المحتوى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
هذا بحمد من الله وتوفيقه هو الدرس الثالث من المجموعة الثامنة من سلسلة التطبيقات النفسية والتربوية من الكتاب والسنة، وسبق الكلام في المجلسين السابقين عن التربية على علو الهمة ونواصل الحديث حول الموضوع.
وسنختم اليوم إن شاء الله تعالى وبعد العيد سيكون الحديث حول: التربية على قوة الإرادة، وهذه قيم ومعانٍ مهمة جدًّا في تربية أنفسنا وتربية أجيالنا وأولادنا وكل من نرعاهم في قضايا التربية في الأسرة أو المدرسة أو التعليم، أو المجتمع عمومًا.
ونسأل الله أن يكتب لنا ولكم الأعمال الصالحة في الأيام المقبلة أفضل أيام السنة، العشر من ذي الحجة، وأن يعيننا وإياكم على الأعمال الصالحات، وما أعظم أن تتربى الأسرة على الأعمال الصالحة في مثل: هذه الأيام المباركة، والأسرة الناجحة هي التي تكون لها ممارسات في التقرب إلى الله في مثل هذه الأيام العشر التي عدها النبي : ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بماله ونفسه ولم يرجع بشيء من ذلك[1]أخرجه البخاري (969)، وأبو داود واللفظ له (2438)..
وهذه فرص ثمينة لنا ولأجيالنا ينبغي الحرص عليها ولا يكون الواحد منا كقدوة، أب أو غيره، وضعه في هذه العشر كوضعه في غيرها، يجب أن يلحظ أبناؤنا علينا تغيرًا بمزيد من الأعمال الصالحة وابتعادًا عما حرَّمه الله في هذه الأيام وفي غيرها، وتوجيه للأبناء ومساعدتهم على التقرب إلى الله بأعمال البر والخير والإحسان.
وما زالت الأمة الإسلامية تأتيها الأحداث يمنة ويسرة؛ فيحتاج الإنسان إلى أن يقف مع نفسه في ظل هذه الأحداث عمومًا، وكيف أن الله مَنّ عليه بِمِنن عظيمة جدًّا ومن ذلك أن هذا النَفسَ ما زال باق يذكر الله وهو على قيد الحياة.
ولك أن تتصور أنك أحد الذين هم في الحرم واختارهم الله لا شك أنهم على خير أن يختاروا في يوم الجمعة، وفي عبادة، وفي الحرم على هذه الحال المفاجئة، لكن القصد بذلك أن الإنسان قد يُغادِر هذه الحياة في لحظة واحدة، وإلا فالأموات والقتلى في أحوال المسلمين يمنة ويسرة لا تنتهي ولا تنقطع، نسأل الله أن يلطف بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إنما هذه عِبَر الله يضعها أمامنا حتى نعتبر وندّكر؛ لعل الله أن يحيي قلوبنا بمثل هذه العظات، ونعمل جاهدين في تربية أنفسنا وتربية أجيالنا.
آخر نقطة في الدرس الماضي كانت عن التشجيع ودوره فيما يتعلق بعلو الهمة وإكساب الهمة، وأن بعض أهل العلم عده من الواجب الكفائي، وأن عمر بن الخطاب كان يقرب ابن عباس[2]أخرجه البخاري بأرقام متعددة منها (3627 ، 4970). وهو غلام، رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن هذا من فروض الكفايات؛ أن نعمل على تشجيع الأجيال والغلمان على الأعمال المباركة والتي يتجهون إليها وربما يبدع بعضهم من وقت مبكر كما بزغ ابن عباس فقربه عمر بن الخطاب في مجلسه، وهذا التشجيع.
الأسرة وتعديل السلوك بالتشجيع
اليوم كانت لدي محاضرة في تعديل السلوك بعنوان مقرر عندنا في الجامعة: "تعديل السلوك"، وسألت الطلاب وكنا في حلقة نقاش وحوار حول التعزيز والتدعيم الاجتماعي والعقاب كمهارة من مهارات تعديل السلوك، فسألتهم بعدما انتهى الطلاب من العرض والنقاش والحوار... كان الموجودون خمسًا وعشرين طالبًا، قلت لهم:
كم من الموجودين يرى أن أسرنا المسلمة غالبًا تتعاطى التعزيز أكثر بكثير من العقاب؟
لم يرفع أحد يده.
قلت: كم من الموجودين يرى أن أسرنا تتعاطى العقاب أكثر بكثير من التعزيز وهو الرقم الأول عندها؟ كلهم رفعوا أيديهم جميعًا!
ثم انتقلت للسؤال الآخر: من منكم يرى أن مدارسنا وتعليمنا تتعامل مع التعزيز قبل العقاب وهو الرقم الأول بالنسبة إليها؟
لم يرفع أحد يده.
من منكم يرى أن التعليم يتعاطى قضية العقاب على أنها الرقم الأول ومقدم على التعزيز؟
الجميع رفع يده.
وكنت أتوقع أن النتيجة في الثنتين لصالح العقاب للأسف الشديد، وليس للتعزيز والتشجيع، لكن ما كنت أتوقع أيضًا أن هذه المجموعة الخمسة والعشرين يصل النسبة فيها لمئة بالمئة لصالح العقاب، وصفر بالمئة لصالح التعزيز، لا في الأسرة، ولا في التعليم، وكنت أقول لهم: يا شباب ما في ولا واحد؟!
فهكذا هم يرون عن أسرهم ويرون عن التعليم الذي درسوا فيه، إذن ما الحاجة التي تحتاجها الأمة اليوم في أهم محضن تربوي وهو الأسرة وثاني محضن تربوي وهو التعليم فيما يتعلق بالتشجيع والتعزيز من أجل أن نجد طلابًا عالي الهمة؟
أقصد بهذا أن هذه النسبة المخيفة لهذه الإجابة من طلابنا عن الأسرة وعن التعليم يُعطي دلالة كبيرة على أسباب ضعف علو الهمة لدى أجيالنا، نحن السبب وأسرنا هي السبب، التربية الأسرة هي السبب، التربية التعليمية، المعلمين غير الأكفاء هم الأسباب حينما يتعاطون مع العقاب قبل أن يتعاطوا مع التشجيع والتعزيز، ولذلك إذا أردنا أن يكون الجيل عالي الهمة لا يمكن أن يكون كذلك وهو محبط في أسرته، ومحبط في التعليم ويُتعامل معه بالعقاب أولًا، العقاب يفكر فيه، أما أن يُشّجع ويُحمس ويُعان ويُساعد ويُعزز ويُبحث عن إيجابياته، و..، ليست هذه القضية مهمة لدينا لا في الأسرة ولا في التعليم! هذه قضية نحتاج أن نراجعها.
وليس معنى هذا الكلام تبريرًا لأجيالنا وبالذات الذين عندهم العقل ولديهم التكليف أنهم يصبحون أصحاب الهمة الدنيئة ولو كانوا نشأوا في بيئة لا تساعدهم على علو الهمة، وإنما تفسير مهم جدًّا.
وقلت للبعض: لو كنا في بيئة كبريطانيا أو أمريكية وفصل بريطاني أو أمريكي وسألنا هذا السؤال بماذا سنجيب خاصة في التعليم؟ اتركوا الأسر فأسرهم ربما تكون في جانب الدمار أشد من وضعنا فيما يتعلق خاصة بعد أن يكبر الإنسان، لكن أتكلم في التعليم وبالذات فيما يتعلق بالتعزيز مع أنه حتى الأسر ممكن تجد في مرحلة الطفولة شيئًا من هذا القبيل.
ولا أريد أن أفرق لكن أريد أن أستثير مكامن هذه النفس للمراجعة فيما يتعلق بالتعاطي مع موضوع التشجيع والتعزيز في مقابل العقاب واللوم والتوبيخ والضرب، وما شابه ذلك، أرجو أن نضع القضية هذه في الحسبان؛ لذلك يعد بعض العلماء الأفذاذ من الواجب الكفائي: التشجيع والتعزيز، ويستدل بموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع ابن عباس رضي الله عنهما[3]أخرجه البخاري بأرقام متعددة منها (3627 ، 4970)..
والأسرة هي المحضن التربوي الأول وهي التي تستطيع أن توجه بوصلة الهمة وعلوها من دنوها، وما ذكرناه من مثال آنفًا يُوضِّح خطورة اتجاه هذه البوصلة، وكذلك الزبير بن العوام أمه صفية بنت عبد المطلب فعدل به عمر -رضي الله عنهم أجمعين- ألفًا من الرجال، تخرج من هذه الأم الفاضلة التي جعلته يساوي ألف رجل عند عمر بن الخطاب ، ومقياسه ليس من السهولة بمكان، لكنها الهمة العالية التي نشأت في هذا المحضن الأسري العظيم.
فأنجب الزبير من الأولاد عبدالله والمنذر وعروة وأمهم ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر فكان هؤلاء من الأفذاذ الكبار رضي الله عنهم جميعًا.
ومعاوية كان يفخر بأمه إذا نوزع بالفخر فيقول: "أنا ابن هند"[4]انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (14/ 113)،ومجمع الآداب في معجم الألقاب (1/ 501).، يقصد بهذه الكلمة أن أمه ثكلته إن لم يَسُد قومه، وهذه معالي الأمور حين تربى من وقت صغير ونشأ من نعومة أظفاره على معالي الأمور والهمم العالية، وتكون المدرسة وبالذات الأم مع الأب من هم أسباب هذه النشأة العظيمة في معالي الأمور في قضايا الحياة المختلفة دنيا وآخره لا شك أن هذه تعطي دلالة على أهمية الأسرة وكونها أهم عناصر البيئة في إظهار النبوغ وزراعة الهمة العالية في قلوب الأطفال.
والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: والده كان مهتمًّا به بشكل كبير جدًّا فجعله يصلي بالناس مبكرًا وزوّجه مبكرًا.
وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان وهو صغير يلفت النظر؛ لأن اهتمامه غير اهتمامات باقي الأطفال.
من أين نشأ؟ الطفل مستوى الإدراك لديه ونمو النضج والإدراك ليس مثل الكبير، عنده عامل التقليد والمحاكاة وعامل التأثر بالآخرين قوي جدًّا، فلا يمكن أن يكون هذا الطفل يتصور منه علو الهمة وهو طفل صغير إلا من خلال بيئة نشأ فيها، وأهم بيئة في ذلك هي بيئة الأسرة التي نشأ فيها، وغير ذلك من الأمثلة من السابقين والمعاصرين الأحياء.
فنحن في أمس الحاجة أن نراجع هذا العامل كله، تجد أنه عامل مرتبط بالتشجيع والتعزيز، ومرتبط بوضوح الهدف ومرتبط بمعالي الأمور ويُعانون على ذلك، لذلك هم بعيدون أشد البعد عن الإحباط والتثبيط، كأن يقال له: ما فيك خير، ولا يمكن تنجح في مهمتك، ولا يمكن نثق بك، وللأسف بعض الآباء يضع افتراضات سابقة قبل أن يجرب ابنه، نقول لمن هذا حاله من الآباء: جرب ابنك، دعه يمارس ولا تعطيه ضعف الثقة في نفسه بل أعطه الثقة في نفسه؛ لأنه إذا جرب وهو يشعر أن والده لا يثق به، أو البنت أن أمها لا تثق بها، فلن ينجح الابن ولا البنت ولو كان عنده وعندها قدرة وطاقة إذا شعرا بأن والدهما غير واثق في المهمة التي أسندها له أو لها، فالعامل النفسي مؤثر.
وكذلك بالنسبة للطالب إذا شعر المعلم بأنه لا يشجعه وليس حريصًا عليه، وربما لا يثق به؛ لن ينتج، فنحن في أمس الحاجة إلى مراجعة الجانب المتعلق بالأسرة، وربطهم بمعالي الأمور والهمم العالية وتشجيعهم على ذلك؛ لذلك عندما نأتي الفعال المؤثر في الأجيال حتى يصبح لديهم علو همة نطلب منه التالي:
الأمر الأول: تشجيع المتربين: تشجيع المتربين أخذنا مجالًا كبيرًا منه وهو من الأمور المهمة جدًّا، وكل الذين تكلموا في تعديل السلوك ومهارات التأثير أول شيء يتكلمون عنه، وكنت اليوم في محاضرة في الجامعة بعنوان: "مهارات تعديل السلوك"، وأول تلك المهارات: التعزيز الموجب، والكتب أول ما تتكلم عن التعزيز؛ لأن هذا أصبح من أبجديات التعامل والتربية والتأثير وتعديل السلوك، وإذا كان التعزيز من الأبجديات فالمفترض أن يكون هو الأمر الأول لكن عندنا هو المتأخر للأسف، والتعزيز هو أفضل وسيلة لتصحيح الأخطاء، وهنا قاعدة عامة: أي خطأ تريد أن تعدله في شخص ما فكر بالتعزيز للسلوك المضاد لهذا السلوك الخاطئ، مثال: ابن يقوم متأخرًا للصلاة أولًا: تريد تعديل هذا السلوك؛ فتعززه في السلوك المضاد، والسلوك المضاد للتأخير للصلاة: التبكير لها، ولدي إذا بكرّت للصلاة القادمة وما بعدها سأكافئك، فإذا لاحظت عليه أنه عَدَّل سلوكه الخاطئ أكافئه بمكافأة يحبها؛ ليكون لها الأثر البالغ، فهذا الأسلوب هو أفضل من أسلوب النظر للمهارات الأخرى، مع أنها مهمة وبالذات العقاب، والمفروض أن العقاب يتأخر وبالذات العقاب بالشيء الذي فيه إدخال ما لا يسر على النفس معنويًّا أو حسيًّا، والحرمان أهون من الجوانب الأخرى، فنحتاج أن ندرك التعزيز.
وأتمنى أن يتم الاطلاع على ما يتعلق بالتعزيز والتشجيع ودوره، وهناك رسالة دكتوراة لمؤلفها وهو أستاذنا الدكتور البروفسور/ عبدالعزيز المحيميد في كتاب رائع جدًّا بعنوان: "الحوافز"، في سبعمائة صفحة تقريبًا، وهي أنفس رسالة فيما أعلم فيما يتعلق بالحوافز والتشجيع في التربية الإسلامية لكن للأسف لم تطبع إلى الآن، وهي مهمة جدًّا وتضمنت المنهج التربوي الإسلامي فيما يتعلق بالتعزيز والتشجيع والتحفيز، ونحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه الدراسات.
وهناك بعض الدراسات الأخرى المطبوعة كما ذكر الدكتور/ النغيمشي في كتابه الجميل: "علم النفس الدعوي"، وناقش موضوع التعزيز والتشجيع وأهميته في العملية التربوية، فيحتاج المربون ذكورًا وإناثًا مراجعتها؛ لأنها الرقم الأول المساعدة على إخراج جيل عالي الهمة، فلا بد من التشجيع شئنا أم أبينا.
تحويل الفشل عند المتربّين إلى نجاح
الأمر الثاني: تحويل الفشل عند المتربين إلى نجاح: يحتاج المربون من أجل التربية على علو الهمة عند المتربين إلى: تحويل الفشل عند المتربين إلى نجاح، هذه قضية مهمة جدًّا، فالأجيال الصاعدة ضعيفة النضج، بالذات الطفولة وما بعدها، حتى في المراهقة تحتاج إلى جانب من الخبرة في الحياة أكثر، وتحتاج إلى من يساعدها في هذه الحياة فيكسبها الخبرة والنضج، ووارد أن يخطئ، ووارد أن يفشل في تجربته المعينة، المشكلة: ماذا يحصل حينما يحصل الخطأ أو الفشل أو عدم النجاح في المهمة التي أوكل فيها كطفل أو كمراهق؟
نرجع إلى السؤال الذي سألناه للطلاب وكان جوابهم 100%: أن تعامل الأساتذة والآباء: التعامل الأول العقاب، وهذا معناه إذا حصل الفشل لدى أحد الأجيال فإن تعاملنا معه للأسف باللوم والعتاب والعقاب، وهذا لا يمكن يحرك الجيل للأمام، ولذلك لا بد للمربي أن يدرك أن من دوره أن يحول الفشل إلى نجاح: (أنت ما شاء الله تبارك الله قادر على الإنجاز، وإرادتك هذه أو عملك هذا يدل على أنك صاحب إرادة ممكن بإذن الله المرة الثانية والثالثة والرابعة تنجح، غيرك مثلك ثم استطاع أن ينجح بعد ذلك، وهكذا الحياة)، فحين نعطيه هذه الرسائل مع القرب منه يصبح صاحب همة عالية، ويستمر في العطاء والنجاح ومجاوزة حالات الفشل، فهذه قضية مهمة جدًّا وبالذات للمرحلتين العمريتين: الطفولة، والمراهقة؛ لأن كسر الطفولة ببراءتها وكسر المراهقة في تحقيق ذاتها، الطفولة سِمتها البراءة، والطفل كالعجينة تُشكلها كيف شئت، والمراهقة عند تحقيق الذات حين تكسر بتعزيز الفشل وأنه لا فائدة منه، وأن مثله لا يُكلف، ولا يعطى مسؤولية، وغيرها من الرسائل السلبية بحيث يفضحه ويعتب عليه ويلومه أمام الملأ.
وبعضهم يُزبد ويُرعد، وبعضهم يمكن ربما تصل القضية إلى مستوى الإيذاء الجسدي الشديد، وأذكر موقفًا رأيته في إحدى طرق الدمام ينزل الأب من السيارة من جهة ويتجه للجهة الأخرى ظننت أنه يصلح شيء معين أو يعدله، وإذا به ينزل ابنه الطفل الصغير ويضربه على الرصيف ضربًا وكأنه مجرم يستحق القتل والإنهاك، فماذا فعل الابن ليستحق كل ما فعل هذا الأب به! لنفرض أن الطفل عاند وتمرد وأخطأ وقلّ أدبه على أبيه فهل يعالج بالطريقة هذه؟
أقول: دع الطفل، وأنا في تصوري بعض الشخصيات الانفعالية لا تحتاج إلى كل هذا التمرد، فمجرد خطأ بسيط ممكن يفقد أعصابه، ويفعل ما لا يتصور أن يفعل.
فإذن نحن في أمس الحاجة إلى أن نحذر أن نعزز حالات الفشل لدى أجيالنا لنستطيع أن نربطهم بعلو الهمة ونجعل من الفشل نجاحًا فنقول له: بالعكس أنت أنجزت المهمة وجربت، وفي المرة الثانية ستنجح، وهناك نظرية في علم النفس وهي نظرية مفيدة ونافعة تُسمى بــ "نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ"، يعني هو يتعلم من خلال المحاولة والخطأ، يجرب ويخطئ ويتعلم، وكل واحد يستطيع أن يثبت أنه تعلم بعض الأشياء بالمحاولة والخطأ.
فإذا أخذناها على أنها فشل لم نقدم، لكن إذا أخذناها على أنها نجاح لخطوة تليها سنتقدم بإذن الله ، فهذا هو الأمر الثاني والمهم جدًّا للمربي الفعال وما يحتاجه لينشئ لنا جيلًا عالي الهمة.
التفاعل التربوي
الأمر الثالث: التفاعل التربوي: التفاعل التربوي مهم بالنسبة للمربّين أن يكونوا أصحاب تفاعل إيجابي مع المتربين تفاعلًا إيجابيًّا قائمًا على الود والحزم، قائمًا على التعاطف والتراحم والتشاور والمشاركة والإيجابية، ولسنا مربين نأمر من أبراج عاجية وننتظر التنفيذ؛ فمن كان بهذه المثابة فهو شخصية غير متفاعلة.
ولا يُتصور من شخص تتعامل معه ابنًا كان أو طالبًا أو غيره بتوجيهاتك ولو كانت صحيحة التي تصدرها من الأبراج العاجية البعيدة أنك تستطيع أن تنشئ منه صاحب همة عالية، لا، هو يحتاجك أن تكون قريبًا منه، هذا التفاعل التربوي وهو مدى مستوى التأثير المربي على المتربي في العلاقات، فالعلاقات مهمة جدًّا، وحين تكون من كبير إلى صغير ومن أب إلى ابن ومن معلم إلى طالب ومن مدير إلى موظفيه وتكون فيها تفاعل إيجابي؛ سيحصل الجاذبية وعندئذ سيكون المربي قادرًا على الارتقاء بهذا الجيل وبهذه النفس البشرية إلى الأمام.
الأمر الرابع: لا بد لهذا المربي الفعال أن يعطي القليل من وقته ونفسه لكل متربٍّ يتعامل معه، وهذه من القضايا الخطيرة جدًّا، فكم نعطي من أوقاتنا لأجيالنا؛ لأننا إذا كنا بعيدين عنهم بسبب أو بآخر حتى لو كان السبب خيريًّا وطيبًا، ناهيك بأن يكون ليس كذلك، أو أنها من الانشغال واللهو بالدنيا، وما دمنا لا نعطيهم أوقاتًا لا نستطيع أن نرتقي بهم ولا نستطيع أن نربيهم على علو الهمة بحال من الأحوال؛ فالأبناء يحتاجون لخبراتنا وتوجيهاتنا، ويحتاجون للجلوس معهم، وإلى التعزيز والشكر والتشجيع.
ومن الأسباب أننا لا نشجع ونعزز: أننا أصلًا لا نجلس مع أبنائنا كثيرًا فنعزز، لكن لو جلسنا معهم وفي أذهاننا أننا نقول لهم: شكرًا أحسنت بارك الله فيك ما شاء الله عليك.. سنعزز وسنمسك الابن وسأرسل له رسالة وأتكلم معه في هذا الجانب وما يتعلق به، لذلك الجيل عالي الهمة يحتاج إلى وقت، ودائمًا يقولون: صاحب الإنجاز وصاحب القدرات وصاحب الموهبة يحتاج منا مزيدًا من العطاء والتعب أكثر من غيره، لا بد أن ننتبه للقضية هذه؛ لأنه هو الذي يكابد في الحياة، هو الذي يشتغل، هو الذي يريد له خبرة أكثر، والثاني كسول لا تجعل المعيار أنه لا يسألني فأنا مرتاح، ولدي ممتاز، وليس بشاق لي أبدًا، بالعكس عدم سؤاله لك وعدم تواصله معك لأحد أمرين:
إما أنه غير مرتاح لك، وإما أنه غير ناجح في الحياة -سبهللًا- غير منجز في هذه الحياة، ضعيف الإنجاز وكسول، لكن لو كان كذلك فهو يحتاج يسألك، ويحتاج إلى أن يأخذ رأيك، ويحتاج لتشجيعك وقربك، ويحتاج إلى توجيهك، فهذه القضية لا بد أن نضعها في الاعتبار.
إخلاص المربي
الأمر الخامس: إخلاصه لله : فمدى إخلاص المربي لله وكلما كان أقرب إلى الله؛ استطاع أن يحقق أمنياته وينجز الذي يتمناه في الجيل الذي أمامه، وربما لا يكلف نفسه كثيرًا مع الطلاب ويجد الله قد بذر الخير فيهم من خلال كلماته، وأثّر في الطلاب وأصبحوا بعد أن كان بعضهم ضعيف الهمة أصبح عالي الهمة، وقد يقول: والله أنا ما فعلت شيء إلا القليل لكنه توفيق من رب العالمين، والله أعلم بما في السرائر وفي الصدق الموجود عند الإنسان، وهكذا بالنسبة للأب، ولذلك هذه اللفتة المتعلقة بالإخلاص مهمة جدًّا؛ لأنها لا تقدر بالموازين الدنيوية ولا تقدر بالتقييم البشري، إنما هي ربانية يحدثها في النفوس، يحدث تأثيرًا في هذه النفوس على الأجيال، أب مخلص صادق قد تكون مهاراته بسيطة وليس عنده شهادات...، ولكنه مؤثر في أبنائه وتجد أنهم أصحاب همة عالية؛ لأنه على الفطرة وأي شيء فيه خير يعمله ويتعلمه ويستفيد منه، وهذا الأمر يفترض أن يكون هو الأول.
القدوة
الأمر السادس: القدوة: القدوة أشرنا إليها في الدرسين الماضيين، وأنه لا يمكن لعلو الهمة أن تتأتى إلا إذا وجد الطفل أو الابن أو الشخص الذي نريد أن يكون عالي الهمة نماذج من أصحاب علو الهمة، وأكبر نموذج هو النموذج الحي الذي أمامه الأب أو المعلم أو من كان يتعامل معه، فلا بد أن يكون المربي قدوة، ولا بد من إبراز قدوات إيجابية ليرتبط بها أجيالنا، ولا بد من تأهيل الأجيال ليكونوا في المستقبل قدوات، هذه أمور ثلاثة مهمة في جانب القدوة، ولا بد أن نكون نحن الذين نريد أن نؤثر في هذا الجيل قدوات إيجابيًّا، ولا بد نقدم للجيل قدوات غيرنا مثل: الأنبياء والصالحين، وأيضًا الناس الذين أثروا في المجتمعات، ونبرز لهم قدوات إيجابيين؛ حتى نزيح عنهم القدوات السلبية التي ربما يتلقفون من هنا وهناك إعلامًا أو غيره، ونؤهل هؤلاء الأجيال أن يكونوا هم أنفسهم قدوات.
وأعجبني وسرّني خبر الشاب الذي في مقتبل عمره بدايات سن الشباب والمراهقة، الذي أخذ الأول عالميًّا في اختبار الرياضيات الذهنية في الهند، شاب سعودي الجنسية، وسرني أكثر حين صرح والده بأنه من أكبر أسباب وعوامل تفوق وهمة ابنه حلقات تحفيظ القرآن، وفعلًا فيه دراسات قام بها بعض الزملاء على التعامل مع كتاب الله حفظًا، وعُملت دراسات مقارنة بين الدارسين الحافظين لكتاب الله وغيرهم، أنها مؤثرة على أشياء عديدة، وقد ذكرنا هذا في لقاءات سابقة، ومنها: القدرات الذهنية، واختبار القياس الذي عندنا، والقدرات والنتائج التي خرجت مرتفعة بالتميز، وبالمراتب الأولى دارس تحفيظ القرآن، وهذه قضية لا بد أن ندركها؛ فهنا البيئة أثرت.
هنا التكوين التربوي أثر حتى أصبح هذا أظن عمره في المتوسطة ما شاء الله تبارك الله، ويحصل على الأول في اختبار على مستوى العالم في الرياضة الذهنية، يجيب على الأسئلة في أسرع وقت ممكن وتفوق على كل من دخلوا في هذه المنافسة فلا شك أن مثل هذا أعتبره نموذجًا لأبنائي وقدوة، أن يكون الشخص مهتمًّا بكتاب الله متفوقًا ذهنيًّا ومتفوقًا دراسيًّا، يمكن هذا يكون له أثر على تحريك الهمم لدى الجيل القريب من عمره، ولذلك كلما كان النموذج أقرب لمن نؤثر فيهم عمرًا؛ كان أكثر تأثيرًا.
فتأثير القدوات الكبيرة في السن والسابقة له مكانته، لكن عامل وجود النموذج الحي الذي يراه أمامه موجودًا معه مثل: أبيه أو صديقه، وأيضًا عامل العمر؛ لأنه سيعطي مساحة إذا كان هذا في مثل عمري ووصل، أو قريب عمري ووصل؛ فلماذا لا أصل مثله؟ لماذا لا أكون مثله؟
فهذا أدعى للتأثير، ليس تضعيفًا للتأثير الآخر، وإنما هذا أكثر تأثيرًا فيما يظهر من خلال التأثير في النفس البشرية.
وفي ختام الكلام نُذكِّر أنفسنا بما جاء عن النبي : أصدق الأسماء حارث وهمام » [5]أخرجه أبو داود (4950)، وحسّنه الألباني في صحيح الترغيب (1977) وجمع من أهل العلم، فحين نستقرئ هذين الاسمين ومعناهما سنجد ارتباطًا بعلو الهمة، فكان أصدق الأسماء حارث وهمام، ولا يمكن يأتي الإنتاج إلا بصاحب همة وحرث وعمل، والذي ليس له همة لن يتحرك، والذي عنده همة لا يمكن أنه لا ينتج؛ فلا بد له من إنتاج، ولذلك هي من الأسماء التي لها معانٍ عظيمة صادقة تلامس الحقيقة؛ لجلالة ما يترتب على هذه المعاني من آثار.
وكذلك لِما تحمله من قيم سامية في معانيها.
وأيضًا يقول النبي : ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها[6]أخرجه الترمذي (2601)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5622).، هذا يوقد العمل ويبعد الكسل، فالرسول يعجب من هذا الشخص الكسول الذي يشتغل على الأماني، يتمنى أن يُدخله الله الجنة ويبعده عن النار، ويتمنى أن يحصل على فلوس وهو نائم لا يعمل، لا يمكن أنه ينتج بحال؛ لذا الرسول يعجب من هذا الرجل يتمنى بدون همة أو عمل، والهمة كما قلنا هي: "آخر الهم"، وقال ابن القيم رحمه الله: "فالحارث الكاسب العامل، والهمام الكثير الهم، والهم مبدأُ الإرادة، فالنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وإلا وقعت في الإِرادة الفاسدة والعمل الضار"[7]طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 107).، يعني يبدأ بهمٍّ ثم تنتهي إلى همة يلحقها عمل وإنتاج، فنحن في أمس الحاجة إلى ذلك.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم للقيام بالواجب في تربية أجيالنا، فنحن في زمن في أمس الحاجة أن نعيد للأمة حاجتها إلى معالي الأمور والابتعاد عن سفاسفها، ويؤسفنا حينما تُحرق طاقات الأجيال من المسلمين في التوافه، بينما أنها لو وجدت البيئة المساعدة، المحلية الأسرية، والقريبة التعليمية والمجتمعية، والمتعلقة بالعالم الإسلامي حينما يكون قدوة في هذا الاتجاه، ويعيد الروح لأجياله؛ نستطيع أن نستثمر هذه الطاقات بشكل كبير جدًّا، وما من أحد شق طريقه في جانب لا يرضاه الله إلا وتستطيع أن تثبت أن لديه القدرة أن يشق طريقه في الاتجاه الآخر؛ لأن عنده قدرة موجودة أن ينجز، لكن الكلام في نوازع النفس، ومنها: ما يتعلق بما بالمعوّقات عن علو الهمة وتثبيط علو الهمة من الناحية الداخلية في داخل الإنسان بينه وبين نفسه، وتعامل الإنسان مع نفسه بطريقة غير سليمة فلا يحصل عنده الاستقرار الذاتي والنفسي.
وكذلك التعامل مع الآخرين فلا يحصل عنده الاستقرار المجتمعي؛ فيجد بيئة مثبطة محبطة ولذلك لا يحصل إنتاجية، وهذه عوامل ثلاثة مهمة جدًّا في الشخصية، وهي:
الاستقرار الذاتي، الذي هو أن يكون الإنسان سويًّا بعيدًا عن المشكلات، وبعيدًا عن الأمراض، وما شابه ذلك، ويعرف ذاته وقدراته ويدرك ذاته.
الجانب الآخر: الاستقرار المجتمعي، وهو التواصل الإيجابي مع المجتمع، وتواصل المجتمع معه.
والجانب الثالث: الإنتاجية والزيادة فيها.
هذه الأمور الثلاثة يقيّمها أهل الاختصاص أنها علامة السواء النفسي.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.
↑1 | أخرجه البخاري (969)، وأبو داود واللفظ له (2438). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري بأرقام متعددة منها (3627 ، 4970). |
↑3 | أخرجه البخاري بأرقام متعددة منها (3627 ، 4970). |
↑4 | انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (14/ 113)،ومجمع الآداب في معجم الألقاب (1/ 501). |
↑5 | أخرجه أبو داود (4950)، وحسّنه الألباني في صحيح الترغيب (1977) وجمع من أهل العلم |
↑6 | أخرجه الترمذي (2601)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5622). |
↑7 | طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 107). |