٌ أم لا؟ تحصل عندك هدايا كثيرةٌ خربةٌ.
أما في الدافع الأخروي فلا يوجد شيءٌ اسمه: خربان، ولا شيءٌ اسمه: انتهى، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشرٍ[8]أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824).، فهو ممتدٌّ؛ ولذلك مجاله واسعٌ، وعندئذٍ سأفعل سلوكًا واسعًا، كبيرًا، لا يكفي أن أقول: الحمد لله، أنا تصدقتُ قبل شهرٍ بريالٍ، ما شاء الله عليَّ وعليك! يعني: قبل شهرٍ تصدق بريالٍ، ونحن نقول لك في غير جلسةٍ: تصدق كل يومٍ، فقد سبق درهمٌ مئة ألف درهمٍ.
ويقول البعض: الحمد لله، أنا على الأقل أُصلي في المسجد، لكني ما أُدرك إلا الركعة الأخيرة.
طيب، غيرك يُصلي في المسجد ويُدرك كل الركعات.
والبعض يقول: الحمد لله، أنا أُصلي في البيت، أحسن من غيري الذي ما يُصلي.
طيب، هناك مَن يُصلي في المسجد، وهكذا.
فعلينا ألا نأخذ الجانب الأدنى يا جماعة في هذه القضايا، بل نأخذ الجانب الأعلى، خاصةً إذا كانت قضية واجباتٍ انتهينا منها.
فهذا الأمر مستمرٌّ، والحافز الأخروي يجعل الواحد يشعر بأشياء ضخمةٍ جدًّا عنده؛ فابتسامته صدقةٌ، إذن أُلزم نفسي بالابتسامة، وعندئذٍ ستكون علاقتي بالناس ممتازةً؛ لأن الابتسامة مفتاح القلوب، وأنا أريد أن أكسب أجرًا، لكن الذي ما عنده أجرٌ، عنده مصلحةٌ، إذا احتاج شيئًا من المدير كشَّر في وجهه، وإذا ما احتاج ما ينظر في وجهه، ولا يريد أن يراه، أما صاحب الدافع الأخروي فهو يبتسم، وربما ابتسم أمام مَن ظلمه.
إذن مدى تطبيق السلوك واسعٌ باتساع هذا الخير العميم الموجود الذي لا عينٌ رأته، ولا أذنٌ سمعته، ولا خطر على قلب بشرٍ.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم السعادة في الدنيا والآخرة.
تطبيقاتٌ على الدوافع الأُخروية
انظروا يا إخواني ماذا قال الله ؟
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، ماذا قال الله بعد ذلك؟ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]، هذه حوافز دنيويةٌ، وهو النوع الثاني الذي ذكرناه الأسبوع الماضي.
ثم قال الله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، هذا هو الحافز والدافع الأخروي.
ويقول الله : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ماذا قال بعد ذلك؟ يَبْتَغُونَ فَضْلًا، فالدافع الأخروي: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8].
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ماذا يُحبون؟ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، هذا هو الدافع الأخروي، يُؤْثِر غيرَه على نفسه.
هذه الأخلاقيات ما تكون في الدوافع الدنيوية، مستحيلٌ، فالذي يُركز على الدافع الدنيوي يستحيل أن يُضحي بالدنيا من أجل صاحبه، لكن صاحب الدافع الأخروي يمكن أن يفعل ذلك؛ لأن الدافع الأخروي عنده أعظم من الدافع الدنيوي؛ ولأنه يعلم أن هناك مرتبةً اسمها: الإحسان، ومَن أحسن إلى الناس أحسن الله إليه.
جاء في الحديث القدسي: قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ[9]أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824)..
ويقول النبي : مَن التمس رضا الله هذا دافعٌ أُخرويٌّ.
طيب، أنا أريد رضا الله ، سيغضب مني الناس: والدي سيغضب مني، وأولادي سيغضبون مني، وزوجتي ستغضب مني، وزوجي سيغضب مني، وأستاذي سيغضب مني، ومديري سيغضب مني، لماذا يغضبون إذا كان الأمر في رضا الله؟!
مَن التمس رضا الله بسخط الناس انظر المكافأة التي سينالها بسبب الدافع الأخروي: رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس يعني: ما دامت زوجتك قد غضبت، وأنت قدَّمتَ رضا الله على رضاها، فإنها سترضى عنك، والله قبل ذلك راضٍ عنك.
فهذه معادلةٌ نحن في أمس الحاجة إليها، فإننا نفعل سلوكياتٍ في أُسرنا، ونفعل سلوكياتٍ مع أبنائنا، ومع زوجاتنا، ومع المجتمع، ومع أصدقائنا، ومع طلابنا ... إلى آخره، وذلك حتى نُرضيهم، ولو كان الله لا يرضا ذلك؛ فلا نجد البركة، بالعكس، نجد السخط، وكما يقول الرسول : ومَن التمس رضا الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس[10]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (276)..
إذن هناك مُعادلتان، وهناك نتيجتان، لا ثالثَ لهما، اسمحوا لي أن أقول لكم: لا أنا، ولا أنتم، ولا أي أحدٍ يستطيع أن يُنتج نتيجةً ثالثةً، فالرسول أعطانا نتيجتين فقط: الذي يلتمس رضا الله بسخط الناس، وهناك أناسٌ يلتمسون رضا الله برضا الناس، انتهينا، هذه واضحةٌ، لكن الكلام في أن رضا الله يُخالف رضا الناس، فما احتمالاته؟
احتمالان: أن نُقدم رضا الله على رضا الناس؛ لأنهما مُتخالفان، أما إذا كانا متَّفقين فأمرهما سهلٌ، انتهينا، لكن إذا كانا مُتخالفين فإننا نُقدم رضا الله، عندئذٍ سيرضى الله عني، وسيجعل الناس يرضون عني؛ لأني صاحب مبدأ، صاحب قلبٍ مُتعلقٍ بالله ، لكن إذا ضعُفت نفسي، وقدمت رضا الناس على رضا الله؛ سيسخط الله عليَّ، وسيُسخط عليَّ الناس.
فنحن وأبناؤنا يا إخوان بأمس الحاجة إلى الدافع الأخروي.
هذا ما يتعلق بقضية المعلم الرابع تقريبًا، وفيما يتعلق بالدوافع في بعض الأمور ربما نأتي إليها في الأسبوع القادم واللقاء الأخير -إن شاء الله تعالى- في موضوع الدوافع، ولا أُحب أن أُكملها الآن، وسنأخذ -إذا يسر الله وكان في الوقت بركةٌ- تطبيقًا كما قلتُ لكم، قصةً للنبي نُطبق عليها المعالم الأربع: الإيمان، والقدوة، والإنسان، والحوافز، ونُجيب عن الأسئلة المُتبقية، بإذن الله .
نرجو أن يتسع اللقاء الأخير في الأسبوع القادم -الثاني عشر- لكل هذا، إن شاء الله تعالى.
الإجابة عن الأسئلة
سنأخذ فيما تبقى من وقتٍ مجموعةً من الأسئلة، قُرابة ستة أسئلة وردت في الأسبوع الماضي.
أفضل كتابٍ في التربية يناسب متوسطي الثقافة
يقول السائل: ما أفضل كتابٍ في التربية يُمكن للمرأة المُتوسطة الثقافة أن تستفيد منه أو (سي دي) مثلًا، علمًا بأن أولادها بين الابتدائي والمُتوسط؟
ما زلتُ أُؤكد -وقلتُ لكم هذا أكثر من مرةٍ- على أهمية "سلسلة التربية الرشيدة" للدكتور عبدالكريم بكار، فمستوى الصياغة مناسبٌ جدًّا، وأرى أنها مناسبةٌ لهذا السائل، بالنسبة للمرأة مُتوسطة الثقافة، فهي سلسلةٌ ليست مُعقدةً، أو ثقيلة العبارات، بالعكس، تتميز بسهولة العبارة، والأمثلة الواقعية التي نُعايشها اليوم في أُسرنا، وما تخلو صفحاتها من أمثلةٍ من خلال قلمه السَّيَّال، حفظه الله ووفَّقه.
و"سلسلة التربية الرشيدة" ستة أجزاء:
الكتاب الأول يتحدث عن مسار الأسرة وتوجيه الأسرة.
والكتاب الثاني يتحدث عن قواعد في تربية الأبناء، عشر قواعد.
والكتاب الثالث يتكلم عن الحوار والتواصل الأُسري.
والكتاب الرابع يدور الحديث فيه عن طفلٍ يقرأ.
والكتاب الخامس عن المُراهق كيف أتعامل معه؟
والكتاب السادس والأخير عن مُشكلات الطفولة، وقد وقف عند عشر مشكلات، وحلَّ هذه المشكلات.
فهذه الأجزاء الستة أرى أنها رائعةٌ وتفي بمرحلة الطفولة والمُراهقة، إضافةً إلى أساسياتٍ في التربية يحتاجها كل واحدٍ في الأسرة، بل حتى المُعلمين وغيرهم يستفيدون جدًّا منها؛ لذلك أرى أنها من أنفس الكتب الصغيرة الرائعة والمهمة، ولو درسها الأب مع الأم، وتناقشا فيها، ودرسها المُعلمون، ودرسها المجتمع عمومًا؛ أتوقع وجود فائدةٍ عظيمةٍ جدًّا فيها.
أيضًا هناك كتابٌ مُؤلفته امرأةٌ، وعباراته سهلةٌ في ظني، ويُناسب المرأة، وقد تميزت الرسالة بذكر الشواهد من القرآن والسنة بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، وهي رسالةٌ للأستاذة حنان الجهني بعنوان: "الدور التربوي للوالدين في تربية الفتاة المسلمة"، في جزأين: الجزء الأول: الطفولة، والجزء الثاني: المُراهقة، وهي رسالة (ماجستير) طبعتها مجلة البيان، وهو كتابٌ قديرٌ.
وهناك كتابٌ لطيفٌ لمحمد رشيد سويد، وهو مليء بالمواقف، ومليء بالشواهد، ومليء بالأدلة، وهو من أقدم الكتب، لمحمد رشيد سويد، والذي هو "المنهج النبوي في تربية الطفل".
هذه الكتب وغيرها يمكن أن يُستفاد منها فائدةً كبيرةً جدًّا، وقد اخترتُ لكم الكتب ذات العبارات السهلة.
وهناك كتبٌ عبارتها سهلةٌ أيضًا، مثل: كتاب "المُراهقون" للدكتور عبدالعزيز النغيمشي، وهو كتابٌ من أعمق الكتب في التأصيل الإسلامي، وهو في أصالته وعبارته لا بأس به، لكن ربما يكون هذا أكثر سهولةً، فـ"المُراهقون" كتابٌ رائعٌ جدًّا، ويُستفاد منه أيضًا.
الحاجة إلى التوجيهات السلوكية والأدبية
ما رأيكم في قراءة ما صحَّ من كتاب "الأدب المفرد" للبخاري على مسامع المُصلين في هذا المسجد، وليكن من قِبَل الإمام، وبشكلٍ يوميٍّ؟
سأنقل هذا للشيخ طارق، وأنا أُؤيد صاحب هذا السؤال؛ فنحن بحاجةٍ مثلًا إلى دروسٍ في التفسير؛ لتُعلمنا توجيهاتٍ كثيرةً، والقرآن مليءٌ بالدروس، وكذلك نحن بحاجةٍ إلى دروسٍ من السنة، ومن كتب الأدب، مثل: كتاب "الأدب" في "صحيح البخاري"، أو كتاب "الأدب المفرد" للبخاري، وكتاب "البر والصلة" في مسلم.
هذه القضايا مهمةٌ جدًّا، فنحن اليوم بحاجةٍ إلى هذه التوجيهات المُتعلقة بالجوانب القِيَمية، والجوانب السلوكية والأدبية، وهي كثيرةٌ جدًّا، وتُعلم التربية بحقٍّ، وفيها مخزونٌ عظيمٌ، يكفي أن قائلها هو النبي ، فيا ليتنا نهتم بهذه الأمور في مساجدنا.
عدم الإشباع النفسي والعاطفي سببٌ للمشاكل النفسية
ألا ترى أن الكثير من المشاكل النفسية -بما فيها انحراف الأبناء- كان من الأسباب الأساسية فيها: عدم الإشباع النفسي والعاطفي لهم؟
نعم، ونعم، ونعم، وأكدنا على هذه القضية، وأنا أُحذر وأُنبه فيما يتعلق بهذا الموضوع؛ ونحن والله نتعرض لاتصالاتٍ تجعلنا في حالةٍ من الحيرة، خاصةً حين يُنَفِّس المتصلُ عند مَن يتصل عليه، وهو فعلًا يُعبر عن قضية ضعف إشباع الجانب العاطفي والنفسي، وخاصةً حين يكون الذي يُنَفِّس من النساء للرجال، وهذه خطيرةٌ.
فنقول: ربما ذهب أو ذهبت إلى مَن يُستشار، وكان نِعْمَ المُستشار، وحفظه الله من الفتنة، لكن الشيء الكبير والأخطر من ذلك لو حصلت القضية بغير هذه الصورة، فالأبناء يبحثون عن كيفية إشباع الجانب الوجداني، وهذه قضيةٌ أساسيةٌ.
وقد قلنا لكم أن آخر إحصائيةٍ في نوفمبر 2011م، يعني: قبل أن تكتمل السنة، بقي على نهاية السنة تقريبًا شهرٌ ونصفٌ، أو كذا، وهي إحصائيةٌ في وزارة الصحة، وموجودةٌ عندي.
تقول الإحصائية: أن عدد الذين يرتادون العيادات النفسية في المملكة خمسمئة ألف (نصف مليون)، هذا رقمٌ ما تعودنا عليه يا جماعة، هؤلاء الذين ارتادوا مُسجلون، وهذا غير الذين لا يذهبون.
وأنا أعرف أناسًا عندهم وسواسٌ قهريٌّ، ويقعد الواحد منهم نصف سنةٍ أو سنتين ولا يذهب للعيادة، وهناك ناسٌ يتصلون وأسألهم: كم لكم في هذه الحالة؟ يعني: مثلًا عنده الخجل الاجتماعي، أو عنده قلقٌ، أو عندها قلقٌ، بعضهم يقول لك: والله من خمس عشرة سنة ما ذهب.
يعني: لو أننا حسبنا الناس الذين لا يذهبون، ولم يُسجلوا كم سيكون عددهم؟
هذه مشكلةٌ يا جماعة، فهذه الإحصائية -خمسمئة ألف- بسبب التفكك الأُسري، والكبت، والإيذاء، والعنف، هذه كلها دلائل ضعف إشباع الجانب الوجداني والعاطفي في داخل الأُسَر، وفي المدارس، وفي غير ذلك.
فالتَّفكك لا يمكن أن يُوجد في عائلةٍ سعيدةٍ، والكبت لا يمكن أن يكون من شخصٍ عاقلٍ، فيكبت بمعنى الكبت، ليس معنى الكبت الذي يفهمه بعض الناس: أنك لا تقول: لا. ولا تُحرِّم عليه، يعني: لا تقول: هذا حرامٌ. طيب، وإذا كان حرامًا ما أقول له: حرام؟!
أنا أستغرب من بعض الناس، والله عجبٌ أمرهم.
بالعكس لو عُلِّموا كما عُلِّمَ مَن هم خيرٌ منا من قبل، ومَن هم أفضل -أقصد هؤلاء الذين علَّمهم النبي - لما حصلت عندهم المشاكل، ولما وقع أحدُهم في الفخ، ثم تحصل المشكلات النفسية بسبب: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
تقول الإحصائية أن 60% من الذين يرتادون العيادات النفسية هم من الشباب، فزادت نسبة الشباب 20% عن السنة الماضية، فما دلائل هذا الرقم؟
يدل على أن مشكلة إشباع الجانب النفسي والعاطفي والوجداني كبيرةٌ جدًّا، وأن الشاب سيبحث عنها هنا وهناك؛ لذلك دلَّت الدراسات على أن انهماك الأبناء -ذكورًا وإناثًا- في التقنية، وانشغالهم بها، وجلوسهم وحدهم هو بسبب ضعف إشباع الجانب العاطفي.
ودلَّت الدراسات أيضًا على أن تجاوز الخطوط الحمراء من قِبَل الأبناء في العلاقات المُحرَّمة يرجع إلى ضعف إشباع الجانب العاطفي في الأسرة.
ودلَّت الدراسات كذلك على أن الهروب من البيت للأصدقاء، والحب، والجلوس مع الأصدقاء -ذكورًا أو إناثًا-، أصدقاء وصديقات، وعدم الاطمئنان، وترك الجلوس بالبيت؛ يرجع سببه إلى ضعف إشباع الجانب الوجداني والعاطفي في الأسرة.
وفي هذا تكلم الدكتور عبدالكريم بكار كلامًا جميلًا في كتابه "التواصل الأُسَري"، يمكن أن ترجعوا إليه، وقلنا سابقًا: الله قال في حقِّ نبيه : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وهو رسول الله !
فإذا كنت فَظًّا، ثقيلًا، سيئ الخلق، ... إلى آخره؛ سينفض عنك أبناؤك، وستنفض عنك زوجتك، ما تُحب أن تجلس معك، وطلابك ما يُحبون أن يلتقوا بك، وأصدقاؤك ما يُحبون أن يكونوا معك؛ لأنك فَظٌّ، غليظ القلب.
فهذا الجانب الذي هو الود، والتعاطف، والتراحم، والمحبة فيه إشباع الجانب العاطفي والجانب الوجداني عند الناس وعند الأجيال.
لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه
يقول السائل: السعادة في هذا الزمن هل هي ألذُّ من الزمن السابق؟ وحديث القابض على الجمر؟
أقول في هذا: لا يأتي عليكم زمانٌ إلا الذي بعده شرٌّ منه[11]أخرجه البخاري (7068).، هذا بالجملة، فلا بد أن نفقه هذه القضية لكن بالجملة؛ ولذلك هناك أناسٌ في الطائفة المنصورة التي تبقى إلى آخر الزمان، الناس في آخر الزمان أجر الواحد منهم كأجر خمسين، قال الصحابة: يا رسول الله، منا أو منهم؟ قال: بل منكم[12]أخرجه أبو داود في "سننه" (4341)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (494). يعني: أجر واحدٍ من هؤلاء الذين لا يجدون على الحقِّ مُعينًا، ويعيشون هذه الفتن، ولعل هذا الزمان يدل على ذلك، فالذي يصبر على هذا الأمر، ويثبت على المبادئ التي يُؤمن بها، وعلى هذا الدين، ويعتزُّ به، ويشعر بهويته؛ يكون أجر الواحد منهم كأجر خمسين.
الصحابة بين أيديهم رسول الله ، فتأثروا به، وأثَّر وجوده فيهم، بل حتى بعد وفاته -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- بقي هذا الأثر، وقوة ما حصل في عصور الخلفاء الراشدين والأمويين -كما يقول بعض المُحللين من أصحاب التربية الإسلامية- هو بسبب قوة قُربهم من مصدر النبوة وشخص النبي .
لكننا نحن بَعُدَ عندنا هذا الأمر، ومع ذلك هناك أناسٌ يتَّبعون النبي ولم يروه، ويثبتون، وهؤلاء بشَّرهم الرسول بأنهم إخوانه، قال : وددتُ أن أرى إخواني، فغار الصحابةُ وقالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم أصحابي، إخواني أناسٌ يأتون من بعدي، يُؤمنون بي ولم يروني[13]أخرجه مسلم (249)..
فعندما تكون لي ولك هذه الهدايا والجوائز والحوافز من النبي ، والوعود بأن أكون أنا وأنت خيرًا في الأجر -وليس في الفضل- من خمسين من الصحابة، لكنها ليست مجانيةً، فهي لا تكون إلا بتربيةٍ، تحتاج أناسًا يثبتون فعلًا، ويتربون، ويُضحون في سبيل مرضات الله ، وهم أيضًا إخوةٌ للنبي ؛ فنِعم السعادة يا جماعة.
فإذا كنتِ تسألين أختي الكريمة عن السعادة، فهناك أناسٌ في هذا الزمن يعيشون سعادةً عظيمةً، كما قال أحد السلف وهو يشعر بسعادةٍ أنه لو كان أهلُ الجنة على هذا الشعور لكانوا على خيرٍ عظيمٍ! فتأتيه لحظاتٌ من الأنس والسعادة، وهذا شيءٌ عظيمٌ جدًّا.
ما يصنع أعدائي بي؟
شيخ الإسلام ابن تيمية -والنماذج تتكرر حتى في زمننا المعاصر- يقول عندما سُجِنَ: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبُستاني في صدري، إنْ رحتُ فهي معي، لا تُفارقني، إنَّ حبسي خلوةٌ، وقتلي شهادةٌ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ"[14]"المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام" لابن تيمية (1/ 153)..
يقول أحد المُعلقين على مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية: ما ترك شيخُ الإسلام ابن تيمية لأعدائه شيئًا أبدًا؛ لأنه يشعر بالسعادة.
يقول ابن القيم: "كنتُ إذا ادلهمَّت بي الأمور وضاقت ذهبت إلى شيخ الإسلام في سجنه؛ فينكشف عني"[15]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص48)..
وكان يأتيه ابن القيم في غير السجن، وينظر إليه وهو يجلس من بعد صلاة الفجر إلى الضحى يذكر الله ، فيسأله تلميذُه ابن القيم: لماذا تفعل ذلك؟ قال: "هذه غدوتي، إذا أخذتُها قويتُ، وإذا لم آخذها ضعفتُ"[16]"الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص42)..
غدوة شيخ الإسلام ابن تيمية هي جلوسه بعد صلاة الفجر إلى الضحى يذكر الله ، فأين غدواتنا؟! وأين هذه المعاني العظيمة التي نحن بأمس الحاجة إليها؟!
وهناك أناسٌ في هذا الزمن يشعرون بسعادةٍ عظيمةٍ جدًّا، أرجو أن أكون أنا وأنت ونحن منهم، إن شاء الله تعالى.
يقول الله : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، هذه الآية ليست محصورةً بالناس السَّابقين، بل مُستمرةٌ إلى آخر الزمان الذي يسوء فيه الناس: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً أي: السعادة في الدنيا، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وفي مقابل ذلك: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:126].
أسأل الله بمَنِّه وكرمه أن يُوفِّقنا لطاعته، وأن يُوفقنا وإياكم للتَّعلق بالآخرة، وأن يجعلنا وإياكم من السعداء، إنه جوادٌ كريمٌ.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
↑1 | "الفوائد" لابن القيم (ص42). |
---|---|
↑2 | انظر: "السحر الحلال في الحكم والأمثال" للهاشمي (ص112). |
↑3 | أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5302). |
↑4 | أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5302). |
↑5 | أخرجه الترمذي في "سننه" (2516)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (5302). |
↑6 | انظر: "السحر الحلال في الحكم والأمثال" للهاشمي (ص112). |
↑7 | أخرجه ابن ماجه في "سننه" (4245)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5026). |
↑8 | أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824). |
↑9 | أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824). |
↑10 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (276). |
↑11 | أخرجه البخاري (7068). |
↑12 | أخرجه أبو داود في "سننه" (4341)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (494). |
↑13 | أخرجه مسلم (249). |
↑14 | "المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام" لابن تيمية (1/ 153). |
↑15 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص48). |
↑16 | "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص42). |