المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: نريد أن نقف حسب طلب بعض الإخوة بناءً على الكلمة السابقة حول قوة الإرادة، وما يتعلق بقضية التغيير.
وهذه من القضايا المهمة جدًّا في النفس البشرية، ورمضان إن لم يكن فرصةً للتغيير فسنُفوت فعلًا فرصًا عظيمةً، بغض النظر عن قضية أن هذا واجبٌ أصلًا.
والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، ونحن نشتكي من أوضاعنا وأُسرنا ومجتمعاتنا، وواقع المسلمين عمومًا، والله أعطى المعادلة التي تُنهي هذه المشكلة، فقال: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فإذا غيَّر كل مسلمٍ ما بنفسه ستتغير المجتمعات، ويتغير واقع المسلمين والعالم الإسلامي، وهذه حقيقةٌ لا بد أن نتيقن منها: ذكورًا وإناثًا، وكلٌّ منا يُفتش عن نفسه.
وتعالوا نتأمل ما نعيشه اليوم من الأفكار والسلوكيات والقيم، والأمور التي أمرنا الله بها ورسوله من الأمور الواجبات فنأتمر بها، أو المُستحبات فنحرص عليها.
وتعالوا إلى المنهيات: هل نحن ننتهي عنها؟ والمكروهات: هل نحن بعيدون عنها: ذكورًا وإناثًا؟
والمشكلة التي تحصل عند الكثير -وهذا عرفناه من خلال الاستشارات والجلسات الإرشادية النفسية والاستشارات الهاتفية المتعلقة بهذا الجانب- أن الإنسان يفعل الشيء الخطأ، أو المعصية، أو الذنب، ثم يحصل الشعور بالذنب والحسرة، ثم يحاول الترك فلا ينجح، ثم نعود مرةً أخرى إلى قضية اقتراف الأخطاء، أو الكسل، أو الابتعاد عن الإتيان بالأوامر، أو الوقوع في المُحرمات، ونكون في دوَّامةٍ بهذه الصورة، وأنا أقول لكم من واقع التجربة بحكم التخصص.
الأمور المُعوِّقة للتغيير
ولهذا أيها الإخوة لا بد أن نعرف بعض الأشياء المُسببة لهذه المشكلة، ثم نعرف منهج التغيير، وقوة الإرادة.
فهذه المشكلة لها أسبابٌ، منها:
1- يحصل عند كثيرٍ من المسلمين أنه لا يتخيل أن لديه قدرةً على القيام لصلاة الفجر مثلًا، فهو لا يُصلي الفجر مثلًا في الجماعة، وإنما يُصلي قبل أن يذهب إلى الوظيفة.
وهكذا التي لا تتحجب الحجاب الذي أمر الله به، وتعرف أن هذا واجبٌ، ولكن تمشي على هذا الأمر لأنها تتخيل أنها لا تستطيع.
فعدم إدراك أننا قادرون هذه مشكلةٌ، والله لم يختبرنا ولم يُكلفنا بهذه الأوامر إلا ونحن قادرون على القيام بها، والنبي يقول: إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم[1]أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).، فالأصل هو الإتيان بالأمر، وإذا كانت هناك إشكاليةٌ في القدرة يُعذر الإنسان بالعجز، وهذا أمرٌ آخر: وما نهيتكم عنه فانتهوا[2]أخرجه ابن ماجه (1)، وصححه الألباني.، ولم يربط الانتهاء عن المُحرمات بالقدرة، فهذه قضيةٌ مهمةٌ جدًّا يا إخوة.
2- ومن الأسباب: أن بعض الناس يريد أن يُغيِّر أو يتغير بسرعةٍ، يريد الشيء السريع، يريد أن يرى فعلًا أنه عاش روحانية رمضان، كانت نسبة التقوى عنده 30%، فيريد أن يصير 100% مثل فلان وعلان، فيريد تغييرًا مُفاجئًا وسريعًا، وهذا صاحب التغيير السريع والمُفاجئ في الغالب ينصدم، فيجد نفسه لا يستطيع؛ لأنه فوق قُدرته، إذن لا بد من قضية التدرج.
3- ومن الأسباب: الأفكار المُحبطة، فيقول الإنسان لنفسه: مَن أنا حتى أُوجه الناس وأدعوهم؟! وتقول لنفسها: مَن أنا حتى أصير مُلتزمةً وداعيةً إلى الخير؟!
فالبعض منا يأخذ تصورًا أنه لا يستطيع أن يتكلم بالخير، ولا أن يُربي عياله، ولا أن يستقيم على خيرٍ، وأنه لا يصلح أن يكون مع الناس الأخيار، الأطهار، الطيبين؛ لأنه متلوثٌ بمشاكل، ومتلوثةٌ بأشياء سابقةٍ.
فعنده إشكاليةٌ في هذه القضية بسبب الأفكار السلبية الخاطئة التي لا بد من اطِّراحها، كما قال النبي : فليستعذْ بالله وليَنْتَهِ[3]أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).، أي: يقول: أعوذ بالله، وينتهي من هذه الأفكار ويقطعها، ولن تضره؛ لأن هذه الأفكار والإيحاءات النفسية تؤثر سلبًا على النفس البشرية، ولا بد أن تحل محلها أفكارٌ إيجابيةٌ، والأفكار الإيجابية منثورةٌ في كتاب الله وسنة نبينا .
4- ومن الأسباب والمُعوٍّقات: أن الإنسان إذا دخل في البداية في شيءٍ إيجابيٍّ لا يدخل بعزيمةٍ، وإنما يدخل بضعفٍ وترددٍ، ويقول: دعني أُجرب، يمكن أن أنجح. أو أنه في أول رمضان ينشط ثم يفتر، فلا بد أن يدخل بقوةٍ في البداية، فإن لم تكن البداية قويةً لن نُحقق التغيير المنشود.
فهذه المُعوِّقات الأربع ينبغي التغلب عليها، وإلا سنبقى معها في دوَّامةٍ، فنشعر أننا مارسنا الخطأ، ونتمنى أن نتخلص منه، ونشعر أننا جربنا وما نجحنا يومًا ويومين، ثم نعود مرةً أخرى.
وقد سألتُ عددًا من الشباب: لماذا تسمع الموسيقى؟ ولماذا تُدخن؟ ولماذا تفعل كذا وكذا؟ فيقول: مُتضايقٌ. طيب، كل واحدٍ منا يريد أن يتخلص من الضيق، ولكنه يرجع مرةً أخرى ليُمارس السبب الذي يجعله يضيق، والله تعالى يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه:124]، لماذا؟ لأنه -للأسف الشديد- سدَّ على نفسه الأبواب الأخرى الطيبة التي تُبعده عن مثل هذا الضيق.
ويقول الله أيضًا: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
منهجية التغيير
- أن تبحث عن نيتك، فلا بد أن تكون النية لله ابتداءً؛ لأن هذا أهم معلمٍ من معالم قوة الإرادة والتغيير الصحيح: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئٍ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه[4]أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907)..
ولاحظوا ما قال النبي : فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، فأثنى الرسول وكرر قوله: إلى الله ورسوله تأكيدًا على أن هؤلاء أصحاب النوايا الطيبة فعلًا، فاجعل عملك لله .
ثم قال: ومَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه مع أنه هاجر لينكح امرأةً بالحلال، ويكسب الدنيا، لكن لاحظ: الرسول لم يُكرر قوله: فهجرته إلى ما هاجر إليه، فكيف بمَن يُمارس الحرام؟!
ولذلك رقم واحدٍ من عوامل التغيير: أن تبحث عن نيتك وتجعلها لله تعالى.
- أن تكون عندك عزيمةٌ، ولا تكفي فقط النية الطيبة، وفي بعض الأحيان يقول الشخص: يا أخي، أنا قلبي طيبٌ. وهو يُشاهد الحرام! وتقول المرأة: والله أنا نيتي طيبةٌ. وهي -للأسف الشديد- لها علاقاتٌ مُحرَّمةٌ! ويقول الشخص -ذكرًا أو أنثى-: أنا والله أحب الخير. ولكنه جالسٌ يمارس المُوبقات ويُشاهد المُحرم! ويقول الشاب: أنا والله أحب الطيبين. ولكنه يقترف عكس ذلك، والسبب في ذلك أنه لا توجد عنده عزيمةٌ.
فبعد البحث عن النية الطيبة لا بد أن تكون هناك عزيمةٌ قويةٌ في منهج التغيير، وصدقٌ مع الله، فإذا صدقت مع الله فإنه يصدقك .
- لا بد من هدفٍ واضحٍ، وهذا الهدف فيه بعض المعالم، ومن معالم هذا الهدف: أن يُحقق أهم شيءٍ بالنسبة لك، يعني: أنت مُقصرٌ في الصلاة مثلًا، وعندك إشكاليةٌ، فضع هدفك: أن يكون رمضان فرصةً لانضباطك في الصلاة، فاجعل هذا أهم شيءٍ بالنسبة لك، حتى يكون التغيير صحيحًا.
فنحن لدينا اهتماماتٌ كثيرةٌ في الدنيا، لكننا نحتاج إلى أن ننظر للقضايا الثانية المتعلقة بسعادتنا في الدنيا والآخرة، فابحث عن الهدف الذي هو بالنسبة إليك رقم واحدٍ، ورقم اثنين، ورقم ثلاثةٍ، ويكون الحرص على المهم فالأهم.
وأيضًا الهدف ينبغي أن يكون هدفًا يُناسب شخصيتي وميولي، والبعض عنده رغبةٌ في خدمة المسلمين، فليشتغل في تفطير الصائمين وخدمة المساجد في مراكز الأحياء، وفي أعمالٍ تطوعيةٍ خيريةٍ.
والثاني عنده الجانب المتعلق بالترتيب والتنظيم، فليُرتب حلقات تحفيظ القرآن، ويُساعد في جانب الأعمال التجارية لوالده ... إلى آخره.
والشخص الآخر يميل لقضايا القراءة والبحث، فيقرأ في هذا الجانب.
فانظر إلى أي اتجاهٍ أنت تميل إليه، واخدم الدين من خلاله، وبرّ والديك من خلاله.
وأيضًا الهدف ينبغي أن يكون واقعيًّا، لا يكون هدفًا مثاليًّا، شيءٌ فوق قُدرتك، فتتصور أنك تختم في الثلاث أيام الأولى من رمضان، فلم تقرأ حتى عشرة أجزاء، ولا خمسة أجزاء، ثم تُحبط كما قلنا قبل قليلٍ.
وأيضًا الهدف ينبغي أن يكون مُتدرجًا، وأيضًا في السعي لتحقيق هدفك شارك وكن مع أناسٍ يُساعدونك في تحقيق هدفك، وابتعد عن الأصدقاء والخِلَّان، وابتعد عن البيئة التي تُحبطك في تحقيق هدفك؛ ولذلك ينبغي أن تبحث عن أصدقائك، ويقال: قل لي مَن صديقك، أقل لك مَن أنت. وكذلك بالنسبة للمرأة.
فحينما يكون هدفي إسعاد نفسي في الدنيا والآخرة، وإرضاء الله ، وبرّ والدي، وخدمة المسلمين، لا بد أن يكون الذين معي مُعينين لي على تحقيق هذا الهدف.
بهذه المنهجية نستطيع -إن شاء الله تعالى- أن نُغير ونُحقق قول الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
أسأل الله أن يُعيننا وإياكم على أنفسنا.
هذا، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.