المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، نسأل الله أن يُبارك لنا ولكم في هذه الأمطار، وأن يتقبل دعوات الصالحين المُصلحين، اللهم آمين.
ثم أيضًا نُذكر بأن هذا اللقاء هو لقاءٌ استثنائيٌّ عن لقاء الغد؛ نظرًا لظرفٍ طارئٍ، فقدَّمنا هذا اللقاء لهذا الأسبوع فقط، وغدًا ليس هناك درسٌ من الدروس المُعتادة بعد العشاء يوم السبت، وإنما السبت الذي بعده.
وأيضًا نعتذر منكم؛ كان الإعلان الأول أنه بعد العشاء اليوم، ثم قُدِّم إلى المغرب؛ لمُدارسةٍ حصلت مع الإخوان لاحتمالية الجمع بين المغرب والعشاء اليوم؛ نظرًا للأمطار، فاتَّفقنا في النهاية على أن يكون اللقاء اليوم -إن شاء الله تعالى- بين المغرب والعشاء، وبالله التوفيق والسداد.
كنا وعدناكم أننا سنُجيب عن الأسئلة التي وردت خلال الأسابيع الستة الماضية في اللقاءات التربوية، وهذا هو اللقاء السابع، ونسأل الله أن يُعين وأن يُوفق، ولعلنا نأتي عليها جميعًا إذا أعان الله ويسَّر.
فن الحوار
يقول السائل هنا: هل هناك أشرطةٌ في فنِّ الحوار؟
على أية حالٍ، نحن أكَّدنا على أهمية الحوار، وأنا أُؤكد على السلسلة التي ذكرتها للدكتور: عبدالكريم بكار، وخاصةً الجزء الثالث في "التواصل الأُسري"، فقد ناقش هذا الموضوع نقاشًا مهمًّا جدًّا، فهذا مرجعٌ مهمٌّ جدًّا، وقد تكون للدكتور أشرطةٌ في هذا الأمر، وليس عندي تأكيدٌ لهذا الموضوع.
وهناك عدة مراجع جيدةٍ في قضية الحوار في النَّدوة العالمية للشباب في أصول الحوار، وكذلك في مركز الحوار الوطني، وغيرها من الكتب التي يمكن أن يُعاد إليها ويُستفاد منها.
ونحن نحاول أن نأخذ الآليات التي تُعيننا على قضية الحوار بقدر المُستطاع، وهي ليست قضية جرعاتٍ، أقصد أنها وصفةٌ واحدةٌ، ليست هناك آراء أخرى فيها، وإنما هي مجموعةٌ من الآليات.
ولو أخذنا منهج القرآن في الحوار لاستفدنا شيئًا كثيرًا، ولو أخذنا منهج النبي في الحوار عندما حاور الرسول أبا الوليد وهو يسمع منه الكفر، ثم يقول له النبي : أَفَرَغْتَ يا أبا الوليد؟ ثم بدأ عليه الصلاة والسلام يُناقشه ويُحاوره[1]"الروض الأنف" للسهيلي (3/ 61)، و"المُنتخب من مسند عبد بن حميد" (2/ 187)، وذكره الألباني في "صحيح السيرة النبوية" (ص159)..
ولعلنا نأتي لبعض هذه المواقف من القصص التي نستفيد منها في القضية التربوية والأُسرية لاحقًا، بإذن الله .
القسوة على الأبناء
يقول السائل: أجد قسوةً عاليةً تجاه أبنائي وصعوبةً شديدةً وكبيرةً في إظهار حبي وعاطفتي لهم، بالرغم من معرفتي وإدراكي الكبير لعدم صواب ذلك، وكذلك خطورته، وأنا أرى آثار ذلك السلبية، ولكن حاولتُ وحاولتُ ولم أتمكن، فما الحل؟
أول الطريق أن يُدرك الإنسان الأمر الصحيح، المشكلة في التطبيق، وقد حرصنا في اللقاءات -بتوفيقٍ من الله - على النية والقُدوة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ما يتعلق بالتطبيقات التربوية والنفسية والأُسرية لها.
ومن أكبر ما أجده على نفسي وعلى غيري من أحبابي قضية: حاولتُ وحاولتُ فلم أستطع، هناك شقٌّ ممتازٌ، وشقٌّ عكس الممتاز، إذا كنا نأخذه بتقديرات التعليم: ممتاز، والثاني: راسب.
الشق الممتاز أن أُحاول وأُحاول، وأن أستمر في المحاولة.
أما الشق الثاني الذي هو المشكلة القاتلة: لم أستطع، واليأس والقنوط، والحكم بأني لا أستطيع.
فكل سلوكٍ قابلٌ للتعديل، وهذه مُسلَّمةٌ في التصور الإسلامي وواضحةٌ جدًّا: إنما العلم بالتَّعلُّم، وإنما الحِلْم بالتَّحلُّم[2]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (2326).، ويقول الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
فقضية الإصرار والمحاولة مهمةٌ جدًّا، ونحن مشكلتنا أننا ما نصبر، نريد أن نُغير بسرعةٍ.
فينبغي الاستمرار في المحاولة، والكفّ عن الرسائل السلبية التي تُؤثر في النفس البشرية: ما استطعتُ، لا أستطيع، حاولتُ ففشلتُ.
كل هذه القضايا لها أثرٌ على النفس البشرية، فعلى الإنسان أن يستعين بالله ويعمل.
أذكر لكم سؤالًا سُئل فيه سماحة الشيخ ابن باز -رحمة الله عليه- عن شخصٍ يريد أن يكون خاشعًا في الصلاة، لكنه تَعِبَ، فقال له: استمر، استمر. ثم ذكر أثرًا لأحد السلف الصالح جاهد نفسه، فما وجد لذَّة الخشوع إلا بعد عشرين سنةً.
تصور واحدًا في تلك الفترة من فترات الزهو الإيماني والأقل في المُؤثرات السلبية من هذا الوقت، ومع ذلك يُجاهد، والله قد وعد: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وهذا من الابتلاءات، ونحتاج أن تُسلينا هذه الابتلاءات.
وهذه القضية ليست موجودةً في المنهج الغربي، ففي المنهج الغربي إذا حصَّل ملذَّاته حقق الذي يريد، وإذا لم يُحصّل بدأ يتَّجه اتِّجاهاتٍ مُنحرفةً، وسلك السلوك الأسوأ كالمُخدرات.
أيضًا يحتاج هذا الأخ إلى ضبط الانفعال، يعني: أنا الآن في موقفٍ مع الابن، وشعرتُ بأني سأغضب عليه، فنحن عندنا إجراءاتٌ نبويةٌ، فإذا كان الإنسان واقفًا فعليه أن يجلس، وإذا كان جالسًا فعليه أن يضطجع، يتوضأ، يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يُغير مكانه ... إلى آخره، المهم أن يُغير حاله كي يضبط الانفعال.
فمهمٌّ جدًّا التدريب على ما يُسمَّى بضبط الانفعالات، أما جعل النفس تسير على سليقتها، وأنا عندي مشكلةٌ في قضية الغضب، أو مشكلةٌ في القسوة؛ جزمًا سيتولد من ذلك تصرفاتٌ سلبيةٌ.
فإذا كنتُ أعلم أني لو دخلتُ على ولدي -مثلًا- أو التقيتُ به وتحدثتُ معه في قضيةٍ معينةٍ؛ أعرف أنني سأثور عليه، فمن ضبط الانفعال ألا ألتقي به، وهكذا مع كل شخصٍ يُعتبر مُثيرًا لي، سواء كان أبًا، أو زوجًا، أو زوجةً، أو شخصًا، أو صديقًا، هو مثيرٌ لي في الانفعال الذي ما زلتُ أُدرب نفسي عليه، وهو قضية انفعال الغضب وانفعال القسوة -مثلًا- وسلوك القسوة؛ فأحاول ألا ألتقي به، وأن أتجنب المُثير قدر ما أستطيع، أنا أدرى بنفسي.
هناك أناسٌ الله أعطاهم الحِلْم، رزقهم الله الحِلْم، فهذا يستطيع أن يضبط نفسه، لكن الشخص الذي ليس بحليمٍ -خاصةً إذا كان في مرحلة التدريب- يحتاج إلى أن يتعامل مع نفسه بطريقةٍ سليمةٍ جدًّا، ما دام أنه يُدرك أن هذا الأمر خطيرٌ وغير صوابٍ، لكنه ما استطاع، يقول: ما استطعتُ. لا، تستطيع -بإذن الله - فحاول وأعطِ لنفسك رسائل إيجابيةً، وابتعد عن الرسائل السلبية.
يا إخواني، كل واحدٍ منا عنده في حياته ما يستطيع لو أمسك ورقةً وقلمًا أن يُثبت أنه ضبط في بعض المواقف انفعالاته، صحيحٌ أم لا؟
يعني: لو كان عند مسؤولٍ، عند شخصٍ ما، للشخص حاجةٌ عند هذا الإنسان، ويحتاج أن يأخذ حاجته، لكن صار الموقف موقف غضبٍ، ما تجد البعض يضبط غضبه غصبًا عنه؛ لأن له حاجةً معينةً عند هذا الإنسان؟
فلماذا لا أجعل حاجتي أكبر من قضية الحاجة المادية؟ فالله يُحب المُحسنين: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، والله يُحب ماذا؟ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
والرسول لما أتاه رجلٌ وقال: أوصني. قال: لا تغضب[3]أخرجه البخاري (6116)..
فإذا ما طبَّقنا هذه المعاني يا أحبتي في الأسرة، فأين نُطبقها؟ في المصالح الدنيوية!
إذا ضبطتُ المصالح الدنيوية من أجل فلانٍ مسؤولي، أو مديري، أو عميدي، أو رئيس شركتي ... إلى آخره، ما نضبطها في الشركة، وفي المدرسة، وفي الجامعة الأم التي هي الأسرة.
نحن بأمس الحاجة إلى أن ننتبه لمثل هذه القضية؛ ولذلك هذا كله إثبات أننا قادرون.
الفراغ الروحي والفراغ الزمني عاملان أساسيان لتحقيق الاتِّزان
يقول السائل: ألا ترى أن الفراغ الروحي والفراغ الزمني عاملان أساسيان لتحقيق الاتِّزان، سِيّما مع الثقافة في الوقت الحاضر؟
لا شكَّ أن هذين الأمرين مُهمَّان جدًّا، والجدارة يا إخواني أن تتربى الأسرة على زرع قيم الإيمان وإشغال أوقات الفراغ، فإذا نجحت الأسرة في هذين المَعْلَمين ...
ولابن القيم كلامٌ جميلٌ في قضية فراغ القلب وفراغ الوقت، يقول: إن كثيرًا من الأمور ترجع مصائبها إلى هذين الأمرين: فراغ القلب -وهذا لا يمكن أن يُشغل إلا بالإيمان- وفراغ الوقت، ولا يمكن كذلك أن يُعبأ إلا بالشيء النافع.
فإذا لم يُملأ القلب بالإيمان، ولم يُملأ الوقت بالنافع؛ حصلت المصائب.
ولا شكَّ أن كلام الأخ الكريم أو الأخت الكريمة مهمٌّ جدًّا أن تتربى عليه الأُسَر.
الإصلاح بحاجةٍ إلى نهضةٍ شاملةٍ لجميع أفراد المجتمع
السؤال الآخر يقول: أعلم أن الإصلاح يبدأ من الإنسان نفسه كما جاء، ولكن ألا ترى معي أن الإصلاح بحاجةٍ إلى نهضةٍ شاملةٍ لجميع أفراد المجتمع بدءًا من الرأس حتى أصغر فردٍ في المجتمع المسلم؟
لا شكَّ أن هذا مُؤثرٌ في البيئة الخارجية، يعني: لما أتكلم عن الإنسان، أنا خالد، أنا أتأثر ببيئتين يا إخوان، أي واحدٍ منا عنده بيئتان:
البيئة الأولى: البيئة الداخلية، لمَن هي؟ أنا، بيئتي الداخلية.
البيئة الخارجية: الأسرة، المدرسة، الأصدقاء، المجتمع ككل.
ولا شكَّ أنه كلما كانت الأسرة أو المدرسة أو الأصدقاء أو المجتمع أو الحي كلما كان عندهم التغيير الإيجابي كلما أثَّر فينا، لكن عندما نُقارن بين البيئة الداخلية -التي هي أنا وأنت كنفسٍ بشريةٍ- والبيئة الخارجية المُؤثرة، أيّهما أهم وأقوى؟
يعني: إذا كانت البيئة الخارجية: الإعلام -وفيه نسبةٌ كبيرةٌ جدًّا من الانحراف-، والأصدقاء، والشارع الذي ما تأمنه ولا تضمنه ... إلى آخره.
طيب، ماذا تفعل؟
الإصلاح يكون من الداخل، حتى إن خطاب الشرع واضحٌ جدًّا فيه كما ذكرنا سابقًا؛ لذلك إذا ضمنت أن أفراد الأسرة يُصلحون ما في ذواتهم ابتداءً، حتى لو تغير المجتمع سلبًا سيكون الإنسان عارفًا الصواب من الحقِّ، ويتبع الصواب، ويترك الشرَّ.
أما أن أعتمد كما يفعل بعض الناس الذين وصلت فيهم الاعتمادية إلى حدٍّ كبيرٍ، وهذا يُسمونه عندنا في علم النفس: الضبط الداخلي، والضبط الخارجي، يعني: هناك أناسٌ غيورون، يعني مثلًا: يعتمد على المجتمع، يعتمد على غيره، فإذا صلح صلح، وإذا ما صلح ما صلح.
يعني مثلًا: الإمَّعة الذي ذكره النبي ، هذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا، فليست الجدارة بالغيرية، الجدارة بالذاتية، والغيرية تستكملها، لا إشكالية في ذلك.
ولذلك ربط الله التغيير المجتمعي بالتغيير الذاتي: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
البعض يقول لك: كيف تُريدون أن نبني أبناءنا ونُنشئ أُسرنا والإعلام فاسدٌ؟!
طيب، صحيحٌ، هناك إعلامٌ فاسدٌ فسادًا كبيرًا.
طيب، مَن الذي جاء بالإعلام إلى البيت؟ أليس ولي الأمر؟!
للأسف أنا أسمع هذا الكلام، فهو الذي جاء بالإعلام إلى البيت، ولم يُفلتر، ولم يضبط ... إلى آخره، وليس هناك نظامٌ، ولا اصطفاء أشياء دون أشياء، ومع ذلك كأنه يقول: أنتم إذا ما صفَّيتم لنا الإعلام نحن سنستمر في وضعنا بهذه الصورة!
هذه مصيبةٌ كبيرةٌ إذا كانت هذه هي طريقة التعامل مع أنفسنا والتعامل مع أبنائنا؛ ولذلك لا بد من الحرص على البيئة الداخلية.
انتشار سبّ الدين بين الشباب!
يقول هذا السائل: سبّ الدين أصبح في هذا الزمان ينتشر بين الشباب! فما الوسيلة؟
لعله يقصد: المُتميزة أو المُقترحة.
يعني يقول: إن هذا الموضوع خطيرٌ، وخصوصًا على الأطفال، فكيف نتجنب هذا الوباء الخطير؟ وما وسيلة مُعالجة ذلك؟
أنا كنتُ أمس فتحتُ على رسالةٍ وصلتني، وكانت عبارةً عن مشهدٍ، ولن أُسمي القناة، لا تُؤاخذوني، أنا أتكلم مع عقلاء، وليست دعايةً، وأصبحت القضية الآن -للأسف الشديد- أن أعداءنا يعرفون من أين نُؤتى؟
فكان مقطعًا من (ART)، مقطع رسوم مُتحركة بُثَّ قريبًا، وهو شيءٌ يُوقف شعر الرأس من الخزي والعار الذي يراه أبناؤنا، للأسف الشديد!
فقد تجد أبًا جالسًا في غرفته، أو في الخارج مع زملائه ... إلى آخره، والابن والبنت الصغيران يُتابعان هذا المقطع ولا أحد حولهما.
هذه -والله يا إخواني- قِلة حياءٍ وقذارةٌ، وهذا ليس جديدًا، هذا نعرفه، وأنا أتكلم عن شيءٍ رأيتُه أمس، فقلتُ: كيف يكون حال أطفالنا وأبنائنا؟!
القضية خطيرةٌ جدًّا، وقد تمتد إلى مستوى العقيدة والفكر.
أحد الأساتذة يُحدثني يقول: كنا مع الطلاب في لعبة كرة القدم، فأحد الطلاب سجَّل هدفًا، فقال الطالب: واللات والعُزَّى (لأجيب) الهدف! طفلٌ بريءٌ، معذورٌ عند الله ، يعني: ليس مُكلَّفًا.
فلما تحرى الأستاذ وجد أن هذه العبارة قد تقمَّصها الطفل من الرسوم المُتحركة، ورأى اللات والعُزَّى أتت في اللقطة بجدارةٍ، فلما قال هذا الذي في الرسوم المُتحركة: "واللات والعُزَّى" تحقق الذي يريد، فالطفل تشرَّب هذا الموقف، وهو يريد أن يأتي بهدفٍ الآن، فقال: ما في مثل "واللات والعُزَّى"!
فالقضية خطيرةٌ جدًّا، وهذا الشيء نحن نسمعه ونعرفه، لكن أتوقع أن الواقع الموجود في الشاشة المُلونة وعبر الفضاء و(الإنترنت) شيءٌ مهولٌ جدًّا.
الطريقة والحلّ يا أحبابي حتى نُدرك الواجب الذي علينا بمبدأ عظيمٍ جدًّا اسمه: مبدأ التخلية والتحلية، ما تمشي هذه الأمور إلا بالتخلية والتحلية.
الآن أنا عندي هذه القارورة، أو نُسميها: وعاء من ماء، فلو كان هذا الوعاء مُتَّسخًا، ثم وُضع فيه ماءٌ عذبٌ زُلالٌ، وأنت عطشان تريد أن تشرب، لن تشربه، مع أن هذا الماء ماءٌ عذبٌ، لماذا لا تريد أن تشربه؟
لأن هذا الماء اتَّسخ بهذا، فمن الطبيعي جدًّا ومن المنطق أن أبدأ بتنظيف هذا الوعاء، ثم أصبّ الماء وأشربه، صحيحٌ أم لا؟
فالعملية الأولى هي: عملية التَّنظيف، وهذه يُسمونها: التخلية، والعملية الثانية يُسمونها: التحلية.
وسِرْ بحياتك الأسرية بهذه الطريقة، أي شيءٍ مُثيرٍ سلبيٍّ يُؤثر عليَّ وعليك، والزوج والزوجة، والأب والأم، والابن والبنت، طفلًا، مُراهقًا ... إلى آخره، أي مُثيرٍ سلبيٍّ كُفَّ المُثير السلبي، أبعده، هذه تخليةٌ، ثم أي مُثيرٍ إيجابيٍّ ائتِ به، وستستقيم التربية بالتخلية والتحلية، والله يقول: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256] هذه تخليةٌ.
يمكن أن يقول الإنسان: أنا أؤمن بالله، لكن ما أكفر بالطاغوت!
ما ينفع.
ويمكن أن يكفر بالطاغوت، لكن يبقى هكذا، ما يؤمن بالله!
لا، ما ينفع، فهو يحتاج إلى تخليةٍ، ويحتاج إلى تحليةٍ.
أما أن أُدخل أجهزة الإعلام وأُدخل التقنية من غير أي ضوابط، ولا دراسةٍ للموضوع، ولا معرفةٍ بالذي فيها، ولا أن هناك تربيةً، ولا اتِّفاقيةً، ولا وقت ضبطٍ كما ذكرنا سابقًا في ضبط المكان والزمان والمضمون ... إلى آخره من تلك الأمور، فكيف تسير الأمور؟!
يمكن أن يتقمَّص الطفل الصغير أشياء، وقد يُفصح بها، خاصةً الطفل، لكن المُراهق قد لا يُفصح بها، ثم يتفاجأ بعد ذلك الوالدان بشيءٍ عند المُراهق لم يكن يتصوره أحدٌ بحالٍ من الأحوال، فلا بد من التَّخلية، ولا بد من التحلية.
وأيضًا لا بد لنا من قضية القُدوات، نرجع إلى قضية المَعْلَم الذي أخذناه، وهو مَعْلَم القُدوة، لا بد من قضية القُدوات، ما المعروض عليه؟ مَن هم القُدوات؟ هل هم يُربونه على العقيدة الصحيحة؟ هل هم يُربونه على الدين وعلى الفكر الصحيح؟ هل يُربونه على الأخلاق السليمة؟
هذا سؤالٌ كبيرٌ.
القنوات والشاشات وأخطارها
هل هذه الشاشة التي يرونها تُربي بطريقةٍ صحيحةٍ أم خطأ؟
سؤالٌ كبيرٌ لا بد أن نكون صُرَحاء في إجابته، فهناك فرقٌ بين القنوات المُحافظة والقنوات غير المُحافظة.
أصبح اليوم التفريق واضحًا جدًّا مع وجود القنوات المُحافظة، ومن قبل كنا نُعاني، ما كانت هناك قنواتٌ مُحافظةٌ، وكان هناك أبطالٌ لا يُدخلون أي شيءٍ إلى بيوتهم، وهناك أناسٌ إلى الآن حتى مع وجود القنوات المُحافظة لا يُدخلون شيئًا.
أنا أتذكر أن بعض الغربيين لا يرى التلفاز! وذكر هذا مروان كجك في كتابه الجميل "أثر (التليفزيون) و(الفيديو) على الأسرة المسلمة"، وعقد في آخر هذا الكتاب فصلًا عن آراء الغربيين في (التليفزيون).
وبعض الولايات الأمريكية وغيرها تقوم بفصل آخر بَثٍّ في اليوم الساعة التاسعة مساءً، الساعة التاسعة يفصلون، والقضية قضية تشفيرٍ، ليست مُرتبطةً بقضية فضاءٍ مفتوحٍ ... إلى آخره.
فأنا أقول: إذا كان هذا يقوم به بعض الناس غير المسلمين، فنحن من باب أولى نُقدم لأبنائنا القُدوات وننتبه، خاصةً القُدوات المتعلقة بالإعلام، المُرتبطة بإشغال أوقات الفراغ الذي زَخَّت به بيوتنا اليوم زخًّا.
والحمد لله الآن عندنا قنواتٌ مُحافظةٌ، وليست هناك حُجَّةٌ أبدًا، وحتى من قبل الحُجَّة لا تُقبل، لكن الآن أصبحت القضية ما في حُجَّةٍ أبدًا بحالٍ من الأحوال.
الشيء الثاني: لأن القيم والأخلاق والعقيدة أولى من أي شيءٍ آخر.
القضية الثانية: قضية الأصدقاء؛ الأصدقاء الأطفال، والأصدقاء المُراهقين مهمةٌ جدًّا في قضية القُدوات.
أنا أذكر أحد الأطفال كان يرى قديمًا في رمضان مسلسلًا، وكان في هذا المسلسل شخصيةٌ معينةٌ مُهرجةٌ تأكل كثيرًا من الطعام في رمضان، فيُحب أن يأكل أكلةً معينةً، فصار هذا الطفل يُقلده تمامًا، حتى أنه في فترةٍ بسيطةٍ جدًّا انتفخ انتفاخًا كبيرًا حتى أصبح مثل هذا المُمثل الذي صار يُقلده!
فمن الطبيعي جدًّا أن ترى التقليد عند الأطفال، فهو يُحاكي حركاته واهتماماته، حتى الأكلات سيُحاكيها يا جماعة!
فكيف لا يُحاكي فكره، ولا يُحاكي أخلاقه؟
هذه قضيةٌ لا بد أن ننتبه لها بشكلٍ كبيرٍ جدًّا؛ لذلك علينا أن ننتبه: ماذا يرى أبناؤنا وبناتنا؟ بناتنا اليوم بمَن يقتدين؟
أنا أسأل سؤالًا: مَن القُدوات لهن؟ هل هي المرأة العفيفة -وهذا الأصل لا شكَّ- أم أنها المرأة الخرَّاجة الوَلَّاجَة؟ حتى تفكيرها الآن: تصير مُمثلةً، أو تصير رياضيةً، أو ... إلى آخره، كل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح.
بمَن آخذ وأقتدي ويَزُخُّ عليَّ ويُؤثر فيَّ يوميًّا سيكون المُنتج، كما يقول الشاعر:
وما عجبٌ هذا التفاوت بيننا | فكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح[4]"من روائع حضارتنا" لمصطفى السباعي (ص176). |
وهذا الإناء هو الذي جاء به ولي الأمر، هذا الوعاء هو الذي أنشأه ولي الأمر، هذا الوعاء هو الذي مكَّنه ولي الأمر، فيحتاج ولي الأمر أن ينتبه لمثل هذه القضايا.
والتأثير في بعض الأحيان يكون بأسلوبٍ بسيطٍ جدًّا وسهلٍ جدًّا، يعني: أحد الأبناء يقول: أنا استفدتُ من شخصٍ صار لي قُدوةً، فاستفدتُ منه في قضيةٍ معينةٍ -يقول- ما كنتُ أُدركها، وهو يقول: جرِّبها.
يقول الذي استفاد منه: إن الواحد منا في ظلِّ انشغالاته اليوم قد يصعب عليه أن يتواصل مع والديه ويبرّ والديه بالصورة المطلوبة.
يقول: بدأتُ أُفكر: لماذا لا أتصل بهم يوميًّا؟
يقول: فأصبح عندي عادةً.
وهذا الابن الذي سمع هذا الكلام من الشخص القدوة ماذا حصل له؟ أصبح مثله، يقول: فتأثرتُ بهذا الشخص من خلال سماع شريطٍ له، وأصبحتُ أُطبق هذا الكلام.
يقول: لي سنواتٌ الآن لا أنفَكُّ عن قضية الاتصال اليومي على الوالدين: دقيقةً، دقيقتين، ثلاثًا، أربعًا ... إلى آخره حسب التيسير، مع أنه إجراءٌ بسيطٌ ما يُكلف، لكنها فكرةٌ جاءت من خلال القدوة.
فنحتاج إلى أن ننتبه لقضية التَّخلية والتَّحلية، وقضية القُدوة.
ولدي لا يريد حفظ القرآن!
يقول السائل أو السائلة: ولدي لا يريد حفظ القرآن، ويتذمّر من ذهابه للحلقة، ما الحلُّ؟ علمًا بأن الفهم عنده أحسن من الحفظ بكثيرٍ.
لا بد أيها الإخوة وأيتها الأخوات أن نعرف واقع هذا الابن، ما واقعه بالضبط؟
الآن قضية الحفظ عنده أقلّ من الفهم، والفهم أعظم، لماذا؟ حتى أُراعي الفروق الفردية بين الناس.
يعني: يصعب أن أقول: كل الموجودين من أبنائنا من الشباب أو من الأطفال هم في شيءٍ واحدٍ.
لا، هذا ليس صحيحًا، هذا خطأٌ في التعامل، وأنا أعرف أن الواحد منا يتمنى، لكن هناك أناسٌ يستعصي عليهم ذلك.
وبعض الإخوان في مدارس تحفيظ القرآن يعرفون هذا الجانب، تمرُّ عليهم حالاتٌ الواحد منهم ما يقدر أن يُكمل الحفظ، بل أنا أعرف أحد طلبة العلم الأقوياء -والآن في ذهني صورته- ما استطاع أن يُكمل دراسته الشرعية بسبب حفظ القرآن! ما استطاع أن يُكمل بسبب حفظ الأجزاء المُرتبطة بجامعة الإمام: ثمانية أجزاء فقط ما استطاع حفظها!
وأظنه وصل إلى السنة الرابعة والأخيرة وما استطاع أن يُكمل دراسته!
فالقضية قضية قُدراتٍ يا إخواني، فنحتاج إلى أن ننتبه لهذا الموضوع.
ثم هل هذا طفلٌ أم مُراهقٌ؟
فالأمر يختلف أيضًا؛ لأن غالب الأطفال عندهم قابليةٌ للحفظ في مرحلة الطفولة، لكن في المُراهقة -يعني: في الغالب- ما يتعلق بالمستوى -كما يقول أهل الاختصاص- عند المرحلة الثامنة عشرة يقف المستوى الذكائي للإنسان، ثم يبدأ بعد ذلك توظيف هذا الجانب الذكائي، ففرقٌ بين هذا وهذا.
أيضًا ما يلزم أن يحفظ الكتاب كاملًا، يحفظ بعض أجزائه.
الأمر الآخر: عليكم بالتَّعزيز والتَّشجيع له -خاصةً في بدايات الأمر- بشيءٍ يُحبه، هذا سيُساعد.
الأمر الآخر: لا تكون الحلقة قاصرةً فقط على الحفظ، يعني: حبذا لمثل هؤلاء ولغيرهم العينات.
أنا أرى أن تكون الحلقة لها أشياء أخرى مُشجعة: كالرحلات مثلًا، وأشياء معينة، وإذا كانوا أطفالًا لعب بعضهم مع بعضٍ: كمُسابقاتٍ، وأمورٍ معينةٍ تقريبيةٍ، وأشياء معينةٍ، حتى يكون هناك مجالٌ أكبر لقضية الشَّغف بحفظ كتاب الله .
كيف أتعامل مع مشكلات الشارع؟
يقول: ولدي يَمَلُّ الجلوس في البيت، وأنا رجلٌ، والأولاد يخرجون، فكيف أتعامل مع قضية الشارع؟
باختصارٍ أنا أعتبر أن هذه مشكلةٌ من مشاكل كثيرةٍ عند أولياء الأمور وعند الأُسَر، فلا بد من وجود محاضن تربويةٍ آمنةٍ، وهذا دور الأسرة مع الحيِّ والمجتمع.
ما أسهل أن أتكلم! لكن والله واجبٌ على الجميع، لا تسأل أخي، ولا تقولين أختي الكريمة: طيب، أين هذه المحاضن التربوية؟ أنشئوها أنتم، ونُنشئها نحن!
الإخوان في الأحياء في المساجد يبثُّون هذا الهمَّ بينهم، ومراكز الأحياء نذهب إليهم ونُطالبهم، ونضع أيدينا بأيديهم، لا نُحملهم المسؤولية فقط، أو نُحمل أنفسنا المسؤولية.
وتأتي اتِّصالاتٌ في هذا الموضوع: أنا ابني ما يريد حلقة تحفيظ القرآن، ابني ما يأكل ... إلى آخره، لكننا أيضًا نخاف عليه، ولا بد أن يطلع.
وأقول هنا شيئًا مهمًّا جدًّا خاصةً في مرحلة المُراهقة: لا يتصور الآباء أنهم قادرون على أن يضعوا أبناءهم في بيوتهم ولا يُخرجوهم إلا للصلاة ثم يرجعون، لا تتصور هذا يا أخي الكريم، لماذا؟
هناك حاجةٌ نفسيةٌ قويةٌ جدًّا عند المُراهق يُسمونها: الحاجة للانتماء، أي: الانتماء للأقران، فهو يحتاج إلى أقرانٍ مثله، وهذه الحاجة عنده أقوى من الطفولة؛ لذلك لا يتصور الواحد أنه قادرٌ على أن يحبس ابنه؛ لأنه لا يضمن أن يكون مع أبنائه أي شخصٍ، عندئذٍ هو يذهب في الصباح إلى المدرسة، وسيُكوِّن علاقاتٍ من ورائك في المدرسة، شئتَ أم أبيتَ، إذن ما المطلوب؟
أن أُوجد محاضن، أن أتعب، فأنا أتعب في البحث عن وظيفةٍ لي، أو له، أو لها، أو أبحث عن مشروعٍ تجاريٍّ للأسرة، أو أتعب لأجل بناء بيتٍ أو شيءٍ من هذا القبيل، أنا أتعب في هذه القضية، وهي من أهم القضايا.
ولا أَمَلُّ سؤالًا مثل هذا السؤال، أذهب وأرجع ... إلى آخره.
فأنا أظن الآن مع مراكز الأحياء يمكن لو ضغطنا وتعاونا مع مراكز الأحياء وغير مراكز الأحياء نستطيع أن نُوجد بيئاتٍ مُحافظةً.
نحن بحاجةٍ فعلًا إلى أماكن آمنةٍ تُوجه، وفيها المجالات التي يُحبها الشباب التي فيها ألعابٌ، وفيها مسابح، وفيها مكتبةٌ، وفيها مسرحٌ، وفيها دوراتٌ، وفيها تنميةٌ ... إلى آخره، لكن بوجود إشراف أناسٍ فُضلاء أخيار يحصل انضباطٌ في اللباس، وانضباطٌ في السلوك، وانضباطٌ في قضية الصلاة والتَّوجيه، فلماذا لا يكون عندنا مثل هذه الأندية؟
بعض مراكز الأحياء بدأت في مثل هذا الشيء، وأتمنى أن يكون هناك اهتمامٌ، ولن يضغط كما تضغط الأُسر.
أنا أقول: لن يكون هناك ضاغطٌ كما تضغط الأُسر، هي أولى أن تضغط في حقِّ أبنائها ورعايتهم أيها الإخوة، ونسأل الله أن يحفظ أبناءنا وأبناءكم.
كيف يتعامل الآباء مع الأبناء المُراهقين؟
هنا سؤالٌ يقول: كيف يتعامل الآباء مع الأبناء المُراهقين، سواء من الأولاد أو البنات؟ وكيف يكونون قدوةً لأبنائهم وتصحيح السلوك عند الآباء قبل تصحيح أو تعديل سلوك أبنائهم؟ جزاكم الله خيرًا.
موضوع المُراهقين أنا أُشير فيه إلى كتابين مُهمين جدًّا لا بد أن تتم قراءتهما من قِبَل الآباء والأمهات، ومن المعلمين والمعلمات، ومن أي واحدٍ يتعامل مع المُراهقين.
هناك كتابان رائعان جدًّا نصيحتي أن يُطَّلع عليهما -أو ثلاث كتبٍ-: كتاب "المُراهقون" للدكتور عبدالعزيز النغيمشي، وهو كتابٌ مهمٌّ جدًّا، وكُتيب للدكتور عبدالكريم بكار بعنوان "المُراهق" ضمن "سلسلة التربية الرشيدة" -أظن الجزء الرابع من هذه السلسلة-، وكتاب الأستاذة حنان الجهني، وهي رسالة (ماجستير) طبعتها مجلة "البيان" عن "الدور التربوي للوالدين في تربية الفتاة المسلمة"، الجزء الثاني عن المُراهقة.
هذه الكتب مهمةٌ ورائعةٌ جدًّا، وسهلةٌ من حيث العبارات والصياغات، وهناك كتبٌ أخرى مُختصةٌ، لكنها صعبةٌ، وغير أهل الاختصاص قد يتعبون فيها، لكن هذه مُضمنةٌ تضميناتٍ إسلاميةً، ومن الكتاب والسنة، فيُستفاد منها.
بالنسبة لموضوع الكلام الذي ذكره السائل أو السائلة لا بد من قُدوةٍ، نعم، الأب والأم لا بد أن يكونا قُدوةً للمُراهقين، وسنختصر الطريق، وما نحتاج أن نُعيد الكلام من خلال مُطابقة القول للعمل.
يعني: الابن المُراهق والبنت حين يريان آباءهما وأمهاتهما يأمرونهما ويُوجِّهونهما التوجيه الطيب، لكن لا يُمارسونه، سيتأثران بهم، وستهون عندهما أشياء كثيرةٌ جدًّا في الصلاة، وفي الصدق، وفي القيم، وفي الحجاب، وفي إشغال أوقات الفراغ، وفي أشياء عديدةٍ جدًّا حين يجدان هذه القُدوة مُتمثلةً في آبائهما وأمهاتهما، وكما يقول الشاعر:
لا تَنْهَ عن خلقٍ وتأتي مثله | عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم[5]"عيون الأخبار" لابن قتيبة (2/ 24). |
والله قبل ذلك يقول: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، فالاستنكار هنا على قضية ترك النفس، وليس على قضية أمر الناس بالبرِّ، فلا بد أن آمر الناس بالبرِّ، لكن إذا نسي الإنسان نفسه لن يكون قُدوةً.
لذلك أنا أُوافق السائل أو السائلة؛ لا بد من تصحيح السلوك عند الآباء قبل تصحيح السلوك عند أبنائهم، لكن لا يعني هذا الكلام أنه إذا كان الوالدان مُتلبّسين بأمرٍ مُخالفٍ للقُدوة أنهما لا يأمران ولا ينهيان، وهكذا المعلم.
يعني: ما دامت الفرصة مُواتيةً -خاصةً بالنسبة للآباء مع أبنائهم والمعلم مع طلابه- فيُوجّه حتى لو كان مُقصرًا -كما سيأتي في السؤال-، ويعترف بأنه مُقصِّرٌ، بل يقول لهم وتقول لهم: لا تكونوا مثلي، أنا ابتُليتُ بهذا الأمر، ولا تجعلوني قُدوةً.
هذا التجرد لا شكَّ أنه مُؤثرٌ على الأجيال، أما السكوت وعدم التَّوجيه بسبب أني أنا مُقصرٌ -هذه واحدةٌ-، أو أنني أُعطيهم التَّوجيه وكأني أفعل الصواب، ويجدون الفارق بين التوجيه الكلامي والواقع الفعلي! أيضًا هذه مُؤثرةٌ جدًّا.
لكن لما يُقال لهم: نحن مُقصرون، لا تُقلدوننا فيما نحن مُقصرون فيه، وإنما عليكم أن تتجهوا للأشياء الصحيحة، وألا تُقلدونا في الأشياء التي ليست صحيحةً.
النُّصح والتَّوجيه من خلال الحديث عن الرياضة
يقول السائل: هل للمعلم أن يُؤثر في طلابه ويستدرجهم بالنُّصح والتَّوجيه من خلال الحديث عن الرياضة؟
هما سؤالان في هذا الموضوع: اجتهاد التربوي، أو الجانب الشرعي لأهل الشريعة.
ولا شكَّ أننا مُناطون بالشرع، لكن أقول: بعض الأشياء أرجو أن يكون فيها نفعٌ، يعني: إذا كانت الرياضة التي يتحدث عنها رياضةً شريفةً ومُتعلقةً بقُدواتٍ إيجابيةٍ، وليس فيها الصَّخَب والهَوَس والجوانب الإعلامية ... إلى آخره؛ فنعم.
فإذا كانت القضية بين الطلاب بعضهم مع بعضٍ، أو بين أفراد الأسرة بعضهم مع بعضٍ، فلا بأس، أما أن ندخل في غير هذا الكلام ونُبرز نماذج غير سَويةٍ من لاعبين تتعلق قلوب الشباب والأطفال بهم، بل حتى البنات -للأسف الشديد- اليوم، فهذا نقضٌ للقُدوة الحسنة، وحرفٌ للأبناء إلى القُدوة السيئة، ناهيك عن المُخالفات الشرعية فيما يتعلق بتلكم الرياضات.
فنحتاج أن ننتبه، ليس صوابًا أن يقوم المُربي فيتكلم عن مباراةٍ من المباريات العالمية أو المحلية وأشياء من هذا القبيل، ويُحللها حتى يكون هذا الطُّعْم! لا، أنت لستَ بحاجةٍ إلى هذا، عندك طُعْمٌ، عندك مجموعةٌ من الفرص في قضية التأثير موجودةٌ، ولا حاجةَ لهذا الأمر؛ لأنك أنت معلمٌ، وأنت أبٌ، ومهما كان الأمر ستُؤثر، وسيُؤخذ أن هذا هو أسلوبٌ من أساليب التأثير، والإنسان لا حاجةَ له، والوسائل لها أحكام المقاصد كما يقول أهل الشريعة، يعني: ما نحتاج أن نأخذ وسائل فيها الشبهة، أو قد تكون مُحرمةً، لا شكَّ أننا لا نحتاج إلى هذا؛ فلذلك ننتبه حتى لا نُعطي قُدوةً سيئةً للأبناء أو للطلاب.
نحن عندنا حضارةٌ إسلاميةٌ
هنا يتكلم عن الاقتداء ببعض الصفات الغربية الحضارية غير المُسيئة.
أنا لن أُجيب عن صيغة السؤال؛ لأن الأسئلة الشرعية أنا لا أُجيب عنها كما ذكرتُ لكم سابقًا، لكن سأُجيب من الجوانب التربوية.
يا إخوان، نحن عندنا حضارةٌ إسلاميةٌ، فلا نحتاج إلى أن نُبرز قضيةً مُتعلقةً بالصدق من خلال نموذجٍ غربيٍّ، نحن -المسلمين- لا نحتاج إلى هذا، ونُربي أبناءنا على تقاليد غربيةٍ! لا نحتاج، نحن عندنا حضارةٌ، وهذه الحضارة فيها أشياء عظيمةٌ جدًّا، وعندنا نماذج.
صحيحٌ هناك تقصيرٌ من المسلمين، لكن هذا التقصير موجودٌ أيضًا عند الغربيين وعند غيرهم.
فعلينا أن ننتبه لهذا الموضوع، ولا إشكال عندي في أن نجعل بعض القضايا التي عندهم مُثيرةً لنا، لا إشكال في ذلك من وجهة نظري، فإذا كان هؤلاء يُمارسون بعض الأشياء التي ظاهرها الأمانة، فنحن من باب أولى أيها المسلمون علينا أن نكون أحسن من هؤلاء الناس، هذا جانبٌ من الإثارة النفسية، وهذه قد تكون مُفيدةً، لكننا لا نُقدم الوجه الحضاري كقدوةٍ، فنحن عندنا حضارةٌ إسلاميةٌ فيها الشيء الذي يريده الغرب ويبحث عنه.
رسم أسماء اللاعبين النَّصارى على الملابس الرياضية
يقول: حمل أسماء اللاعبين النصارى على الملابس الرياضية؟
أنا لا أتكلم من الناحية الشرعية، وأظن أن اللجنة الدائمة لها كلامٌ في هذا الموضوع -إن لم تَخُنِّي الذاكرة-، وهذا مما نجده مُنتشرًا عند الشباب.
يا أخي، الاسم ليس مجرد أنه لاعبٌ، ستجد أن هذا الاسم له جزءٌ من المحبة، وكما قيل:
لو كان حبُّك صادقًا لأطعتَه | إن المُحبَّ لمَن يُحب مُطيع[6]"الكامل في اللغة والأدب" لابن المُبرد (2/ 4). |
وأنا أجزم أننا لو أجرينا دراسةً ميدانيةً لوجدنا بعض الذين يحملون هذه الأسماء لديهم معلوماتٌ دقيقةٌ عن حياة هؤلاء واهتماماتهم أكثر مما لو سألناهم عن الصحابة!
فلذلك أيضًا لا حاجةَ لنا بمثل هذا الأمر -الحمد لله- في مجال اللبس الرياضي من غير هذه الرمزية للقُدوات السلبية.
وتذكرون أحد اللاعبين قبل فترةٍ نزل إلى الملعب وعليه صليبٌ واضحٌ، وصار عليه كلامٌ، وأنا قرأتُ في المُنتديات الشبابية أن بعض الناس احتجوا وغضبوا، وبعض الناس قالوا: ماذا فيها؟! هذا كافرٌ له حقٌّ في أن يُظهر الصليب!
يعني: تصور كيف نُناقش القضية دون النظر إلى الجانب الشرعي؟!
أنا لما أُرمّز لأبنائنا ترميزاتٍ ما لها داعٍ، القُدوات ستكون لي ضحيةً في مثل هذه المُهاترات التي لا أولَ لها ولا آخر.
تعلق الأبناء بالمشاهير
لماذا يتعلق الأبناء بالمشاهير ويتركون التَّشبه بالعلماء والفُضلاء؟
هذا سؤالٌ قويٌّ، وأنا أقول:
وما عجبٌ هذا التَّفاوت بيننا | فكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح[7]"من روائع حضارتنا" لمصطفى السباعي (ص176). |
ونرجع إلى كلام ابن القيم الذي ذكرناه، فالإنسان على ما نشأ عليه وتربَّى عليه في البيت وعبر الإعلام والمدرسة والأصدقاء: "فكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح".
لذلك إذا كنتُ أنا أسأل وأنا في الأسرة فدعني أنظر: هل أنا كنتُ مُساعدًا على أنهم يتعلقون بالعلماء والفُضلاء، أو أني غير ذلك؟ فنريد أن ننتبه.
أنا ناقشتُ العديد من الناس، وشعرتُ أن هناك غفلةً، يعني: جاءت القنوات الفضائية لأجل الأخبار، طيب، والأشياء الثانية غير الأخبار؟!
طيب، هذه القضايا كلها ما فكَّرنا فيها! الضبط ما هو بموجودٍ، ماذا تتوقع من هذا الإنسان ومن هذا الأب؟
وبعضهم يقول لك: ماذا أعمل أنا؟ كأنه يقول: هذا أمرٌ طبيعيٌّ وعاديٌّ! ما قلنا: إن الإنسان أتى بهذه ويريد السوء لأبنائه، لا يوجد عاقلٌ يريد السوء لزوجته ولأبنائه، لكن الغفلة والابتعاد عن المنهج التربوي الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة هو الذي سبَّب هذه المشاكل، والشاعر يقول:
ألقاه في اليَمِّ مكتوفًا وقال له | إياك إياك أن تَبْتَلَّ بالماء[8]"نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للتلمساني (5/ 292). |
وبعض الآباء يقول لك: يا أخي الكريم، نحن كبارٌ.
وهذه المرأة التي تخرج بالأخبار في أبهى حُلَّتها وجمالها ما تتأثر بها أنت أيها الأب؟!
نفترض أنك ما تأثرتَ، ابنك المُراهق الجالس الآن، وابنتك التي تنظر إلى صور الرجال المُثيرة، وما شابه ذلك، هذا يُسمونه في علم النفس: الفهم مع المُسترشد.
نزِّل نفسك مكان الطرف الآخر، لا تُفكر أيها الأب بك أنت نفسك، فكِّر بعقلية ومشاعر الطفل، فكِّر بعقلية ومشاعر المُراهق، وأيضًا أنت مُكلَّفٌ شرعًا بعدم النظر الذي لا يجوز، فلا يجوز لك أن تنظر بلا نقاشٍ.
والله أخبار قضيتنا ما أصبحت أخبارًا، أصبحت قضايا أكثر من ذلك بكثيرٍ؛ لذلك كل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَح.
الشباب قوةٌ بين ضعفين
نُلاحظ في الفترة الأخيرة وجود شخصيةٍ غريبةٍ تعلق بها الشباب -خصوصًا الثانوية- بسيارات التَّفحيط، ووضع الغُتْرة بشكلٍ غريبٍ، فهل من لفتةٍ لهذا؟
أنا ما أدري ماذا يقصد الرجل؟
أنا ما عندي مُتابعةٌ في هذا، لكن لا بد من رعاية الشباب، فالشباب طاقاتٌ، ومرحلة الشباب -لما تقرأ فيها- من مراحل الفُتوة والنَّماء والعطاء والتَّضحية، ما تجد هذه الأمور في غير الشباب بهذه القوة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [الروم:54]، فهذه القوة التي بين ضعفين هي قوة الشباب كما قال المُفسرون.
فلذلك تنبغي رعاية الشباب، وإملاء الجانب العاطفي، واستثمار جانب الطاقة عندهم من خلال مُربين حُكماء، وأول المُربين الحُكماء: الأب والأم للأبناء ذكورًا وإناثًا، والمعلمين، فلا بد أن أتعب حتى أكون مُربيًا حكيمًا، أنا وزوجتي يحتاجنا الأبناء بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا، وكذلك البحث عن مدارسهم، وعن الأساتذة الذين يتأثرون بهم تأثرًا كبيرًا.
مميزات وصفات القُدوة الجيدة
هنا سؤالٌ يقول: ما مميزات وصفات القدوة الجيدة؟
نحن ذكرنا هذا الكلام في اللقاءات الماضية، ونقول لمَن لم يحضر وإجابةً عن السؤال: هناك ثلاثة أشياء ذكرناها:
- مُطابقة القول للعمل، وهذه أهم صفةٍ.
- وتكرار الأمر يكون سِمةً، وليست القضية مرةً أو مرتين، وإنما سِمةٌ موجودةٌ مُتأصلةٌ في الشخص القُدوة.
- الأمر الثالث: أن يكون نموذجًا حيًّا موجودًا يُنظر إليه.
مَن هو القُدوة المُثلى؟
لا شكَّ أنه الرسول .
كيف يمكن للإنسان أن يُطور نفسه ليكون قُدوةً؟
هذه قاعدةٌ جميلةٌ جدًّا، فخذوها يا إخواني، وقد ذكرها أهل الاهتمام والاختصاص: القُدرة تأتي بالتدريب، والرغبة تأتي بالتحفيز.
وأنت أخي الكريم حتى تُطور نفسك تحتاج إلى هاتين القضيتين: حفِّز نفسك، وحفِّز غيرك، شجِّع نفسك، وشجِّع غيرك، درِّب نفسك، ودرِّب غيرك، علِّم نفسك، وعلِّم غيرك.
وبهذه الصورة تكون لديك ميولاتٌ وقُدراتٌ إيجابيةٌ.
وبهذه الصورة يُطور الإنسان نفسه، بإذن الله .
هل يجب أن تكون القدوة من نفس الجنس؟
هنا سؤالٌ يقول: هل يجب أن تكون القدوة من نفس الجنس؟
أي: الرجل قُدوةٌ للرجل، والمرأة قدوةٌ للمرأة.
أنا أرى أن هذا هو الأوقع -والله أعلم-، فالجنسان مُختلفان: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى [آل عمران:36]، لكن ليس معنى هذا الكلام ألا يكون الرجل قُدوةً للمرأة، وألا تكون المرأة قُدوةً للرجل، بل حتى الحيوان -أكرمكم الله، وأعزَّ الله السامعين- قد يكون قُدوةً للإنسان.
ولابن القيم كلامٌ جميلٌ جدًّا في هذا في "شفاء العليل"، يتكلم عن قضية الحيوانات، وأثر هذه الحيوانات على تطبع بعض الصفات والقيم عند الإنسان.
ولا أدري أذكر (هولاكو) أو (تيمورلنك)؟ وأنه كان في مغارةٍ أثناء الحرب، فوجد نملةً تصعد على الحائط تريد أن تصل إلى هدفها، وإذا بالنملة تسقط، ثم تعلو مرةً أخرى وتسقط، ثم تعلو مرةً أخرى وتسقط، حتى فعلت ذلك مرات ومرات إلى أن وصلت، فقال هذا الرائي: لماذا لا أكون مثل هذه النملة في الإصرار؟!
هذه إجابةٌ عن سؤالنا الذي ورد قبل قليلٍ في قضية المحاولة وتكرار المحاولة، فلا ييأس الإنسان، فالإنسان يمكن أن يقتدي حتى بغير جنسه.
إذا كان الأب لا يستطيع أن يكون قُدوةً هل يُخبرهم بذلك؟
نعم، أنا أرى أنه يُخبرهم بذلك، والله تعالى أعلم، فهذه القضية مهمةٌ جدًّا، وتُطمئن الشخص نفسه، خاصةً إذا كان حريصًا، فمن المُفترض أن يكون قُدوةً، فلا يكن قُدوةً سيئةً من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ: الطرف الآخر يعرف الصواب من الخطأ؛ لأن الذي أمامه قُدوةٌ، ولا يتراخى الشخص في هذا الأمر، إنما يجعل ذلك وسيلةً لإصلاحه.
أنا عندما أقول لابني أو للطلاب: لا تتبعوني في هذه القضية، فأنا لستُ مُنضبطًا في الوقت، أقول لكم: سأحضر الساعة السادسة، ولا أحضر الساعة السادسة، وأريد أن ألتزم في أول المحاضرة، واسمحوا لي، لا تصيروا مثلي لا تلتزمون في المحاضرات، فأنا في هذه القضية مُقصرٌ، لا تصيروا مثلي. لكنه في جوانب أخرى قُدوةٌ وإيجابيٌّ.
هذه لها أثرٌ كبيرٌ جدًّا، وتُساعد هذا الشخص المُخطئ المُقصر في أن يُصلح من حاله، ولا حاجةَ للمُجاملات، لا مُجاملةَ النفس، ولا مُجاملةَ الآخرين.
تردي أوضاع الأبناء بسبب التربية التي تلقّوها
يقول: أرجعتَ أسباب انحراف الأبناء إلى تقصير الآباء وعدم التزامهم بأن يكونوا قُدوةً، فهل تعتقد أن سيدنا نوحًا قصَّر في التربية، وأنه لم يكن قُدوةً لابنه؟
ما ذكرناه يا إخوان محمولٌ على قضية الغالب، كما ذكر ابن القيم: أكثر ما يكون من أحوال الناس في تردي أوضاع الأبناء هو بسبب التربية التي تلقّوها[9]"تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229).، وأهم محضنٍ لهذه التربية هو الأسرة، وقد تكون هناك محاضن أخرى كثيرةٌ أثَّرت في هذا الموضوع.
نحن أكَّدنا على الأسرة، لكن أيضًا أي وجهٍ من أوجه التربية فالقضية مُرتبطةٌ بالغالب، لكن لا يلزم أن يكون نوحٌ قد قصَّر في التربية، بالعكس نوحٌ تعب ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، ومع ذلك ما كتب الله لابنه الهداية.
فهذه القضية واردةٌ، ولكن هذا الكلام لا يصلح إلا إذا بذلنا جهدنا وإلى آخر لحظةٍ، وبعد ذلك الله يعذر مَن أخذ بالأسباب.
هل يمكن أن نقتدي بالكفار في بعض المجالات؟
هل بالإمكان أن نتَّخذ قُدوةً لنا من الكفار في مجالات الرياضة أو غيرها من أمور الدنيا؟
أنا أقول: لا نحتاج، نحن نحتاج إلى قُدواتٍ صالحةٍ مسلمةٍ لأجيالنا، نحتاج إلى قُدواتٍ في مجالات معالي الأمور، لا نحتاج إلى قُدواتٍ في سفاسف الأمور التي أشغلت العالم وأشغلت شبابنا اليوم.
ماذا تعني الكرة يا إخوان؟!
الرياضة لها قدرها في حجمها، وهي وسيلةٌ، وليست غايةً، وقد أصبحت غايةً، وأصبح الشاب يُخاصم عليها! ويهتم بها! وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ.
وقد تستغرب من تصرفات البعض، يعني: وأنا آتٍ إليكم قبل قليلٍ وجدتُ بعض الشباب في السيارات يحملون أعلامًا قبل صلاة المغرب من يوم الجمعة، وهذا الوقت يُمكن للإنسان أن يُقبل فيه على الله بالدعاء والذكر.
نعم فيهم خيرٌ، ما يُقال: لا، لكن أن تكون الكرة هي التي تُحرك المشاعر وتصيغ الفكر هذه قضيةٌ مهمةٌ؛ ولذلك نحن لا نحتاج إلى هذا الأمر.
فنرجع ونقول: إذا جعلنا وضع الكفار حافزًا لنا كمُثيرٍ فيمكن أن نستفيد من هذه القضية، أما أن نبحث عن القُدوات ونأتي بها، فأنا أقول: علينا أن ننتبه لهذه القضية.
والذين يعرضون قُدواتٍ من الكفار وأمثلةً من الكفار، ويتركون ما عندنا من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الصالحين والعظماء من المسلمين يُقصرون تقصيرًا كبيرًا في إعادة الأمة إلى مجدها!
لدينا مخزونٌ أيها الإخوان، لكن تستغرب من البعض عندما يتكلم يقول: قال فلانٌ، وقال فلانٌ من الغربيين، مثل: (جون ديوي) أو (روجرز) وأمثالهما!
هذا ليس درسًا علميًّا في التربية أو علم النفس نحتاج فيه إلى أن نقول لهم هذا الكلام، وهناك أناسٌ يتكلمون بذلك في دوراتٍ تدريبيةٍ ... إلى آخره!
أخي، خُذْ من كتاب الله وسنة رسوله ، ومن كلام العلماء الذين سبقوا (جون ديوي) الذي يُسمونه: أبو التربية الحديثة، ويرى البعض أنه قد أخذ بعض القضايا التي طرحها من "مقدمة ابن خلدون"، فـ"مقدمة ابن خلدون" مقدمةٌ رائعةٌ جدًّا في التربية وعلم الاجتماع.
طيب، لماذا لا نفعل ذلك؟
المشكلة في المُحاكاة والتَّقليد الذي يكون عند المُنهزمين، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا، للأسف الشديد.
مَن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه
يقول: بعد زواجي التزمتُ؛ فأطلقتُ لحيتي، وقصَّرتُ ثوبي، ورميتُ الدِّش واستبدلته بقنوات المجد، لم تتحمل زوجتي حياتنا، وكثرت المشاكل، وأثَّر ذلك على أبنائي وبناتي، وجاءتني ضغوطاتٌ من بعض الأقارب حتى عُدْتُ وركبتُ الدّش، والآن أبنائي يرون العالم المفتوح بقنوات التلفاز و(الإنترنت)، علمًا بأن أكبرهم بنتٌ عمرها تسع سنوات، ولدي الآن ثلاثة أبناء، فماذا أفعل؟
أسأل الله أن يُصلح نفسك وزوجك وأبناءك والمسلمين جميعًا.
هذا من المُعاناة الشديدة جدًّا، فحينما يُبتلى الإنسان بهذا الصراع: يفعل الشيء، ويرى أنه حقٌّ، ووفَّقه الله إليه، ثم يأتي مَن يُعيق الحركة، فما الحلُّ؟
الحل قول النبي شئنا أم أبينا: مَن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس[10]أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وصححه الألباني في "التعليقات الحِسان" (276)..
ذكر الرسول اتجاهين لا ثالثَ لهما، وبعضنا يبحث عن الثالث، ولن يجد الثالث.
إذن رضا الله ورضا الناس ليس مشكلةً، هذه أمرها سهلٌ، لكن رضا الله بسخطٍ من الناس الله تكفَّل لك والرسول تكفَّل لك بأن الله سيرضى عنك، وسيُرضي عنك الناس، أنت صاحب مبدأ، وإلا سيسخط الله عليك، وسيُسخط الناس عليك.
والله يا إخوان هذه من مَحَكَّات الإيمان، لما يقول الله في سورة الحجرات: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3]، يقول عمر: هم الذين نفوسهم تميل للمعاصي ويحبسونها[11]"تفسير ابن رجب" (1/ 318)..
هناك فرقٌ بين مَن كان يقترف المعاصي ثم تركها وتبدأ نفسه تقول له: ارجع. وشخصٍ ما تربى على هذه المعصية، فهو تاركها، فكلاهما ترك المعصية، ولكن الأول أجره عند الله أعظم؛ لأن له أجرين: أجر الترك، وأجر المُجاهدة، وهذا الذي ابتلاه الله للتقوى: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى.
أنا أقول لهذا الأخ: هذا من الامتحان لك، وينبغي أن تصبر وتتحمل، وليسخط مَن يسخط، وليغضب مَن يغضب، لكن بشرط أن تجمع بين الحزم والودِّ على القاعدة التي ذكرناها سابقًا، فلا تظلم، بل تعدل وتُحسن فيما يتعلق بالتعامل، وتكون ودودًا بالإقناع وبحُسن التعامل، لكنك تحزم ولا تُخالف الشرع، وأنت تدري وتعلم أن هذه القضية لا يرضاها الله منك، وأنت تتحمل مسؤولية مَن كُلّفت به من أبنائك وأهلك، والله تعالى أعلم.
الجزاءات الحازمة تُساعد في عملية التربية
هل إيجاد نوعٍ من الشروط والجزاءات الحازمة والاتِّفاق على تطبيقها يُساعد في عملية التربية على المدى البعيد؟
نعم -والله أعلم- إذا كانت بطريقةٍ حكيمةٍ وبيئةٍ تربويةٍ ناضجةٍ قائمةٍ على الرحمة والرفق والمحبة، فما أجمل هذه الشروط والجزاءات الحازمة الواضحة المدروسة! ليس بأي شيءٍ متَّفقٍ عليه، لكن تكون في هذه البيئة حتى تأتي ثمارها.
ينبغي أن نستثمر مراحل بداية الزواج وبداية مراحل الأبناء، وأن نبني التربية من وقتٍ مُبكرٍ، لا نتأخر إلى أن يكبر الابن ونقول: نريد أن نُربيه الآن، لا، تربيته تكون منذ الصغر، بل إن التربية تبدأ من قبل الزواج؛ وذلك باختيار الزوجة الصالحة التي تُعينك على هذه التربية في حياتك، وفي نفسك، وفي أهلك، وفي أبنائك.
حَرُمَ على النار كل هيِّنٍ ليِّنٍ سهلٍ قريبٍ من الناس
يقول الأخ الكريم: قال الرسول : كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[12]أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829).، ووجود الرحمة والحرص من الأهل بين الأم والأب على الأبناء، والجمع بين الأولاد والبنات، وكون الأم أقرب للأبناء عمومًا بالسؤال والمعرفة بأحوالهم وشؤونهم، لا تركهم وشأنهم مع الناس الغُرباء، وذهابهم وخروجهم، والتأخر خارج المنزل بأي وقتٍ، فأين قلوب الأب والأم لأبنائهم؟!
نعم، كلامٌ سليمٌ، لا بد أن يكون الآباء والأمهات قريبين من أبنائهم، والحاجة لهذا ماسَّةٌ جدًّا يا إخوان، فعلى الوالدين أن يكونا قريبين من الأبناء، والرسول يقول: حَرُمَ على النار كل هيِّنٍ ليِّنٍ سهلٍ قريبٍ من الناس[13]أخرجه أحمد في "مسنده" (3937)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3129).، فالقرب حينما يكون من الآباء للأبناء سيجدون أن هناك أشياء معينةً كانوا غافلين عنها ستتحقق، ولها أثرٌ كبيرٌ جدًّا.
يا إخوان، العامل النفسي والوجداني عاملٌ خطيرٌ جدًّا جدًّا جدًّا، يعني: حينما يجد الأب والأم أن الأبناء مُتنفَّسهم عما في داخلهم عند آبائهم وأمهاتهم فهذا من أكبر معالم النجاح في التربية: أن يأتي الابن ويُعطيك مشاكله، وكذلك البنت، هذا من أكبر معالم النجاح في التربية في العلاقة بين الآباء والأبناء.
أما إذا كانت الأمور ممتازةً شكلًا، لكن عنده أمورٌ وأشياء أخرى لا يريد أن يقولها؛ سيذهب ليُنَفِّسها عند الآخرين، وهذا معناه أن هناك إشكاليةً في العلاقة بين الآباء والأبناء.
كيف أكون قُدوةً وأنا مُقصِّرٌ؟
هل يلزم أن يكون الشخص مثاليًّا ومُلتزمًا لكي يكون قدوةً صالحةً؟ وكيف يكون قُدوةً وهو مُقصرٌ؟
يكون قُدوةً في الشيء الذي يُطابق قولُه فيه عملَه، هو الذي وافق فيه الحقَّ، فهو قُدوةٌ في هذا الجانب، ما يمنع ذلك.
وليس معنى هذا التَّبرير له في الجانب الآخر المُقصر فيه كما قلنا قبل قليلٍ، فهو يكون قدوةً فقط في أن يكون صادقًا كما قلنا، ولا يخلط، لا يلبس الحقَّ بالباطل، ويعترف بالخطأ، ويكون هذا مُساعدًا له في أن يُصلح من حاله، وعندئذٍ -إن شاء الله تعالى- يخفّ عليه هذا الوعيد: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
الأمراض النفسية
كيف أُوجه ولدي إذا كان يُمارس سلوكًا سيئًا؟
هناك عدة أساليب.
وهنا سؤالٌ أيضًا يقول: ما علاج الأمراض النفسية؟ ما أنواع الأمراض النفسية؟ ما أكثر الأمراض النفسية؟ ما أسباب الأمراض النفسية؟
هذه على أية حالٍ مصيرها أن نضعها هكذا؛ لأنها كثيرةٌ جدًّا، وأنا لا أريد أن يشغل الناس بالهم ويشعرون أن هناك علمًا يفتقدونه ويريدون أن يقرأوا فيه.
جاءني أحد الشباب بعد أحد اللقاءات في مدرسةٍ ثانويةٍ وقال لي: أنا أقرأ الآن في التنويم المغناطيسي في كتابٍ! قلتُ: ما شاء الله! ثم ماذا؟ قال: وصلتُ إلى صفحة كذا. فقلتُ له: الله يرحم أباك، أتريد نصيحتي؟ أغلق هذا الكتاب تمامًا، الله يُعطيك العافية. فقال: لكني أحسّ ...
يا أخي، الذي يجهل شيئًا يُحسّ أنه فاقده أو يُريده، قلتُ له: أنت تريد أن تُدمر نفسك؟! أنا أُعطيك شيئًا مُختصرًا وتقرأه وترتاح، فلا تذهب وتقرأ شيئًا ثم بعد ذلك تُصبح مهلوسًا وموسوسًا إلى غير ذلك من الجوانب الأخرى، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ جدًّا لا بد أن ننتبه لها.
في مثل هذه القضية هناك عدة أساليب لمُعالجة السلوك السيئ عند الابن، وعلى صاحب المشكلة أن يرجع إلى طريقة الرسول في حلِّ بعض المشكلات، فكان عليه الصلاة والسلام حازمًا: لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدها[14]أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).، وأقام الحدَّ على شارب الخمر[15]أخرجه مسلم (1706).، وكان حازمًا فعلَّم الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، وكان حازمًا فعلَّم الأعرابي الذي أتى يتبول في المسجد[16]أخرجه البخاري (6025)، ومسلم (284).، فالحزم يستدعي التعليم والتوجيه وما يلزم إذا كان مثل إقامة حدٍّ ... إلى آخره حسب القضية.
البعض يقول لك: هذا الآن لا نريد أن نتكلم معه، نخاف أن يغضب!
لا، نرجع ونقول: البيئة التربوية لا بد أن تكون منذ وقتٍ مُبكرٍ، هذه هي القضية رقم واحدٍ.
القضية الثانية: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم[17]أخرجه البخاري (6781).، ينبغي سدّ باب الشيطان حتى لا يتأثر الابن فتزداد مشكلته.
بعضنا يكون قاسيًا، وعندئذٍ تحصل ردة فعلٍ سيئةٌ، نحن نريد أن نُعدل السلوك.
الآن الأخت أو الأخ يريد أن يُمارس سلوكًا سيئًا، ونحن قسونا عليه، المشكلة أن هذا الأسلوب سيجعل السلوك يبقى، وربما يزداد، فلا يجوز، وأنتم تعرفون قاعدة المصالح والمفاسد وكلام العلماء: إذا كان إنكار المنكر سيُؤدي لمنكرٍ أكبر منه فلا يجوز إنكار هذا المنكر.
ونفس الطريقة هنا: شيءٌ سيُؤدي إلى مشكلةٍ أخرى وتزداد؛ فلا يجوز أن أقتحم هذا الأسلوب، ولا بد من ضبط نفسي لاتِّخاذ الأساليب المُناسبة.
الأمر الثالث: ذكر الإيجابيات: لما قال النبي : فوالله ما علمتُ إنه يُحب الله ورسوله[18]أخرجه البخاري (6780).، والقُرب من هذا الإنسان لما قال: ادنه للشاب[19]أخرجه أحمد في "مسنده" (22211)، وصححه الألباني في "مختصر السلسلة الصحيحة" (370)..
هذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا، وبهذه الصورة نجمع بين عدة أمورٍ من أجل حلِّ المشكلة التي يقع فيها أي واحدٍ منا ومن الأبناء.
كيف أتعامل مع والدي الكسول؟
من وجهة نظري: أنظر إلى ما يُحبه ويرتاح إليه وأغزوه من خلال هذا الشيء الذي يُحبه، فلا شكَّ أن كل واحدٍ منا له مفتاحٌ، فابحث عن هذا المفتاح وستجده -إن شاء الله تعالى- وستستطيع أن تُحرك والدك، لكن على أية حالٍ عليك ببرِّه أيًّا كان: كسولًا، أو ليس بكسولٍ.
كيف أتعامل مع ولدي الكثير الحركة؟
حمِّله المسؤولية، كثيرٌ من الناس يتضايقون من الأبناء الذين عندهم حركةٌ، بغضّ النظر عما يُسمى بفرط الحركة وتشتُّت الانتباه، هذه قضيةٌ مرضيةٌ لها وضعٌ آخر، أنا أتكلم عن شخصٍ يتحرك.
دعه يتحرك يا أخي، الطفل يُحب أن يلعب، بل ينصح التربويون والنفسيون أن الإنسان في بداية زواجه إذا كان عنده أطفالٌ يأخذ مكانًا في فضاءٍ حتى يلعبون، لا يكون مُغلقًا، هذا يُساعدهم في أشياء عديدةٍ جدًّا في مثل هذا الموضوع.
فالطفل حركيٌّ، وعليك أن تُحمله المسؤولية، فقد يكون قياديًّا، وقد يكون رجلًا مُنجزًا؛ فلذلك أنت تُحمّله المسؤولية.
وعندما نقرأ في طريقة الرسول مع أنس بن مالك ، حيث حمَّله مسؤوليةً ضخمةً جدًّا؛ حمَّله كتم السرِّ عليه الصلاة والسلام، وضع عنده سرَّه عليه الصلاة والسلام وهو غلامٌ صغيرٌ، وهذا يُؤكد على أهمية تحميل الأطفال المسؤولية.
تقديم العقل على النَّقل
الورقة قبل الأخيرة، والسؤال طويلٌ، لكن باختصارٍ يقول: كيف نرد على الذين جعلوا القضية مُتعلقةً بالتفكير، وقدَّموا العقل على القرآن والسنة، وما شابه ذلك ... إلى آخره؟
أنا أشرتُ إشارةً إلى أهمية الارتباط بالقدوة، وذكرنا الجانب المُتعلق بالاتباع، ونحن نلتزم بما جاء في الوحي، وأن العقل يكون تبعًا لما جاء في الوحي، وهذا أصلٌ أساسيٌّ.
ولذلك ينبغي أن نُذكر أنفسنا ونُذكر هؤلاء بقضية قول الله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، ليس هناك خيارٌ، هذه قضيةٌ من ربِّ العالمين، انتهينا، نقف عندها ونقول: سمعنا وأطعنا.
ولذلك فرَّق الله بين مَن قال: سمعنا وأطعنا، وسمعنا وعصينا، وقد ذكر الله الذين وُفِّقوا لقضية الاستجابة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فالذين يستجيبون، أو الأمر في الاستجابة تكون نتيجته حياةً للإنسان.
وعقلنا يا إخواني له حدودٌ، ولله المثل الأعلى، حتى المُنتج المُعين الدنيوي: الآلة يصنعها الإنسان تجد أن الذي صنع حيثياتها جعل لها إطارًا مُعينًا، وحدَّ لها حدودًا.
فهذا العقل مخلوقٌ، خلقه الله له إطاره، وله حدوده، ما يمكن أن يتجاوز هذه الحدود فيعلو على أمر الله -عياذًا بالله-، هذا من أخطر ما يكون.
يذكرون كلامًا لأبي بكرٍ الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، تذكرون هذا الكلام لما قيل لأبي بكرٍ الصديق : إن صاحبك يقول أنه قد أُسْرِي به إلى بيت المقدس وعُرِجَ به إلى السماء! قال: "لئن كان قال ذلك لقد صدق"[20]أخرجه الحاكم (4407)، وقال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه. ووافقه الذهبي.
وعمر يقول: "إني أعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي يُقبلك ما قبَّلتك"[21]أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270)..
وعلي بن أبي طالب يقول: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه"[22]أخرجه أبو داود في "سننه" (162)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (525)..
انتهى الأمر، سمعنا وأطعنا؛ تسليمًا لأمر الله وأمر الرسول .
عليٌّ يقول: لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخُفِّ -أي: الأرض- أولى من ظاهره، لكن الرسول مسح على ظاهره.
كيف أُكوِّن شخصيتي؟
الورقة الأخيرة بها مجموعة أسئلةٍ سريعةٍ جدًّا: كيف أُكون شخصيتي؟
أولًا: بالتوكل على الله، فأنت بشرٌ ضعيفٌ وتحتاج إلى الله ، وأنا كذلك.
ثانيًا: تفعيل الجانب الذاتي، فقُدراتنا وميولنا واستعداداتنا لا بد أن نُفعّلها.
ثالثًا: الاستفادة من المُحيط -البيئة الخارجية-، تختار الأصدقاء، المحاضن التربوية، الأسرة.
بهذه الصورة تتكون الشخصية، ولا يمكن أن تتكون شخصية الإنسان بينه وبين نفسه، أو تتكون فقط عند الأداء، فيحتاج إلى علاقةٍ بالله، وعلاقةٍ بالنفس، وعلاقةٍ بالمجتمع.
ثلاثة روابط تُكوّن شخصية الإنسان:
- العلاقة بالله الخالق، وهي الأساس.
- العلاقة بالنفس: معرفة القُدرات والميول ... إلى آخره، واستثمارها، وتفعيلها.
- العلاقة بالناس: بالوالدين، والإخوان، والأسرة، ومَن بعدهم من أصدقاء ومجتمعٍ.
كيف أُحافظ على التنمية الفكرية؟
بالقراءة، بالمناقشة، بالحوار في إطار منهجٍ جيدٍ.
والدكتور عبدالكريم بكار له عدة كتبٍ في هذا الأمر، منها كتاب "بناء الأجيال" تكلم فيه عن التربية الفكرية كلامًا جميلًا جدًّا يمكن أن يُرجع إليه.
فمن خلال القراءة والمُناقشة والحوار مع إطارٍ منهجيٍّ جيدٍ أنا أتصور أنه يمكن أن نُنمي الجانب الفكري عندنا وعند أبنائنا.
بمَن نقتدي؟
بكل نموذجٍ جيدٍ، كن نموذجًا جيدًا، نعم، كلما كان النموذج أكثر شموليةً كلما كان أحرى بالاقتداء، وعلى رأس ذلك النبي وأُولو العزم من الرسل والفُضلاء من هذه الأمة من الصحابة والعشرة المُبشرين بالجنة وغيرهم.
ما فوائد القُدوة؟
فوائد القُدوة باختصارٍ هي: السعادة في الدنيا، والنَّجاة في الآخرة.
القُدوة الحسنة سعادةٌ في الدنيا، فالإنسان -يعني- يسلك ظاهرًا وباطنًا بطريقةٍ سليمةٍ جدًّا.
نحن مشكلتنا الفِصام النَّكِد بين الظاهر والباطن، هذا الفِصام مُؤثرٌ جدًّا على شخصياتنا وعلى شخصيات غيرنا، وهذا الفِصام من أسوأ ما يكون، فيحتاج أن نهدمه، وأن نلغيه، وهذا لا يكون إلا من خلال مُطابقة القول للعمل، وقضية القدوة.
والنَّجاة في الآخرة؛ لأن الله يقول: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، فالإنسان حين يبتعد عما يُغضب الله -والمَقْتُ هو أشد البُغض- سيكون -إن شاء الله- في مَنْجَاةٍ حينما يكون قدوةً حسنةً، ويقتدي بالأخيار الفُضلاء.
هذه جميع الأسئلة التي وردت، بحمد الله .
أسأل الله بأسمائه الحُسنى وصِفاته العُلى أن ينفعنا وإياكم، وأن ينفع بنا وبكم، ويرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، ويجعلنا وإياكم وأبناءنا وأهلينا وأزواجنا وذُرياتنا من السُّعداء في الدنيا والآخرة، وأن ينصر دينه، ويُعلي كلمته، وأن يُعين إخواننا في سوريا وفي مشارق الأرض ومغاربها على كل خيرٍ، وأن يَكْبِت الأعداء في كل مكانٍ، وأن يُرينا في بشار وأعوانه كلَّ ما يسُرُّ المؤمن ويشفي صدور قومٍ مؤمنين، والله تعالى أعلم.
والحمد لله ربِّ العالمين.
↑1 | "الروض الأنف" للسهيلي (3/ 61)، و"المُنتخب من مسند عبد بن حميد" (2/ 187)، وذكره الألباني في "صحيح السيرة النبوية" (ص159). |
---|---|
↑2 | أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (2326). |
↑3 | أخرجه البخاري (6116). |
↑4 | "من روائع حضارتنا" لمصطفى السباعي (ص176). |
↑5 | "عيون الأخبار" لابن قتيبة (2/ 24). |
↑6 | "الكامل في اللغة والأدب" لابن المُبرد (2/ 4). |
↑7 | "من روائع حضارتنا" لمصطفى السباعي (ص176). |
↑8 | "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للتلمساني (5/ 292). |
↑9 | "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص229). |
↑10 | أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (276)، وصححه الألباني في "التعليقات الحِسان" (276). |
↑11 | "تفسير ابن رجب" (1/ 318). |
↑12 | أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829). |
↑13 | أخرجه أحمد في "مسنده" (3937)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3129). |
↑14 | أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688). |
↑15 | أخرجه مسلم (1706). |
↑16 | أخرجه البخاري (6025)، ومسلم (284). |
↑17 | أخرجه البخاري (6781). |
↑18 | أخرجه البخاري (6780). |
↑19 | أخرجه أحمد في "مسنده" (22211)، وصححه الألباني في "مختصر السلسلة الصحيحة" (370). |
↑20 | أخرجه الحاكم (4407)، وقال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه. ووافقه الذهبي |
↑21 | أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270). |
↑22 | أخرجه أبو داود في "سننه" (162)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" (525). |